
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ قال ابن عباس: خلقنا أصلكم وأباكم آدم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ في أرحام أمهاتكم قال قتادة والربيع والضّحاك والسدي: أمّا خَلَقْناكُمْ فآدم وأمّا صَوَّرْناكُمْ فذرّيّته. قال مجاهد: خلقنا آدم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ في ظهر آدم.
وقال عكرمة: خَلَقْناكُمْ في أصلاب الرجال وصَوَّرْناكُمْ في أرحام النساء قال عطاء: خلقوا في ظهر آدم ثمّ صوروا في الأرحام.
وقال يمان: خلق الإنسان في الرحم ثمّ صوّره ففتق سمعه وبصره وأصابعه، فإن قيل: ما وجه قوله ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وإنّما خلقنا بعد ذلك وثمّ يوجب الترتيب والتراخي.
كقول القائل: قمت ثمّ قعدت لا يكون القعود إلّا بعد القيام.
قلنا: قال قوم: على التقديم والتأخير، قال يونس: الخلق والتصوير واحد [... ] «١»
إلينا، كما نقول: قد ضربناكم وإنّما ضربت سيّدهم، قال الأخفش: ثمّ بمعنى الواو ومجازه:
قلنا، كقول الشاعر:
سألت ربيعة من خيرها... أبا ثم أما فقالت لمّه «٢»
أراد أبا وأمّا.
فَسَجَدُوا يعني الملائكة إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ لآدم فقال الله لإبليس حين امتنع من السجود لآدم قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ قال بعضهم: لا زائدة [وإن صلة] تقدير الكلام: ما منعك السجود لآدم، لأن المنع يتعدّى إلى مفعولين قال الله عزّ وجلّ: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ «٣».
قال الشاعر:
ويلحينني في اللهو أن لا أحبه... وللهو داع دائب غير غافل «٤»
. (٢) تفسير الطبري: ٨/ ١٦٩
. (٣) سورة الأنبياء: ٩٥
. (٤) جامع البيان: ١/ ١٢١، ومغني اللبيب: ١/ ٢٤٨
.

أراد: أن أحبّة.
وقال آخر:
فما ألوم البيض أن لا تسخروا | لما رأيتي الشمط القفندرا «١» |
أبى جوده لا البخل واستعجلت به | نعم الفتى لا يمنع الجود قاتله «٢» |
سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا الهيثم الجهني يحكي عن أحمد بن يحيى ثعلب قال: كان بعضهم يكره القالا، وتناول في المنع بمعنى القول، لأن القول والفعل يمنعان، وتقديره: من قال لك لا تسجد. قال بعضهم: معنى المنع الحول بين المرء وما يريد. والممنوع مضطر إلى خلاف ما منع منه فكأنّه قال: أي شيء اضطرّك إلى أن لا تسجد «٣».
إِذْ أَمَرْتُكَ قال إبليس مجيبا له قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ لأنّك خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ والنار خير وأفضل وأصفى وأنور من الطين قال ابن عباس: أوّل من قاس إبليس. فأخطأ القياس فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه مع إبليس.
وقال ابن سيرين: أوّل من [قاس] إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلّا بالمقاييس.
وقالت الحكماء: أخطأ عدو الله حين فضّل النار على الطين، لأن الطين أفضل من النار من وجوه:
أحدها: إنّ من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والاناة والحلم والحياء والصبر، وذلك هو الداعي لآدم في السعادة التي [سبقت] له إلى التوبة والتواضع والتضرّع وأدرته المغفرة والاجتنباء والهداية والتوبة ومن جوهر النار الخفّة والطيش والحدّة والارتفاع والاضطراب، وذلك الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سيقت له إلى الاستكبار والإصرار فأدركه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاق.
والثاني: إنّ الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفريقها.
والثالث: إن الخبر ناطق بأن تراب الجنّة مسك أذفر ولم ينطق الخبر بأن في الجنة نارا وفي النار ترابا.
. (٢) تفسير الطبري: ٨/ ١٧٠، ولسان العرب: ١٢/ ٥٨٩
. (٣) تفسير الطبري: ٨/ ١٧١
.

والرابع: إن النار سبب العذاب وهي عذاب الله لأعدائه وليس التراب سببا للعذاب.
والخامس: إنّ الطين [يسقى] من النار والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب.
فقال الله له: قالَ فَاهْبِطْ مِنْها أي من الجنّة، وقيل: من السماء إلى الأرض فألحقه بجزائر البحور وإنّما سلطانه وعظمته في خزائن البحور وعرشه في البحر الأخضر فلا يدخل في الأرض إلّا لهبة السارق عليه أطمار تروع فيها [من يخرج] منها فَما يَكُونُ لَكَ فليس لك أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها في الجنّة، وليس ينبغي أن يسكن الجنّة ولا السماء [متكبر] ولا بخلاف أمر الله عزّ وجلّ فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ الأذلاء والصغر الذل والمهانة قال إبليس عند ذلك قالَ أَنْظِرْنِي أخّرني واجلني وأمهلني ولا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ من قبورهم وهو النفخة الأخيرة عند قيام الساعة، أراد الخبيث أن لا يذوق الموت، قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ المؤخّرين.
ثمّ بيّن مدّة النظر والمهلة في موضع آخر، فقال إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ «١» وهي النفخة الأولى حين ثبوت الخلق كلّهم قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي. اختلفوا في ما قال: فبعضهم قال: هو استفهام يعني فبأي شيء أغويتني ثمّ ابتدأ فقال لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ فقيل: هو ما الجزاء يعني فإنّك أغويتني لأجل أنك أغويتني لأقعدن، وقيل: هو ما المصدر في موضع القسم تقديره: بإغوائك إياي لأقعدن كقوله بِما غَفَرَ لِي «٢» يعني بغفران ربّي «٣».
وقوله أَغْوَيْتَنِي أضللتني عن الهدى. وقيل: أهلكتني، من قول العرب غوى الفصيل [يعني] غوي وذلك إذا فقد اللبن فمات. قال الشاعر:
معطفة الأثناء ليس فصيلها | برازئها درا ولا ميّت غوى «٤» |
قال الثعلبي: وأخبرنا أبو بكر محمد بن محمد الحسين بن هاني قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن محمد [الراوساني] قال: حدثنا عليّ بن سلمة قال: حدثنا أبو معاوية الضرير عن رجل لم يسمّ قال: كنت [عند] طاوس في المسجد الحرام فجاء رجل ممّن يرمي القدر من كبار الفقهاء فجلس إليه فقال طاوس: [يقوم أو يقام] فقام الرجل فقال لطاووس: تقول هذا الرجل فقيه، فقال إبليس: أفقه منه بقول إبليس رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي ويقول: هذا أنا أغوي نفسي.
. (٢) سورة يس: ٢٧
. (٣) تفسير الطبري: ٨/ ١٧٦ [.....]
. (٤) الصحاح: ٦/ ٢٤٥٠، والبيت لعامر المجنون كما في تاج العروس
. (٥) جامع البيان للطبري: ٨/ ١٧٥
.

لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ يعني لأجلسنّ [لبني آدم] على طريقك القويم وهو الإسلام كما قال أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ يعني عن أمر ربّكم.
وروي عن النبيّ ﷺ أنّه كان يقول: «إن الشيطان قعد لبني آدم بطرق فقعد له بطريق الإسلام فقال له: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك، فعصاه فأسلم ثمّ قعد له بطريق الهجرة فقال:
أتهاجر وتذر أرضك وسماءك فإنّما مثل المهاجر كالفرس في الطول. فعصاه وهاجر ثمّ قعد له بطريق الجهاد وهو جهد النفس والمال فقال: أتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصا له وجاهد» [١٧٣] «١».
وعن عون بن عبد الله لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ قال: طريق مكّة ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الآية قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) يقول [أشككهم] في آخرتهم وَمِنْ خَلْفِهِمْ [أن يقيم في كتابهم] وَعَنْ أَيْمانِهِمْ اشتبه عليهم أمر دينهم وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [أشهّي] لهم المعاصي.
روى عطيّة عن ابن عباس قال: أما بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فمن قبل دنياهم وأمّا مِنْ خَلْفِهِمْ [فإنّه] آخرتهم وأمّا عَنْ أَيْمانِهِمْ فمن قبل حسناتهم وأما عَنْ شَمائِلِهِمْ فمن قبل سيئاتهم.
وقال قتادة: أتاهم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فأخبرهم أنّه لا يعذّب ولا جنّة ولا نار، وَمِنْ خَلْفِهِمْ من أمر الدنيا فزيّنها لهم ودعاهم إليها، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ من قبل حسناتهم بطأهم عنها، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ يزين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها، إياك يا بن آدم من كل وجه غير أنّه لم يأتك من فوقك لم يستطيع أن يحول بينك وبين رحمة الله.
وقال الحكم والسدّي لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ: يعني الدنيا أدعوهم إليها وأرغبهم فيها وأزينها لهم. وَمِنْ خَلْفِهِمْ من قبل الآخرة أشككهم و [أثبطهم] فيها. وَعَنْ أَيْمانِهِمْ من قبل الحق أصدهم عنه [أبتلكم] فيه، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من قبل الباطل أخففه عليهم وأزينه لهم وأرغبهم فيه.
وقال مجاهد: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وعَنْ أَيْمانِهِمْ من حيث يبصرون ومِنْ خَلْفِهِمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ حيث لا يبصرون، قال ابن جريج: معنى قوله: من حيث يبصرون أي يخطئون حيث يعلمون أنّهم يخطئون وحيث لا يبصرون لا يعلمون أنهم يخطئون.
وقال الكلبي: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من قبل آخرتهم أخبرهم أنّه لا جنّة ولا نار ولا نشور. وَمِنْ خَلْفِهِمْ من قبل دنياهم فأمرهم بجمع الأموال لا يعطون لها حقّا [وأخوفهم الضيعة] على ذرّيتهم.
.

وَعَنْ أَيْمانِهِمْ من قبل دينهم [فأبيّن] لكلّ قوم ما كانوا [يعبدون] وإن كانوا على هدى شبّهته عليهم حتّى أخرجتهم منه وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من قبل الشهوات واللذات فأزيّنها لهم «١».
وقال شقيق بن إبراهيم: ما من صباح إلّا وقعد لي الشيطان على أربعة مراصد من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي، أما من بين يدي فأقول: لا تحزن فإنّ الله غفور رحيم، ويقول ذلك لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى «٢».
وأمّا من خلفي فتخوّفني الضيعة على عيالي ومحللي فأقول وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها «٣».
وأما من قبل يميني فيأتيني من قبل [الثناء] فأقول وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
وأمّا من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات واللّذات فأقول وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ «٤».
وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ قال الله عزّ وجلّ لإبليس قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً أي معيبا والذيم والذأم أشد العيب، وهو أبلغ من الذم، يقال: ذمّه يذمّه ذمّا فهو مذموم [وذائمه يذائمه] ذأما [فهو مذءوم وذامه] بذمة ذيما، مثل سار يسير، فهو مذيم والمدحور [المقصي] يقال: دحره يدحره دحرا إذا أبعده وطرده «٥».
قال ابن عباس: مذءوم عنه مَذْؤُماً مَدْحُوراً يعني غير مطرودا إذ قال الربيع ومجاهد:
مَذْؤُماً [ممقوتا] وروى عطيّة: مَذْؤُماً مقوتا، أبو العالية: مَذْؤُماً [مزريا] به.
وقال الكلبي: مَذْؤُماً ملوما مَدْحُوراً مقصيا من الجنّة ومن كل خير، وقال عطاء: مَذْؤُماً ملعونا.
وقال الكسائي: المذؤوم المقبوح. وقال النضير بن شميل: المذؤوم [المحبوس] وقال أبان عن ثعلب والمبرّد: المذؤوم المعيب.
قال الأعشى:
وقد قالت قبيلة إذ رأتني | وإذ لا تعدم الحسناء ذأما «٦» |
. (٢) سورة طه: ٨٢
. (٣) سورة هود: ٦
. (٤) سورة سبأ: ٥٤
. (٥) راجع مجمع البحرين: ٢/ ٨٢ وتاج العروس: ٨/ ٣٠٠
. (٦) في لسان العرب: ١٢/ ٢٢٣ وفي المثل: لا تعدم الحسناء ذاما، وذكر شعر لأنس المحاربي:
وكنت مسودا فينا حميدا | وقد لا تعدم الحسناء ذاما |