تفسير سورة الطارق

تفسير الرازي

تفسير سورة سورة الطارق من كتاب مفاتيح الغيب المعروف بـتفسير الرازي.
لمؤلفه فخر الدين الرازي . المتوفي سنة 606 هـ
سورة الطارق

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سُورَةُ الطَّارِقِ
سَبْعَ عَشْرَةَ آيَةً مَكِّيَّةً وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ
[سورة الطارق (٨٦) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥)
[قوله تعالى وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ إلى قوله النَّجْمُ الثَّاقِبُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَكْثَرَ فِي كِتَابِهِ ذِكْرَ السَّمَاءِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِأَنَّ أَحْوَالَهَا فِي أَشْكَالِهَا وَسَيْرِهَا وَمَطَالِعِهَا وَمَغَارِبِهَا عَجِيبَةٌ، وَأَمَّا الطَّارِقُ فَهُوَ كُلُّ مَا أَتَاكَ لَيْلًا سَوَاءً كَانَ كَوْكَبًا أَوْ غَيْرَهُ فَلَا يَكُونُ الطَّارِقُ نَهَارًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ فِي دُعَائِهِمْ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ طَوَارِقِ اللَّيْلِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَهَى عَنْ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا»
وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ الطُّرُوقُ فِي صِفَةِ الْخَيَالِ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ فِي الْأَكْثَرِ فِي اللَّيْلِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَالطَّارِقِ كَانَ هَذَا مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي سَامِعُهُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ مِنْهُ، فَقَالَ: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مَا أَدْرَاكَ فَقَدْ أَخْبَرَ الرَّسُولُ بِهِ وَكُلُّ شَيْءٍ فِيهِ مَا يُدْرِيكَ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ كَقَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشُّورَى: ١٧] ثُمَّ قَالَ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ أَيْ هُوَ طَارِقٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ، رَفِيعُ الْقَدْرِ وَهُوَ النَّجْمُ الَّذِي يُهْتَدَى بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَيُوقَفُ بِهِ عَلَى أَوْقَاتِ الْأَمْطَارِ، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا وُصِفَ النَّجْمُ بِكَوْنِهِ ثَاقِبًا لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَثْقُبُ الظَّلَامَ بِضَوْئِهِ فينفذ فيه كما قيل:
دريء لِأَنَّهُ يَدْرَؤُهُ أَيْ يَدْفَعُهُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ نَافِذًا فِي الْهَوَاءِ كَالشَّيْءِ الَّذِي يَثْقُبُ الشَّيْءَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ الَّذِي يُرَى بِهِ الشَّيْطَانُ فَيَثْقُبُهُ أَيْ يَنْفُذُ فِيهِ وَيَحْرِقُهُ وَرَابِعُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ هُوَ النَّجْمُ الْمُرْتَفِعُ عَلَى النُّجُومِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلطَّائِرِ إِذَا لَحِقَ بِبَطْنِ السَّمَاءِ ارْتِفَاعًا: قَدْ ثَقَبَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا وُصِفَ النَّجْمُ بِكَوْنِهِ طَارِقًا، لِأَنَّهُ يَبْدُو بِاللَّيْلِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى طَارِقًا، أو لأنه يطرق الجني، أي صكه.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ قَالَ بَعْضُهُمْ: أُشِيرَ بِهِ إِلَى جَمَاعَةِ النَّحْوِ/ فَقِيلَ الطَّارِقُ، كَمَا قِيلَ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [الْعَصْرِ: ٢] وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ نَجْمٌ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهُ
117
الثُّرَيَّا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ زُحَلُ، لِأَنَّهُ يَثْقُبُ بنوره سمك سبع سموات، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ الشُّهُبُ الَّتِي يُرْجَمُ بِهَا الشَّيَاطِينُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصَّافَّاتِ: ١٠].
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
رُوِيَ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتْحَفَهُ بِخُبْزٍ وَلَبَنٍ، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ يَأْكُلُ إِذِ انْحَطَّ نَجْمٌ فَامْتَلَأَ مَاءً ثُمَّ نَارًا، فَفَزِعَ أَبُو طَالِبٍ، وَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا نَجْمٌ رُمِيَ بِهِ، وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الله، فعجب أبو طالب، ونزلت السورة.
[في قوله تَعَالَى إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: لَمَّا قِرَاءَتَانِ إِحْدَاهُمَا: قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَنَافِعٍ وَالْكِسَائِيِّ، وَهِيَ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَالثَّانِيَةُ: قِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَالنَّخَعِيِّ بِتَشْدِيدِ الميم. قال أبو علي الفاسي: مَنْ خَفَّفَ كَانَتْ إِنْ عِنْدَهُ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ فِي لَمَّا هِيَ الَّتِي تَدْخُلُ مَعَ هَذِهِ الْمُخَفَّفَةِ لِتُخَلِّصَهَا مِنْ إِنِ النَّافِيَةِ، وَمَا صِلَةٌ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران: ١٥٩] وعَمَّا قَلِيلٍ [المؤمنون: ٤٠] وَتَكُونُ إِنْ مُتَلَقِّيَةً لِلْقَسَمِ، كَمَا تَتَلَقَّاهُ مُثَقَّلَةً. وَأَمَّا مَنْ ثَقَّلَ فَتَكُونُ إِنْ عِنْدَهُ النَّافِيَةَ، كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ: فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ [الْأَحْقَافِ: ٢٦] ولَمَّا فِي مَعْنَى أَلَّا، قَالَ: وَتُسْتَعْمَلُ لَمَّا بِمَعْنَى أَلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: هَذَا وَالْآخَرُ:
فِي بَابِ الْقَسَمِ، تَقُولُ: سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ لَمَّا فَعَلْتَ، بِمَعْنَى أَلَّا فَعَلْتَ. وَرُوِيَ عَنِ الْأَخْفَشِ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمْ تُوجَدْ لَمَّا بِمَعْنَى أَلَّا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: قَرَأْتُ عِنْدَ ابْنِ سِيرِينَ لَمَّا بِالتَّشْدِيدِ، فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ، وَزَعَمَ الْعُتْبِيُّ أَنَّ لَمَّا بِمَعْنَى أَلَّا، مَعَ أَنَّ الْخَفِيفَةَ الَّتِي تَكُونُ بِمَعْنَى مَا مَوْجُودَةٌ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْحَافِظَ مَنْ هُوَ، وَلَيْسَ فِيهَا أَيْضًا بَيَانُ أَنَّ الْحَافِظَ يَحْفَظُ النَّفْسَ عما ذا. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ ذَلِكَ الْحَافِظَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا فِي التَّحْقِيقِ فَلِأَنَّ كُلَّ وُجُودٍ سِوَى اللَّهِ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَرَجَّحُ وَجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ وَيَنْتَهِي ذَلِكَ إِلَى الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ الْقَيُّومُ الَّذِي بِحِفْظِهِ وَإِبْقَائِهِ تَبْقَى الْمَوْجُودَاتُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بين هذا المعنى في السموات وَالْأَرْضِ عَلَى الْعُمُومِ فِي قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فَاطِرٍ: ٤١] وَبَيَّنَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ عَلَى الْخُصُوصِ وَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ تَرْجِعُ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ، فَإِنَّهُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ مُحْدَثٌ مُحْتَاجٌ مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ هَذَا إِذَا حَمَلْنَا النَّفْسَ عَلَى مُطْلَقِ الذَّاتِ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى النَّفْسِ الْمُتَنَفِّسَةِ وَهِيَ النَّفْسُ الْحَيَوَانِيَّةُ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى حَافِظًا لَهَا كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِأَحْوَالِهَا وَمُوَصِّلًا إليها جميع مناقعها وَدَافِعًا عَنْهَا جَمِيعَ مَضَارِّهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْحَافِظَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ كَمَا قَالَ: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [الْأَنْعَامِ: ٦١] وَقَالَ:
عَنِ/ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: ١٧، ١٨] وَقَالَ: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الِانْفِطَارِ: ١٠، ١١] وَقَالَ: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرَّعْدِ: ١١].
