
وقوله: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ دليل على كونه تعالى رائيا للمرئيات، ودليل لأهل السنة أن كل موجود فإنه يصح رؤيته، أي إبصاره لأن الرؤية المعداة إلى المفعول الواحد معناها الإبصار. والعمل المرئي يشمل أعمال القلوب كالإرادات والكراهات والأنظار، وأعمال الجوارح، كالحركات والسكنات.
وقوله تعالى: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ نص صريح في أن الله تعالى هو الآخذ لها والمثيب عليها وأن الحق له جل وعز، والنبي صلى الله عليه وسلّم واسطة، فإن توفي فعامله هو الواسطة بعده، والله عز وجل حي لا يموت. وهذا يبين أن قوله سبحانه وتعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ليس مقصورا على النبي صلى الله عليه وسلّم، وإنما يشمل الأئمة بعده، كما تقدم.
روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله يقبل الصدقة، ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم، كما يربي أحدكم مهره، حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد، وتصديق ذلك في كتاب الله: هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ، ويَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا، وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ.
وفي صحيح مسلم: «لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه، فتربو في كفّ الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل».
وهذا كناية عن القبول والجزاء عليها، كما كنى بنفسه الكريمة المقدسة عن المريض، تعطفا عليه
بقوله في الحديث القدسي: «يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني».
وخصّ اليمين والكف بالذكر إذ كل قابل لشيء إنما يأخذه بكفه وبيمينه، أو يوضع له فيه فخرج على ما يعرفونه، والله جل وعز منزّه عن الجارحة.
الثلاثة الذين خلّفوا عن التوبة عليهم
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٦]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)

المفردات اللغوية:
وَآخَرُونَ من المتخلفين مُرْجَوْنَ مؤخرون عن العقوبة، وموقوف أمرهم لِأَمْرِ اللَّهِ في شأنهم بأن يأمر فيهم بما شاء إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ بأن يميتهم بلا توبة وإما يتوب عليهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بخلقه حَكِيمٌ في صنعه.
سبب النزول:
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وآخرون: هم الثلاثة الذين خلّفوا عن التوبة، وهم مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية من بني واقف، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلا وميلا إلى الدعة والحفظ وطيب الثمار والظلال، لا شكا ونفاقا.
وكان المتخلفون عن غزوة تبوك أصنافا ثلاثة «١» :
١- المنافقون الذين مردوا على النفاق، وهم أكثر المتخلفين.
٢- التائبون المؤمنون الذين اعترفوا بذنوبهم وتابوا فتاب الله عليهم، وهم الذين ربطوا أنفسهم بالسواري وهم أبو لبابة وأصحابه، فنزلت توبتهم.
٣- الذين بقوا موقوفين وهم المؤمنون الذين حاروا في أمرهم ولم يعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم عن تخلفهم، وأرجؤوا توبتهم، فلم يربطوا أنفسهم بالسواري، فأرجأ الله الحكم في أمرهم، فوقف أمرهم خمسين ليلة، وهجرهم الناس حتى نزلت توبتهم بعد، وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون، والذين نزلت فيهم هذه الآية: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ [التوبة ٩/ ١١٨].
التفسير والبيان:
وآخرون من المتخلفين موقوفون مرجون أي مؤخرون لأمر الله في شأنهم،

ولا يدري الناس ما ينزل فيهم، هل يتوب الله عليهم أولا، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلّم عن مجالستهم، وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن إلى أهلهن، إلى أن نزل قوله: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ- إلى قوله- وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.. [التوبة ٩/ ١١٨].
هؤلاء في هذه الآية أمرهم متردد بين أمرين: التعذيب والتوبة. وقد ترك أمرهم غامضا، لا للشك، فالله تعالى منزه عنه، وإنما ليكون أمرهم على الخوف والرجاء، وإثارة الغم والحزن في قلوبهم، ليقدموا على التوبة، ويصير أمرهم عند الناس على الرجاء، فجعل أناس يقولون: هلكوا إذا لم ينزل الله تعالى لهم عذرا، وآخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم.
ولا شك أن القوم كانوا نادمين على تأخرهم عن الغزو، فلم يحكم تعالى بكونهم تائبين لأن الندم وحده لا يكون كافيا في صحة التوبة، ثم ندموا على المعصية لكونها معصية، فصحت توبتهم.
والله عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو، وبما يصلح عباده ويربّيهم، حكيم في أفعاله وأقواله، وفيما يشرعه لهم من الأحكام المؤدية لهذا الصلاح. ومن حكمته: إرجاء النص على توبتهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن الحكمة الإلهية قد تقتضي البت في شأن بعض العباد، وقد ترجئ ذلك، ليظل الناس في أمل ورجاء ورهبة وخوف، وقد أثمرت هذه الحكمة في دفع هؤلاء المخلفين عن التوبة إلى مزيد من الشعور بالقلق والاضطراب والخوف والهلع، وكادوا يحسون باليأس من قبول عذرهم، حتى أنزل الله في شأنهم ما يدل على قبول توبتهم في قوله: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا....
وقوله: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ دليل على أنه لا حكم إلا أحد