
وَ"لَا" زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يرجعون" ١٢٨/ب (الْأَنْبِيَاءِ، ٩٥). ﴿قَالَ﴾ إِبْلِيسُ مُجِيبًا ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ لِأَنَّكَ ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ وَالنَّارُ خَيْرٌ وَأَنْوَرُ مِنَ الطِّينِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ فَأَخْطَأَ الْقِيَاسَ، فَمَنْ قَاسَ الدِّينَ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِهِ قَرَنَهُ اللَّهُ مَعَ إِبْلِيسَ.
قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: مَا عُبِدَتِ الشَّمْسُ إِلَّا بِالْقِيَاسِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: ظَنَّ الْخَبِيثُ أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْفَضْلَ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْفَضْلَ، وَقَدْ فَضَّلَ اللَّهُ الطِّينَ عَلَى النَّارِ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا: أَنَّ مِنْ جَوْهَرِ الطِّينِ الرَّزَانَةُ وَالْوَقَارُ وَالْحِلْمُ وَالصَّبْرُ وَهُوَ الدَّاعِي لِآدَمَ بَعْدَ السَّعَادَةِ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ إِلَى التَّوْبَةِ وَالتَّوَاضُعِ وَالتَّضَرُّعِ فَأَوْرَثَهُ الِاجْتِبَاءَ وَالتَّوْبَةَ وَالْهِدَايَةَ، وَمِنْ جَوْهَرِ النَّارِ الْخِفَّةُ وَالطَّيْشُ وَالْحِدَّةُ وَالِارْتِفَاعُ وَهُوَ الدَّاعِي لِإِبْلِيسَ بَعْدَ الشَّقَاوَةِ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ إِلَى الِاسْتِكْبَارِ وَالْإِصْرَارِ، فَأَوْرَثَهُ اللَّعْنَةَ وَالشَّقَاوَةَ، وَلِأَنَّ الطِّينَ سَبَبُ جَمْعِ الْأَشْيَاءِ وَالنَّارَ سَبَبُ تَفَرُّقِهَا وَلِأَنَّ التُّرَابَ سَبَبُ الْحَيَاةِ، فَإِنَّ حَيَاةَ الْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ بِهِ، وَالنَّارُ سَبَبُ الْهَلَاكِ.
﴿قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (١٧) ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا﴾ أَيْ: مِنَ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَكَانَ لَهُ مُلْكُ الْأَرْضِ فَأَخْرَجَهُ مِنْهَا إِلَى جَزَائِرِ الْبَحْرِ وَعَرْشُهُ فِي الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ، فَلَا يَدْخُلُ الْأَرْضَ إِلَّا خَائِفًا عَلَى هَيْئَةِ السَّارِقِ مِثْلَ شَيْخٍ عَلَيْهِ أَطْمَارٌ يَرُوعُ فِيهَا حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ﴾ بِمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، ﴿فِيهَا﴾ أَيْ: فِي الْجَنَّةِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْكُنَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا السَّمَاءِ مُتَكَبِّرٌ مُخَالِفٌ لأمر الله تعال: ﴿فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ مِنَ الْأَذِلَّاءِ، وَالصَّغَارُ: الذُّلُّ وَالْمَهَانَةُ.
﴿قَالَ﴾ إِبْلِيسُ عِنْدَ ذَلِكَ، ﴿أَنْظِرْنِي﴾ أَخِّرْنِي وَأَمْهِلْنِي فَلَا تُمِتْنِي، ﴿إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ مِنْ قُبُورِهِمْ وَهُوَ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، أَرَادَ الْخَبِيثُ أَنْ لَا يَذُوقَ الْمَوْتَ.

﴿قَالَ﴾ اللَّهُ تَعَالَى، ﴿إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾ الْمُؤَخَّرِينَ، وَبَيَّنَ مُدَّةَ النَّظَرِ وَالْمُهْلَةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَقَالَ: (إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)، (الْحِجْرِ، ٣٨)، وَهُوَ النَّفْخَةُ الْأُولَى حِينَ يَمُوتُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ.
﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ اخْتَلَفُوا فِي "مَا" قِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ يَعْنِي فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَغْوَيْتَنِي؟ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ﴾ وَقِيلَ: "مَا" الْجَزَاءُ، أَيْ: لِأَجْلِ أَنَّكَ أَغْوَيْتَنِي لَأَحْقِدَنَّ لَهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ "مَا" الْمَصْدَرِيَّةُ مَوْضِعُ الْقَسَمِ تَقْدِيرُهُ: فَبِإِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأَقْعَدْنَ لَهُمْ، كَقَوْلِهِ "بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي" (يَسٍ، ٢٧)، يَعْنِي: لِغُفْرَانِ رَبِّي.
وَالْمَعْنَى بِقُدْرَتِكَ عَلَيَّ وَنَفَاذِ سُلْطَانِكَ فِيَّ. وَقَالَ ابْنُ الأنباري: أي فيما أَوْقَعْتَ فِي قَلْبِي مِنَ الْغَيِّ الَّذِي كَانَ سَبَبَ هُبُوطِي مِنَ السَّمَاءِ، أَغْوَيْتَنِي: أَضْلَلْتَنِي عَنِ الْهُدَى. وَقِيلَ: أَهْلَكْتَنِي، وَقِيلَ: خَيَّبْتَنِي، ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ أَيْ: لَأَجْلِسَنَّ لِبَنِي آدَمَ عَلَى طَرِيقِكِ الْقَوِيمِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ.
﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أَيْ مِنْ قِبَلِ الْآخِرَةِ فَأُشَكِّكُهُمْ فِيهَا، ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ أُرَغِّبُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ، ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ أُشْبِهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ. ﴿وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ أُشَهِّي لَهُمُ الْمَعَاصِي، وَرَوَى عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ مِنْ قِبَلِ دُنْيَاهُمْ، يَعْنِي أُزَيِّنُهَا فِي قُلُوبِهِمْ، ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ مِنْ قِبَلِ الْآخِرَةِ فَأَقُولُ: لَا بَعْثَ، وَلَا نُشُورَ، وَلَا جَنَّةَ، وَلَا نَارَ، ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ مِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ، ﴿وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ مِنْ قِبَلِ سَيِّئَاتِهِمْ.
وَقَالَ الْحَكَمُ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ: مِنْ قِبَلِ الدُّنْيَا يُزَيِّنُهَا لَهُمْ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ: مِنْ قِبَلِ الْآخِرَةِ يُثَبِّطُهُمْ عَنْهَا، وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ: مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ يَصُدُّهُمْ عَنْهُ، وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ: مِنْ قِبَلِ الْبَاطِلِ يُزَيِّنُهُ لَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَتَاهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ: مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا يُزَيِّنُهَا لَهُمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا، وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ: مِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ بَطَّأَهُمْ عَنْهَا، وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ: زَيَّنَ لَهُمُ السَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِيَ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهَا أَتَاكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِكَ مِنْ فَوْقِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ رَحْمَةِ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ مِنْ حَيْثُ يُبْصِرُونَ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ حَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَعْنَى قَوْلِهِ حَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ أَيْ لَا يُخْطِئُونَ وَحَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يُخْطِئُونَ.
﴿وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عَلِمَ الْخَبِيثُ ذَلِكَ؟ قِيلَ: قَالَهُ ظَنًّا فَأَصَابَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى "وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ" (سَبَأٍ، ٢٠).