
قُلْنَا: هَذَا غَيْرُ لَازِمٍ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ المنكر إنما يجب عَلَى الْكِفَايَةِ. فَإِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخَذَهُمْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ غَيْرُ الْمَسْخِ الْمُتَأَخِّرِ ذِكْرُهُ. وَقَوْلُهُ: بِعَذابٍ بَئِيسٍ أَيْ شَدِيدٍ وَفِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ قِرَاءَاتٌ: أَحَدُهَا: بَئِيسٍ بِوَزْنِ فَعِيلٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ:
أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا مِنْ بَؤُسَ يَبْؤُسُ بَأْسًا إِذَا اشْتَدَّ. وَالْآخَرُ: مَا قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ مِنَ الْبُؤْسِ وَهُوَ الْفَقْرُ يُقَالُ بَئِسَ الرَّجُلُ يَبْأَسُ بُؤْسًا وَبَأْسًا وَبَئِيسًا إِذَا افْتَقَرَ فَهُوَ بَائِسٌ، أَيْ فَقِيرٌ. فَقَوْلُهُ: بِعَذابٍ بَئِيسٍ أَيْ ذِي بُؤْسٍ. وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ (بَئِسٍ) بِوَزْنِ حَذِرٍ. وَالثَّالِثَةُ: (بَيِسٍ) عَلَى قَلْبِ الْهَمْزَةِ يَاءً، كَالذِّيبِ فِي ذِئْبٍ، وَالرَّابِعَةُ: (بَيْئَسٍ) عَلَى فَيْعَلٍ.
وَالْخَامِسَةُ: (بَيِّسٍ) كَوَزْنِ/ رَيِّسٍ عَلَى قَلْبِ هَمْزَةِ بَئِيسٍ يَاءً وَإِدْغَامِ الْيَاءِ فِيهَا. وَالسَّادِسَةُ: (بَيْسٍ) عَلَى تَخْفِيفِ بَيِّسٍ كَهَيْنٍ فِي هين، وهذه القراآت نَقَلَهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ». ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مع نزول هذا العذاب بهم تمردوا.
فقال عز من قائل:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٦]
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦)
وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْعُتُوُّ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِبَاءِ وَالْعِصْيَانِ، وَإِذَا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ فَقَدْ أَطَاعُوا، لِأَنَّهُمْ أَبَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارٍ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ تَرْكِ مَا نُهُوا عَنْهُ، ثُمَّ حُذِفَ الْمُضَافُ، وَإِذَا أَبَوْا تَرْكَ الْمَنْهِيِّ كَانَ ذَلِكَ ارْتِكَابًا لِلْمَنْهِيِّ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً لَيْسَ مِنَ الْمَقَالِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ: أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ ذَلِكَ. قَالَ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلِهِ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ:
٤٠] هُوَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ لَا الْكَلَامِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أُمِرُوا بِأَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ بِقَوْلٍ سُمِعَ فَيَكُونُ أَبْلَغَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَمْلَ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى هَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْفِعْلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ، وَالْقَوْمُ مَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى أَنْ يَقْلِبُوا أَنْفُسَهُمْ قِرَدَةً.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَصْبَحَ الْقَوْمُ وَهُمْ قِرَدَةٌ صَاغِرُونَ، فَمَكَثُوا كَذَلِكَ ثَلَاثًا فَرَآهُمُ النَّاسُ ثُمَّ هَلَكُوا. وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَنَّ شَبَابَ الْقَوْمِ صَارُوا قِرَدَةً، وَالشُّيُوخَ خَنَازِيرَ، وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الَّذِينَ مُسِخُوا هَلْ بَقُوا قِرَدَةً؟ وَهَلْ هَذِهِ الْقِرَدَةُ مِنْ نَسْلِهِمْ أَوْ هَلَكُوا، وَانْقَطَعَ نَسْلُهُمْ، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَالْكَلَامُ فِي الْمَسْخِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَاحَثَاتِ قَدْ سَبَقَ بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. واللَّه أعلم.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٧]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ تعالى لما شرح هاهنا بَعْضَ مَصَالِحِ أَعْمَالِ الْيَهُودِ وَقَبَائِحِ أَفْعَالِهِمْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالذُّلِّ وَالصَّغَارِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: أذن أعلم. وأذن نادى وصاح لإعلام وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ [الْأَعْرَافِ: ٤٤] وَقَوْلُهُ: تَأَذَّنَ بِمَعْنَى أَذَّنَ أَيْ أَعْلَمَ. وَلَفْظَةُ تفعل، هاهنا ليس

مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَظْهَرَ شَيْئًا لَيْسَ فِيهِ، بَلْ مَعْنَاهُ فَعَلَ فَقَوْلُهُ: تَأَذَّنَ بِمَعْنَى أَذِنَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يُونُسَ: ١٨] مَعْنَاهُ عَلَا وَارْتَفَعَ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ أَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ الْعُلُوَّ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ فِيهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ فَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لَيَبْعَثَنَّ جَوَابُ الْقَسَمِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وإِذْ تَأَذَّنَ جَارٍ مَجْرَى الْقَسَمِ فِي كَوْنِهِ جَازِمًا بِذَلِكَ الْخَبَرِ.
البحث الثاني: الضمير في عَلَيْهِمْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [الأعراف: ١٦٦] لَكِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِينَ مُسِخُوا لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَيْهِمُ التَّكْلِيفُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ نَسْلُهُمْ وَالَّذِينَ بَقُوا مِنْهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ سَائِرُ الْيَهُودِ فَإِنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ كَانُوا بَيْنَ صَالِحٍ وَبَيْنَ مُتَعَدٍّ فَمُسِخَ الْمُتَعَدِّي وَأُلْحِقَ الذُّلُّ بِالْبَقِيَّةِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَاهُمْ إِلَى شَرِيعَتِهِ، وَهَذَا أَقْرَبُ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَخْوِيفُ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَجْرُهُمْ عَنِ الْبَقَاءِ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا بَقَاءَ الذُّلِّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ انْزَجَرُوا.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ الْيَهُودُ الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَى الْكُفْرِ وَالْيَهُودِيَّةِ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَارِجُونَ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ.
أما قوله: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [إلى آخر الآية] فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ مَمْدُودٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ. وَقِيلَ: الِاسْتِخْفَافُ وَالْإِهَانَةُ وَالْإِذْلَالُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا وَقِيلَ: الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ. وَقِيلَ: الْإِخْرَاجُ وَالْإِبْعَادُ مِنَ الْوَطَنِ، وَهَذَا الْقَائِلُ جَعَلَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَهْلِ خَيْبَرَ وَبَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ عَلَى أَنَّهُ لَا دَوْلَةَ وَلَا عِزَّ، وَأَنَّ الذُّلَّ يَلْزَمُهُمْ، وَالصَّغَارُ لَا يُفَارِقُهُمْ. وَلَمَّا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَنْ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ. ثُمَّ شَاهَدْنَا بِأَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا إِخْبَارًا صِدْقًا عَنِ الْغَيْبِ، فَكَانَ مُعْجِزًا، وَالْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ فِي أَنَّ أتباع الرجال هُمُ الْيَهُودُ إِنْ صَحَّ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ خُرُوجِهِ يَهُودًا ثُمَّ دَانُوا بِإِلَهِيَّتِهِ، فَذُكِرُوا بِالِاسْمِ الْأَوَّلِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ فِي وَقْتِ اتِّبَاعِهِمُ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجُوا عَنِ الذِّلَّةِ وَالْقَهْرِ، وَذَلِكَ خِلَافُ هَذِهِ الْآيَةِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ/ عَلَى لُزُومِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ لِلْيَهُودِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران: ١١٢] إِلَّا أَنَّ دَلَالَتَهَا لَيْسَتْ قَوِيَّةً لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَمْنَعُ مِنَ الْقَطْعِ عَلَى لُزُومِ الذُّلِّ لَهُمْ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ. أَمَّا الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا تَقْيِيدٌ وَلَا اسْتِثْنَاءٌ، فَكَانَتْ دَلَالَتُهَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوِيَّةً جِدًّا. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الَّذِينَ يُلْحِقُونَ هَذَا الذُّلَّ بِهَؤُلَاءِ الْيَهُودِ مَنْ هُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الرَّسُولُ وَأَمَتُّهُ وَقِيلَ يَحْتَمِلُ دُخُولَ الْوُلَاةِ الظَّلَمَةِ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالْقِيَامِ بِذَلِكَ إِذَا أَذَلُّوهُمْ. وَهَذَا الْقَائِلُ حَمَلَ قَوْلَهُ:
لَيَبْعَثَنَّ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ [مَرْيَمَ: ٨٣] فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِرْسَالِ التَّخْلِيَةَ، وَتَرْكَ الْمَنْعِ، فَكَذَلِكَ الْبَعْثَةُ، وَهَذَا الْقَائِلُ. قَالَ: الْمُرَادُ بُخْتُنَصَّرُ وَغَيْرُهُ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَالْمُرَادُ التَّحْذِيرُ مِنْ عِقَابِهِ فِي الْآخِرَةِ مَعَ الذِّلَّةِ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ تَابَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْيَهُودِيَّةِ، وَدَخَلَ فِي الْإِيمَانِ باللَّه وبمحمد صلى الله عليه وسلم.