٥٩ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا﴾ الآية، جواب (لو) محذوف بتقدير: لكان خيرًا لهم، وأعود عليهم (١)، قال ابن عباس: ولكن غلب عليهم النفاق، ولم يحق الإيمان في قلوبهم، فيتوكلوا على الله حق توكله (٢).
ثم إن الله تعالى بين لمن الصدقات فقال:
٦٠ - ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ الآية، قال ابن عباس: يريد صدقات الأموال (٣). وذكرنا معنى الصدقة عند قوله: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة: ٢٧١] الآية (٤).
واختلفوا في معنى الفقير والمسكين، والكلام في اشتقاقهما قد سبق (٥)، فأما معناهما: فقال ابن عباس والحسن وجابر بن زيد (٦) والزهري
(٢) لم أقف على مصدره.
(٣) لم أقف على مصدره.
(٤) انظر: "النسخة الأزهرية" ١/ ١٦١ أحيث قال: الصدقة تطلق على الفرض والنفل، والزكاة لا تطلق إلا على القرض، قال الزجاجي: (ص د ق) على هذا الترتيب موضوع للصحة والكمال، من ذلك قولهم: رجل صدق النظر، وصدق اللقاء وصدقوهم القتال، وفلان صادق المودة.. وسمى الله تعالى الزكاة صدقة؛ لأن المال بها يصح ويكمل، فهي سبب لكمال المال.
(٥) ذكر الكلام في اشتقاق المسكنة عند تفسير الآية ٦١ من سورة البقرة، وذكر اشتقاق الفقير عند قوله تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾ [البقرة: ٢٦٨]، وأصله في اللغة: المفقور الذي نزعت فقرة من فقر ظهره، فكأنه انقطع ظهره من شدة الفقر، فصرف من مفقور إلى فقير، كما قيل: مجروح وجريح. انظر: "تهذيب اللغة" (فقر) ٣/ ٢٨١٢ - ٢٨١٣، و"اللسان" (فقر) ٦/ ٣٤٤٤.
(٦) هو: جابر بن زيد الأزدي اليحمدي مولاهم، البصري، المعروف بأبي الشعثاء، كان عالم أهل البصرة، في زمانه، وفي طبقة الحسن البصري وابن سيرين، ومن كبار تلاميذ ابن عباس، كان لبيبًا مجتهدًا في العبادة، توفي سنة ٩٣هـ. =
ومجاهد وابن زيد: الفقير: المتعفف الذي لا يسأل الناس (١)، والمسكين الذي يسأل (٢)، وهذا اختيار الفراء، قال: الفقراء أهل الصفة لم تكن لهم عشائر ولا مال كانوا يأوون إلى مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمساكين: الطوافون على الأبواب (٣) (٤).
وسئل أبو العباس عن تفسير الفقير والمسكين فقال: قال أبو عمرو بن العلاء فيما روى عنه (٥) الأصمعي: الفقير [الذي له ما يأكل، والمسكين الذي لا شيء له (٦).
وقال يونس (٧):] (٨) الفقير يكون له بعض ما يقيمه، والمسكين الذي لا شيء له، وقال (٩): قلت لأعرابي أفقير أنت؟ قال: لا والله بل مسكين، قال: فالمسكين أسوأ حالاً من الفقير، والفقير الذي له بلغة من العيش (١٠)،
(١) ساقط من (م).
(٢) أخرج آثارهم بألفاظ متقاربة ابن جرير ١٠/ ١٥٨ - ١٦٠، والثعلبي ٦/ ١١٧ أ، كما خرج أكثرها السيوطي في "الدر المنثور" ٣/ ٤٤٩ - ٤٥٠.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٤٤٣ بتصرف ويعني الفراء التمثيل بأهل الصفة لا الحصر.
(٤) رجح هذا القول أبو جعفر النحاس في "الناسخ والمنسوخ" ٢/ ٤٤٦ وأيده بالحجج النقلية واللغوية، ورد ما يمكن أن يعترض به عليه. وقد قال قبل ذلك: إن قول من قال: المسكين كذا، والفقير كذا، لم يقل إنه لا يقال لغيره مسكين ولا فقير. وانظر أيضًا: "تفسير الطبري" ١٠/ ١٥٩ - ١٦٠ فهو يؤيد هذا القول.
(٥) في (ج): (عن)، وما أثبته موافق لما في "تهذيب اللغة".
(٦) "تهذيب اللغة" (فقر) ٣/ ٢٨١٢.
(٧) هو: يونس بن حبيب البصري.
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٩) ساقط من (ي)، والقائل يونس كما بينه الأزهري المصدر التالي.
(١٠) انظر أقوال يونس في "تهذيب اللغة" (فقير) ٣/ ٢٨١٣.
ونحو هذا قال ابن السكيت (١) وابن قتيبة (٢)، وهو مذهب أهل العراق (٣)، واحتجوا على هذا بقول الراعي:
أما الفقير الذي كانت حلوبته | وفق العيال فلم يترك له سبد (٤) |
وقال محمد بن مسلمة (٦) (٧): الفقير الذي له المسكن يسكنه والخادم
(٢) انظر: "تفسير غريب القرآن"، له ص ١٩٦.
(٣) انظر: "بدائع الصنائع" ٢/ ٩٠١، و"المغني" لابن قدامة ٩/ ٣٠٦، ٣٠٧، و"تفسير البغوي" ٤/ ٦٢، و"حاشية ابن عابدين" ٢/ ٣٣٩.
(٤) انظر: "ديوانه" ص ٦٤ ونسب إليه أيضاً في: "طبقات فحول الشعراء" ١/ ٥١١، و"لسان العرب" (فقر)، و"المخصص" ١٢/ ٢٨٥.
والسبد: الوبر، والعرب تقول: ما له سبد ولا لبد، أي ماله ذو وبر ولا صوف متلبد، انظر: "لسان العرب" (سبد) ٤/ ١٩١٨، والشاعر يشكو السعاة والعاملين على الصدقات من قبل عبد الملك بن مروان، ويقول: إنهم لم يرحموا أحدًا حتى الفقير الذي لا يملك إلا ناقة حلوبًا على قد عياله، أخذت منه، ولم يترك له شيء.
(٥) ذكر الأزهري أنه لا حجة في هذا البيت؛ لأن المعنى: كانت لهذا الفقير حلوبة فيما مضى دون الحالة الحاضرة. انظر: "تهذيب اللغة" (فقر) ٣/ ٢٨١٣، وسبقه أبو بكر بن الأنباري في "الزاهر في معاني كلمات الناس" ١/ ١٢٨.
(٦) في (ي): (سلمة)، وما أثبته موافق لمصدري تخريج القول.
(٧) هو: محمد بن مسلمة بن الوليد، أبو جعفر الواسطي الطيالسي، محدث معمر، قال الدارقطني: لا بأس به، وقال الخطيب: رأيت أبا القاسم اللالكائي والحسن بن محمد الخلال يضعفانه، قال: وله مناكير، توفي سنة ٢٨٢ هـ.
انظر: "تاريخ بغداد" ٣/ ٣٠٥، و"سير أعلام النبلاء" ١٣/ ٣٩٥.
أقول: هذا ما ترجح لدي أنه المذكور، ولست على يقين بذلك وأستبعد أن يكون هو محمد بن مسلمة ألأنصاري الصحابي كما جزم بذلك مفهرس "تفسير القرطبي" ٢٢/ ٣٢٦؛ ألأن النص في "تفسير الثعلبي" طويل، وفيه تعليلات لم يعهد مثلها في =
يخدمه (١)، والمسكين الذي لا ملك له (٢)، وهؤلاء قالوا (٣): كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان غنيًا عن غيره، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ [فاطر: ١٥] والمسكين المحتاج إلى كل شيء، ألا ترى كيف حض على إطعامه وجعل الكفارات من الأطعمة له ولا فاقة أعظم من سد الجوعة.
وقال الشافعي: الفقراء: الزمنى الضعاف الذي لا حرفة لهم وأهل الحرفة الضعيفة التي لا تقع حرفته من حاجتهم موقعًا، [والمساكين: السؤال ممن لهم حرفة تقع موقعًا] (٤) ولا تغنيه وعياله (٥)، فالفقير أشدهما حالاً عند الشافعي وإلى هذا ذهب جماعة (٦)، وقال أحمد بن عبيد (٧): المسكين أحسن
(١) هذا خلاف ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو، وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادمًا، قال: فأنت من الملوك. "صحيح مسلم" (٢٩٧٩) كتاب: الزهد.
(٢) "تفسير الثعلبي" ٦/ ١١٧ ب، والقرطبي ٨/ ١٧١.
(٣) في "تفسير الثعلبي" القائل هو: محمد بن مسلمة.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٥) "الأم" ٢/ ١١٠.
(٦) ساقط من (ج). وانظر: "كتاب الأموال" ص ٧١٧ - ٧١٩؛ و"المغني" ٩/ ٣٠٦، و"لسان العرب" (فقر) ٦/ ٣٤٤٤ - ٣٤٤٥.
(٧) هو: أحمد بن عبيد بن ناصح الديلمي ثم البغدادي، أبو جعفر النحوي، المعروف =
حالاً من الفقير؛ لأن الفقير أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقرة من فقر ظهره، فصرف عن مفقور إلى فقير كما قيل: مطبوخ وطبيخ ومجروح وجريح (١). وقال خالد بن يزيد (٢): كأن الفقير إنما سمي فقيرًا لزمانة تصيبه مع حاجة شديدة، تمنعه الزمانة من التقلب في الكسب على نفسه فهذا هو الفقير (٣)، ولا حال في الإقلال والبؤس هي أوكد من هذه الحال، وأنشدوا للبيد:
لما رأى لبد النسور تطايرت | رفع القوادم (٤) كالفقير الأعزل (٥) |
(١) ذكره بنحوه أبو بكر بن الأنباري في كتابه "الزاهر في معاني كلمات الناس" ١/ ١٢٨، وانظر أيضًا: "تهذيب اللغة" (فقر) ٣/ ٢٨١٣، (سكن) ٢/ ١٧٢٤.
(٢) هو أبو الهيثم الرازي.
(٣) اهـ. كلام خالد بن يزيد في "تهذيب اللغة" (فقر) ٣/ ٢٨١٣.
(٤) في (ي): (الفقير)، وهو خطأ.
(٥) البيت في "ديوان لبيد" ص٣٤، وفي "شرحه" ص ٢٧٤، ونسب إليه أيضًا في "تهذيب اللغة" (فقر) ٣/ ٢٨١٣، و"لسان العرب" (فقر) ٦/ ٣٤٤٥. ولبد: هو النسر السابع من نسور لقمان بن عاد، والأعزل من الخيل: المائل الذنب.
والشاعر يذكر قصة متداولة عند العرب؛ إذ يقال أن لقمان بن عاد خُيّر في عمره، فاختار أن يكون كعمر سبعة أنسر، فكان يأخذ فرخ النسر فيجعله في فجوة في الجبل الذي هو في أصله، فيعيش الفرخ خمسمائة سنة أو أقل أو أكثر، فإذا مات أخذ آخر مكانه، حتى هلكت ستة، فأخذ السابع وسماه لبدًا، وكان أطولها عمرًا حتى ضرب به المخل، فقيل: طال الأبد على لبد، ثم هلك النسر، فمات لقمان، وقد زعموا أنه عاش ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة. انظر: "شرح ديوان لبيد" ص ٢٧٤، و"مجمع الأمثال" ١/ ٤٢٩.
قال ابن الأعرابي في هذا البيت: الفقير: المكسور الفقار يضرب مثلاً لكل ضعيف لا ينفذ في الأمور (١).
وقال قتادة: الفقير: الزمن المحتاج، والمسكين: الصحيح المحتاج (٢)، فجعل الفقير أسوأ حالاً، ومما يدل على صحة هذا القول أن الله ابتدأ بذكرهم، فدل أنهم أولى الأصناف بالصدقات لسوء حالهم، وما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعوذ من الفقر (٣)، وروي عنه أنه قال: "اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا (٤)، واحشرني في زمرة المساكين" (٥).
(٢) رواه ابن جرير ١٠/ ١٥٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨١٩ - ١٨٢٠، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" ٣/ ٤٤٩، وزاد: عبد الرزاق وابن المنذر والنحاس وأبو الشيخ.
(٣) رواه أبو داود (١٥٤٤) كتاب: الصلاة، باب: في الاستعاذة، والنسائي في "سننه" كتاب: الاستعاذة، الاستعاذة من القلة ٨/ ٢٦١، وابن ماجه (٢٨٤٢)، كتاب: الدعاء، باب: ما تعوذ منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأحمد في "المسند" ٢/ ٣٠٥، والحاكم في "المستدرك"، كتاب: الدعاء ١/ ٥٤١. وقال: صحيح الإسناد. اهـ. ولفظ الحديث عنده وعند أحمد: "اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة.. " الحديث.
(٤) قال ابن الأثير: أراد به التواضع والإخبات، وأن لا يكون من الجبارين المتكبرين. "النهاية في غريب الحديث" (سكن) ٢/ ٣٨٥، ونحوه في "السنن الكبرى" للبيهقي ٧/ ١٩.
(٥) رواه الترمذي (٢٣٥٢) كتاب: الزهد، باب: ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، وقال: حديث غريب، وابن ماجه (٤١٢٦)، كتاب: الزهد، باب. مجالسة الفقراء، والحاكم في "المستدرك" كتاب: الرقاق ٤/ ٣٢٢، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وهو وهم منهما؛ لأن جميع أسانيد الحديث لا تخلو من قادح، ولذا قال الألباني بعد أن ذكر من صححه: (وهذا عجيب منهم، خاصة الذهبي فقد أورد يزيد بن خالد هذا في "الضعفاء" ص ٢٠٧، =
فلو كان المسكين أسوأ حالاً من الفقير لتناقض الحديثان؛ لأنه يتعوذ من الفقر ثم يسأل حالاً أسوأ منه، ولا تناقض بينهما؛ لأنه تعوذ بالله من الضر (١)، وسوء الحال، وسأله الخضوع وأن لا يجعله من الجبارين.
والمسكنة حرف مأخوذ من السكون، يقال: تمسكن الرجل: إذا لان وتواضع وخشع، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تبأس وتمسكن" (٢) يريد: تواضع وتخشع، فيجوز أن يكون الرجل يملك شيئًا، وله حالة من الدنيا، ويكون مسكيناً على ما ذكرنا، ألا ترى أن الله تعالى استجاب دعاء نبيه -عليه السلام- وأعاذه من الفقر؛ لأنه قبضه موسرًا غنيًا بما أفاء عليه، وإن كان لم يضع درهمًا على درهم، والله -عز وجل- يقول: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى: ٨]. هذا الذي ذكرنا كلام ابن قتيبة في هذين الحديثين (٣).
واحتد ابن الأنباري لهذه (٤) الطريقة بقوله: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ
ثم ساق الألباني شاهدين ضعيفين للحديث ثم قال: (والخلاصة: أن جميع طرق الحديث لا تخلو من قادح، إلا أن مجموعها يدل على أن للحديث أصلاً، فإن بعضها ليس شديد الضعف كحديث أبي سعيد وعبادة، والأحاديث تصل بمجموعها إلى درجة الحسن. يعني: الحسن لغيره). انظر: "إرواء الغليل" رقم (٨٦١١) ٣/ ٣٥٨ - ٣٦٣.
(١) في (ج): (الضرر).
(٢) هذا بعض حديث رواه أبو داود (١٢٩٦)، كتاب: الصلاة، باب: في صلاة النهار، وابن ماجه (١٣٢٥)، كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الليل والنهار مثنى مثنى.
(٣) انظر: "تأويل مختلف الحديث" ص ١٩٦.
(٤) في (ج): (بهذه).
لِمَسَاكِينَ} [الكهف: ٧٩] الآية، فوصف بالمسكنة من له سفينة من سفن البحر تساوي جملة من الدنانير (١)، وبقوله تعالى: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦)﴾ [البلد: ١٤ - ١٦]، ومسكين ذو متربة: هو الفقير الذي قد لصق بالتراب من شدة الفقر، والمسكين الذي ليس بذي متربة هو أحسن حالاً من الفقير؛ لأنه ذو مال، ونعت الله تعالى هذا المسكين بأنه ذو متربة يدل على أن ثم مسكينًا ليس بذي متربة يخالف المنعوت ولا يبلغ منزلته في شدة الفقر.
وأما احتجاجهم ببيت الراعي، قلنا: قد ذكر الفقير وحده وكل فقير أفردته بالاسم جاز إطلاق المسكين عليه، وكذلك إطلاق الفقير على المسكين، وإنما يتبين مقصود هذه المسألة عند الجمع بينهما وفائدة هذا الخلاف لا تبين في تفريق الصدقات، وإنما تبين في الوصايا، وهو أن رجلاً لو (٢) قال: أوصيت للفقراء بمائتين وللمساكين بخمسين وجب (٣) دفع المائتين إلى من هو أسوأ حالاً من الفريقين.
ومن الناس من سوى بين الفقير والمسكين وقال: هما واحد إلا أنه
(٢) ساقط من (ي).
(٣) في (ج): (يوجب).
ذكر (١) بالصفتين لتأكيد أمره (٢).
والظاهر من هذه الأقوال الذي يوافق اللغة قول قتادة، هو أن الفقير ذو الزمانة سنة من أهل الحاجة، والمسكين الصحيح منهم، وهو في اللغة (مفعيل) من السكون مثل المنطيق من النطق، ومضى الكلام فيه عند قوله تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ [البقرة: ٦١].
وحدّ الفقير والمسكين الذي يجوز دفع الزكاة إليه هو من لا يفي دخله بخرجه.
وقوله تعالى: ﴿وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا﴾، قال ابن عباس: يريد الذين يستخرجونها (٣). وقال الزهري وابن زيد: هم السعاة لجباية الصدقة (٤).
وهؤلاء يعطون من الصدقات بقدر أجور أمثالهم، وهو مذهب الشافعي (٥)، وقول عبد الله بن عمرو (٦)، وابن زيد (٧)، وقال مجاهد والضحاك: يعطون الثُّمُن من الصدقات (٨).
(٢) ذكر القرطبي في "تفسيره" ٨/ ١٦٩، ١٧٠ أن هذا أحد قولي الشافعي، وإليه ذهب أبو يوسف وابن القاسم وسائر أصحاب مالك، وانظر: "حاشية ابن عابدين" ٢/ ٣٣٩.
(٣) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٨٢١ بلفظ: السعاة أصحاب الصدقة.
(٤) رواه ابن جرير ١٠/ ١٦٠ مختصرًا عن الزهري، وبمعناه عن ابن زيد.
(٥) انظر: "الأم" ٢/ ١١١.
(٦) في (ي): (عمر)، والصواب ما أثبته، وانظر قوله في "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٦١، والثعلبي ٦/ ١١٨ ب.
(٧) رواه ابن جرير ١٠/ ١٦١، والثعلبي ٦/ ١١٨ ب.
(٨) رواه ابن جرير ١٠/ ١٦٠ - ١٦١ بإسنادين ضعيفين، ففي سنده عن مجاهد مجهول، ومسلم بن خالد الزنجي قال الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب" ص ٥٢٩ (٦٦٢٥): صدوق كثير الأوهام، وفي سنده عن الضحاك ضعيف، وهو جويبر.
والصحيح أن الهاشمي والمطلبي (١) لا يجوز أن يكون عاملاً على الصدقات [بعمالة منها؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبي أن يبعث أبا رافع (٢) عاملاً على الصدقات] (٣)، وقال: "أما علمت أن مولى القوم منهم؟! " (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾، قال ابن عباس: هم قوم من أشراف العرب استألفهم رسول الله - ﷺ - ليردوا عنه قومهم ويعينوه على عدوه، منهم عباس بن مرادس السلمي، وعيينة بن حصن الفزاري (٥)، والأقرع بن حابس
(٢) للنبي - ﷺ - موليان بهذا الاسم، أبو رافع عبد أبي أحيحة، وقد أعتق كل من بنيه نصيبه منه سوى واحد فإنه وهب نصيبه للنبي - ﷺ - فأعتقه، والثاني أبو رافع القبطي وقد أفاد الذهبي أنه هو المذكور في حديث الصدقة، واختلف في اسمه، فقيل: أسلم، وقيل: إبراهيم، وقيل غير ذلك، والأول أشهر، كان عبدًا للعباس فوهبه للنبي - ﷺ -، فلما أن بشر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإسلام العباس أعتقه، وكان ذا علم وفضل، وقد شهد غزوة أحد وما بعدها، وتوفي بالكوفة سنة ٤٠ هـ. وقيل قبل ذلك: انظر: "المعارف" ص ٨٥، و"سير أعلام النبلاء" ٢/ ١٦، و"الإصابة" ٤/ ٦٧ - ٦٨ (٣٩٦).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٤) رواه النسائي في "سننه"، كتاب: الزكاة، باب: مولى القوم منهم ٥/ ١٠٧، والترمذي (٦٥٧)، كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في كراهية الصدقة للنبي.. ، وأبو داود (١٦٥٠)، كتاب: الزكاة، باب: الصدقة على بني هاشم، وأحمد في "المسند" ٦/ ٨، والحديث بنحوه دون ذكر أبي رافع في "صحيح البخاري" (٦٧٦١)، كتاب: الفرائض، باب: مولى القوم من أنفسهم.
(٥) هو: عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، أبو مالك، زعيم فزارة وغطفان، أسلم قبل فتح مكة وشهدها، وشهد حنينًا والطائف، ثم ارتد في عهد أبي بكر ثم عاد إلى الإسلام، وكان من المؤلفة قلوبهم، وفيه جفاء البادية، مع حمق وتيه، توفي في خلافة عثمان -رضي الله عنه-.
التميمي (١)، والحارث بن هشام المخزومي، وأبو سفيان بن حرب الأموي، وجماعة (٢)، وهذا قول الكلبي (٣) والأكثرين (٤).
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطيهم سهمًا من الزكاة، فأما اليوم فقد أغنى الله المسلمين عن ذلك إنما كانوا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصة، وهذا قول الحسن (٥) والشعبي (٦)، فإن رأى الإمام على مقتضى الحال يريد أن يؤلف قلوب قوم على الإسلام فله الإعطاء إذا كانوا مسلمين، إذ لا يجوز صرف شيء من زكاة الأموال إلى المشركين، فأما المؤلفة من المشركين فإنما يعطون من مال الفيء لا من الصدقات (٧).
(١) هو: الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد المجاشعي الدارمي التميمي، من زعماء بني تميم، أسلم قبل فتح مكة وشهد فتحها وحنينًا والطائف، وكان من المؤلفة قلوبهم، ثم حسن إسلامه، وكان حكيمًا شريفًا في الجاهلية والإسلام، قتل بجوزجان في خلافة عثمان رضي الله عنهما.
انظر: "السيرة النبوية" ٤/ ١٣٥، ١٤١، ١٤٣، و"الإصابة" ١/ ٥٨.
(٢) ذكر نحوه الرازي في "تفسيره" ١٦/ ١١١، وروى ابن جرير ١٠/ ١٦١ عن ابن عباس قال: (هم قوم كانوا يأتون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أسلموا.. فإذا أعطاهم من الصدقات فأصابوا منها خيرًا قالوا: هذا دين صالح؛ وإن كان غير ذلك عابوه وتركوه). وانظر: "إرواء الغليل" ٣/ ٣٦٩.
(٣) رواه الثعلبي ٦/ ١١٨.
(٤) مثل يحيي بن أبي كثير، ومجاهد. والحسن، وقتادة والضحاك وسعيد بن جبير والشعبي، انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٦١ - ١٦٢، و"الدر المنثور" ٣/ ٤٥٠ - ٤٥١.
(٥) رواه ابن جرير ١٠/ ١٦٢، والثعلبي ٦/ ١١٦.
(٦) انظر المصدرين السابقين، نفس الموضع، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٦/ ١٨٢٢.
(٧) انظر: كتاب "الأم" للإمام الشافعي ٢/ ٩٧، ومذهب الإمام أحمد جواز إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة ولو كانوا مشركين، انظر: "المغني" ٩/ ٣١٨.
وقوله تعالى: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾، قال ابن عباس: (يريد المكاتبين) (١)، وقال الزجاج: (كأن يعاون المكاتب حتى يفك رقبته) (٢).
وهذا على حذف المضاف؛ لأن المعنى: وفي فك الرقاب، وقد مضى مثل هذا في سورة البقرة [١٧٧] في قوله تعالى: ﴿وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾.
وسهم الرقاب موضوع في المكاتبين (٣) ليعتقوا به، وهذا مذهب الشافعي (٤) والليث بن سعد (٥).
ومذهب مالك (٦) وأحمد (٧) وإسحاق (٨): أنه موضوع (٩) لعتق الرقاب يشترى به عبيد فيعتقون.
ومذهب (١٠) أبي حنيفة وأصحابه أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة،
(٢) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٦.
(٣) المكاتب: العبد يكاتب على نفسه بثمنه، فإذا دفع ثمنه لسيده عتق. انظر: "معجم مقاييس اللغة" (كتب) ٥/ ١٥٩، و"لسان العرب" (كتب) ٦/ ٣٨١٧.
(٤) انظر: كتاب "الأم" ٢/ ١١٣.
(٥) انظر: "فتح الباري" ٣/ ٣٣٢.
(٦) هذه إحدى الروايات عن الإمام مالك، انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي ٢/ ٩٦٧، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي ٨/ ١٨٢.
(٧) هذه إحدى الروايات عن الإمام أحمد، لكن لا يعني ذلك أن المكاتبين لا يعانون من الزكاة عنده، بل يعان منها المكاتب ويعتق منها العبيد، واستحب أن لا يعتق الفرد من زكاته رقبة كاملة انظر: "المغني" ٩/ ٣٩١ - ٣٢١.
(٨) انظر قوله في: "المغني" ٩/ ٣٢٠، و"فتح الباري" ٣/ ٣٣٢، والمذكور هو إسحاق ابن إبراهيم بن مخلد الحنظلي التميمي أبو يعقوب المروزي.
(٩) في (ى): (موضع)، والصواب ما أثبته بدلالة ما قبله.
(١٠) من هنا إلى قوله: فيعتقون، مكرر في (ح).
ولكن يعطى منها رقبة ويعان بها مكاتب (١)، وهذا قول سعيد بن جبير (٢) والنخعي (٣).
وقال الزهري: (سهم الرقاب نصفان نصف للمكاتبين المسلمين، ونصف يشترى به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم، فيعتقون، من الذكور والإناث) (٤).
قال أصحابنا: (والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السيد بإذن المكاتب (٥)) (٦)، وهذا معنى تغيير اللفظ على ما ذكره صاحب "النظم"، وهو أنه قال: قوله: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ﴾ إلى قوله: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ فصل جاء بنظم له معنى خاص دون ما بعده، وذلك أن الله تعالى قصد به دفع الصدقات إلى هؤلاء ليعملوا فيما يعطون ما شاؤوا في نفقاتهم وغيرها، ثم
(٢) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" ٣/ ١٧٩ كتاب: الزكاة، باب: في الرقبة تعتق من الزكاة، وأبو عبيد في كتاب "الأموال"، باب: سهم الرقاب والغارمين ص ٧٢٣، ولفظه عند أبي عبيد: (لا تعتق من زكاة مالك فإنه يجر الولاء).
(٣) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" ٣/ ١٧٩، كتاب: الزكاة، باب: في الرقبة تعتق من الزكاة، وأبو عبيد في كتاب "الأموال"، باب: سهم الرقاب والغارمين ص ٧٢٣، ولفظه عند أبي عبيد: (قال: يعان منها في الرقبة ولا يعتق منها)، ورواه ابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٤٥٢، ولفظه: (لا يعتق من الزكاة رقبة تامة، ويعطى في رقبة، ولا بأس أن يعين بها مكاتبًا).
(٤) ذكره عن الزهري، الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٠ أ، والصواب أن الزهري رواه عن عمر بن عبد العزيز كما في "تفسير ابن أبي حاتم" ٦/ ١٨٢٤، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٤٥١.
(٥) في (ح): (بإذن عبد المكاتب)، وهو خطأ ولا معنى له.
(٦) انظر: "روضة الطالبين" ٢/ ٣١٥.
قال: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ إلى آخر الآية (١) فجاء هذا بنظم غير ذلك النظم، فكأنه -عز وجل- أمر بأن يوضع ما يقدر لهم في المواضع التي بها استحقوا الصدقة دون أن يدفع إليهم فيصرفوه في غيره، فيجب أن يوضع في الرقاب بأن يؤدى عنهم، وكذلك: ﴿وَالْغَارِمِينَ﴾ ويصرف ما أوجب للسبيل وابنه إلى ما يحتاجون إليه من آلة ونفقة، دون دفعه إليهم، وإنما قلنا هذا على ظاهر النظم لأنه لم يجعله فصلين بنظمين مختلفين إلا وقد قصد به معنيين متغايرين.
وقوله تعالى: ﴿وَالْغَارِمِينَ﴾، قال ابن عباس: (يريد أهل الدين) (٢)، وقال مجاهد (٣) وقتادة (٤) والزهري (٥): (الغارمون: الذين لزمهم الديون في غير معصية ولا إسراف).
قال الشافعي: (وهم صنفان: صنف أدانوا في مصلحتهم أو معروف أو غير معصية ثم عجزوا عن أداء ذلك في العرض والنقد، فيعطون في غرمهم، وصنف أدانوا في حمالات وصلاح ذات بين، ولهم عروض إن بيعت أضر بهم فيعطى هؤلاء وتوفر عروضهم (٦)، وذلك إذا كان دينهم في غير فسق ولا تبذير ولا معصية، فأما من أدان في معصية الله فلا أرى أن
(٢) "تنوير المقباس" ١٩٦.
(٣) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، كتاب: الزكاة، باب: ما قالوا في الغارمين منهم ٣/ ٢٠٧، وابن جرير ١٠/ ١٦٤، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٢٤.
(٤) رواه ابن جرير ١٠/ ١٦٤، والثعلبي ٦/ ١٢٠ ب.
(٥) رواه ابن أبي شيبة، وابن جرير في المصدرين السابقين، نفس الموضع.
(٦) "الأم" ٢/ ٩٧ بتصرف يسير واختصار، والكلام التالي ذكره الشافعي في كتاب "الأم" ٢/ ١١٣.
يعطى)، قال الزجاج: (لأن ذا المعصية إن أدي عنه الدين كان ذلك تقوية له على المعاصي) (١).
وأصل الغرم في اللغة: لزوم ما يشق ويتعذر، والغرام: العذاب اللازم أو (٢) العشق أو الشر اللازم، وفلان مغرم بالنساء: -إذا كان مولعًا بهن- من هذا (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يعني: الغزاة والمرابطين، عند عامة المفسرين (٤)، قال الزجاج: (أي للمجاهدين حق في الصدقة) (٥).
ومذهب الشافعي في هذا: أن المغازي يجوز أن يعطى وإن كان غنيا إذا طلب (٦) وهو مذهب مالك (٧) وإسحق (٨) وأبي (٩) عبيد (١٠).
وقال أبو حنيفة وصاحباه (١١): (لا يعطى المغازي إلا أن يكون
(٢) في (ح): (و).
(٣) انظر: "اللسان" (غرم) ٦/ ٣٢٤٧.
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٦٥، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٢٤ - ١٨٢٥، و"الدر المنثور" ٣/ ٤٥٢.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٦.
(٦) "الأم" ٢/ ٩٨.
(٧) انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي ٢/ ٩٦٩، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي ٨/ ١٨٥.
(٨) انظر: "المغني" ٩/ ٣٢٦.
(٩) في (ى): (ابن)، وهو خطأ.
(١٠) كتاب: "الأموال"، له ص ٧٢٦.
(١١) هما أبو يوسف ومحمد بن الحسن.
محتاجًا (١)، واحتج (٢) الشافعي بما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: رجل عمل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو في سبيل الله (٣)، أو ابن السبيل (٤)، أو رجل كان له جار فتصدق عليه فأهداها له" (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾، قال ابن عباس: (يريد عابر السبيل) (٦)، قال المفسرون: (المسافر المنقطع يأخذ من الصدقة وإن كان
(٢) في (ح): (واحتاج).
(٣) في (ح): (سبيل)، دون لفظ الجلالة.
(٤) هكذا ذكر الواحدي: (ابن السبيل) ومثله ابن جرير ١٠/ ١٦٥، والثعلبي ٦/ ١٢٠ ب، ولم يذكره الشافعي ولا غيره ممن أخرج الحديث ممن سيأتي ذكرهم، وإنما ذكروا مكانه (الغارم).
ورواية ابن جرير ضعيفة للإرسال ولضعف ابن وكيع، فهو ساقط الحديث كما بينه ابن حجر في "التقريب" ص ٢٤٥ (٢٤٥٦)، أما الثعلبي فقد ذكر الحديث بغير سند.
(٥) انظر: "الأم" ٢/ ٩٨، وقد ذكر الواحدي رواية ابن جرير، ولفظه عند الشافعي: (لا تحل الصدقة إلا لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني) ولفظه عند غيره: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة، لغاز..) إلخ، رواه أبو داود (١٦٣٥)، كتاب: الزكاة، باب: من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني، وابن ماجه (١٨٤١)، كتاب: الزكاة، باب: من تحل له الصدقة، وأحمد في "المسند" ٣/ ٥٦، والحاكم في "المستدرك"، كتاب: الزكاة ٢/ ٤٠٧، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
(٦) في (ح): سبيل، وقد روى الأثر ابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "الدر المنثور" بلفظ: المسافر.
غنيًا في بلده (١)، وهذا قول مجاهد (٢) والزهري (٣)، وقال الزجاج: (هو الذي قطع عليه الطريق) (٤).
قال الشافعي: (ابن السبيل المستحق للصدقة: هو الذي يريد السفر في غير معصية، فيعجز عن بلوغ سفره إلا بمعونة) (٥)، قال أصحابنا: (ومن أنشأ السفر من بلده لحاجة جاز أن يدفع إليه سهم ابن السبيل كالمجتاز ببلدك) (٦).
وقوله تعالى: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾، قال الزجاج: (منصوب على التوكيد؛ لأن قوله: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ﴾ لهؤلاء كقوله: فرض الله الصدقات (٧) لهؤلاء) (٨).
﴿فَرِيضَةً﴾، قال ابن عباس: (يريد أن الله تبارك وتعالى افترض هذا على الأغنياء في أموالهم) (٩) ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بخلقه ﴿حَكِيمٌ﴾ بما حكم فيهم (١٠).
(٢) رواه ابن جرير ١٠/ ١٦٦.
(٣) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، كتاب: الزكاة، باب: ما قالوا في الغارمين من هم ٣/ ٢٠٧، وابن جرير ١٠/ ١٦٦.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٦.
(٥) "الأم" ٢/ ٩٨.
(٦) انظر: "المهذب في فقه الإمام الشافعي" ١/ ١٧٣، و"روضة الطالبين" ٢/ ٣٢٥.
(٧) في (ى): (الصدقة الصدقات)، وهذه الزيادة لا معنى لها، وليست في "معاني القرآن وإعرابه".
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٥٧. ومراد الزجاج أن المعنى: فرض الله الصدقات لهؤلاء فريضة.
(٩) "الوجيز" ٦/ ٥٤٦.
(١٠) في (ح): (فيه).
فأما حكم هذه الآية فقال قوم: قاسم الصدقة له أن يضعها في أي هؤلاء الأصناف شاء، وإنما سمى (١) الله الأصناف الثمانية (٢) إعلاماً منه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف إلى غيرها، وهذا قول عمر وحذيفة وابن عباس وابن جبير وعطاء وأبي العالية وإبراهيم (٣)، ومذهب أبي حنيفة (٤) (٥).
(٢) في (ح): الثلاثة، وهو خطأ.
(٣) روى أثر إبراهيم ومن قبله ابن أبي شيبة في "المصنف"، كتاب: الزكاة، باب: ما قالوا إذا وضع الصدقة في صنف واحد ٣/ ١٨٢، وابن جرير ١٠/ ١٦٦ - ١٦٧، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨١٧، والثعلبي ٦/ ١٢١ أ، والبيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب: قسم الصدقات، باب: من جعل الصدقة في صنف واحد ٧/ ١١، ١٢.
(٤) انظر: "بدائع الصنائع" ٢/ ٩٠٨. وهو أيضًا مذهب الحنابلة كما في "المغني" ٤/ ١٢٧.
(٥) قلت: ومن أقوى أدلة هذا القول حديث سلمة بن صخر الذي ظاهر من امرأته ثم واقعها، وفيه: (اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له: فليدفعها إليك)، رواه أبو داود رقم (٢٢١٣)، كتاب: الطلاق، باب: في الظهار، والترمذي رقم (٣٢٩٩)، كتاب التفسير، باب: ومن سورة المجادلة، وابن ماجه رقم (٢٠٦٢)، كتاب: الطلاق، باب: الظهار، وأحمد ٤/ ٣٧، والحاكم ٢/ ٢٠٣، وقد حسنه الترمذي، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في "إراوء الغليل" ٧/ ١٧٩: (وبالجملة فالحديث بطرقه وشاهده صحيح).
والشاهد فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاه صدقة بني زريق كلها ولم يقسمها على الأصناف الثمانية.
وكذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"، رواه البخاري (١٣٩٥)، كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة، فلم يأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقسم الزكاة على الأصناف الثمانية.
وكان الشافعي يجري الآية على ظاهرها ويقول: ذكر الله تعالى ثمانية أصناف فبين أن كل صنف منهم يستحق سهمه فلا يجوز حرمان صنف موجود، وكيف يجوز مع هذه القسمة (١) التي تولاها سبحانه ثم أكدها بقوله: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ فإذا تولى رب المال قسمها فإن عليه وضعها في ستة أصناف [لأن سهم] (٢) المؤلفة ساقط، وسهم العاملين (٣) يبطل بقسمة إياها، ولا يجزئه أن يعطي من كل صنف منهم أقل من ثلاثة أنفس، ولا يصرف منها سهم ولا شيء منه عن أهله ما دام من أهله أحد (٤) يستحقه، ولا يخرج من بلد وفيه أهله، وترد حصة من لم يوجد من أهل السهمان على من وجد منهم) (٥)، وهذا قول عمر (٦) بن عبد العزيز (٧) وعكرمة (٨) والزهري (٩).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٣) في (ى): الغارمين، والصواب ما أثبته وهو موافق لما في كتاب: "الأم".
(٤) ساقط من (ح).
(٥) انظر: أول قول الشافعي إلى قوله (فريضة من الله) في كتاب: "الأم" ٢/ ٩٤ - ٩٦ بمعناه، وانظر: بقية قوله في المصدر نفسه ص ١٠٦ بتصرف.
(٦) هو: عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي، أبو حفص، أمير المؤمنين، وخامس الخلفاء الراشدين، ومضرب المثل في العدل وحسن السياسة، وكان أحد الأئمة المجتهدين، توفي سنة ١٠١هـ.
انظر: "العبر" ١/ ٩١، و"تقريب التهذيب" ص ٤١٥ (٤٩٤٠).
(٧) رواه ابن أبي حاتم مفرقًا في مواضع من "تفسيره"، انظر ٤/ ٥٩ أ- ٦٠ ب- ٦١ أ، وانظر أيضاً "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢١ ب.
(٨) ذكره الثعلبي ٦/ ١٢١ ب، والبغوي ٤/ ٦٥، وقد روى عنه ابن أبي شيبة في "المصنف" ٣/ ١٨٣ مثل قول الجمهور.
(٩) ذكره الثعلبي ٦/ ١٢١ ب.