
فقه الحياة أو الأحكام:
إن العبرة واضحة من هذه الواقعة أو القضية، وهي أن الله تعالى يعاقب الناس على ذنوبهم في الدنيا قبل الآخرة، فما عليهم إلا الابتعاد عن الظلم والفسق فقد عاقب الله بني إسرائيل على ظلمهم وفسقهم، بالرغم من فضائلهم، ككثرة الأنبياء فيهم، وتفضيلهم على العالمين، أي عالمي زمانهم.
حيلة اليهود على صيد الأسماك يوم السبت وعقاب المخالفين
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦٣ الى ١٦٦]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦)
الإعراب:
إِذْ يَعْدُونَ يتعلق بسأل، وتقديره: سلهم عن وقت عدولهم في السبت، وهو مجرور بدل من القرية، وإِذْ تَأْتِيهِمْ: بدل من إِذْ الأولى، ويجوز نصبه بيعدون، وشُرَّعاً: منصوب على الحال من حِيتانُهُمْ، والعامل فيه: تَأْتِيهِمْ.
مَعْذِرَةً مفعول لأجله، فكأنهم لما قالوا: لم تعظون؟ قالُوا: مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ أي لمعذرة إلى ربكم. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: موعظتنا معذرة.
بِعَذابٍ بَئِيسٍ على وزن فعيل، مصدر «بيس» وتقديره: بعذاب ذي بيس، أي: ذي بوس، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

المفردات اللغوية:
وَسْئَلْهُمْ يا محمد توبيخا عما وقع لأهل القرية عَنِ الْقَرْيَةِ هي أيلة، وخليج أيلات معروف اليوم وقيل: مدين، وقيل: طبرية، والمراد بالقرية: أهلها، والعرب تسمى المدينة قرية، وعن أبي عمرو بن العلاء: ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج، يعني رجلين من أهل المدن حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة مجاورة للبحر الأحمر (بحر القلزم) على شاطئه، وهي أيلة إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ يعتدون ويتجاوزون حد الله فيه، وهو اصطيادهم في يوم السبت، وقد نهوا عنه. والسَّبْتِ: مصدر سبتت اليهود: إذا عظمت سبتها بترك الصيد وغيره من الأعمال، والاشتغال بالعبادة، والمعنى: يعدون في تعظيم السبت. وكذلك قوله: يَوْمَ سَبْتِهِمْ معناه يوم تعظيمهم أمر السبت.
حِيتانُهُمْ سمكهم، وأكثر ما تستعمل العرب الحوت في معنى السمكة شُرَّعاً ظاهرة على الماء وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا يعظمون السبت أي سائر الأيام لا تَأْتِيهِمْ ابتلاء من الله كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ أي مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم، ومعنى نَبْلُوهُمْ نختبرهم.
ولما صادوا السمك يوم السبت بحيلة حجزه وراء حواجز يوم الجمعة، افترقت القرية أثلاثا: ثلث صادوا معهم، وثلث نهوهم، وثلث أمسكوا عن الصيد والنهي.
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ معطوف على إِذْ قبله، والأمة منهم: الجماعة منهم وهي التي لم تصد ولم تنه كمن نهى قالُوا: مَعْذِرَةً أي موعظتنا معذرة نعتذر بها إلى الله، لئلا ننسب إلى تقصير في ترك النهي، أي قياما منا بعذر أنفسنا عند ربنا بقصد التنصل من الذنب وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الصيد.
فَلَمَّا نَسُوا تركوا ما ذُكِّرُوا بِهِ وعظوا به، أي تركوه ترك الناس، وأعرضوا عنه إعراضا تاما، فلم يرجعوا عن المخالفة السُّوءِ العمل الذي تسوء عاقبته بَئِيسٍ شديد، مأخوذ من البأس وهو الشدة، أو من البؤس وهو المكروه يَفْسُقُونَ يخرجون عن الطاعة.
عَتَوْا تكبروا عن ترك ما نهوا عنه خاسِئِينَ صاغرين. أما الفرقة الساكتة فقال ابن عباس: ما أدري ما فعل بالفرقة الساكتة. وقال عكرمة: لم تهلك لأنها كرهت ما فعلوه، وقالت:
لِمَ تَعِظُونَ؟ وروى الحاكم عن ابن عباس: أنه رجع إلى قول عكرمة وأعجبه.
المناسبة:
تذكر الآيات نوعا آخر من مخالفات اليهود وعصيانهم، فبعد أن ذكرت قصتهم في دخول القرية، ذكرت قصة احتيالهم على صيد الأسماك. وقد ذكرت

