آيات من القرآن الكريم

وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ
ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ

حلف المنافقين الأيمان الكاذبة وانتهازهم الفرصة للطعن بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٦ الى ٥٩]
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (٥٩)
الإعراب:
إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ إذا للمفاجاة، أي وإن لم يعطوا منها فاجؤوا النبي بالسخط.
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا جواب لَوْ محذوف، تقديره: ولو أنهم رضوا لكان خيرا لهم.
البلاغة:
رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ هنا طباق بين الرضا والسخط.
المفردات اللغوية:
إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أي مؤمنون يَفْرَقُونَ يخافون أن تفعلوا بهم كالمشركين، فيحلفون تقية.
والفرق: الخوف الشديد الذي يحجب الإدراك الصحيح مَلْجَأً مكانا يلتجئون إليه للاعتصام به، كالقلعة أو الحصن أو الجزيرة أو نحوها مَغاراتٍ سراديب، جمع مغارة: وهي الكهف أو الغار في الجبل، سمي بذلك لأنه يستتر فيها مُدَّخَلًا موضعا يدخلونه، أو سربا في الأرض للدخول فيه بمشقة يَجْمَحُونَ يسرعون في دخوله إسراعا لا يقاوم يَلْمِزُكَ يعيبك، والهمز: العيب

صفحة رقم 253

في الغيبة، واللمز: العيب في الوجه، وأصله: الإشارة بالعين ونحوها، وقال الزجاج والجوهري:
الهمز كاللمز وزنا ومعنى، أي لا فرق بينهما حَسْبُنَا كافينا راغِبُونَ محبون أن يغنينا، يقال: رغب ورغب فيه: أحبه، ورغب عنه: كرهه، ورغب إليه: طلبه وتوجه إليه.
سبب النزول: نزول الآية (٥٨) :
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ:
روى البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «بينما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقسم قسما، إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي- وهو حرقوض بن زهير أصل الخوارج- فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرّميّة، فنزلت فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر نحوه. وروى ابن جرير عن داود بن أبي عاصم قال: «أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بصدقة، فقسمها هاهنا وهاهنا، حتى ذهبت، ورأى ذلك رجل من الأنصار، فقال: ما هذا بالعدل، فنزلت هذه الآية»

ومجموع الروايات يدل على أن الطاعنين من المنافقين.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن المنافقين جامعون لكل مضار الآخرة والدنيا، كاستئذانهم كاذبين، بيّن هنا إقدامهم على الأيمان الكاذبة، وانتهازهم الفرصة للطعن بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وقد طعنوا فيه بسبب أخذ الصدقات من الأغنياء، ويقولون: إنه يؤثر بها من يشاء من أقاربه وأهل مودته، وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل.

صفحة رقم 254

التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن فزع المنافقين وهلعهم أنهم يحلفون بالله يمينا مؤكدة: إنهم لمنكم أي لمن جملة المسلمين أهل الملة والدين، وما هم منكم في نفس الأمر فليسوا على دينكم، بل هم أهل شك ونفاق، ولكنهم قوم يخافونكم فيحلفون، فالخوف من القتل هو الذي حملهم على الحلف، فأظهروا الإيمان وأسروا النفاق، وهو كقوله تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة ٢/ ١٤].
ومن مظاهر خوفهم أنهم يتمنون الفرار منكم والمعيشة بعيدا عنكم، فلو وجدوا مفرا يتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم، لفروا إليه ولفارقوكم.
ولو وجدوا ملجأ، أي مكانا يتحصن فيه، أو مغارة أي كهفا في الجبال، أو مدّخلا أي سربا تحت الأرض كالآبار والقنوات، لولّوا إليه أي رجعوا إليه من أحد هذه المواضع مع أنها شر الأمكنة، وهم يجمحون أي يسرعون إسراعا في ذهابهم عنكم على نحو لا يقاوم لأنهم إنما يعيشون معكم كرها لا محبة وودا، ولكن للضرورة أحكام. ولهذا لا يزالون في همّ وحزن وغم لأن الإسلام وأهله في تقدم ورفعة، وعز ونصر، وذلك كله يسوؤهم.
ومن المنافقين من يعيب عليك ويطعن بك يا محمد في قسمة الصدقات وهي إما المغانم أو أخذ الصدقات من الأغنياء وهي أموال الزكاة المفروضة، قيل: هم المؤلفة قلوبهم كان يعطيهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم للتأليف، وقيل: هو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج، كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقسم غنائم حنين، فقال: اعدل يا رسول الله،
فقال صلوات الله وسلامه عليه: ويلك إن لم أعدل فمن يعدل؟!.
وقيل: هو أبو الجوّاط من المنافقين قال: ألا ترون إلى صاحبكم؟ إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم، وهو يزعم أنه يعدل،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم:

صفحة رقم 255

لا أبا لك، أما كان موسى راعيا، أما كان داود راعيا؟ فلما ذهب، قال عليه الصلاة والسّلام: احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون.
ثم وصفهم الله تعالى بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم، لا للدين، وما فيه صلاح أهله لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم، فضجر المنافقون منه. فقال تعالى: فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا.. أي إن أعطوا من الزكاة أو من الغنائم ولو بغير حق رضوا، وإن لم يعطوا منها فاجؤوك بالسخط، وإن لم يستحقوا العطاء، فهم إنما يغضبون لأنفسهم ولمنافعهم، لا للمصلحة العامة، فليس طعنهم أو نقدهم بريئا، ولكن لهدف خاص.
ولو أنهم رضوا ما أعطاهم الرسول من الغنائم وطابت به نفوسهم، وإن قلّ نصيبهم، وقالوا: كفانا فضل الله وصنعه، وحسبنا ما أصبناه، وسيرزقنا الله غنيمة أخرى، فيؤتينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أكثر مما آتانا اليوم، إنّا إلى الله في أن يمنحننا من فضله لراغبون، لا نرغب إلى غيره أبدا.
وقد تضمنت هذه الآية أدبا عظيما حيث إنها ترشدهم وتعلمهم الرضا بما آتاه الله ورسوله، والتوكل على الله وحده، وهو قوله: وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ.
والمقصود إنما هو التعليم بأن يرضوا بنعمة الله، وبقسمة الرسول، فهو لا يفعل إلا العدل وما فيه المصلحة العامة للإسلام وأهله، وما على المؤمن إلا أن يرضى بما قسمه الله له، ولا يطمع بأكثر من ذلك.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يلي:
١- إن من أخلاق المنافقين الحلف بأنهم مؤمنون، والإقدام على الأيمان

صفحة رقم 256

الكاذبة، كما قال تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ الآية [المنافقون ٦٣/ ١].
٢- المنافقون جماعة حيارى مضطربون قلقون كارهون العيش في الحقيقة مع المؤمنين، خوفا من افتضاح أمرهم، ويخافون أن يظهروا على ما هم عليه فيقتلوا، لذا يتمنون النجاة بأنفسهم واللجوء إلى شر الأمكنة كالحصون (الملاجئ) والمغارات (الكهوف في الجبال) والمداخل (السراديب المحفورة تحت الأرض).
٣- ومن أسوأ أخلاق المنافقين وقبائحهم وفضائحهم طعنهم في الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بسبب أخذ الصدقات المفروضة من الأغنياء، ويقولون: إنه يؤثر بها من يشاء من أقاربه وأهل مودته، أو بسبب قسمة غنائم الحرب المغنومة من الأعداء، كغنائم حنين التي تألف بها النبي المؤلفة قلوبهم من أهل مكة، وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل.
٤- تدل الآية على أن من طلب الدنيا وحدها آل أمره إلى النفاق، وأما من طلب الدنيا بقدر ما أذن الله فيه، وكان غرضه من الدنيا أن يتوسل إلى مصالح الدين، فهذا هو الطريق الحق. والأصل في هذه الأمور المادية الرضا بقضاء الله وقدره، بعد اتخاذ الأسباب، لذا قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ، سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ، إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ.
٥- اشتملت هذه الآية: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا على مراتب أربع:
الأولى- الرضا بما آتاهم الله ورسوله لأنه تعالى حكيم منزه عن العبث والخطأ، فحكمه حق وصواب.
الثانية- أن تظهر آثار الرضا على اللسان، وهو قوله: حَسْبُنَا اللَّهُ أي الرضا بحكم الله وقضائه.

صفحة رقم 257
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية