آيات من القرآن الكريم

۞ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ

إِلَى آخَرِ الْآيَةِ ١٤ ثُمَّ قَالَ فِي الرَّدِّ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ بِمَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (٣٩) ثُمَّ قَالَ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (٤٧) جَاءَ هَذَا فِي سِيَاقِ إِقَامَةِ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَعْوَى الْوَحْيِ، وَكَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ عِنْدِهِ وَرَأْيِهِ وَكَلَامِهِ، وَالْحُجَجِ عَلَى مَضْمُونِ الدَّعْوَى مِنَ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالتَّفَنُّنِ فِيهَا، وَالتَّكْرَارِ الْبَلِيغِ لِمَقَاصِدِهَا، وَإِنْذَارِ أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ بِهَا، فَنَاسَبَ أَنْ يُفَصِّلَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْإِجْمَالِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَجَاءَ بِهِ مَعْطُوفًا لِأَنَّهُ مُرْتَبِطٌ بِهِ مُتَمِّمٌ لَهُ بِخِلَافِ سَرْدِ قَصَصِ الرُّسُلِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ حَيْثُ بَدَأَهُ بِقَوْلِهِ: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) (٧: ٥٩) لِأَنَّ هَذِهِ الْقَصَصَ أُورِدَتْ هُنَاكَ مُسْتَقِلَّةً،
لَا تَفْسِيرًا، وَلَا تَفْصِيلًا لِمُجْمَلٍ قَبْلَهَا، وَأَمَّا مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ لِمَا قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً بِكَوْنِهَا مِنْ جِنْسِ مَوْضُوعِهَا الْعَامِّ، فَلَا تَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي بِهَا كَانَتِ الْبَلَاغَةُ فَلْسَفَةً عَقْلِيَّةً نَفْسِيَّةً، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) أَيْ وَاقْرَأْ أَيُّهَا الرَّسُولُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لَكَ مِنْ قَوْمِكَ، فِيمَا أَوْعَدْتُهُمْ مِنْ عِقَابِ اللهِ لَهُمْ عَلَى سَابِقِ سُنَّتِهِ فِي الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِ مِنْ قَبْلِكَ، خَبَرَ نُوحٍ ذِي الشَّأْنِ الْعَظِيمِ: (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ) أَيْ نَبَأَهُ حِينَ قَالَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَكَذَّبُوهُ، (فَأَغْرَقْنَاهُمْ وَنَجَّيْنَاهُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ) - لَا جَمِيعَ أَنْبَاءِ قِصَّتِهِ مَعَهُمْ (الْمُفَصَّلَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ وَوُضِعَتْ بَعْدَهَا فِي الْمُصْحَفِ) لِيَعْلَمُوا مِنْ هَذَا النَّبَأِ الْخَاصِّ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي نَصْرِ رُسُلِهِ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَأَنَّهُ كَذَلِكَ يَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ، فَيُهْلِكُ الْمُكَذِّبِينَ لَكَ الْمَغْرُورِينَ بِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَقِلَّةِ مَنِ اتَّبَعَكَ وَضَعْفِهِمْ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءَ سَيَكُونُونَ خَلَائِفَ الْأَرْضِ فِي قَوْمِهِمْ وَغَيْرِ قَوْمِهِمْ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ، قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ بَعْدَ أَنْ طَالَ مُكْثُهُ فِيهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَالْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ فَمَلُّوا مَقَامَهُ، وَسَئِمُوا وَعْظَهُ وَائْتَمَرُوا بِهِ: يَا قَوْمِي إِنْ كَانَ قَدْ كَبُرَ أَيْ شَقَّ وَعَظُمَ عَلَيْكُمْ قِيَامِي فِيكُمْ، أَوْ مَكَانِي مِنَ الْقِيَامِ بِمَا أَقُومُ بِهِ مِنْ دَعْوَتِكُمْ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّكُمْ، وَتَذْكِيرِي إِيَّاكُمْ بِآيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَوُجُوبِ عِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ، وَالرَّجَاءِ فِي ثَوَابِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، وَالْخَوْفِ مِنْ عِقَابِهِ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُجْرِمِينَ - التَّذْكِيرُ: يُطْلَقُ عَلَى الْإِعْلَامِ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ وَفِي الْآفَاقِ فَيُدْرِكُهَا الْعَقْلُ وَتَقْتَضِيهَا الْفِطْرَةُ، حَتَّى يَكُونَ بَيَانُهَا تَذْكِيرًا أَوْ كَالتَّذْكِيرِ لِمَنْ فَقِهَهَا بِشَيْءٍ كَانَ يَعْرِفُهُ بِالْقُوَّةِ، فَعَرَفَهُ بِالْفِعْلِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَعْظِ وَالنُّصْحِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى عَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَسَيَأْتِي فِي السُّورَةِ التَّالِيَةِ قَوْلُهُ لَهُمْ: (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) (١١: ٣٤) الْآيَةَ (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَسْتَضْعِفُونَهُمْ، أَيْ إِنْ كَانَ كَبُرَ

صفحة رقم 375

عَلَيْكُمْ ذَلِكَ وَأَرَدْتُمُ التَّفَصِّيَ مِنْهُ بِالْإِيقَاعِ بِي، فَإِنَّنِي قَدْ وَكَّلْتُ أَمْرِي إِلَى
اللهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَاعْتَمَدْتُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ بَعْدَ أَنْ أَدَّيْتُ رِسَالَتَهُ بِقَدْرِ طَاقَتِي (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ) مِنْ أَجْمَعَ الْأَمْرَ كَالسَّفَرِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِهِمَا وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ إِذَا عَزَمَ عَلَيْهِ عَزْمًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، قِيلَ أَصْلُهُ جَمْعُ مَا تَفَرَّقَ مِنْ أَسْبَابِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَأَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الشَّيْءِ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ كُلُّهُمْ لَمْ يَشِذَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ، أَيْ أَجْمِعُوا مَا تُرِيدُونَ مِنْ أَمْرِكُمْ مِنْ شُرَكَائِكُمُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَادْعُوَا شُرَكَاءَكُمْ لِيُعِينُوكُمْ كَمَا تَزْعُمُونَ كَمَا أَدْعُو رَبِّي وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ: (ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ) الَّذِي تَعْتَزِمُونَهُ (عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أَيْ خَفِيًّا فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْحَيْرَةِ أَوِ اللَّبْسِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّرَدُّدَ فِي الْإِنْقَاذِ، بَعْدَ الْعَزْمِ وَالْإِجْمَاعِ، بَلْ كُونُوا عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ فِيهِ لِكَيْلَا تَتَحَوَّلُوا عَنْهُ بِظُهُورِ الْخَطَأِ أَوِ التَّرَدُّدِ فِي كَوْنِهِ هُوَ الصَّوَابَ (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ) ذَلِكَ الْأَمْرَ بَعْدَ إِجْمَاعِهِ وَاعْتِزَامِهِ وَبَعْدَ اسْتِبَانَتِهِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا غُمَّةَ فِيهَا وَلَا الْتِبَاسَ بِأَنْ تُنَفِّذُوهُ بِالْفِعْلِ، فَالْقَضَاءُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى أَدَاءِ الشَّيْءِ وَتَنْفِيذِهِ وَإِتْمَامِهِ وَمِنْهُ: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ) (٢٨: ٢٩) (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) (٣٣: ٢٣) وَ (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا) (٣٣: ٣٧) وَتَعْدِيَتُهُ بِإِلَى لِإِفَادَةِ إِبْلَاغِهِ وَإِيصَالِهِ إِلَى مُتَعَلِّقِهِ بِالْفِعْلِ كَمَا قَالَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ آيَةَ رَقْمِ ١١ (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ، وَإِذَا عُدِّيَ هَذَا بِإِلَى يُفِيدُ تَبْلِيغَ خَبَرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ) (١٧: ٤) إِلَخْ. وَقَوْلِهِ: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (١٥: ٦٦)، (وَلَا تُنْظِرُونِ) أَيْ لَا تُمْهِلُونِي بِتَأْخِيرِ هَذَا الْقَضَاءِ وَتَنْفِيذِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ كُلِّهَا.
هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَبْلَغِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عِبَارَةً، وَأَجْمَعِهَا عَلَى إِيجَازِهَا لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ مِنْ عِلْمِ النَّفْسِ، وَدَرَجَةِ إِيمَانِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ وَثِقَتِهِمْ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَشَجَاعَتِهِمْ وَاحْتِقَارِهِمْ لِكُلِّ مَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِهِ وَالرَّجَاءِ فِيمَا سِوَاهُ، وَبَيَانِ خَاتَمِهِمْ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي أَقْوَامِهِمْ، وَحَسُنِ وَعْظِهِ لَهُمْ بِوَحْيِ رَبِّهِ تَعَالَى فَهُوَ يَضْرِبُ لِحَالِهِ وَمَقَامِهِ مَعَهُمْ مَثَلَ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ فِي غُرُورِ كُلٍّ مِنْهُمْ بِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَاحْتِقَارِهِمْ لِرَسُولِهِ وَلِمَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَلِمَا
يَعْتَزُّ بِهِ كُلٌّ مِنَ الرَّسُولَيْنِ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ فِي النَّصْرِ وَالْعِزَّةِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، وَالْجَزْمِ بِإِهْلَاكِ الْمُصِرِّينَ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَنَجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ بِجَعْلِهِمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَأَصْحَابَ السُّلْطَانِ فِيهَا. صَوَّرَتِ الْآيَةُ لِأَهْلِ مَكَّةَ الْبُلَغَاءِ هَذِهِ الْمَعَانِيَ بِمُطَالَبَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ - الْمَشْهُورُ فِي تَوَارِيخِ الْأُمَمِ وَظَوَاهِرِ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ أَنَّهُمْ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ - بِأَنْ يَفْعَلُوا مَا اسْتَطَاعُوا مِنَ الْإِيقَاعِ بِهِ وَاكْتِفَاءِ أَمْرِهِ وَالِاسْتِرَاحَةِ مِنْ دَعْوَتِهِ، مُطَالَبَةَ الْقَوِيِّ الْعَزِيزِ الْمُذِلِّ بِبَأْسِهِ، وَالْمُعْتَصِمِ بِإِيمَانِهِ بِوَعْدِ رَبِّهِ وَتَوَكُّلِهِ عَلَيْهِ، لِلضَّعِيفِ الْعَاجِزِ عَنْ تَنْفِيذِ مُرَادِهِ مَهْمَا يَكُنْ مِنَ اسْتِيفَائِهِ لِجَمِيعِ أَسْبَابِهِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْكَسْبِيَّةِ، إِذْ أَمَرَهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأَوْلَى بِإِجْمَاعِ

صفحة رقم 376

أَمْرِهِمْ بِالْعَزِيمَةِ الصَّادِقَةِ وَقُوَّةِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ، حَتَّى لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ مُوجِبَاتِهَا مُتَفَرِّقًا بَيْنَهُمْ، وَأَنْ يَضُمُّوا إِلَى هَذِهِ الْقُوَّةِ النَّفْسِيَّةِ الْكَسْبِيَّةِ قُوَّةَ الْإِيمَانِ الْمَعْنَوِيَّةِ بِشُرَكَائِهِمْ وَآلِهَتِهِمْ، وَلَمَّا كَانَتِ الْعَزِيمَةُ الصَّادِقَةُ الْمُجَمَّعَةُ قَدْ يَعْرِضُ لَهَا الْوَهْنُ أَوِ الْعِلَلُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْفَسْخِ قَبْلَ التَّنْفِيذِ، نَهَاهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرِهِمُ الَّذِي أَجْمَعُوا شَيْءٌ مِنَ الْغُمَّةِ وَالْخَفَاءِ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ.
(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ إِجْمَاعَ الْعَزْمِ فِي الْأَمْرِ لَا يَكُونُ بَعْدَ الْجَزْمِ بِالْعِلْمِ بِالْمُقْتَضَى لَهُ الْبَاعِثِ إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ غُمَّةً امْتَنَعَ إِجْمَاعُهُ كَمَا يَمْتَنِعُ إِجْمَاعُ الصِّيَامِ مِنَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ إِذَا غُمَّ الْهِلَالُ فِي لَيْلَةِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ غَيْرُهُمْ عَنْ غَيْرِهِ، فَالْأَمْرُ بِإِجْمَاعِ الْأَمْرِ يُغْنِي عَنِ النَّهْيِ أَنْ يَكُونَ غُمَّةً، فَمَا حِكْمَةُ ذِكْرِهِ بَعْدَهُ وَعَطْفِهِ عَلَيْهِ بِـ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ عَلَى تَأَخُّرِهِ عَنْهُ فِي الرُّتْبَةِ؟ (قُلْتُ) : يَكْفِي فِي إِجْمَاعِ الْأَمْرِ عَلَى الْإِيقَاعِ بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ غَيْرُ مُعَارَضَةٍ بِمَفْسَدَةٍ أَرْجَحَ مِنْهَا، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُمْ قَبْلَ تَنْفِيذِهِ شَيْءٌ مِنَ الْغُمَّةِ وَالْحَيْرَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْفَسْخِ أَوِ التَّرَدُّدِ فَمِنْ ثَمَّ اقْتَضَتِ الْمُبَالَغَةُ فِي أَمْرِ التَّعْجِيزِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ يُؤَكِّدَ بِهَذَا النَّهْيِ عَنِ الْغُمَّةِ فِي الْمُسْتَقَبْلِ وَاقْتَضَتِ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَعْطِفَ بِـ (ثُمَّ) لِأَنَّ مَرْتَبَتَهُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ مَرْتَبَةِ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْعِلْمِ بِالْمُقْتَضَى لَهُ، كَمَا أَنَّ مَرْتَبَةَ قَضَاءِ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَتَنْفِيذِهِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ مَرْتَبَةِ الْأَمْرِ
الْأَوَّلِ وَالنَّهْيِ كِلْتَيْهِمَا، وَلِذَلِكَ عُطِفَا عَلَيْهِمَا مَعًا بِـ (ثُمَّ)، وَأُكِّدَ هَذَا الْأَمْرُ الثَّانِي بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِنْظَارِ مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ الَّتِي تُفِيدُ مُطْلَقَ الْجَمْعِ لِاتِّحَادِ زَمَنِهِمَا وَرُتْبَتِهِمَا فَلَا تَرْتِيبَ بَيْنِهِمَا.
وَقَرَأَ نَافِعٌ (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مِنَ الْجَمْعِ، أَيِ اجْمَعُوا مَا تَفَرَّقَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: (وَشُرَكَاءَكُمْ) مَفْعُولًا بِهِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، لَا مَفْعُولًا مَعَهُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلَمِيُّ وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ (وَشُرَكَاؤُكُمْ) بِالرَّفْعِ أَيْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ شَاذَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِخَطِّ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ فَلَا تُتْلَى فِي الصَّلَاةِ، وَقُرِئَ ((أَفْضُوا إِلَيَّ)) مِنَ الْإِفْضَاءِ إِلَى الشَّيْءِ وَهُوَ الْوُصُولُ وَالِانْتِهَاءُ إِلَيْهِ مُبَاشَرَةً وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَصْحِيفٌ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ.
(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أَيِ انْصَرَفْتُمْ عَنِّي مُصِرِّينَ عَلَى إِعْرَاضِكُمْ عَنْ تَذْكِيرِي (فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أَيْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ عَلَى هَذَا التَّذْكِيرِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مَسَائِلِ الدَّعْوَةِ وَالنُّصْحِ أَدْنَى شَيْءٍ مِنَ الْأَجْرِ وَالْمُكَافَآتِ فَتَتَوَلَّوْا لِثِقَلِهِ عَلَيْكُمْ، أَوْ فَيَضُرُّنِي أَنْ يَفُوتَ عَلَيَّ وَأُحْرَمَهُ فَأُبَالِيَ بِتَوَلِّيكُمْ (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أَيْ مَا أَجْرِي وَثَوَابِي عَلَى دَعْوَتِكُمْ وَتَذْكِيرِكُمْ إِلَّا عَلَى اللهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ، فَهُوَ يُوَفِّينِي إِيَّاهُ سَوَاءٌ آمَنْتُمْ أَوْ تَوَلَّيْتُمْ (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أَيِ الْمُنْقَادِينَ الْمُذْعِنِينَ بِالْفِعْلِ لِمَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ أَسْلَمْتُمْ أَمْ كَفَرْتُمْ، فَلَا أَتْرُكُ شَيْئًا مِمَّا أَمَرْتُكُمْ بِهِ (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) (١١: ٨٨).

صفحة رقم 377
تفسير المنار
عرض الكتاب
المؤلف
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني
الناشر
1990 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية