
الولد - امتنع عن منزلته وكرامته؛ لأن الحقيقة انتفت لعيب يدخل فيه، فإذا ثبت له منزلة تلك الحقيقة والكرامة دخل فيه عيب الحقيقة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا)] قيل ما عندكم من حجة على ما تقولون إن له ولدا؛ لأنهم كانوا أهل تقليد لآبائهم وأسلافهم، وكانوا لا يؤمنون بالرسل والكتب والحجج، وإنما يستفاد ذلك من جهة الرسالة والكتب وهم كانوا ينكرون ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) أي: تقولون على اللَّه أنه اتخذ ما تعلمون أنه لم يتخذ (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (٦٩) هو ما ذكرنا أنهم علموا أنه لم يتخذ ولدًا، لكن قالوا ذلك افتراء على اللَّه (لَا يُفْلِحُونَ) في الآخرة؛ لما طمعوا في الدنيا بعبادتهم دون اللَّه الأصنام بقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى). وقوله: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، لا يفلحون، أي: لا يظفرون بما طمعوا في الآخرة (مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) أي ذلك لهم متاع في الدنيا، ليس لهم متاع في الآخرة.
(ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ): يخاطب رسوله بذلك لم يخاطبهم إلينا مرجعكم، فهو - والله أعلم - لما اشتد على رسول اللَّه ما افتروا به على اللَّه يقول: إلينا مرجعهم فنجزيهم جزاء افترائهم. والثاني: يقول: إلينا مرجعهم فنذيقهم العذاب الشديد، لا ما طمعوا من الشفاعة عندنا والزلفى، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) أي: خبره وحديثه، (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ).

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن كان كبر عليكم طول مقامي ومكثي فيكم ودعائي إياكم إلى عبادة اللَّه، والطاعة له، وتذكيري إياكم بآياته. قَالَ بَعْضُهُمْ: وتذكيري بعذا به بترككم إجابتي ودعائي.
ويحتمل قوله: (إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي) بما ادعى من الرسالة، (وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ) أي بحجج اللَّه على ما ادعيت من الرسالة.
وفي قوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) وجوه:
أحدها: اتل منابذة نوح قومه وما أرادوا به من الكيد والمكر به.
والثاني: اذكر عواقب قوم نوح، وما حل بهم من سوء معاملتهم رسولهم.
والثالث: اذكر لهولاء عواقب متبعي قومه ومخالفيه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي اجتمعوا أنتم وشركاؤكم ثم كيدوني، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة، أي: اجعلوا ما تسرون من الكيد والمكر بي ظاهرًا غير ملتبس ولا مشبه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) أي: أعدوا أمركم وادعوا شركاءكم؛ وكذلك روي في حرف أبي: (فاجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم).
(ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ) أي: اقضوا ما أنتم قاضون.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أي؛ لا يكبر عليكم أمركم.
وقال الكسائي: هو من التغطية واللبس، أي: لا تغطوه ولا تلبسوه، اجعلوا كلمتكم ظاهرة واحدة.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " لا يكن أمركم اغتماما عليكم "، أي: فرجوا عن أنفسكم؛ كقوله: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ...) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ) أي: اعملوا بي ما تريدون ولا تنظرون؛ وهو كقوله: (فَاقضِ مَا أَنتَ قَاضٍ).
وقال الكسائي: هو من الإنهاء والإبلاع؛ وهو كقوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ...) الآية، (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ) أي: أنهينا إليه وأبلغنا إليه.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: إن شئت جعلتها ظلمة فلا يبصرون أمرهم يعني غمَّة، وإن شئت جعلتها شكا واشتقاق الغمة، من غم يغم غما أي غطى يغطي، تقول: غممت رأسه أي غطيته، (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ) أي: افعلوا بي ما أردتم وفي قول نوح لقومه: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ...) إلى قوله: (وَلَا تُنْظِرُونِ)، وقول هود: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ) وقول رسول اللَّه: (قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ) دلالة إثبات رسالتهم؛ لأنهم قالوا ذلك لقومهم وهم بين أظهرهم، ولم يكن معهم أنصار ولا أعوان؛ دل أنهم إنما قالوا ذلك اعتمادًا على اللَّه واتكالا بمعونته ونصرته إياهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ) أي: فافرغوا إليَّ يقال " قضى " فرغ، وهو قول أبي بكر الأصم.