هذه القصة في سورة البقرة إجمالا في قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ [٦٥] وأشير إليها في سورة النساء أيضا في الآيتين [٤٧، ١٥٤]. وذكرت قبل ذلك هنا في سورة الأعراف التي نزلت بمكة قبل ملاقاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أحدا من اليهود، للدلالة على الإعجاز لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان رجلا أميا، لم يتعلم علما، ولم يطالع كتابا، فإخباره بالقصة معجز، ودليل على أن ذلك من إخبار الله وكلامه.
وهناك فائدة أخرى من إيراد القصة: وهو التنبيه على أن الكفر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم وبمعجزاته ليس شيئا جديدا حادثا في هذا الزمان، وإنما كان الكفر والإصرار حاصلا في أسلافهم من الزمان القديم.
أضواء من التاريخ على القصة:
روي أن اليهود أمروا باليوم الذي أمرنا به، وهو يوم الجمعة، فتركوه، واختاروا يوم السبت، فابتلوا به، وحرّم عليهم فيه الصيد وأمروا بتعظيمه، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرّعا بيضا سمانا، كأنها المخاض، لا يرى الماء من كثرتها، وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ، فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم جاءهم إبليس، فقال لهم: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت، فاتخذوا حياضا تسوقون الحيتان إليها يوم السبت، فلا تقدر على الخروج منها، وتأخذونها يوم الأحد.
وأخذ رجل منهم حوتا، وربط في ذنبه خيطا إلى خشبة في الساحل، ثم شواه يوم الأحد، فوجد جاره ريح السمك، فتطلع في تنوره، فقال له: إني أرى الله سيعذبك، فلما لم يره عذب، أخذ في السبت القادم حوتين، فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم، صادوا وأكلوا، وملّحوا، وباعوا، وكانوا نحوا من سبعين ألفا.
فصار أهل القرية أثلاثا: ثلث نهوا وكانوا نحوا من اثني عشر ألفا، وثلث قالوا: لم تعظون قوما؟ وثلث هم أصحاب الخطيئة.

فلما لما ينتهوا، قال المسلمون: إنا لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار، للمسلمين باب، وللمعتدين باب، ولعنهم داود عليه السلام، فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم، ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس شأنا، فنظروا، فإذا هم قردة، ففتحوا الباب، ودخلوا عليهم، فعرفت القرود أنسباءهم من الإنس، والإنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود، فجعل القرد يأتي نسيبه، فيشم ثيابه ويبكي، فيقول: ألم ننهك؟ فيقول برأسه: بلى. وقيل: صار الشباب قردة والشيوخ خنازير.
وعن الحسن البصري: أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها، أثقلها خزيا في الدنيا، وأطولها عذابا في الآخرة، هاه، وايم الله، ما حوت أخذه قوم فأكلوه، أعظم عند الله من قتل رجل مسلم، ولكن الله جعل موعدا، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ «١».
التفسير والبيان:
واسأل يا محمد يهود عصرك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله، ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة، والسؤال للتوبيخ والتقريع، وبيان أن كفر المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم ليس جديدا، بل هو موروث، فإن أسلافهم ارتكبوا الذنب العظيم، وخالفوا أوامر الله تعالى.
وحذرهم من مخالفتك لئلا يحل بهم ما حل بسلفهم.
اسألهم عن أهل المدينة التي كانت قريبة من البحر على شاطئه، وهي أيلة على شاطئ البحر الأحمر، بين مدين والطور، حين اعتدوا حدود الله، وتجاوزوها يوم السبت الذي يعظمونه، بترك العمل فيه، وتخصيصه للعبادة،

فخالفوا أمر الله فيه بالوصية لهم به إذ ذاك، واصطادوا السمك فيه، وقد نهوا عنه.
فكان السمك يأتيهم كثيرا على سطح الماء يوم تعظيم السبت، ولا يحتاج صيده إلى عناء.
ويوم لا يسبتون، في سائر الأيام غير السبت، تختفي الأسماك ولا تظهر، ولا تأتيهم كما كانت تأتيهم يوم السبت.
فاحتالوا على صيدها بإقامة الأحواض حيث يأتي المد بالسمك ثم إذا انحسر الماء بالجزر، تبقى الأسماك في الأحواض، فيأخذونها يوم الأحد.
مثل ذلك البلاء بظهور السمك يوم السبت المحرم عليهم صيده، وإخفائه عنهم في الأيام التي يحل لهم صيده، نبلو أي نختبر السابقين والمعاصرين، ونعاملهم معاملة من يختبر حالهم، ليجازى كل واحد على عمله، بسبب فسقهم المستمر وخروجهم عن طاعة الله لأن من سنة الله أن من أطاعه، سهل له أمور الدنيا، وأثابه في الآخرة، ومن عصاه، ابتلاه بأنواع المحن والمصائب.
وحين ظهور المعصية فيهم، انقسم أهل تلك القرية فرقا ثلاثا، هي فرقة المؤيدين، وفرقة المعارضين الواعظين، وفرقة المحايدين الذين لم يجدوا فائدة من الوعظ ولاموا الواعظين قائلين لهم: لم تعظون قوما قد قضى الله بإهلاكهم وإفنائهم، وقد علمتم أن الله سيهلكهم ويعاقبهم في الدنيا والآخرة.
فأجابهم الواعظون: نعظهم لنبرئ أنفسنا من السكوت عن المنكر، ونعتذر إلى ربكم بأننا أدينا واجبنا في الإنكار عليهم، ونحن لا نيأس من صلاحهم وعودتهم إلى الحق، ولعلهم بهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه، ويرجعون إلى الله تائبين، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم.

فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي فلما أبى الفاعلون قبول النصيحة، أنجينا الناهين عن السوء وهم فريق الواعظين وفريق اللائمين، إلا أن الفريق الأول كانوا أحزم وأقوى لأنهم أنكروا بالقول والفعل، لذا صرح القرآن بنجاة الناهين، والفريق الثاني أنكر بالقلب فقط، لذا سكت القرآن عن الساكتين، فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا، ولا ارتكبوا ذنبا، فيذموا.
وعذبنا الظالمين الذين ارتكبوا المعصية بعذاب شديد.
وذلك العذاب أنهم لما عتوا أي تمردوا وتكبروا عن ترك ما نهوا عنه، وأبوا سماع نصيحة الواعظين، جعلهم الله قردة صاغرين أذلاء منبوذين مبعدين عن الناس. هذا عذاب الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
والظاهر وهو رأي الجمهور أنهم مسخوا قردة على الحقيقة لمخالفتهم الأوامر وتماديهم في العصيان، لا لمجرد اصطياد الحيتان. وهل هذه القردة من نسلهم أو هلكوا وانقطع نسلهم؟ لا دلالة في الآية عليه.
وقال مجاهد: أصبحوا كالقردة في سوء الطباع والطيش والشر والإفساد، بسبب جناياتهم.
والراجح رأي العلماء الذين قالوا: إن الساكتين كانوا من الناجين لرجوع ابن عباس إلى رأي عكرمة في نجاة الساكتين، وقد رجح ابن كثير هذا الاتجاه، قائلا: وهذا أولى من القول بأنهم من الهالكين لأنه تبين حالهم بعد ذلك.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات في هذه القصة على ما يأتي:
١- الإخبار بالقصة علامة لصدق النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إذ أطلعه الله على تلك الأمور من غير تعلم. وكانوا يقولون: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة ٥/ ١٨] لأنا

من سبط خليله إبراهيم، ومن سبط إسرائيل، ومن سبط موسى كليم الله، ومن سبط ولده عزيز، فنحن من أولادهم، فقال الله عز وجل لنبيه: سلهم يا محمد عن هذه القرية: أما عذبتهم بذنوبهم؟
٢- إبطال الحيل الممنوعة المؤدية لتعطيل شرع الله، وهدم مبادئه، وتجاوز أحكامه، ومخالفة أوامره.
٣- القول بسدّ الذرائع، أي تحريم كل وسيلة تؤدي إلى الممنوع أو المحظور شرعا، فما أدى إلى الحرام فهو حرام.
٤- إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتزال أهل الفساد ومجانبتهم، وأن من جالسهم، كان مثلهم.
٥- دل قوله: كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ على أن من أطاع الله تعالى، خفف الله عنه أحوال الدنيا والآخرة، ومن عصاه ابتلاه بأنواع البلاء والمحن. وهذا يعني أن المعاصي سبب النقمة.
٦- واحتج أهل السنة بالآية على أنه تعالى لا يجب عليه رعاية الصلاح والأصلح، لا في الدين ولا في الدنيا لأنه تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السبت، ربما يحملهم على المعصية والكفر، فلو وجب عليه رعاية الصلاح والأصلح، لوجب أن لا يكثر هذه الحيتان في ذلك اليوم، صونا لهم عن ذلك الكفر والمعصية.
٧- الفرقة التي عصت أوامر الله، وتمادت في معصية الله، كانت هالكة، والفرقة التي أنكرت العصيان ووعظت العصاة، كانت ناجية. وأما الفرقة الساكتة فكانت على الراجح من الناجين، لإنكارها بالقلب، ويأسها من الإصلاح.