118
وَأَمَّا الْبَحْثُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ مَا الَّذِي يَحْفَظُهُ هَذَا الْحَافِظُ؟ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْحَفَظَةَ يَكْتُبُونَ عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ دَقِيقَهَا وَجَلِيلَهَا حَتَّى تَخْرُجَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا وَثَانِيهَا: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ يَحْفَظُ عَمَلَهَا وَرِزْقَهَا وَأَجَلَهَا، فَإِذَا اسْتَوْفَى الْإِنْسَانُ أَجَلَهُ وَرِزْقَهُ قَبَضَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى وَعِيدِ الْكُفَّارِ وَتَسْلِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مَرْيَمَ: ٨٤] ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ عَنْ قَرِيبٍ إِلَى الْآخِرَةِ فَيُجَازَوْنَ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ وَثَالِثُهَا: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ
، يَحْفَظُهَا مِنَ الْمَعَاطِبِ وَالْمَهَالِكِ فَلَا يُصِيبُهَا إِلَّا مَا قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيْهَا وَرَابِعُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ يَحْفَظُهَا حَتَّى يُسَلِّمَهَا إِلَى الْمَقَابِرِ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقْسَمَ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ حَافِظًا يُرَاقِبُهَا وَيَعُدُّ عَلَيْهَا أَعْمَالَهَا، فَحِينَئِذٍ يَحِقُّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَسْعَى فِي تَحْصِيلِ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ، وَقَدْ تَطَابَقَتِ الشَّرَائِعُ وَالْعُقُولُ عَلَى أَنَّ أَهَمَّ الْمُهِمَّاتِ مَعْرِفَةُ الْمَبْدَأِ وَمَعْرِفَةُ الْمَعَادِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْمَبْدَأِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَعَادِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى المبدأ. فقال:
[سورة الطارق (٨٦) : الآيات ٦ الى ٧]
خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الدَّفْقُ صَبُّ الْمَاءِ، يُقَالُ: دَفَقْتُ الْمَاءَ، أَيْ صَبَبْتُهُ وَهُوَ مَدْفُوقٌ، أَيْ مَصْبُوبٌ، وَمُنْدَفِقٌ أَيْ مُنْصَبٌّ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَاءُ مَدْفُوقًا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لِمَ وُصِفَ بِأَنَّهُ دَافِقٌ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ ذُو انْدِفَاقٍ، كَمَا يقال: دراع وَفَارِسٌ وَنَابِلٌ وَلَابِنٌ وَتَامِرٌ، أَيْ دَرَعَ وَفَرَسَ وَنَبَلَ وَلَبَنَ وَتَمَرَ، وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الْمَفْعُولَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَأَهْلُ الْحِجَازِ أَفْعَلُ لِهَذَا مِنْ غَيْرِهِمْ، يَجْعَلُونَ الْمَفْعُولَ فَاعِلًا إِذَا كَانَ فِي مَذْهَبِ النَّعْتِ، كَقَوْلِهِ سِرٌّ كَاتِمٌ، وَهَمٌّ نَاصِبٌ، وَلَيْلٌ نَائِمٌ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [القارعة: ٧] ي مَرْضِيَّةٍ الثَّالِثُ: ذَكَرَ الْخَلِيلُ فِي الْكِتَابِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ دَفَقَ الْمَاءُ دَفْقًا وَدُفُوقًا إِذَا انْصَبَّ بِمَرَّةٍ، وَانْدَفَقَ الْكُوزُ إِذَا انْصَبَّ بِمَرَّةٍ، وَيُقَالُ فِي الطِّيَرَةِ عِنْدَ انْصِبَابِ الْكُوزِ وَنَحْوِهِ: دَافِقُ خَيْرٍ، وَفِي كِتَابِ قُطْرُبٍ: دَفَقَ الْمَاءُ يَدْفُقُ إِذَا انْصَبَّ الرَّابِعُ: صَاحِبُ الْمَاءِ لَمَّا كَانَ دَافِقًا أُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَى الْمَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ الصَّلَبِ بِفَتْحَتَيْنِ، وَالصُّلُبِ بِضَمَّتَيْنِ، وَفِيهِ أَرْبَعُ لُغَاتٍ: صُلْبٌ وَصَلَبٌ وَصُلُبٌ وَصَالِبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَرَائِبُ الْمَرْأَةِ عِظَامُ صَدْرِهَا حَيْثُ تَكُونُ الْقِلَادَةُ، وَكُلُّ عَظْمٍ مِنْ ذَلِكَ تربة، وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
تَرَائِبُهَا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَلِ
119
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِهِ، وَاحْتَجَّ صَاحِبُ الْقَوْلِ الثَّانِي عَلَى مَذْهَبِهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ خَارِجٌ مِنَ الصُّلْبِ فَقَطْ، وَمَاءَ الْمَرْأَةِ خَارِجٌ مِنَ التَّرَائِبِ فَقَطْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَحْصُلُ هُنَاكَ مَاءٌ خَارِجٌ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْآيَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ وَالَّذِي يُوصَفُ بِذَلِكَ هُوَ مَاءُ الرَّجُلِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِأَنْ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ، يَعْنِي هَذَا الدَّافِقَ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ فَقَطْ أَجَابَ:
الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلشَّيْئَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ: أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ هَذَيْنِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَلِأَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا يَصِيرَانِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَحَسُنَ هَذَا اللَّفْظُ هُنَاكَ، وَأَجَابُوا عَنِ الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ: بِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ، فَلَمَّا كَانَ أَحَدُ قِسْمَيِ الْمَنِيِّ دَافِقًا أُطْلِقَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْمَجْمُوعِ، ثُمَّ قَالُوا: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَجْمُوعِ الْمَاءَيْنِ أَنَّ مَنِيَّ الرَّجُلِ وَحْدَهُ صَغِيرٌ فَلَا يَكْفِي، وَلِأَنَّهُ
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِذَا غَلَبَ مَاءُ الرَّجُلِ يَكُونُ الْوَلَدُ ذَكَرًا وَيَعُودُ شبه إِلَيْهِ وَإِلَى أَقَارِبِهِ، وَإِذَا غَلَبَ مَاءُ الْمَرْأَةِ فَإِلَيْهَا وَإِلَى أَقَارِبِهَا يَعُودُ الشَّبَهُ»
وَذَلِكَ يَقْتَضِي صِحَّةَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُلْحِدِينَ طَعَنُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ أَنَّ الْمَنِيَّ إِنَّمَا يَنْفَصِلُ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ فَضْلَةِ الْهَضْمِ الرَّابِعِ، وَيَنْفَصِلُ عَنْ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ عُضْوٍ طَبِيعَتَهُ وَخَاصِّيَّتَهُ، فَيَصِيرُ مُسْتَعِدًّا لِأَنْ يَتَوَلَّدَ مِنْهُ مِثْلُ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْمُفْرِطَ فِي الْجِمَاعِ يَسْتَوْلِي الضَّعْفُ عَلَى جَمِيعِ أَعْضَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ مُعْظَمَ أَجْزَاءِ الْمَنِيِّ يَتَوَلَّدُ هُنَاكَ فَهُوَ ضَعِيفٌ، بَلْ مُعْظَمُ أَجْزَائِهِ إِنَّمَا يَتَرَبَّى فِي الدِّمَاغِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ صُورَتَهُ يُشْبِهُ الدِّمَاغَ، وَلِأَنَّ الْمُكْثِرَ مِنْهُ يَظْهَرُ الضَّعْفُ أَوَّلًا فِي عَيْنَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ مُسْتَقَرَّ الْمَنِيِّ هُنَاكَ فَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مُسْتَقَرَّ الْمَنِيِّ هُوَ أَوْعِيَةُ الْمَنِيِّ، وَهِيَ عُرُوقٌ مُلْتَفٌّ بَعْضُهَا بِالْبَعْضِ عِنْدَ الْبَيْضَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ مَخْرَجَ الْمَنِيِّ هُنَاكَ فَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْحِسَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ الْجَوَابُ: لَا شَكَّ أَنَّ أَعْظَمَ الْأَعْضَاءِ مَعُونَةً فِي تَوْلِيدِ الْمَنِيِّ هُوَ الدِّمَاغُ، وَالدِّمَاغُ خَلِيفَةٌ وَهِيَ النُّخَاعُ وَهُوَ فِي الصُّلْبِ، وَلَهُ شُعَبٌ كَثِيرَةٌ نَازِلَةٌ/ إِلَى مُقَدَّمِ الْبَدَنِ وَهُوَ التَّرِيبَةُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ بِالذِّكْرِ، عَلَى أَنَّ كَلَامَكُمْ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِ الْمَنِيِّ، وَكَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِ الْأَعْضَاءِ مِنَ الْمَنِيِّ مَحْضُ الْوَهْمِ وَالظَّنِّ الضَّعِيفِ، وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى بِالْقَبُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ دَلَالَةَ تَوَلُّدِ الْإِنْسَانِ عَنِ النُّطْفَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ مِنْ أَظْهَرِ الدَّلَائِلِ، لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ التَّرْكِيبَاتِ الْعَجِيبَةَ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ أَكْثَرُ، فَيَكُونُ تَوَلُّدُهُ عَنِ الْمَادَّةِ الْبَسِيطَةِ أَدَلَّ عَلَى الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ وَثَانِيهَا: أَنَّ اطِّلَاعَ الْإِنْسَانِ عَلَى أَحْوَالِ نَفْسِهِ أَكْثَرُ مِنَ اطِّلَاعِهِ عَلَى أَحْوَالِ غَيْرِهِ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ أَتَمَّ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُشَاهَدَةَ الْإِنْسَانِ لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ دَائِمَةٌ، فَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ أَقْوَى وَرَابِعُهَا: وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْبَابِ، كَمَا أَنَّهُ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ، فَكَذَلِكَ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حُدُوثَ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِ أَجْزَاءٍ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي بَدَنِ الْوَالِدَيْنِ، بَلْ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ، فَلَمَّا قَدَرَ الصَّانِعُ عَلَى جَمْعِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ حَتَّى خَلَقَ مِنْهَا إِنْسَانًا سَوِيًّا، وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَتَفَرُّقِ أَجْزَائِهِ لَا بد
120
وَأَنْ يَقْدِرَ الصَّانِعُ عَلَى جَمْعِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَجَعْلِهَا خَلْقًا سَوِيًّا، كَمَا كَانَ أَوَّلًا وَلِهَذَا السِّرِّ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى دَلَالَتَهُ عَلَى الْمَبْدَأِ، فَرَّعَ عَلَيْهِ أَيْضًا دَلَالَتَهُ عَلَى صِحَّةِ الْمَعَادِ فقال:
[سورة الطارق (٨٦) : آية ٨]
إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ لِلْخَالِقِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ، وَالسَّبَبُ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: دَلَالَةُ خُلِقَ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي خَلَقَ قَادِرٌ عَلَى رَجْعِهِ الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ لَفْظًا، وَلَكِنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي بَدَاءَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ كَانَ كَالْمَذْكُورِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرَّجْعُ مَصْدَرُ رَجَعْتُ الشَّيْءَ إِذَا رَدَدْتَهُ، وَالْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ عَلى رَجْعِهِ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ تَرْجِعُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَوَّلُهُمَا: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ ابْتِدَاءً وَجَبَ أَنْ يَقْدِرَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى رَدِّهِ حَيًّا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس: ٧٩] وَقَوْلِهِ: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: ٢٧] وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الضَّمِيرَ غَيْرُ عَائِدٍ إِلَى الْإِنْسَانِ، ثُمَّ قَالَ مُجَاهِدٌ: قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الْمَاءَ فِي الْإِحْلِيلِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: عَلَى أَنْ يَرُدَّ الْمَاءَ فِي الصُّلْبِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى رَدِّ الْإِنْسَانِ مَاءً كَمَا كَانَ قَبْلُ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: إِنْ شِئْتُ رَدَدْتُهُ مِنَ الْكِبَرِ إِلَى الشَّبَابِ، وَمِنَ الشَّبَابِ إِلَى الصِّبَا، وَمِنَ الصِّبَا/ إِلَى النُّطْفَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَصَحُّ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ أَيْ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى بَعْثِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَصَفَ حَالَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فقال:
[سورة الطارق (٨٦) : الآيات ٩ الى ١٠]
يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَوْمَ مَنْصُوبٌ بِرَجْعِهِ وَمَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي رَجْعِهِ لِلْمَاءِ وَفَسَّرَهُ بِرَجْعِهِ إِلَى مَخْرَجِهِ مِنَ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ أَوْ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى نَصَبَ الظَّرْفَ بِقَوْلِهِ: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ أَيْ مَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تُبْلَى أَيْ تُخْتَبَرُ، وَالسَّرَائِرُ مَا أُسِرَّ فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالنِّيَّاتِ، وَمَا أُخْفِيَ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ هَاهُنَا أَقْوَالٌ:
الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ مَعْنَى الِاخْتِبَارِ هَاهُنَا أَنَّ أَعْمَالَ الْإِنْسَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُعْرَضُ عَلَيْهِ وَيَنْظُرُ أَيْضًا فِي الصَّحِيفَةِ الَّتِي كَتَبَتِ الْمَلَائِكَةُ فِيهَا تَفَاصِيلَ أَعْمَالِهِمْ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْمَذْكُورَ هَلْ هُوَ مُطَابِقٌ لِلْمَكْتُوبِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمُحَاسَبَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاقِعَةً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَازَ أَنْ يُسَمَّى هَذَا الْمَعْنَى ابْتِلَاءً، وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ غَيْرُ بَعِيدَةٍ لِعِبَادِهِ لِأَنَّهَا ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِتَفَاصِيلِ مَا عَمِلُوهُ وَمَا لَمْ يَعْمَلُوهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَفْعَالَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لِوُجُوهِهَا، فَرُبَّ فِعْلٍ يَكُونُ ظَاهِرُهُ حسنا
وَبَاطِنُهُ قَبِيحًا، وَرُبَّمَا كَانَ بِالْعَكْسِ. فَاخْتِبَارُهَا مَا يُعْتَبَرُ بَيْنَ تِلْكَ الْوُجُوهِ الْمُتَعَارِضَةِ مِنَ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ، حَتَّى يَظْهَرَ أَنَّ الْوَجْهَ الرَّاجِحَ مَا هُوَ، وَالْمَرْجُوحَ مَا هُوَ.
الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: بَلَوْتُ يَقَعُ عَلَى إِظْهَارِ الشَّيْءِ وَيَقَعُ على امتحانه كقوله: وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد: ٣١] وقوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ [البقرة: ١٥٥] ثُمَّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: السَّرَائِرُ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ تُخْتَبَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَظْهَرَ خَبَرُهَا مِنْ سِرِّهَا وَمُؤَدِّيهَا مِنْ مُضَيِّعِهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
يُبْدِي اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلَّ سِرٍّ مِنْهَا، فَيَكُونُ زَيْنًا فِي الْوُجُوهِ وَشَيْنًا فِي الْوُجُوهِ، يَعْنِي مَنْ أَدَّاهَا كَانَ وَجْهُهُ مُشْرِقًا وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ وَجْهُهُ أَغْبَرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا قُوَّةَ لِلْعَبْدِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، لِأَنَّ قُوَّةَ الْإِنْسَانِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ لِذَاتِهِ أَوْ مُسْتَفَادَةً مِنْ غَيْرِهِ، فَالْأَوَّلُ مَنْفِيٌّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَالثَّانِي مَنْفِيٌّ بِقَوْلِهِ: وَلا ناصِرٍ وَالْمَعْنَى مَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَا حَلَّ مِنَ الْعَذَابِ وَلَا نَاصِرٍ يَنْصُرُهُ فِي دَفْعِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ زَجْرٌ وتحدير، وَمَعْنَى دُخُولِ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قُوَّةٍ عَلَى وَجْهِ النَّفْيِ لِقَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا لَهُ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْقُوَّةِ وَلَا أَحَدٍ مِنَ الْأَنْصَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُمْكِنُ أَنْ يُتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْيِ الشَّفَاعَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً إِلَى قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [الْبَقَرَةِ: ٤٨]، الْجَوَابُ: ما تقدم.
[سورة الطارق (٨٦) : الآيات ١١ الى ١٧]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥)
وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا فَرَغَ مِنْ دَلِيلِ التَّوْحِيدِ، وَالْمَعَادِ أَقْسَمَ قَسَمًا آخَرَ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ فَنَقُولُ: قَالَ الزَّجَّاجُ الرَّجْعُ الْمَطَرُ لِأَنَّهُ يَجِيءُ وَيَتَكَرَّرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الزَّجَّاجِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الرَّجْعَ لَيْسَ اسْمًا مَوْضُوعًا لِلْمَطَرِ بَلْ سُمِّيَ رَجْعًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَلِحُسْنِ هَذَا الْمَجَازِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا:
قَالَ الْقَفَّالُ: كَأَنَّهُ مِنْ تَرْجِيعِ الصَّوْتِ وَهُوَ إِعَادَتُهُ وَوَصْلُ الْحُرُوفِ بِهِ، فَكَذَا الْمَطَرُ لِكَوْنِهِ عَائِدًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى سُمِّيَ رَجْعًا وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ السَّحَابَ يَحْمِلُ الْمَاءَ مِنْ بِحَارِ الْأَرْضِ ثُمَّ يُرْجِعُهُ إِلَى الْأَرْضِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّفَاؤُلَ فَسَمَّوْهُ رَجْعًا لِيَرْجِعَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمَطَرَ يَرْجِعُ فِي كُلِّ عَامٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ لِلْمُفَسِّرِينَ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ أَيْ ذَاتِ الْمَطَرِ يَرْجِعُ لِمَطَرٍ بَعْدَ مَطَرٍ وَثَانِيهَا: رَجْعُ السَّمَاءِ إِعْطَاءُ الْخَيْرِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ جِهَتِهَا حَالًا بَعْدَ حَالٍ عَلَى مُرُورِ الْأَزْمَانِ تُرْجِعُهُ رَجْعًا، أَيْ
122
تُعْطِيهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ أَنَّهَا تَرُدُّ وَتُرْجِعُ شَمْسَهَا وَقَمَرَهَا بَعْدَ مَغِيبِهِمَا، وَالْقَوْلُ هُوَ الْأَوَّلُ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ فَاعْلَمْ أَنَّ الصَّدْعَ هُوَ الشَّقُّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الرُّومِ: ٤٣] أَيْ يَتَفَرَّقُونَ وَلِلْمُفَسِّرِينَ أَقْوَالٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَنْشَقُّ عَنِ النَّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْجَبَلَانِ بَيْنَهُمَا شَقٌّ وَطَرِيقٌ نَافِذٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا [الْأَنْبِيَاءِ: ٣١] وَقَالَ اللَّيْثُ:
الصَّدْعُ نَبَاتُ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ يَصْدَعُ الْأَرْضَ فَتَنْصَدِعُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا سُمِّيَ النَّبَاتُ صَدْعًا لِأَنَّهُ صَادِعٌ لِلْأَرْضِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَمَا جَعَلَ، كَيْفِيَّةَ خِلْقَةِ الْحَيَوَانِ دَلِيلًا عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، ذَكَرَ فِي هَذَا الْقِسْمِ كَيْفِيَّةَ خِلْقَةِ النَّبَاتِ، فَالسَّمَاءُ ذَاتُ الرَّجْعِ كَالْأَبِ، وَالْأَرْضُ ذَاتُ الصَّدْعِ كَالْأُمِّ وَكِلَاهُمَا مِنَ النِّعَمِ الْعِظَامِ لِأَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنَ الْمَطَرِ مُتَكَرِّرًا، وَعَلَى مَا يَنْبُتُ مِنَ الْأَرْضِ كَذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَرْدَفَ هَذَا الْقَسَمَ بِالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فَقَالَ:
[في قوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ] إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذَا الضَّمِيرِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: مَا قَالَ الْقَفَّالُ وَهُوَ: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ مَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ قُدْرَتِي عَلَى إِحْيَائِكُمْ فِي الْيَوْمِ/ الَّذِي تُبْلَى فِيهِ سَرَائِرُكُمْ قَوْلٌ فَصْلٌ وَحَقٌّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ أَيِ الْقُرْآنُ فَاصِلٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَمَا قِيلَ: لَهُ فُرْقَانٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَذْكُورِ السَّالِفِ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَقَوْلٌ فَصْلٌ أَيْ حُكْمٌ يَنْفَصِلُ بِهِ الْحَقُّ عَنِ الْبَاطِلِ، وَمِنْهُ فَصْلُ الْخُصُومَاتِ وَهُوَ قَطْعُهَا بِالْحُكْمِ، وَيُقَالُ: هذا فَصْلٌ أَيْ قَاطِعٌ لِلْمِرَاءِ وَالنِّزَاعِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَدٌّ حَقٌّ لِقَوْلِهِ: وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أَيْ بِاللَّعِبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِالْجَدِّ، وَلَمْ يَنْزِلْ بِاللَّعِبِ، ثُمَّ قَالَ: وَما هُوَ بِالْهَزْلِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْبَيَانَ الْفَصْلَ قَدْ يُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ الْجَدِّ وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ وَقَدْ يَكُونُ عَلَى غَيْرِ سَبِيلِ الْجَدِّ وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَذَلِكَ الْكَيْدُ عَلَى وُجُوهٍ. مِنْهَا بِإِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ كَقَوْلِهِمْ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الأنعام: ٢٩] مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: ٧٨] أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: ٥] لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزُّخْرُفِ: ٣١] فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْفُرْقَانِ: ٥] وَمِنْهَا بِالطَّعْنِ فِيهِ بِكَوْنِهِ سَاحِرًا وَشَاعِرًا وَمَجْنُونًا، وَمِنْهَا بِقَصْدِ قَتْلِهِ عَلَى مَا قَالَهُ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ [الْأَنْفَالِ: ٣٠] ثُمَّ قَالَ: وَأَكِيدُ كَيْداً.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَيْدَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَحْمُولٌ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: دَفْعُهُ تَعَالَى كَيْدَ الْكَفَرَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيُقَابِلُ ذَلِكَ الْكَيْدَ بِنُصْرَتِهِ وَإِعْلَاءِ دِينِهِ تسمية لأحد المتقابلين باسم كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠] وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر: ١٩] يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النِّسَاءِ:
١٤٢] وَثَانِيهَا: أَنَّ كَيْدَهُ تَعَالَى بِهِمْ هُوَ إِمْهَالُهُ إِيَّاهُمْ عَلَى كفرهم حتى يأخذهم على غرة، [في قوله تعالى فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً] ثُمَّ قَالَ: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَيْ لَا تَدْعُ بِهَلَاكِهِمْ وَلَا تَسْتَعْجِلْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِإِمْهَالِهِمْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِمْهَالَ الْمَأْمُورَ به
123
قَلِيلٌ، فَقَالَ: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً فَكَرَّرَ وَخَالَفَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ لِزِيَادَةِ التَّسْكِينِ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالتَّصَبُّرُ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّ تَكْبِيرَ رُوَيْدٍ رَوْدٌ، وَأَنْشَدَ:
يَمْشِي وَلَا تُكَلِّمُ الْبَطْحَاءُ مِشْيَتَهُ كَأَنَّهُ ثَمِلٌ يمشي على ورد
أَيْ عَلَى مَهْلَةٍ وَرِفْقٍ وَتُؤَدَةٍ، وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ فِي بَابِ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ رُوَيْدًا زَيْدًا يُرِيدُ أَرْوِدْ زَيْدًا، وَمَعْنَاهُ أَمْهِلْهُ وَارْفُقْ بِهِ، قَالَ النَّحْوِيُّونَ: رُوَيْدٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْأَمْرِ كقولك: رويد زيدا تريد أرود زيد أَيْ خَلِّهِ وَدَعْهُ وَأَرْفِقْ بِهِ وَلَا تَنْصَرِفُ رُوَيْدَ فِي هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَمَكِّنَةٍ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْمَصَادِرِ فَيُضَافُ إِلَى مَا بَعْدَهُ كَمَا تُضَافُ الْمَصَادِرُ تَقُولُ: رُوَيْدَ زَيْدٍ، كَمَا تَقُولُ: ضَرْبُ زَيْدٍ قَالَ تَعَالَى: فَضَرْبَ الرِّقابِ [مُحَمَّدٍ: ٤]، وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ نَعْتًا مَنْصُوبًا كَقَوْلِكَ: سَارُوا سَيْرًا رُوَيْدًا، وَيَقُولُونَ أَيْضًا: سَارُوا رُوَيْدًا، يَحْذِفُونَ الْمَنْعُوتَ/ وَيُقِيمُونَ رُوَيْدًا مَقَامَهُ كَمَا يَفْعَلُونَ بِسَائِرِ النُّعُوتِ الْمُتَمَكِّنَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: ضَعْهُ رُوَيْدًا أَيْ وَضْعًا رويدا، وتقول للرجل: يعالج الشيء الشَّيْءَ رُوَيْدًا، أَيْ عِلَاجًا رُوَيْدًا، وَيَجُوزُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ رُوَيْدًا حَالًا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَعْتًا فَإِنْ أَظْهَرْتَ الْمَنْعُوتَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِلْحَالِ، وَالَّذِي فِي الْآيَةِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قِيلَ:
إِمْهَالًا رُوَيْدًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْحَالِ أَيْ أَمْهِلْهُمْ غَيْرَ مُسْتَعْجِلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّمَا صُغِّرَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ الَّذِي جَرَى يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي سَائِرِ الْغَزَوَاتِ لَا يَعُمُّ الْكُلَّ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ عَمَّ الْكُلَّ، وَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَدْخُلَ فِي جُمْلَتِهِ أَمْرُ الدُّنْيَا، مِمَّا نَالَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ زَجْرٌ وَتَحْذِيرٌ لِلْقَوْمِ، وَكَمَا أَنَّهُ تَحْذِيرٌ لَهُمْ فَهُوَ تَرْغِيبٌ فِي خِلَافِ طَرِيقِهِمْ فِي الطَّاعَاتِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.
124
سورة الطارق
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الطَّارق) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (البلد)، وقد افتُتحت بالدلالة على عظمةِ الله، وتدبيره لهذا الكون، ودللت على بعثِ اللهِ الخلائقَ بعد موتهم، وإحصائه أعمالَهم، ومحاسبتِهم عليها؛ فليراجع الإنسانُ نفسَه قبل فوات الأوان! و(الطَّارق): هو النَّجْمُ الذي يطلُعُ ليلًا.

ترتيبها المصحفي
86
نوعها
مكية
ألفاظها
61
ترتيب نزولها
36
العد المدني الأول
16
العد المدني الأخير
17
العد البصري
17
العد الكوفي
17
العد الشامي
17

* سورة (الطَّارق):

سُمِّيت سورة (الطَّارق) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقَسَمِ اللهِ بـ{اْلسَّمَآءِ وَاْلطَّارِقِ}، والطارق: هو النَّجْمُ الذي يطلُعُ ليلًا.

* كان صلى الله عليه وسلم يَقرأ في الظُّهر والعصر بسورة (الطارق):

عن جابرِ بن سَمُرةَ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يَقرأُ في الظُّهْرِ والعصرِ بـ{وَاْلسَّمَآءِ وَاْلطَّارِقِ}، {وَاْلسَّمَآءِ ذَاتِ اْلْبُرُوجِ}، ونحوِهما مِن السُّوَرِ». أخرجه أبو داود (٨٠٥).

1. مظاهر قدرة الله في خَلْق الإنسان (١-١٠).

2. حقيقة القرآن الكريم (١١-١٤).

3. أحوال الكافرين المكذِّبين (١٥-١٧).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /101).

يقول ابنُ عاشور عن مقصودها: «إثباتُ إحصاءِ الأعمال، والجزاءِ على الأعمال.

وإثبات إمكان البعث بنقضِ ما أحاله المشركون؛ ببيانِ إمكان إعادة الأجسام.
وأُدمِج في ذلك التذكيرُ بدقيق صُنْعِ الله، وحِكْمته في خَلْق الإنسان.
والتنويه بشأن القرآن.
وصدق ما ذُكِر فيه من البعث؛ لأن إخبارَ القرآن به لمَّا استبعَدوه وموَّهوا على الناس بأن ما فيه غيرُ صدقٍ.

وتهديد المشركين الذين ناوَوُا المسلمين.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم، ووعدُه بأن الله منتصرٌ له غيرَ بعيد». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /258).