تعاظمني ذنبي فلما قرنته | بعفوك ربي كان عفوك أعظما |
أنا مذنب أنا مخطئ أنا عاصي | هو غافر هو راحم هو عافي |
قابلتهن ثلاثة بثلاثة | وستغلبن أوصافه أوصافي |
منا الذي اختير الرجال سماحة | وجودا إذا هب الرياح الزعازع |
فقلت له:
اخترها قلوصا سمينة | ونابا علا بأمثل نابك في الحيا |
لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع، وروي أنه لم يصب إلا ستين شيخا فأوحى الله تعالى أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخا، وقيل: كانوا أبناء ما عدا العشرين ولم يتجاوزوا الأربعين فذهب عنهم الجهل والصبا فأمرهم موسى عليه السلام أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور سيناء فلما دنا من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى ودخل فيه، وقال للقوم: ادنوا فدنوا حتى إذا دخلوا الغمام وقعوا سجدا فسمعوه وهو سبحانه يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية فوعظهم وكان ما كان، وذهب آخرون وهو المروي عن الحسن إلى أنه غير الميقات الأول قالوا: إن الله سبحانه أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل فاختار من اختاره فلما أتوا الطور قالوا ما قالوا، وروي ذلك عن السدي، وعن ابن إسحاق أنه عليه السلام إنما اختارهم ليتوبوا إلى الله تعالى ويسألوه التوبة على من تركوا وراءهم من قومهم. ورجح ذلك الطيبي مدعيا أن الأول خلاف نظم الآيات وأقوال المفسرين. أما الأول فلما قال الإمام: إنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية ثم أتبعها بقصة العجل وما يتصل بها فظاهر الحال أن تكون هذه القصة مغايرة للمتقدمة إذ لا يليق بالفصاحة ذكر بعض القصة ثم النقل إلى أخرى ثم الرجوع إلى الأولى وإنه اضطراب يصان عنه كلامه تعالى، وأيضا ذكر في الأولى خرور موسى عليه السلام صعقا، وفي الثانية قوله بعد أخذ الرجفة: لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ، وأيضا لو كانت الرجفة بسبب طلب الرؤية لقيل: أتهلكنا بما قال السفهاء وضم إليه الطيبي أنه تعالى حيث ذكر صاعقتهم لم يذكر صعق موسى عليه السلام وبالعكس فدل على التغاير، وأما الثاني فلما نقل عن السدي مما ذكرناه آنفا، وتعقب ما ذكر في الترجيح أولا صاحب الكشف بأن الانصاف أن المجموع قصة واحدة في شأن ما من على بني إسرائيل بعد إنجائهم من تحقيق وعد إيتاء الكتاب وضرب ميقاته وعبادة العجل وطلب الرؤية كان في تلك الأيام، وفي ذلك الشأن فالبعض مربوط بالبعض بقي إيثار هذا الأسلوب وهو بين لأن الأول في شأن الامتنان عليهم وتفضيلهم كيف وقد عطف واعَدْنا على أَنْجَيْناكُمْ وقد بين أنه تبيين للتفضيل، وتعقيب حديث الرؤية مستطرد للفرق بين الطلبين عندنا وليلقمهم الحجر عند المعتزلي. والثاني في شأن جنايتهم بعد ذلك الإحسان البالغ باتخاذ العجل والملاحة والافتراق من لوازم النظم، وتعقب ما ذكر فيه ثانيا بأن قول السدي وحده لا يصلح ردا كيف وهذا يخالف ما نقله محيي السنة في قوله سبحانه: لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ إنهم كانوا له وزراء مطيعين فاشتد عليه عليه السلام فقدهم فرحمهم وخاف عليهم الفوت وأين لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ من الطاعة وحسن الاستئزار قال: ثم الظاهر من قوله تعالى: فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ [النساء: ١٥٣] إن صفحة رقم 69
اتخاذ العجل متأخر عن مقالتهم تلك خلاف ما نقل عن السدي والحمل على تراخي الرتبة لا بد له من سند كيف ولا ينافي التراخي الزماني فلا بد من دليل يخصه به، هذا وقد اعترف المفسرون في سورة طه بأنه اختار سبعين لميقات الكلام ذكروه في قوله تعالى: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى [طه: ٨٣] وما اعتذر عنه الطيبي بأنه اختيار السبعين كان مرتين وليس في النقل أنهم كانوا معه عند المكالمة وطلب الرؤية فظاهر للمنصف سقوطه انتهى.
وذكر القطب في توهين ما نقل عن السدي بأن الخروج للاعتذار إن كان بعد قتل أنفسهم ونزول التوبة فلا معنى للاعتذار، وإن كان قبل قتلهم فالعجب من اعتذار ثمرته قتل الأنفس، ثم قال: ولا ريب أن قصة واحدة تتكرر في القرآن يذكر في سورة بعضها، وفي أخرى بعض أخر وليس ذلك إلا لتكرار اعتبار المعتبرين بشيء من تلك القصة فإذا جاز ذكر قصة في سور متعددة في كل سورة شيء منها فلم لا يجوز ذلك في مواضع من سورة واحدة لتكرر الاعتبار اهـ، وهو ظاهر في ترجيح ما ذهب إليه الأولون، وأنا أقول: إن القول بأن هذا الميقات هو الميقات الأول ليس بعاطل من القول وبه قال جمع كما أشرنا إليه، وكلامنا في البقرة ظاهر فيه إلا أن الانصاف أن ظاهر النظم هنا يقتضي أنه غيره وما ذكره صاحب الكشف لا يقتضي أنه ظاهر في خلافه، وإلى القول بالغيرية ذهب جل من المفسرين.
فقد أخرج عبد بن حميد من طريق أبي سعد عن مجاهد أن موسى عليه السلام خرج بالسبعين من قومه يدعون الله تعالى ويسألونه أن يكشف عنهم البلاء فلم يستجب لهم فعل موسى أنهم أصابوا من المعصية ما أصاب قومهم،
قال أبو سعد: فحدثني محمد بن كعب القرظي أنه لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ولم يأمروهم بالمعروف.
وأخرج عبد بن حميد عن الفضل بن عيسى ابن أخي الرقاشي أن بني إسرائيل قالوا ذات يوم لموسى عليه السلام ألست ابن عمنا ومنا وتزعم أنك كلمت رب العزة؟ فإنا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: ٥٥] فلما أبوا إلا ذلك أوحى الله تعالى إلى موسى أن اختر من قومك سبعين رجلا فاختار سبعين خيرة ثم قال لهم: اخرجوا فلما برزوا جاءهم ما لا قبل لهم به الخبر.
وهو ظاهر في أن هذا الميقات ليس هو الأول. نعم إنه مخالف لما روي عن السدي لكنهما متفقان على القول بالغيرية ويوافق السدي في ذلك الحسن أيضا فليس هو متفردا بذلك كما ظنه صاحب الكشف، وما ذكره من مخالفة كلام السدي لما نقله محيي السنة في حيز المنع، وقوله فإنا لن نؤمن لك إلخ يظهر جوابه مما ذكرناه في البقرة عند هذه الآية من الاحتمالات، والقول بأن الاختيار كان مرتين غير بعيد وبه قال بعضهم، وما ذكره القطب من الترديد في الخروج للاعتذار ظاهر بعض الروايات عن السدي يقتضي تعين الشق الأول منه. فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: انطلق موسى إلى ربه فكلمه فلما كلمه قال: ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى فأجابه موسى بما أجابه فقال سبحانه: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ [طه: ٨٥] الآية فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا فأبى الله تعالى أن يقبل توبتهم إلا بالحال التي كرهوا ففعلوا ثم إن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون من عبادة العجل فوعدهم موعدا فاختار موسى سبعين رجلا إلخ وهو كما ترى ظاهر فيما قلناه، والقول بأنه لا معنى للاعتذار بعد قتل أنفسهم ونزول التوبة أجيب عنه بأن المعنى يحتمل أن يكون طلبا لزيادة الرضى واستنزال مزيد الرحمة، ويحتمل أن يكونوا أمروا بذلك تأكيدا للايذان بعظم الجناية وزيادة فيه وإشارة إلى أنه بلغ مبلغا في السوء لا يكفي في العفو عنه قتل الأنفس بل لا بد فيه مع ذلك الاعتذار، ويمكن أن يقال إنه كان قبل قتلهم أنفسهم: والسر في أنهم أمروا به أن يعلموا أيضا عظم الجناية على أتم وجه بعدم قبوله والله تعالى أعلم فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الصاعقة أو رجفة الجبل فصعقوا منها والكثير على أنهم ماتوا جميعا ثم أحياهم الله تعالى، وقيل: غشي عليهم ثم أفاقوا وذلك لأنهم قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة على ما في بعض الروايات أو ليتحقق عند القائلين ذلك من قومهم
مزيد عظمته سبحانه على ما في البعض الآخر منها، أو لمجرد التأديب على ما في خبر القرظي، والظاهر أن قولهم: لن نؤمن إلخ صدر منهم في ذلك المكان لا بعد الرجوع كما قيل: ونقلناه في البقرة وحينئذ يبعد على ما قيل القول بأن هذا الميقات هو الميقات الأول لأن فيه طلب موسى عليه السلام الرؤية بعد كلام الله تعالى له من غير فصل على ما هو الظاهر فيكون هذا الطلب بعده، وبعيد أن يطلبوا ذلك بعد أن رأوا ما وقع لموسى عليه السلام. وما
أخرجه ابن أبي الدنيا وابن جرير وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: لما حضر أجل هارون أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن انطلق أنت وهارون وابنه إلى غار في الجبل فإنا قابضو روحه فانطلقوا جميعا فدخلوا الغار فإذا سرير فاضطجع عليه موسى ثم قام عنه فقال: ما أحسن هذا المكان يا هارون فاضطجع عليه هارون فقبض روحه فرجع موسى وابن أخيه إلى بني إسرائيل حزينين فقالوا له: أين هارون قال: مات؟ قالوا: بل قتلته كنت تعلم أنّا نحبه فقال لهم ويلكم أقتل أخي وقد سألته الله تعالى وزيرا ولو أني أردت قتله أكان ابنه يدعني. قالوا: بلى قتلته حسدا، قال: فاختاروا سبعين رجلا فانطلق بهم فمرض رجلان في الطريق فخط عليهما خطا فانطلق هو وابن هارون وبنو إسرائيل حتى انتهوا إلى هارون فقال: يا هارون من قتلك؟ قال: لم يقتلني أحد ولكني مت قالوا: ما تعصى يا موسى ادع لنا ربك يجعلنا أنبياء فأخذتهم الرجفة فصعقوا وصعق الرجلان اللذان خلفوا وقام موسى عليه السلام يدعو ربه فأحياهم الله تعالى فرجعوا إلى قومهم أنبياء
لا يكاد يصح فيما أرى لتظافر الآثار بخلافه وإباء ظواهر الآيات عنه.
قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ عرض للعفو السابق لاستجلاب العفو اللاحق يعني أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم ولم تهلكهم فارحمهم الآن كما رحمتهم من قبل جريا على مقتضى كرمك وإنما قال: وَإِيَّايَ تسليما منه وتواضعا، وقيل: أراد بقوله مِنْ قَبْلُ حين فرطوا في النهي عن عبادة العجل وما فارقوا عبدته حين شاهدوا إصرارهم عليها أي لو شئت إهلاكهم بذنوبهم إذ ذاك وإياي أيضا حين طلبت منك الرؤية، وقيل: حين قتل القبطي لأهلكتنا، وقيل: هو تمن منه عليه السلام للاهلاك جميعا بسبب محبته أن لا يرى ما يرى من مخالفتهم له مثلا أو بسبب آخر وفيه دغدغة أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا من العناد وسوء الأدب أو من عبادة العجل، والهمزة إما لإنكار وقوع الإهلاك ثقة بلطف الله عزّ وجلّ كما قال ابن الأنباري أو للاستعطاف كما قال المبرد أي لا تهلكنا، وأيا ما كان فهو من مقول موسى عليه السلام كالذي قبله، وقول بعضهم: كان ذلك قاله بعضهم غير ظاهر ولا داعي إليه، والقول بأن الداعي ما فيه من التضجر الذي لا يليق بمقام النبوة لا يخفى ما فيه، ولعل مراد القائل بذلك أن هذا القول من موسى عليه السلام يشبه قول أحد السبعين فكأنه قاله على لسانهم لأنهم الذين أصيبوا بما أصيبوا به دونه فافهم إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ استئناف مقرر لما قبله واعتذار عما وقع منهم وإن نافية وهي للفتنة المعلومة للسياق أي ما الفتنة إلا فتنتك أي محنتك وابتلاؤك حيث أسمعتهم كلامك فطمعوا في رؤيتك واتبعوا القياس في غير محله أو أوجدت في العجل خوارا فزاغوا به.
أخرج ابن أبي حاتم عن راشد بن سعد أن الله تعالى لما قال لموسى عليه السلام: إن قومك اتخذوا عجلا جسدا له خوار قال: يا رب فمن جعل فيه الروح؟ قال: أنا قال: فأنت أضللتهم يا رب قال: يا رأس النبيين يا أبا الحكماء إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم،
ولعل هذا إشارة إلى الاستعداد الأزلي الغير المجعول. وقيل: الضمير راجع على الرجفة أي ما هي إلا تشديدك التعبد والتكلف علينا بالصبر على ما أنزلته بنا، وروي هذا عن الربيع وابن جبير وأبي العالية، وقيل:
الضمير لمسألة الإراءة وإن لم تذكر.
تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ استئناف مبين لحكم الفتنة، وقيل: حال من المضاف إليه أو المضاف أي تضل بسببها من تشاء إضلاله بالتجاوز عن الحد أو باتباع المخايل أو بنحو ذلك وتهدي من تشاء هداه فيقوى بها إيمانه، وقيل: المعنى تصيب بهذه الرجفة من تشاء وتصرفها عمن تشاء، وقيل: تضل بترك الصبر على فتنتك وترك الرضا بها من تشاء عن نيل ثوابك ودخول جنتك وتهدي بالرضا لها والصبر عليها من تشاء وهو كما ترى أَنْتَ وَلِيُّنا أي أنت القائم بأمورنا الدنيوية والأخروية لا غيرك فَاغْفِرْ لَنا ما يترتب عليه مؤاخذتك وَارْحَمْنا بإفاضة آثار الرحمة الدنيوية والأخروية علينا. والفاء لترتيب الدعاء على ما قبله من الولاية لأن من شأن من يلي الأمور ويقوم بها دفع الضر وجلب النفع، وقدم طلب المغفرة على طلب الرحمة لأن التخلية أهم من التحلية، وسؤال المغفرة لنفسه عليه السلام في ضمن سؤالها لمن سألها له مما لا ضير فيه وإن لم يصدر منه نحو ما صدر منه كما لا يخفى، والقول بأن إقدامه عليه السلام على أن يقول: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ جرأة عظيمة فطلب من الله تعالى غفرانها والتجاوز عنها مما يأباه السوق عند أرباب الذوق، ولا أظن أن الله تعالى عدد ذلك ذنبا منه ليستغفره عنه، وفي ندائه السابق ما يؤيد ذلك وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ إذ كل غافر سواك إنما يغفر لغرض نفساني كحب الثناء ودفع الضرر وأنت تغفر لا لطلب عوض ولا غرض بل لمحض الفضل والكرم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبل، وتخصيص المغفرة بالذكر لأنها الأهم.
وفسر بعضهم ما ذكر بغفران السيئة وتبديلها بالحسنة ليكون تذييلا لاغفر وارحم معا وَاكْتُبْ لَنا أي أثبت واقسم لنا فِي هذِهِ الدُّنْيا التي عرانا فيها ما عرانا حَسَنَةً حياة طيبة وتوفيقا للطاعة.
وقيل: ثناء جميلا وليس بجميل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد اقبل وفادتنا وردنا بالمغفرة والرحمة وَفِي الْآخِرَةِ أي واكتب لنا أيضا في الآخرة حسنة وهي المثوبة الحسنى والجنة.
قيل: إن هذا كالتأكيد لقوله: اغفر وارحم إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع وتاب كما قال:
إني امرؤ مما جنيت هائد ومن كلام بعضهم:
يا راكب الذنب هدهد... واسجد كأنك هدهد
وقيل: معناه مال، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «هدنا» بكسر الهاء من هاد يهيد إذا حرك، وأخرج ابن المنذر. وغيره عن أبي وجرة السعدي أنه أنكر الضم وقال: والله لا أعلمه في كلام أحد من العرب وإنما هو هدنا بالكسر أي ملنا وهو محجوج بالتواتر، وجوز على هذه القراءة أن يكون الفعل مبنيا للفاعل والمفعول بمعنى حركنا أنفسنا أو حركنا غيرنا، وكذا على قراءة الجماعة، والبناء للمفعول عليها على لغة من يقول: عود المريض، ولا بأس بذلك إذا كان الهود بمعنى الميل سوى أن تلك لغة ضعيفة، وممن جوز الأمرين على القراءتين الزمخشري. وتعقبه السمين بأنه متى حصل الالتباس وجب أن يؤتى بحركة تزيله فيقال: عقت إذا عاقك غيرك بالكسر فقط أو الإشمام إلا أن سيبويه جوز في نحو قيل الأوجه الثلاثة من غير احتراز، والجملة تعليل لطلب المغفرة والرحمة، وتصديرها بحرف التحقيق لإظهار كمال النشاط والرغبة في مضمونها قالَ استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى له بعد دعائه؟ فقيل: قال عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ أي شأني أصيب بعذابي من أشاء تعذيبه من غير دخل لغيري فيه.
وقرأ الحسن وعمرو الأسود «من أساء» بالسين المهملة ونسبت إلى زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وأنكر بعضهم صحتها وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أي شأنها أنها واسعة تبلغ كل شيء ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في الدنيا بنعمتي، وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارع ونسبة السعة إلى الرحمة
بصيغة الماضي إيذان بأن الرحمة مقتضى الذات وأما العذاب فمقتضى معاصي العباد، والمشيئة معتبرة في جانب الرحمة أيضا، وعدم التصريح بها قيل: تعظيما لأمر الرحمة، وقيل: للاشعار بغاية الظهور، ألا ترى إلى قوله تعالى: فَسَأَكْتُبُها فإنه متفرع على اعتبار المشيئة كما لا يخفى، كأنه قيل: فإذا كان الأمر كذلك أي كما ذكر من إصابة عذابي وسعة رحمتي لكل من أشاء فسأثبتها إثباتا خاصا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أي الكفر والمعاصي إما ابتداء أو بعد الملابسة وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ المفروضة عليهم في أموالهم وقيل المعنى يطيعون الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم والظاهر خلافه، وتخصيص إيتاء الزكاة بالذكر مع اقتضاء التقوى له للتعريض بقوم موسى عليه السلام لأن ذلك كان شاقا عليهم لمزيد حبهم للدنيا، ولعل الصلاة إنما لم تذكر مع إنافتها على سائر العبادات وكونها عماد الدين اكتفاء منها بالاتقاء الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها وترك المنهيات عن آخرها وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا كلها كما يفيده الجمع المضاف يُؤْمِنُونَ إيمانا مستمرا من غير إخلال بشيء منها، وتكرير الموصول مع أن المراد به عين ما أريد بالموصول الأول دون أن يقال ويؤمنون بآياتنا عطفا على ما قبله كما سلك في سابقه قيل: لما أشير إليه من القصر بتقديم الجار والمجرور أي هم بجميع آياتنا يؤمنون لا ببعضها دون بعض، وفيه تعريض بمن آمن ببعض وكفر ببعض كقوم موسى عليه السلام.
واختلف في توجيه هذا الجواب فقال شيخ الإسلام: لعل الله تعالى حين جعل توبة عبدة العجل بقتلهم أنفسهم وكان الكلام الذي أطمع السبعين في الرؤية في ذلك ضمن موسى عليه السلام دعاءه التخفيف والتيسير حيث قال:
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً أي خصلة حسنة عارية عن المشقة والشدة فإن في القتل من العذاب الشديد ما لا يخفى فأجابه سبحانه بأن عذابي أصيب به من أشاء وقومك ممن تناولته مشيئتي ولذلك جعلت توبتهم مشوبة بالعذاب الدنيوي ورحمتي وسعت كل شيء وقد نال قومك نصيب منها في ضمن العذاب الدنيوي وسأكتب الرحمة خالصة غير مشوبة بالعذاب الدنيوي كما دعوت لمن صفتهم كيت وكيت لا لقومك لأنهم ليسوا كذلك فيكفيهم ما قدر لهم من الرحمة وإن كانت مقارنة العذاب، وعلى هذا فموسى عليه السلام لم يستجب له سؤاله في قومه ومن الله تعالى بما سأله على من آمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما أجيب بما ذكر قال: أتيتك يا رب بوفد من بني إسرائيل فكانت وفادتنا لغيرنا.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دعاء موسى ربه سبحانه فجعل دعاءه لمن آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام واتبعه،
وفي رواية أخرى رواها جمع عنه سأل موسى ربه مسألة فأعطاه محمدا صلّى الله عليه وسلّم وتلا الآية،
لكن لا يخفى أن ما قرره هذا الشيخ بعيد. وقال صاحب الكشف في ذلك: كأنه لما سأل موسى عليه السلام لنفسه ولقومه خير الدارين أجيب بأن عذابي لغير التائبين إن شئت ورحمتي الدنيوية تعم التائب وغيره وأما الجمع بين الرحمتين فهو للمستعدين فإن تاب من دعوت لهم وثبتوا كأعقابهم نالتهم الرحمة الخاصة الجامعة وأثر فيهم دعاؤك وإن داوموا على ما هم فيه بعدوا عن القبول، والغرض ترغيبهم على الثبات على التوبة والعمل الصالح وتحذيرهم عن المعاودة عما فرط منهم مع التخلص إلى ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم والحث على اتباعه أحسن تخلص وحث يحير الألباب ويبدي للمتأمل فيه العجب العجاب، وإلى بعض هذا يشير كلام الزمخشري.
وقال العلامة الطيبي في توجيهه: إن هذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم، وقوله سبحانه: عَذابِي إلخ كالتمهيد للجواب، والجواب فَسَأَكْتُبُها إلخ، وذلك أن موسى عليه السلام طلب الغفران والرحمة والحسنة في الدارين لنفسه ولأمته خاصة بقوله: وَاكْتُبْ لَنا وعلله بقوله: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ فأجابه الرب سبحانه بأن تقييدك المطلق ليس من الحكمة فإن عذابي من شأنه أنه تابع لمشيئتي فأمتك لو تعرضوا لما اقتضت الحكمة تعذيب من باشره لا
ينفعهم دعاؤك لهم وان رحمتي من شأنها أن تعم في الدنيا الخلق صالحهم وطالحهم مؤمنهم وكافرهم فالحسنة الدنيوية عامة فلا تختص بأمتك فتخصيصها تحجير للواسع وأما الحسنة الأخروية فهي للموصوفين بكذا وكذا، وجعل فَسَأَكْتُبُها كالقول بالموجب لأنه عليه السلام طلب ما طلب وجعل العلة ما جعل فضم الله تعالى ما ضم، يعني أن الذي يوجب اختصاص الحسنتين معا هذه الصفات المتعددة لا التوبة المجردة، ثم ذكر أن ترتيب هذا على ما قبله بالفاء على منوال قوله تعالى جوابا عن قول إبراهيم عليه السلام: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:
١٢٤] وأيد هذا التقرير بما روي عن الحسن وقتادة وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر وهي يوم القيامة للمتقين خاصة اهـ ما أريد منه، وما ذكره من حديث التحجر في القلب منه شيء فإن الظاهر أن ما في دعاء موسى عليه السلام ليس منه وإنما التحجر في مثل ما
أخرجه أحمد. وأبو داود عن جندب عن عبد الله البجلي قال: «جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها وصلى خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم نادى اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: لقد حظرت رحمة واسعة إن الله خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وأنسها وبهائمها وعنده تسعة وتسعون».
وأنا أقول: قد يقال: إن موسى عليه السلام إنما طلب على أبلغ وجه المغفرة والرحمة الدنيوية والأخروية له ولقومه وتعليل ذلك بالتوبة مما لا شك في صحته، ولا يفهم من كلامه عليه السلام أنه طلب للقوم كيف كانوا وفي أي حالة وجدوا وعلى أي طريقة سلكوا فإن ذلك مما لا يكاد يقع ممن له أدنى معرفة بربه فضلا عن مثله عليه السلام، وإنما هذا الطلب لهم من حيث إنهم تائبون راجعون إليه عز شأنه، ولا يبعد أن يقال باستجابة دعائه بذلك بل هي أمر مقطوع به بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلّم وكيف يشك في أنه غفر له ورحم وأوتي خير الدارين وهو- هو- وأما بالنسبة إلى قومه فالظاهر أن التائب منهم أوتي خير الآخرة لأن هذه التوبة إن كانت هي التوبة بالقتل فقد جاء عن الزهري أن الله تعالى أوحى إلى موسى بعد أن كان ما كان ما يحزنك؟ أما من قتل منكم فحي يرزق عندي وأما من بقي فقد قبلت توبته فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل، وإن كانت غيرها فمن المعلوم أن التوبة تقبل بمقتضى الوعد المحتوم، وخير من قبلت توبته في الآخرة كثير، وأما خير الدنيا فقد نطقت الآيات بأن القوم غرقى فيه، ويكفي في ذلك قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: ٤٧، ١٢٢].
وحينئذ فيمكن أن يقال في توجيه الجواب: أنه سبحانه لما رأى من موسى عليه السلام شدة القلق والاضطراب ولهذا بالغ في الدعاء خشية من طول غضبه تعالى على من يشفق عليه من ذلك سكن جل شأنه روعته وأجاب طلبته بأسلوب عجيب، وطريق بديع غريب فقال سبحانه له: عَذابِي أي الذي تخشى أن تصيب بعض نباله التي أرميها بيد جلالي عن قسي إرادتي من دعوت له أصيب به من أشاء فلا يتعين قومك الذين تخشى عليهم ما تخشى لأن يكون غرضا له بعد أن تابوا من الذنب وتركوا فعله وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ إنسانا كان أو غيره مطيعا كان أو غيره فما من شيء إلا وهو داخل فيها سابح في تيارها أو سايح في فيافيها بل ما من معذب إلا ويرشح عليه ما يرشح منها ولا أقل من أدنى لم أعذبه بأشد مما هو فيه مع قدرتي عليه فطب نفسا وقرّ عينا فدخول قومك في رحمة وسعت كل شيء ولم تضق عن شيء أمر لا شك فيه ولا شبهة تعتريه كيف وقد هادوا إلي ووفدوا عليّ أفترى أني أضيق الواسع عليهم وأوجه نبال الخيبة إليهم وأردهم بخفّي حنين فيرجع كل منهم صفر الكفين؟ لا أراني أفعل بل إني سأرحمهم وأذهب عنهم ما أهمهم وأكتب الحظ الأوفر من رحمتي لأخلافهم الذين يأتون آخر الزمان ويتصفون بما يرضيني ويقومون بأعباء ما يراد منهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله سبحانه: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إلخ، ولعل تقديم وصف العذاب دون وصف الرحمة ليفرغ ذهنه عليه السلام مما يخاف منه مع أن في عكس هذا الترتيب ما يوجب انتشار
النظم الكريم ووصف أخلاقهم بما وصفوا به لاستنهاض همهم إلى الاتصاف بما يمكن اتصافهم به منه أو إلى الثبات عليه، ولم يصرح في الجواب بحصول السؤال بأن يقال: قد أوتيت سؤلك يا موسى مثلا اختيارا لما هو أبلغ فيه، وهذا الذي ذكرناه وإن كان لا يخلو عن شيء إلا أنه أولى من كثير مما وقفنا عليه من كلام المفسرين وقد تقدم بعضه، وأقول بعد هذا كله: خير الاحتمالات ما تشهد له الآثار وإذا صح الحديث فهو مذهبي فتأمل. والسين في فَسَأَكْتُبُها يحتمل أن تكون للتأكيد، ويحتمل أن تكون للاستقبال كما لا يخفى وجهه على ذوي الكمال الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ الذي أرسله الله تعالى لتبليغ الأحكام النَّبِيَّ أي الذي أنبأ الخلق عن الله تعالى فالأول تعتبر فيه الإضافة إلى الله تعالى والثاني تعتبر فيه الإضافة إلى الخلق، وقدم الأول عليه لشرفه وتقدم إرسال الله تعالى له على تبليغه، وإلى هذا ذهب بعضهم، وجعلوا إشارة إلى أن الرسول والنبي هنا مراد بهما معناهما اللغوي لإجرائهما على ذات واحدة كما أنهما كذلك في قوله تعالى: وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم: ٥١، ٥٤]، وفسر في الكشاف الرسول بالذي يوحى إليه كتاب والنبي بالذي له معجزة، ويشير إلى الفرق بين الرسول والنبي بأن الرسول من له كتاب خاص والنبي أعم. وتعقبه في الكشف بأن أكثر الرسل لم يكونوا أصحاب كتاب مستقل كإسماعيل ولوط والياس عليهم السلام وكم وكم وكم ثم قال: والتحقيق أن النبي هو الذي ينبىء عن ذاته تعالى وصفاته وما لا تستقل العقول بدرايته ابتداء بلا واسطة بشر، والرسول هو المأمور مع ذلك بإصلاح النوع، فالنبوة نظر فيها إلى الإنباء عن الله تعالى والرسالة إلى المبعوث إليهم، والثاني وإن كان أخص وجودا إلا أنهما مفهومان مفترقان ولهذا لم يكن رسولا نبيا مثل إنسان حيوان اهـ.
وفيه مخالفة بينة لما ذكر أولا، ولا حجر في الاعتبار. نعم ما ذكروه مدفوع بأن الفرق المذكور مع تغاير المفهومين على كل حال من عرف الشرع والاستعمال، وأما في الوضع والحقيقة اللغوية فهما عامان. وقد ورد في القرآن بالاستعمالين فلا تعارض بينهما.
ولا يرد أن ذكر النبي العام بعد الخاص لا يفيد والمعروف في مثل ذلك العكس، ولا يخفى أن المراد بهذا الرسول النبي نبينا صلّى الله عليه وسلّم الْأُمِّيَّ أي الذي لا يكتب ولا يقرأ، وهو على ما قال الزجاج نسبة إلى أمة العرب لأن الغالب عليهم ذلك.
وروى الشيخان وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب»
أو
إلى أم القرى لأن أهلها كانوا كذلك، ونسب ذلك إلى الباقر رضي الله تعالى عنه
أو إلى أمه كأنه على الحالة التي ولدته أمه عليها، ووصف عليه الصلاة والسلام بذلك تنبيها على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته صلّى الله عليه وسلّم فهو بالنسبة إليه- بأبي هو وأمي- عليه الصلاة والسلام صفة مدح، وأما بالنسبة إلى غيره فلا، وذلك كصفة التكبر فإنها صفة مدح لله عزّ وجلّ وصفة ذم لغيره.
واختلف في أنه عليه الصلاة والسلام هل صدر عنه الكتابة في وقت أم لا؟ فقيل: نعم صدرت عنه عام الحديبية فكتب الصلح وهي معجزة أيضا له صلّى الله عليه وسلّم وظاهر الحديث يقتضيه، وقيل: لم يصدر عنه أصلا وإنما أسندت إليه في الحديث مجازا.
وجاء عن بعض أهل البيت رضي الله عنهم أنه صلّى الله عليه وسلّم كان تنطق له الحروف المكتوبة إذا نظر فيها،
ولم أر لذلك سندا يعول عليه، وهو صلّى الله عليه وسلّم فوق ذلك. نعم
أخرج أبو الشيخ من طريق مجاهد قال حدثني عون بن عبد الله بن عتبة عن أبيه قال: «ما مات النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى قرأ وكتب
فذكرت هذا الحديث للشعبي فقال: صدق سمعت أصحابنا يقولون ذلك» وقيل: الأمي نسبة إلى الأم بفتح الهمزة بمعنى القصد لأنه المقصود وضم الهمزة من تغيير النسب، ويؤيده قراءة يعقوب «الأمّي» بالفتح وإن احتملت أن تكون من تغيير النسب أيضا، والموصول في محل جر بدل من الموصول الأول، هو إما بدل كل على أن المراد منه هؤلاء المعهودين أو بعض على أنه عام ويقدر حينئذ منهم، وجوز أن يكون
نعتا له، ويحتمل أن يكون في محل نصب على القطع وإضمار ناصب له، وأن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقيل: على أنه مبتدأ خبره جملة يَأْمُرُهُمْ أو أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وكلاهما خلاف المتبادر من النظم الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً باسمه ونعوته الشريفة بحيث لا يشكون أنه هو، ولذلك عدل عن أن يقال: يجدون اسمه أو وصفه مكتوبا عِنْدَهُمْ ظرف لمكتوبا الواقع حالا أو ليجدون، وذكر لزيادة التقرير وأن شأنه عليه الصلاة والسلام حاضرة عندهم لا يغيب عنهم أصلا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ اللذين يعتد بهما بنو إسرائيل سابقا ولا حقا، وكأنه لهذا المعنى اقتصر عليهما وإلا فهو صلّى الله عليه وسلّم مكتوب في الزبور أيضا،
أخرج ابن سعد. والدارمي في مسنده. والبيهقي في الدلائل. وابن عساكر عن عبد الله بن سلام قال: «صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في التوراة يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء حتى يقولوا لا إله إلا الله ويفتح أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا»، ومثله من رواية البخاري وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص،
وجاء من حديث أخرجه ابن سعد. وابن عساكر من طريق موسى بن يعقوب الربعي عن سهل مولى خيثمة قال: «قرأت في الإنجيل نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم أنه لا قصير ولا طويل أبيض ذو ضفيرتين بين كتفيه خاتم لا يقبل الصدقة ويركب الحمار. والبعير ويحلب الشاة ويلبس قميصا مرقوعا ومن فعل ذلك فقد برىء من الكبر وهو يفعل ذلك وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد».
وجاء من خبر أخرجه البيهقي في الدلائل عن وهب بن منبه قال: «إن الله تعالى أوحى في الزبور يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد لا أغضب عليه أبدا ولا يعصيني أبدا وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأمته مرحومة أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا إلى كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الأمم كلهم، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم، لا أؤاخذهم بالخطأ والنسيان وكل ذنب ركبوه على غيره عمد إذا استغفروني منه غفرته وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم عجلته لهم أضعافا مضاعفة ولهم عندي أضعاف مضاعفة وأفضل من ذلك، وأعطيتهم على المصائب إذا صبروا وقالوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: ١٥٦] الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم، فإن دعوتي استجبت لهم فإما أن يروه عاجلا وإما أن أصرف عنهم سوءا وإما أن أدخره لهم في الآخرة، يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا الله وحدي لا شريك لي صادقا بها فهو معي في جنتي وكرامتي ومن لقيني وقد كذب محمدا وكذب بما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه من قبره العذاب صبا وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره في قبره ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار»
إلى غير ذلك من الأخبار الناطقة بأنه صلّى الله عليه وسلّم مكتوب في الكتب الإلهية. والظرفان متعلقان بيجدونه أو بمكتوبا. وذكر الإنجيل قبل نزوله من قبيل ما نحن فيه من ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن الكريم قبل مجيئهما.
يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ كلام مستأنف، وهو على ما قيل متضمن لتفصيل بعض أحكام الرحمة التي وعد فيما سبق بكتبها إجمالا إذ ما أشارت إليه المتعاطفات من آثار الرحمة الواسعة وجوز كونه في محل نصب على أنه حال مقدرة من مفعول يجدونه أو من المستكن في مكتوبا، وقيل: هو مفسر لمكتوبا أي لما كتب، والمراد بالمعروف قيل الإيمان، وقيل: ما عرف في الشريعة. والمراد بالمنكر ضد ذلك وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ فسر الأول بالأشياء التي يستطيبها الطبع كالشحوم، والثاني بالأشياء التي يستخبثها كالدم، فتكون الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل وفي كل ما تستخبثه النفس ويكرهه الطبع الحرمة إلا لدليل منفصل، وفسر بعضهم الطيب بما طاب في حكم الشرع والخبيث بما خبث فيه كالربا والرشوة.
وتعقب بأن الكلام حينئذ يحل ما يحكم بحله ويحرم ما يحكم بحرمته ولا فائدة فيه. وردوه بأنه يفيد فائدة وأي فائدة لأن معناه أن الحل والحرمة بحكم الشرع لا بالعقل والرأي، وجوز بعضهم كون الخبيث بمعنى ما يستخبث طبعا أو ما خبث شرعا وقال كالدم أو الربا ومثل للطيب بالشحم وجعل ذلك مبنيا على اقتضاء التحليل سبق التحريم والشحم كان محرما عند بني إسرائيل، وعلى اقتضاء التحريم سبق التحليل وجعل الدم وأخيه مما حرم على هذا لأن الأصل في الأشياء الحل، ولا يرد أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [البقرة: ٢٧٥] لأنه لرد قولهم إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [البقرة:
٢٧٥] أو لأن المراد ابقاؤه على حله لمقابلته بتحريم الربا. ودفع بهذا ما توهم من عدم الفائدة وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ أي يخفف عنهم ما كلفوه من التكاليف الشاقة كقطع موضع النجاسة من الثوب أو منه ومن البدن، وإحراق الغنائم، وتحريم السبت، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتعين القصاص في العمد والخطأ من غير شرع الدية فإنه وإن لم يكن مأمورا به في الألواح إلا أنه شرع بعد تشديدا عليهم على ما قيل، وأصل الأصر الثقل الذي يأصر صاحبه عن الحراك، والاغلال جمع غل بضم الغين وهي في الأصل كما قال ابن الأثير الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه ويقال لها جامعة أيضا، ولعل غير الحديد إذا جمع به يد إلى عنق يقال له ذلك أيضا، والمراد منهما هنا ما علمت وهو المأثور عن كثير من السلف، ولا يخفى ما في الآية من الاستعارة.
وجوز أن يكون هناك تمثيل، وعن عطاء كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية يحبس نفسه على العبادة وعلى هذا فالأغلال يمكن أن يراد حقيقته، وقرأ ابن عامر «آصارهم» على الجمع وقرأ «آصرهم» بالفتح على المصدر وبالضم على الجمع أيضا فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ أي صدقوا برسالته ونبوته وَعَزَّرُوهُ أي عظموه ووقروه كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال الراغب: التعزير النصرة مع التعظيم، والتعزير الذي هو دون الحد يرجع إليه لأنه تأديب والتأديب نصرة لأن أخلاق السوء أعداء ولذا
قال في الحديث: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما فقيل كيف أنصره ظالما؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تكفه عن الظلم»
وأصله عند غير واحد المنع والمراد منعه حتى لا يقوى عليه عدو، وقرىء «عزروه» بالتخفيف وَنَصَرُوهُ على أعدائه في الدين وعطف هذا على ما قبله ظاهر على ما روي عن الحبر وكذا على ما قاله الجمع إذ الأول عليه من قبيل درء المفاسد وهذا من قبيل جلب المصالح، ومن فسر الأول بالتعظيم مع التقوية أخذا من كلام الراغب قال هنا نصروه لي أي قصدوا بنصره وجه الله تعالى وإعلاء كلمته فلا تكرار خلافا لمن توهمه وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ وهو القرآن وعبر عنه بالنور لظهوره في نفسه بإعجازه وإظهاره لغيره من الأحكام وصدق الدعوى فهو أشبه شيء بالنور الظاهر بنفسه والمظهر لغيره بل هو نور على نور، والظرف اما متعلق بأنزل والكلام على حذف مضاف أي مع نبوته أو إرساله عليه السلام لأنه لم ينزل معه وإنما نزل مع جبريل عليه السلام.
نعم استباؤه أو إرساله كان مصحوبا بالقرآن مشفوعا به وإما متعلق باتبعوا على معنى شاركوه في اتباعه وحينئذ لم يحتج إلى تقدير، وقد يعلق به على معنى اتبعوا القرآن مع اتباعهم النبي صلّى الله عليه وسلّم إشارة إلى العمل بالكتاب والسنة، وجوز أن يكون في موضع الحال من ضمير اتبعوا أي اتبعوا النور مصاحبين له في اتباعه وحاصله ما ذكر في الاحتمال الثاني، وأن يكون حالا مقدرة من نائب فاعل أنزل. وفي مجمع البيان أن مع بمعنى على وهو متعلق بأنزل ولم يشتهر وروي
ذلك، وقال بعضهم: هي هنا مرادفة لعند وهو أحد معانيها المشهورة إلا أنه لا يخفى بعده وإن قيل حاصل المعنى حينئذ أنزل عليه أُولئِكَ أي المنعوتون بتلك النعوت الجليلة هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي هم الفائزون بالمطلوب لا المتصفون بأضداد صفاتهم، وفي الإشارة إشارة إلى علية تلك الصفات للحكم، وكاف البعد للإيذان ببعد المنزلة وعلو الدرجة في الفضل والشرف، والمراد من الموصول المخبر عنه بهذه الجملة عند ابن عباس رضي الله تعالى عنه اليهود الذين آمنوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: ما يعمهم وغيرهم من أمته عليه الصلاة والسلام المتصفين بعنوان الصلة إلى يوم القيامة والاتصاف بذلك لا يتوقف على إدراكه صلّى الله عليه وسلّم كما لا يخفى وهو الأولى عندي.
وادعى بعضهم أن المراد من الموصول في قوله تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ المعنى الأعم أيضا وجعله ابن الخازن قول جمهور المفسرين، وفيه ما فيه ومما يقضي منه العجب كون المراد منه اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام، والجملة متفرعة على ما تقدم من نعوته صلّى الله عليه وسلّم الجليلة الشأن، وقيل: على كتب الرحمة لمن مر، وذكر شيخ الإسلام أنها تعليم لكيفية اتباعه عليه السلام وبيان علو رتبة متبعيه واغتنامهم مغانم الرحمة الواسعة في الدارين إثر بيان نعوته الجليلة والإشارة إلى إرشاده عليه الصلاة والسلام وإياهم بما في ضمن يَأْمُرُهُمْ إلخ، وجعل الحصر المدلول عليه بقوله سبحانه: أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ بالنسبة إلى غيرهم من الأمم ثم قال: فيدخل فيهم قوم موسى عليه السلام دخولا أوليا حيث لم ينجوا عما في توبتهم من المشقة الهائلة، وهو مبني على ما سلكه في تفسير الآيات من أول الأمر ولا يصفو عن كدر قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً لما حكى ما في الكتابين من نعوته صلّى الله عليه وسلّم وشرف من يتبعه على ما عرفت، أمر عليه الصلاة والسلام بأن يصدع بما فيه تبكيت لليهود الذين حرموا أتباعه وتنبيه لسائر الناس على افتراء من زعم منهم أنه صلّى الله عليه وسلّم مرسل إلى العرب خاصة، وقيل: إنه أمر له عليه الصلاة والسلام ببيان أن سعادة الدارين المشار إليهما فيما تقدم غير مختصة بمن اتبعه من أهل الكتابين بل شاملة لكل من يتبعه كائنا من كان وذلك ببيان عموم رسالته صلّى الله عليه وسلّم وهي عامة للثقلين كما نطقت به النصوص حتى صرحوا بكفر منكره وما هنا لا يأبى ذلك، والمفهوم فيه غير معتبر عند القائل به لفقد شرطه وهو ظاهر الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في موضع نصب بإضمار أعني أو نحوه أو رفع على إضمار هو.
وجوز أن يكون في موضع جر على أنه صفة للاسم الجليل أو بدل منه، واستبعد ذلك أبو البقاء لما فيه من الفصل بينهما، وأجيب بأنه مما ليس بأجنبي وفي حكم ما لا يكون فيه فصل ورجح الأول بالفخامة إذ يكون عليه جملة مستقلة مؤذنة بأن المذكور علم في ذلك أي اذكر من لا يخفى شأنه عند الموافق والمخالف، وقيل: هو مبتدأ خبره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وهو على الوجوه الأول بيان لما قبله وجعله الزمخشري مع ذلك بدلا من الصلة وقد نص على جواز هذا النحو سيبويه وذكر العلامة أن سوق كلامه يشعر بأنه بدل استعمال، ووجه البيان أن من ملك العالم علويه وسفليه هو الإله فبينهما تلازم يصحح جعل الثاني مبينا للأول وليس المراد بالبيان الإثبات بالدليل حتى يقال الظاهر العكس لأن الدليل على تفرده سبحانه بالألوهية ملكه للعالم بأسره مع أنه يصح أن يجعل دليلا عليه أيضا فيقال الدليل على أنه جل شأنه المالك المتصرف في ذلك انحصار الألوهية فيه إذ لو كان إله غيره لكان له ذلك، واعترض أبو حيان القول بالبدلية بأن إبدال الجمل من الجمل غير المشتركة في عامل لا يعرف، وتعقب بأن أهل المعاني ذكروه وتعريف التابع بكل ثان أعرب بإعراب سابقه ليس بكلي، وقوله سبحانه: يُحيِي وَيُمِيتُ لزيادة تقرير إلهيته سبحانه، وقيل:
لزيادة اختصاصه تعالى بذلك وله وجه وجيه والفاء في قوله عز شأنه: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لتفريع الأمر على ما تقرر من رسالته صلّى الله عليه وسلّم وإيراد نفسه الكريمة عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة على طريق الالتفات إلى الغيبة للمبالغة في
إيجاب الامتثال ووصف الرسول بقوله تعالى: النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ لمدحه ولزيادة تقرير أمره وتحقيق أنه المكتوب في الكتابين الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل عليهم السلام من كتبه ووحيه، وقرىء «وكلمته» على إرادة الجنس أو القرآن أو عيسى عليه السلام كما روي ذلك عن مجاهد تعريضا لليهود تنبيها على أن من لم يؤمن به عليه السلام لم يعتبر إيمانه، والإتيان بهذا الوصف بحمل أهل الكتابين على الامتثال بما أمروا به والتصريح بالإيمان بالله تعالى للتنبيه على أن الإيمان به سبحانه لا ينفك عن الإيمان بكلماته ولا يتحقق إلا به ولا يخفى ما في هذه الآية من إظهار النصفة والتفادي عن العصبية للنفس وجعلوا ذلك نكتة للالتفات وإجراء هاتيك الصفات وَاتَّبِعُوهُ أي في كل ما يأتي وما يذر من أمور الدين.
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ علة للفعلين أو حال من فاعليهما أي رجاء لاهتدائكم إلى المطلوب أو راجين له. وفي تعليقه بهما إيذان بأن من صدقه ولم يتبعه بالتزام شرعه فهو بعد في مهامه الضلال وَمِنْ قَوْمِ مُوسى يعني بني إسرائيل أُمَّةٌ جماعة عظيمة يَهْدُونَ الناس بِالْحَقِّ أي محقين على أن الباء للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال أو بكلمة الحق على أن الباء للآلة والجار لغو وَبِهِ أي بالحق يَعْدِلُونَ في الأحكام الجارية فيما بينهم، وصيغة المضارع في الفعلين للايذان بالاستمرار التجددي، واختلف في المراد منهم فقيل أناس كانوا كذلك على عهد موسى صلّى الله عليه وسلّم والكلام مسوق لدفع ما عسى يوهمه تخصيص كتب الرحمة والتقوى والإيمان بالآيات بمتبعي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حرمان أسلاف قوم موسى عليه السلام من كل خير وبيان أن كلهم ليسوا كما حكيت أحوالهم بل منهم الموصوفون بكيت وكيت، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية.
واختار هذا شيخ الإسلام ولا يبعد عندي أن يكون ذلك بيانا لقسم آخر من القوم مقابل لما ذكره موسى عليه السلام في قوله: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا فيه تنصيص على أن من القوم من لم يفعل، وقيل: أناس وجدوا على عهد نبينا صلّى الله عليه وسلّم موصوفون بذلك كعبد الله بن سلام وأضرابه ورجحه الطيبي بأنه أقرب الوجوه، وذلك أنه تعالى لما أجاب عن دعاء موسى عليه السلام بقوله تعالى: فَسَأَكْتُبُها إلى قوله سبحانه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ إلخ ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يصدع بما فيه تبكيت لليهود وتنبيه على افترائهم فيما يزعمونه في شأنه عليه السلام مع إظهار النصفة وذلك بقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إلخ وقوله سبحانه: فَآمِنُوا إلخ عقب ذلك بقوله عزّ شأنه: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى إلخ، والمعنى أن بعض هؤلاء الذين حكينا عنهم ما حكينا آمنوا وأنصفوا من أنفسهم يهدون الناس إلى أنه عليه الصلاة والسلام الرسول الموعود ويقولون لهم: هذا الرسول النبي الأمي الذي نجده مكتوبا عندنا في التوراة والإنجيل ويعدلون في الحكم لا يجورون ولكن أكثرهم ما أنصفوا ولبسوا الحق بالباطل وكتموه وجاروا في الأحكام فيكون ذكر هذه الفرقة تعريضا بالأكثر.
واعترض بأن الذين آمنوا من قوم موسى على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا قليلين ولفظ أمته يدل على الكثرة، وأيضا إن هؤلاء قد مر ذكرهم فيما سلف، وأجيب بأن لفظ الأمة قد يطلق على القليل لا سيما إذا كان له شأن بل قد يطلق على الواحد إذا كان كذلك كما في قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: ١٢٠] وبأن ذكرهم هنا لما أشير إليه من النكتة لا يأبى ذكرهم فيما سلف لغير تلك النكتة وتكرار الشيء الواحد لاختلاف الأغراض سنة مشهورة في الكتاب على أنه قد قيل: إنهم فيما تقدم قد وصفوا بما هو ظاهر في أنهم مهتدون وهنا قد وصفوا بما هو ظاهر في أنهم هادون فيحصل من الذكرين أنهم موصوفون بالوصفين. نعم يبقى الكلام في نكتة الفصل ولعلها لا تخفى على المتدبر، وقيل هم قوم من بني إسرائيل وجدوا بين موسى ونبينا محمد عليهما الصلاة والسلام وهم الآن موجودون
أيضا، فقد أخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج أنه قال: بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وبينهم ففتح الله تعالى لهم نفقا في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين فهم هنالك حنفاء يستقبلون قبلتنا، وإليهم الإشارة كما قال ابن عباس بقوله تعالى: وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً [الإسراء: ١٠٤] وفسر وعد الآخرة بنزول عيسى عليه السلام وقال: إنهم ساروا في السرب سنة ونصفا.
وذكر مقاتل كما روى أبو الشيخ أن الله تعالى أجرى معهم نهرا وجعل لهم مصباحا من نور بين أيديهم وأن أرضهم التي خرجوا إليها تجتمع فيها الهوام والبهائم والسباع مختلطين وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتاهم ليلة المعراج ومعه جبرئيل عليه السلام فآمنوا به وعلمهم الصلاة،
وعن الكلبي والضحاك والربيع أنه عليه الصلاة والسلام علمهم الزكاة وعشر سور من القرآن نزلت بمكة وأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت وأقرأه سلام موسى عليه السلام فرد النبي عليه الصلاة والسلام، السلام.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال بينكم وبينهم نهر من رمل يجري، وضعف هذه الحكاية ابن الخازن وأنا لا أراها شيئا ولا أظنك تجد لها سندا يعول عليه ولو ابتغيت نفقا في الأرض أو سلما في السماء.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي دون رؤيتي على ما يقوله نفاة الرؤية فَخُذْ ما آتَيْتُكَ بالتمكين وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ بالاستقامة في القيام بحق العبودية التي لا مقام أعلى منها لا تدعني إلا بيا عبدها. فإنه أشرف أسمائي، وبالشكر تزداد النعم كما نطق بذلك الكتاب وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ أي أظهرنا نقوش استعداده في ألواح تفاصيل وجوده من الروح والقلب والعقل والفكر والخيال فظهر فيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي بعزم لتكون من ذويه وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي أكثرها نفعا وهي العزائم سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أي عاقبة الذين لا يأخذون بذلك سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وهم الذين في مقام النفس فيكون تكبرهم حجابا لهم عن آيات الله تعالى وأما المتكبرون بالحق وهم الذين فنيت صفاتهم وظهرت عليهم صفات مولاهم فليسوا بمحجوبين ولا يعد تكبرهم مذموما لأنه ليس تكبرهم حقيقة وإنما حظهم منه كونهم مظهرا له الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حيث حجبوا بصفاتهم وأفعالهم حبطت أعمالهم فلا تقربهم شيئا وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا صنعه لهم السامري وكان من قوم يعبدون العجل أو ممن رآهم فوقع في قلبه لسوء استعداده حبه وأضمر عبادته واختار صياغته من حليهم ليكون ميلهم إليه أتم لأن قلب الإنسان يميل حيث ماله سيّما إذا كان ذهبا أو فضة، وكثير من الناس اليوم عبيد الدرهم والدينار وهما العجل المعنوي لهم وإن لم يسجدوا له وأكثر الأقوال أن ذلك العجل صار ذا لحم ودم إليه الإشارة بقوله تعالى: جَسَداً لَهُ خُوارٌ وفي كلام الشيخ الأكبر قدس سره أنه صار ذا روح بواسطة الترب الذي وطئه الروح الأمين ولم يصرح بكونه ذا لحم ودم وَأَلْقَى الْأَلْواحَ أي ذهل من شدة الغضب عنها وتجافى عن حكم ما فيها ونسيان ما يستحسن من الحلم مثلا عند الغضب مما يجده كل أحد من نفسه وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يجره إليه ظنا أنه قصر في كفهم.
قالَ ابْنَ أُمَّ ناداه بذلك لغلبة الرحمة عليه، وتأويل ذلك في الأنفس على ما قاله بعض المؤولين أن سامري الهوى بعد توجه موسى عليه السلام الروح لميقات مكالمة الحق اتخذ من حلي زينة الدنيا ورعونات البشرية التي استعارها بنو إسرائيل صفات القلب من قبط صفات النفس معبودا يتعجلون إليه له خوار يدعون الخلق به إلى نفسه أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ بما ينفعهم ولا يهديهم سبيلا إلى الحق اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ حيث عدلوا عن
عبادة الحق إلى عبادة غيره في نظرهم وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي ندموا عند رجوع موسى الروح قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا بجذبات العناية وَيَغْفِرْ لَنا بأن يستر صفاتنا بصفاته سبحانه وتعالى لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ رأس مال هذه النشأة وهو الاستعداد وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ وهم الأوصاف الإنسانية غَضْبانَ مما عبدت صفات القلب عجل الدنيا أَسِفاً على ما فات لها من عبادة الحق قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي حيث لم تسيروا سيري أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ بالرجوع إلى الفاني من غير أمره تعالى وَأَلْقَى الْأَلْواحَ أي ما لاح له من اللوائح الربانية عند استيلاء الغضب الطبيعي وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ وهو القلب يجره إليه قسرا، قالَ ابْنَ أُمَّ ناداه بذلك مع أنه أخوه من أبيه وهو عالم الأمر وأمه وهو عالم الخالق لأنهما في عالم الخلق إِنَّ الْقَوْمَ أي أوصاف البشرية اسْتَضْعَفُونِي عند غيبتك وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي يزيلون مني حياة استعدادي بالكلية فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وهم- هم. ، وهذا ما يقتضيه مقام الفرق، قال: رب اغفر لي ولأخي استر صفاتنا وأدخلنا في رحمتك بإفاضة الصفات الحقة علينا وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ لأن كل رحمة فهو شعاع نور ورحمتك إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أي عجل الدنيا إلها سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وهو عذاب الحجاب وذلة في الحياة الدنيا باستعباد هذا الفاني المدني لهم وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ الذين يفترون على الله تعالى فيثبتون وجود لما سواه، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا رجعوا إليه سبحانه وتعالى بمجاهدة نفوسهم وإفنائهم إن ربك من بعدها لغفور فيستر صفاتهم رحيم فيفيض عليهم من صفاتهم ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح الربانية، وفي نسختها هدى إرشاد إلى الحق وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ يخافون لحسن استعدادهم، ويقال في قوله سبحانه وتعالى:
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا إن موسى عليه السلام اختار سبعين رجلا من أشراف قومه ونجبائهم أهل الاستعداد والصفاء والإرادة والطلب والسلوك فلما أخذتهم الرجفة أي رجفة البدن التي هي من مبادي صعقة الفناء عند طريان بوارق الأنوار وظهور طوالع تجليات الصفات من اقشعرار الجسد وارتعاده وكثيرا ما تعرض هذه الحركة للسالكين عند الذكر أو سماع القرآن أو ما يتأثرون به حتى تكاد تتفرق أعضاؤهم، وقد شاهدنا ذلك في الخالدين من أهل الطريقة النقشبندية، وربما يعتريهم في صلاتهم صياح معه فمنهم من يستأنف صلاته لذلك ومنهم من لا يستأنف، وقد كثر الإنكار عليهم وسمعت بعض المنكرين يقولون: إن كانت هذه الحالة مع الشعور والعقل فهي سوء أدب ومبطلة للصلاة قطعا وإن كانت مع عدم شعور وزوال عقل فهي ناقضة للوضوء ونراهم لا يتوضؤون، وأجيب بأنها غير اختيارية مع وجود العقل والشعور، وهي كالعطاس والسعال ومن هنا لا ينتقض الوضوء بل ولا تبطل الصلاة، وقد نص بعض الشافعية أن المصلي لو غلبه الضحك في الصلاة لا تبطل صلاته ويعذر بذلك فلا يبعد أن يلحق ما يحصل من آثار التجليات الغير الاختيارية بما ذكر ولا يلزم من كونه غير اختياري كونه صادرا من غير شعور فإن حركة المرتعش غير اختيارية مع الشعور بها، وهو ظاهر فلا معنى للإنكار. نعم كان حضرة مولانا الشيخ خالد قدس سره يأمره من يعتريه ذلك من المريدين بالوضوء واستئناف الصلاة سدا لباب الإنكار، والحق أن ما يعتري هذه الطائفة غير ناقض الوضوء لعدم زوال العقل معه لكنه مبطل للصلاة لما فيه من الصياح الذي يظهر به حرفان مع أمور تأباها الصلاة ولا عذر لمن يعتريه ذلك إلا إذا ابتلي به بحيث لم يخل زمن من الوقت يسع الصلاة بدونه فإنه يعذر حينئذ ولا قضاء عليه إذا ذهب منه ذلك الحال كمن به حكّة لا يصبر معها على عدم الحك.
وقد نص الجد عليه الرحمة في حواشيه على شرح الحضرمية للعلامة ابن حجر في صورة ابتلي بسعال مزمن على نحو ذلك، ثم قال: فرع لو ابتلي بذلك وعلم من عادته أن الحمام يسكنه عنه مدة تسع الصلاة وجب عليه دخوله
حيث وجد أجرة الحمام فاضلة عما يعتبر في الفطرة وإن فاتته الجماعة وفضيلة أول الوقت انتهى. نعم ذكر عليه رحمة الله تعالى في الفعل الكثير المبطل للصلاة وهو ثلاثة أفعال أنه لو ابتلي بحركة اضطرارية نشأ عنها عمل كثير فمعذور، وقال أيضا: إنه لا يضر الصوت الغير المشتمل على النطق بحرفين متواليين من أنف أو فم وإن اقترنت به همهمة شفتي الأخرس ولو لغير حاجة وإن فهم الفطن كلاما أو قصد محاكاة بعض أصوات الحيوانات إن لم يقصد التلاعب وإلا بطلت، وينبغي التحري في هؤلاء القوم فإن حالهم في ذلك متفاوت لكن أكثر ما شاهدناه على الطرز الذي ذكرناه، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من الكتب الفقهية. قال موسى: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ وذلك من شدة غلبة الشوق، ولَوْ هذه للتمني، أتهلكنا بعذاب الحجاب والحرمان بما فعل السفهاء من عبادة العجل إن هي إلا فتنتك لا مدخل فيها لغيرك، وهذا مقتضى مقام تجلي الأفعال، فاغفر لنا ذنوب صفاتنا وذواتنا كما غفرت ذنوب أفعالنا، وارحمنا بإفاضة أنوار شهودك ورفع حجاب الآنية بوجودك، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وهي حسنة الاستقامة بالبقاء بعد الفناء، وفي الآخرة حسنة المشاهدة، والكلام في بقية الكلام لا يخفى على من له أدنى ذوق.
خلا أن بعضهم أول العذاب في قوله سبحانه وتعالى: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ بعذاب الشوق المخصوص الذي يصيب أهل العناية من الخواص وهو الرحمة التي لا يكتنه كنهها ولا يقدر قدرها وإنها لأعز من الكبريت الأحمر، وأهل الظاهر يرونه بعيدا والقوم يقولون نراه قريبا، وقالوا: الأمي نسبة إلى الأم لكن على حد أحمري، وقيل: للنبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك لأنه أم الموجودات وأصل المكنونات، واختبر هذا اللفظ لما فيه من الإشارة إلى الرحمة والشفقة وهو الذي جاء رحمة للعالمين وإنه عليه الصلاة والسلام لأشفق على الخلق من الأم بولدها إذ له صلّى الله عليه وسلّم الحظ الأوفر من التخلق بأخلاق الله تعالى وهو سبحانه أرحم الراحمين، وذكروا أن أتباعه من حيث النبوة الخواص ومن حيث الأمية خواص الخواص ومن حيث الرسالة هؤلاء المذكورون كلهم والعوام نسأل الله تعالى أن يوفقنا لاتباعه صلّى الله عليه وسلّم في سائر شؤونه.
وَقَطَّعْناهُمُ أي قوم موسى عليه السلام لا الأمة المذكورة كما يوهمه القرب «وقطع» يقرأ مشددا ومخففا والأول هو المتواتر ويتعدى لواحد وقد يضمن معنى صير فيتعدى لاثنين فقوله تعالى: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ حال أو مفعول ثاني، أي فرقناهم معدودين بهذا العدد أو صيرناهم اثنتي عشرة أمة يتميز بعضها عن بعض، وقوله سبحانه وتعالى:
أَسْباطاً كما قال ابن الحاجب في شرح المفصل بدل من العدد لا تمييز له وإلا لكانوا ستة وثلاثين، وعليه فالتمييز محذوف أي فرقة أو نحوه، قال الحوفي: إن صفة التمييز أقيمت مقامه والأصل فرقة أسباطا، وجوز أن يكون تمييزا لأنه مفرد تأويلا، فقد ذكروا أن السبط مفردا ولد الولد أو ولد البنت أو الولد أو القطعة من الشيء أقوال ذكرها ابن الأثير، ثم استعمل في كل جماعة من بني إسرائيل كالقبيلة في العرب، ولعله تسمية لهم باسم أصلهم كتميم، وقد يطلق على كل قبيلة منهم أسباط أيضا كما غلب الأنصار على جمع مخصوص فهو حينئذ بمعنى الحي والقبيلة فلهذا وقع موقع المفرد في التمييز وهذا كما ثنى الجمع في قول أبي النجم يصف رمكة تعودت الحرب:
تبقلت في أول التبقل | بين رماحي مالك ونهشل |
أبو البقاء كونها مصدرية فَانْبَجَسَتْ أي انفجرت كما قال ابن عباس وزعم الطبرسي أن الانبجاس خروج الماء بقلة والانفجار خروجه بكثرة، والتعبير بهذا تارة وبالأخرى أخرى باعتبار أول الخروج وما انتهى إليه، والعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي فضرب فانبجست وحذف المعطوف عليه لعدم الإلباس وللإشارة إلى سرعة الامتثال حتى كأن الإيحاء وضربه أمر واحد وأن الانبجاس بأمر الله تعالى حتى كأن فعل موسى عليه السلام لا دخل فيه.
وذكر بعض المحققين أن هذه الفاء على ما قرر فصيحة وبعضهم يقدر شرطا في الكلام فإذا ضربت فقد انبجست مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً وهو غير لائق بالنظم الجليل قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ أي سبط، والتعبير عنهم بذلك للإيذان بكثرة كل واحد من الأسباط، وأناس إما جمع أو اسم جمع، وذكر السعد أن أهل اللغة يسمون اسم الجمع جمعا، وعَلِمَ بمعنى عرف الناصب مفعولا واحد أي قد عرف مَشْرَبَهُمْ أي عينهم الخاصة بهم، ووجه الجمع ظاهر وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ أي جعلنا ذلك بحيث يلقي عليهم ظله ليقيهم من حر الشمس وكان يسير بسيرهم ويسكن بإقامتهم وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى أي الترنجبين والسماني فكان الواحد منهم يأخذ ما يكفيه من ذلك كُلُوا أي قلنا أو قائلين لهم كلوا.
مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي مستلذاته، وما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن المن والسلوى وَما ظَلَمُونا عطف على محذوف للايجاز والإشعار بأنه أمر محقق غني عن التصريح أي فظلموا بأن كفروا بهذه النعم الجليلة وما ظلمونا بذلك وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر إذ لا يتخطاهم ضرره، وتقديم المفعول لإفادة القصر الذي يقتضيه النفي السابق، وفي الكلام من التهكم والإشارة إلى تماديهم على ما فيهم ما لا يخفى وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ معمول لا ذكر، وإيراد الفعل هنا مبنيا للمفعول جريا على سنن الكبرياء مع الإيذان بأن الفاعل غني عن التصريح أي اذكر لهم وقت قولنا لأسلافهم اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ القريبة منكم وهي بيت المقدس أو أريحا، والنصب مبني على المفعولية كسكنت الدار أو على الظرفية اتساعا والتعبير بالسكنى هنا للايذان بأن المأمور به في البقرة الدخول بقصد الإقامة أي أقيموا في هذه القرية وَكُلُوا مِنْها أي مطاعمها وثمارها أو منها نفسها على أن من تبعيضية أو ابتدائية حَيْثُ شِئْتُمْ أي من نواحيها من غير أن يزاحمكم أحد وجيء بالواو هنا وبالفاء في البقرة لأنه قيل هناك ادخلوا فحسن ذكر التعقيب معه وهنا اسكنوا والسكنى أمر ممتد والأكل معه لا بعده، وقيل: إنه إذا تفرع المسبب عن السبب اجتمعا في الوجود فيصح الإتيان بالواو والفاء، وفيه أن هذا إنما يدل على صحة العبارتين وليس السؤال عن ذلك، وذكر رَغَداً [البقرة: ٣٥، ٥٨] هناك لأن الأكل في أول الدخول يكون ألذ وبعد السكنى واعتباره لا يكون كذلك وقيل: إنه اكتفى بالتعبير باسكنوا عن ذكره لأن الأكل المستمر من غير مزاحم لا يكون إلا رغدا واسعا، وإلى الأول ذهب صاحب اللباب، ويرد على القولين أنه ذكر رَغَداً مع الأمر بالسكنى في قصة آدم عليه السلام، ولعل الأمر في ذلك سهل وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً مر الكلام فيه في البقرة غير أن ما فيها عكس ما هنا في التقديم والتأخير ولا ضير في ذلك لأن المأمور به هو الجمع بين الأمرين من غير اعتبار الترتيب بينهما، وقال القطب:
فائدة الاختلاف التنبيه على حسن تقديم كل من المذكورين على الآخر لأنه لما كان المقصود منهما تعظيم الله تعالى وإظهار الخشوع والخضوع لم يتفاوت الحال في التقديم والتأخير نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ جزم في جواب الأمر. وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب «تغفر» بالتاء والبناء للمفعول وخَطِيئاتِكُمْ بالرفع والجمع غير ابن عامر فإنه وحد، وقرأ أبو عمرو «خطاياكم» كما في سورة البقرة، وبين القطب فائدة الاختلاف بين ما هناك وبين ما هنا على القراءة المشهورة بأنها الإشارة إلى أن هذه الذنوب سواء كانت قليلة أو كثيرة فهي مغفورة بعد الإتيان بالمأمور به، وطرح الواو هنا من قوله
سبحانه وتعالى: سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ إشارة إلى أن هذه الزيادة تفضل محض ليس في مقابلة ما أمروا به كما قيل.
والمراد أن امتثالهم جازاه الله تعالى بالغفران وزاد عليه وتلك الزيادة فضل محض منه تعالى فقد يدخل في الجزاء صورة لترتبته على فعلهم وقد يخرج عنه لأنه زيادة على ما استحقوه، ولذا قرن بالسين الدالة على أنه وعد وتفضل، ومفعول نزيد محذوف أي ثوابا وزيادة منهم في قوله تعالى شأنه: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ لزيادة البيان أي بدل الذي ظلموا من هؤلاء بما أمروا به من التوبة والاستغفار حيث أعرضوا عنه ووضعوا موضعه قَوْلًا آخر مما لا خير فيه غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ وأمروا بقوله وغَيْرَ نعت للقول وصرح بالمغايرة مع دلالة التبديل عليها تحقيقا للمخالفة وتنصيصا على المغايرة من كل وجه فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ أثر ما فعلوا ما فعلوا من غير تأخير رِجْزاً مِنَ السَّماءِ عذابا كائنا منها وهو الطاعون في رواية.
بِما كانُوا يَظْلِمُونَ أي بسبب ظلمهم المستمر السابق واللاحق، وهذا بمعنى ما في البقرة لأن ضمير عليهم للذين ظلموا والإرسال من فوق إنزال، والتصريح بهذا التعليل لما أن الحكم هاهنا مرتب على المضمر دون الموصول بالظلم كما في البقرة، وأما التعليل بالفسق بعد الإشعار بعلية الظلم هناك فللإيذان بأن ذلك فسق وخروج عن الطاعة وغلو في الظلم وأن تعذيبهم بجميع ما ارتكبوا من القبائح كما قيل.
وقال القطب في وجه المغايرة: إن الإرسال مشعر بالكثرة بخلاف الإنزال فكأنه أنزل العذاب القليل ثم جعل كثيرا وإن الفائدة في ذكر الظلم والفسق في الموضعين الدلالة على حصولهما فيهم معا، وقد تقدم لك في وجوه المغايرة بين آية البقرة وهذه الآية ما ينفعك تذكره فتذكر وَسْئَلْهُمْ عطف على اذكر المشار إليه فيما تقدم آنفا، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وضمير الغيبة لمن بحضرته عليه الصلاة والسلام من نسل اليهود أي واسأل اليهود المعاصرين لك سؤال تقريع وتقرير بتقدم تجاوزهم لحدود الله تعالى، والمراد اعلامهم بذلك لأنهم كانوا يخفونه، وفي الاطلاع عليه مع كونه عليه الصلاة والسلام ليس ممن مارس كتبهم أو تعلمه من علمائهم ما يقضي بأن ذلك عن وحي فيكون معجزة شاهدة عليهم عَنِ الْقَرْيَةِ أي عن خبرها وحالها وما وقع بأهلها من ثالثة الأثافي، والمراد بالسؤال عن ذلك ما يعم السؤال عن النفس وعن الأهل أو الكلام على تقدير مضاف، والمراد عن حال أهل القرية، وجوز التجوز فيها، وهي عند ابن عباس وابن جبير- أيلة- قرية بين مدين والطور.
وعن ابن شهاب هي طبرية، وقيل: مدين وهي رواية عن الحبر، وعن ابن زيد أنها مقتا بين مدين وعينونا الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ أي قريبة منه مشرفة على شاطئه إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ أي يظلمون ويتجاوزون حدود الله تعالى بالصيد يوم السبت أو بتعظيمه، وإذ بدل من المسئول عنه بدل اشتمال أو ظرف للمضاف المصدر، قيل:
واحتمال كونه ظرفا لكانت أو حاضرة ليس بشيء إذ لا فائدة بتقييد الركون أو الحضور بوقت العدوان وضمير يعدون للأهل المقدر أو المعلوم من الكلام، وقيل: إلى القرية على سبيل الاستخدام، وقرىء «يعدون» بمعنى يعتدون أدغمت التاء في الداء ونقلت حركتها إلى العين ويَعْدُونَ من الإعداد حيث كانوا يعدون آلات الصيد يوم السبت وهم منهيون عن الاشتغال فيه بغير العبادة إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ ظرف ليعدون أو بدل بعد بدل، وإلى الأول ذهب أكثر المعربين، وهو الأولى لأن السؤال عن عدوانهم أبلغ في التقريع، وحيتان جمع حوت أبدلت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها كنون ونينات لفظا ومعنى وإضافتها إليهم باعتبار أن المراد الحيتان الكائنة في تلك الناحية التي هم فيها، وقيل: للإشعار باختصاصها بهم لاستقلالها بما لا يكاد يوجد في سائر أفراد الجنس من الخواص الخارقة للعادة، ولا يخفى بعده يَوْمَ سَبْتِهِمْ ظرف لتأتيهم أي تأتيهم يوم تعظيمهم لأمر السبت، وهو مصدر سبتت اليهود إذا عظمت
يوم السبت بترك العمل والتفرغ للعبادة فيه، وقيل: اسم لليوم والإضافة لاختصاصهم بأحكام فيه، ويؤيد الأول قراءة عمرو بن عبد العزيز «يوم اسباتهم»، وكذا النفي الآتي شُرَّعاً أي ظاهرة على وجه الماء كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قريبة من الساحل، وهو جمع شارع من شرع عليه إذا دنا وأشرف، وفي الشرع معنى الإظهار والتبيين، وقيل: حيتان شرع رافعة رؤوسها كأنه جعل ذلك إظهارا وتبيينا، وقيل: المعنى متتابعة ونسب إلى الضحاك، والظاهر أنها ظاهرة وهو نصب على الحال من الحيتان ووَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ أي لا يراعون أمر السبت وهو على حد قوله:
«على لاحب لا يهتدى بمناره» إذ المقصود انتفاء السبت والمراعاة
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه لا يَسْبِتُونَ
بضم حرف المضارعة من أسبت إذا دخل في السبت كأصبح إذا دخل في الصباح، وعن الحسن أنه قرأ لا يسبتون على البناء للمفعول بمعنى لا يدخلون في السبت ولا يؤمرون فيه بما أمروا به يوم السبت، وقرىء «لا يسبتون» بضم الباء والظرف متعلق بقوله سبحانه: لا تَأْتِيهِمْ أي لا تأتيهم يوم لا يسبتون كما كانت تأتيهم يوم السبت حذرا من صيدهم لاعتيادها أحوالهم وأن ذلك لمحض تقدير العزيز العليم، وتغيير السبك حيث قدم الظرف على الفعل ولم يعكس لما أن الإتيان يوم سبتهم مظنة كما قيل: لأن يقال فماذا حالها يوم لا يسبتون؟ فقيل: يوم لا يسبتون لا تأتيهم كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ أي نعاملهم معاملة المختبرين لهم ليظهر منهم ما يظهر فنؤاخذهم به، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها والتعجيب منها، والإشارة اما إلى الابتلاء السابق أو إلى الابتلاء المذكور بعد كما مر غير مرة وقيل: الإشارة إلى الإتيان يوم السبت وهي متصلة بما قبل أي لا تأتيهم كذلك الإتيان يوم السبت، والكاف في موضع نصب على الحال عند الطبرسي، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لمصدر مقدر أي اتيانا كائنا كذلك، وجملة نبلوهم استئناف مبني على السؤال عن حكمة اختلاف حال الحيتان بالإتيان تارة وعدمه أخرى بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم المستمر في كل ما يأتون ويذرون، وهو متعلق بما عنده، وتعلق إذ يعدون بنبلوهم وبما يبعدون على معنى نبلوهم وقت العدوان بالفسق مما لا ينبغي تخريج كتاب الله تعالى الجليل عليه وَإِذْ قالَتْ عطف على إذ يعدون مسوق لبيان تماديهم في العدوان وعدم انزجارهم عنه بعد العظات والإنذارات.
قال العلامتان الطيبي والتفتازاني: ولا يجوز أن يكون معطوفا على إذ تأتيهم وإن كان أقرب لفظا لأنه إما بدل أو ظرف فيلزم أن يدخل هؤلاء القائلون في حكم أهل العدوان وليس كذلك، وهذا على ما قيل على تقدير الظرفية ظاهر، وأما على تقدير الإبدال فلأن البدل أقرب إلى الاستقلال، واستظهر في بيان وجه ذلك أن زمان القول بعد زمان العدوان ومغاير له واعتبار كونه ممتدا كسنة مثلا يقع فيه ذلك كله تكلف من غير مقتض، والقول بأن العطف على ذاك يشعر أو يوهم أن القائلين من العادين في السبت لا من مطلق أهل القرية فيه ما فيه أُمَّةٌ مِنْهُمْ أي جماعة من صلحائهم الذين لم يألوا جهدا في عظتهم حين يئسوا من احتمال القبول لآخرين لم يقلعوا عن التذكير رجاء النفع والتأثير لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أي مستأصلهم بالكلية ومطهر وجه الأرض منهم أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً دون الاستئصال بالمرة، وقيل مهلكهم في الدنيا أو معذبهم في الآخرة لعدم إقلاعهم عما هم عليه من الفسق والترديد لمنع الخلو على هذا، وإيثار صيغة اسم الفاعل في الشقين للدلالة على تحقق كل من الإهلاك والتعذيب وتقررهما البتة كأنهما واقعان، وإنما قالوا ذلك مبالغة في أن الوعظ لا ينجع فيهم إذ المقصود لا تعظوا أو أتعظون فعدل عنه إلى السؤال عن السبب لاستغرابه لأن الأمر العجيب لا يدرى سببه أو سؤالا عن حكمة الوعظ ونفعه، وقيل: إن هذا تقاول وقع بين الصلحاء الواعظين كأنه قال بعضهم لبعض: لم نشتغل بما لا يفيد، ويحتمل على كلا القولين أن ذلك صدر من القائل
بمحصر من القوم فيكون متضمنا لحثهم على الاتعاظ فإن بت القول بهلاكهم أو عذابهم مما يلقي في قلوبهم الخوف والخشية، وقيل قائلو ذلك المعتدون في السبت قالوا: تهكما بالناصحين المخوفين لهم بالهلاك والعذاب، وفيه بعد كما ستقف عليه قريبا إن شاء الله تعالى قالُوا أي المقول لهم ذلك مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ أي نعظهم معذرة إليه تعالى على أنه مفعول وهو الأنسب بظاهر قولهم: لم تعظون أو نعتذر معذرة على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، وقيل: هو مفعول به للقول وهو إن كان مفردا في معنى الجملة لأنه الكلام الذي يعتذر به. والمعذرة في الأصل بمعنى العذر وهو التنصل من الذنب، وقال الأزهري: إنه بمعنى الاعتذار، وعداه بإلى لتضمنه معنى الإنهاء والإبلاغ، وفي إضافة الرب إلى ضمير المخاطبين نوع تعريض بالسائلين، وهذا الجواب على القولين الأولين ظاهر وعلى الأخير قيل إنه من تلقى السائل بغير ما يترقب فهو من الأسلوب الحكيم، وقرأ من عدا حفص. والمفضل «معذرة» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي موعظتنا معذرة إليه تعالى حتى لا ننسب إلى نوع تفريط في النهي عن المنكر وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ عطف على معذرة أي ورجاء أن يتقوا بعض التقاة فإن اليأس المحقق لا يحصل إلا بالهلاك، قال شيخ الإسلام: وهذا صريح في أن القائلين لم تعظون إلخ ليسوا من الفرقة الهالكة وإلا لوجب الخطاب اهـ.
وقد يوجه ذلك على ذلك القول بأنه التفات أو مشاكلة لتعبيرهم عن أنفسهم في السؤال بقوم وإما لجعله باعتبار غير الطائفة القائلين إلا أن كل ذلك خلاف الظاهر فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم ترك الناسي للشيء وأعرضوا عنه إعراضا كليا، فما موصولة وجوز أن تكون مصدرية، وهو خلاف الظاهر.
والنسيان مجاز عن الترك، واستظهر أنه استعارة حيث شبه الترك بالنسيان بجامع عدم المبالاة، وجوز أن يكون مجازا مرسلا لعلاقة السببية، ولم يحمل على ظاهره كما قال بعض المحققين لأنه غير واقع ولأنه لا يؤاخذ بالنسيان ولأن الترك عن عمد هو الذي يترتب عليه إنجاء الناهين في قوله سبحانه وتعالى:
أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ إذ لم يمتثلوا أمرهم بخلاف ما لو نسوه فإنه كان يلزمهم تذكيرهم وظاهر الآية ترتب الإنجاء على النسيان وهو في الحقيقة مرتب على النسيان والتذكير، وما في حيز الشرط مشير إليهما فكأنه قيل: فلما ذكر المذكرون ولم يتذكر المعتدون وأعرضوا عما ذكروا به أنجينا الأولين وأخذنا الآخرين، وعنوان النهي عن السوء شامل للذين قالوا لم تعظون إلخ وللمقول لهم ذلك، أما شموله للمقول لهم فواضح وأما شموله للقائلين فلأنهم نهوا أيضا إلا أنهم رأوا عدم النفع فكفوا وذلك لا يضرهم فقد نصوا على أنه إذا علم الناهي حال المنهي وأن النهي لا يؤثر فيه سقط عنه النهي وربما وجب الترك على ما قال الزمخشري لدخوله في باب العبث، ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على الطريق لأخذ أموال الفقراء وغيرهم بغير حق لتعظهم وتكفهم عما هم عليه كان ذلك عبثا منك ولم يكن إلا سببا للتلهي بك، ولم يعرض أولئك كما أعرض هؤلاء لعدم بلوغهم في اليأس كما بلغ إخوانهم أو لفرط حرصهم وجدهم في أمرهم كما وصف الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بقوله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ [الكهف: ٦].
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لا أدري ما فعلت الفرقة الساكتة وعنى بهم القائلين ومنشأ قوله هذا كما نطقت به بعض الروايات أنه سمع قوله سبحانه: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وقوله جلّ وعلا:
وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي بالاعتداء ومخالفة الأمر ولم يغص رضي الله تعالى عنه مع أنه الغواص فقال له عكرمة:
جعلني الله فداك ألا تراهم كيف أنكروا وكرهوا ما القوم عليه وقالوا ما قالوا وإن لم يقل الله سبحانه أنجيتهم لم يقل أهلكتهم فأعجبه قوله وأمر له ببردين وقال: نجت الساكتة، ونسب الطبرسي إليه رضي الله تعالى عنه قولين آخرين في الساكتة أحدهما القول بالتوقف وثانيهما القول بالهلاك وبه قال ابن زيد،
وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه
فالمأخوذ حينئذ الساكتون والظالمون
بِعَذابٍ بَئِيسٍ أي شديد وفسره الحبر بما لا رحمة فيه ويرجع إلى ما ذكره، وهو فعيل إما وصف أو مصدر كالنكير وصف به مبالغة، والأكثرون على كونه وصفا من بؤس يبؤس بأسا إذا اشتد.
وقال الراغب: البؤس والبأس والبأساء الشدة والمكروه إلا أن البؤس في الفقر والحرب أكثر والبأس والبأساء في النكاية، وقرأ أبوبكر «بيئس» على فيعل كضيغم وهو من الأوزان التي تكون في الصفات والأسماء، والياء إذا زيدت في المصدر هكذا تصيره اسما أو صفة كصقل وصيقل وعينه مفتوحة في الصحيح مكسورة في المعتل كسيد، ومن هنا قيل في قراءة عاصم في رواية عنه «بيئس» بكسر الهمزة إنها ضعيفة رواية ودراية ويخففها أن المهموز أخو المعتل، وقرأ ابن عامر «بئس» بكسر الباء وسكون الهمزة على أن أصله بئس بباء مفتوحة وهمزة مكسورة كحذر فسكن للتخفيف كما قالوا في كبد كبد وفي كلمة كلمة، وقرأ نافع «بيس» على قلب الهمزة ياء كما قلبت في ذيب لسكونها وانكسار ما قبلها، وقيل: إن هاتين القراءتين مخرجتان على أن أصل الكلمة بئس التي هي فعل ذم جعلت اسما كما في قيل وقال، والمعنى بعذاب مذموم مكروه، وقرىء «بيس» كريس وكيس على قلب الهمزة ياء ثم ادغامها في الياء، وقيل: على أنه من البؤس بالواو وأصله بيوس كميوت فأعل إعلاله و «بيس» على التخفيف كهين و «بائس» بزنة اسم الفاعل أي ذو بأس وشدة، وقرىء غير ذلك، وأوصل بعضهم ما فيه من القراءات إلى ست وعشرين، وتنكير العذاب للتفخيم والتهويل بِما كانُوا يَفْسُقُونَ متعلق بأخذنا كالباء الأولى ولا ضير فيه لاختلافهما معنى أي أخذناهم بما ذكر من العذاب بسبب فسقهم المستمر، ولا مانع من أن يكون ذلك سببا للأخذ كما كان سببا للابتداء وكذا لا مانع من تعليله بما ذكر بعد تعليله بالظلم الذي في حيز الصلة لأن ذلك ظلم أيضا، ولم يكتف بالأول لما لا يخفى فَلَمَّا عَتَوْا أي تكبروا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ أي عن ترك ذلك ففي الكلام تقدير مضاف إذ التكبر والإباء عن المنهي عنه لا يذم قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ صاغرين أذلاء مبعدين عن كل خير والأمر تكويني لا تكليفي لأنه ليس في وسعهم حتى يكلفوا به، وهذا كقوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: ٤٠] في أنه يحتمل أن يكون هناك قول وأن يكون الغرض مجرد التمثيل، والظاهر أن الله تعالى أوقع بهم نكالا في الدنيا غير المسخ فلم يقلعوا عما كانوا عليه فمسخهم قردة.
وجوز أن يكون المراد بالعذاب البئيس هو المسخ وتكون هذه الآية تفصيلا لما قبلها. روي عن ابن عباس أن اليهود إنما افترض عليهم اليوم الذي افترض عليكم وهو يوم الجمعة فخالفوا إلى يوم السبت واختاروه فحرم عليهم الصيد فيه وابتلوا به فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا بيضا سمانا حتى لا يرى الماء من كثرتها فمكثوا ما شاء تعالى لا يصيدون ثم أتاهم الشيطان فقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا الحياض والشبكات فكانوا يسوقون الحيتان إليها فيه ثم يأخذونها يوم الأحد، وفي رواية أن رجلا منهم أخذ حوتا فحزمه بخيط ثم ضرب له وتدا في الساحل وربطه فيه وتركه في الماء فلما كان الغد جاء فأخذه وأكله فلاموه على ذلك فلما لم يأته العذاب أخذ في السبت القابل حوتين وفعل ما فعل ولم يصبه شيء فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم تجاسروا فأخذوا وملحوا وباعوا وكانوا نحوا من اثني عشر ألفا أو من سبعين ألفا فصار أهل القرية أثلاثا كما قص الله تعالى فقال المسلمون للمعتدين نحن لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب وكانت القصة في زمن داود عليه السلام فلعنهم فأصبح المسلمون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد فقالوا: إن لهؤلاء لشأنا لعل الخمر غلبتهم فعلوا على الجدار فإذا القوم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القردة أنسابها من الإنس ولم تعرف الإنس أنسابهم منها فجعلت تأتي إلى نسيبها فتشم ثيابه وتبكي فيقول: ألم ننهكم فتقول القردة برأسها نعم ثم ماتوا بعد ثلاثة. وعن قتادة أن الشبان صاروا قردة والشيوخ خنازير،
وعن مجاهد أنه مسخت قلوبهم فلم يوفقوا لفهم الحق. وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن قال: كان حوتا حرمه الله عليهم في يوم وأحله لهم فيما سوى ذلك فكان يأتيهم في اليوم الذي حرمه الله تعالى عليهم كأنه المخاض ما يمتنع من أحد فجعلوا يهمون ويمسكون وقلما رأيت أحدا أكثر الاهتمام بالذنب إلا واقعه حتى أخذوه فأكلوا والله أوخم أكلة أكلها قوم أثقلها خزيا في الدنيا وأطولها عذابا في الآخرة وايم الله تعالى ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله تعالى من قتل رجل مؤمن وللمؤمن أعظم حرمة عند الله سبحانه من حوت ولكن الله عزّ وجلّ جعل موعد قوم الساعة والساعة أدهى وأمر.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة أنه كان على شاطىء البحر الذي هم عنده صنمان من حجارة مستقبلان الماء يقال لأحدهما لقيم وللآخر لقمانة فأوحى الله تعالى إلى السمك أن حج يوم السبت إلى الصنمين وأوحى إلى أهل القرية إني قد أمرت السمك أن يحجوا إلى الصنمين يوم السبت فلا تتعرضوا فيه فإذا ذهب فشأنكم به فصيدوه فابتلي القوم ووقع منهم ما مسخوا به قردة وفي القلب من صحة هذا الأثر شيء ولعله لا صحة له كما لا يخفى على من يعرف معنى الحج من المصلين، ويشبه هذين الصنمين عين حق لان (١) قرب جزيرة الحديثة من العراق وهي قريبة من شاطىء الفرات فإن السمك يزورها في أيام مخصوصة من السنة حتى يخيل أنه لم يبق في بطن الفرات حوت إلا قذف إليها فيصيد أهل ذلك الصقع منه ما شاء الله تعالى وينقلونه إلى الجزائر والقرى القريبة منهم كألوس وحبة وعانات وهيت ثم ينقطع فلا ترى سمكة في العين بعد تلك الأيام إلى مثلها من قابل وسبحان الفعال لما يريد، واستدل بعض أهل العلم بقصة هؤلاء المعتدين على حرمة الحيل في الدين، وأيد ذلك بما
أخرجه ابن بطة عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «قال لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل»
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ منصوب بمضمر معطوف على قوله سبحانه: وَسْئَلْهُمْ وتأذن تفعل من الإذن وهو بمعنى آذن أي اعلم والتفعل يجيء بمعنى الأفعال كالتوعد والإيعاد، وإلى هذا يؤول ما روي عن ابن عباس من أن المعنى قال ربك، وفسره بعضهم بعزم وهو كناية عنه أو مجاز لأن العازم على الأمر يشاور نفسه في الفعل والترك ثم يجزم فهو يطلب من النفس الإذن فيه، وفي الكشف لو جعل بمعنى الاستئذان دون الإيذان كأنه يطلب الإذن من نفسه لكان وجها، وحيث جعل بمعنى عزم وكان العازم جازما فسر عزم بجزم وقضى فأفاد التأكيد فلذا أجري مجرى القسم، وأجيب بما يجاب به وهو هنا لَيَبْعَثَنَّ وجاء عزمت عليك لتفعلن، ولا يرد على هذا أنه مقتضى لجواز نسبة العزم إليه تعالى وقد صرح بمنع ذلك لأن المنع مدفوع فقد ورد عزمة من عزمات الله تعالى عَلَيْهِمْ أي اليهود لا المعتدين الذين مسخوا قردة إذ لم يبقوا كما علمت، ويحتمل عود الضمير عليهم بناء على ما روي عن الحسن. والمراد حينئذهم وأخلاقهم، وعوده إلى اليهود والنصارى ليس بشيء وإن روي عن مجاهد، والجار متعلق بيبعثن على معنى يسلط عليهم البتة إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي إلى انتهاء الدنيا وهو متعلق بيبعث، وقيل:
بتأذن وليس بالوجه ولا يصح كما لا يخفى تعلقه بالصلة في قوله سبحانه: مَنْ يَسُومُهُمْ يذيقهم ويوليهم سُوءَ الْعَذابِ كالإذلال. وضرب الجزية. وعدم وجود منعة لهم. وجعلهم تحت الأيدي وغير ذلك من فنون العذاب، وقد بعث الله تعالى عليهم بعد سليمان عليه الصلاة والسلام بخت نصرّ فخرب ديارهم وقتل مقاتلتهم وسبى نساءهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم وكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ففعل ما فعل ثم ضرب الجزية عليهم فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر.