آيات من القرآن الكريم

وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ۚ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ۘ اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ
ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ

هارون ذكر له أنه نبي بحكم الأصالة ورسول بحكم التبعية فلعل هذا الاستخلاف من آثار تلك التبعية، وقيل: إن هذا كما يقول أحد المأمورين بمصلحة للآخر إذا أراد الذهاب لأمر: كن عوضا عني على معنى ابذل غاية وسعك ونهاية جهدك بحيث يكون فعلك فعل شخصين وَأَصْلِحْ ما يحتاج إلى الإصلاح من أمور دينهم، أو كن مصلحا على أنه منزل منزلة اللازم من غير تقدير مفعول.
وعن ابن عباس أنه يريد الرفق بهم والإحسان إليهم، وقيل: المراد احملهم على الطاعة والصلاح وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ أي ولا تتبع سبيل من سلك الإفساد بدعوة وبدونها، وهذا من باب التوكيد كما لا يخفى.
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا أي لوقتنا الذي وقتناه أي لتمام الأربعين، واللام للاختصاص كما في قوله

صفحة رقم 43

سبحانه: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: ٧٨] وهي بمعنى عند عند بعض النحويين وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ من غير واسطة بحرف وصوت ومع هذا لا يشبه كلام المخلوقين ولا محذور في ذلك كما أوضحناه في الفائدة الرابعة، وإلى ما ذكره ذهب السلف الصالح،
وقد أخرج البزار وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية. والبيهقي في الأسماء والصفات عن جابر قال: قال «رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لما كلم الله تعالى موسى يوم الطور كلمه بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه فقال له موسى: يا رب أهذا كلامك الذي كلمتني به؟ قال يا موسى: أنا كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأقوى من ذلك فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا: يا موسى صف لنا كلام الرحمن، فقال: لا تستطيعونه ألم تروا إلى صوت الصواعق الذي يقبل في أحلى حلاوة سمعتوه فذاك قريب منه وليس به».
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية قال: «إنما كلم الله تعالى موسى بقدر ما يطيق من كلامه ولو تكلم بكلامه كله لم يطقه شيء» وأخرج جماعة عن كعب قال: «لما كلم الله تعالى موسى كلمه بالألسنة كلها فجعل يقول: يا رب لا أفهم حتى كلمه آخر الألسنة بلسانه بمثل صوته» الخبر، وأخرجوا عن ابن كعب القرظي أنه قال: قيل لموسى عليه السلام ما شبهت كلام ربك مما خلق؟ فقال عليه السلام: بالرعد الساكن،
وأخرج الديلمي عن أبي هريرة مرفوعا لما خرج أخي موسى إلى مناجاة ربه كلمه ألف كلمة ومائتي كلمة فأول ما كلمه بالبربرية،
ونقل عن الأشعري أن موسى عليه السلام إنما سمع الكلام النفسي القائم بذات الله تعالى ولم يكن ما سمعه مختصا بجهة من الجهات، وحمله الى سماع بالفعل مشكل مع الأخبار الدالة على خلافه والظاهر أن ذلك إن صح نقله فهو قول رجع عنه إلى مذهب السلف الذي أبان عن اعتقاده له في الإبانة قالَ رَبِّ أَرِنِي أي ذاتك أو نفسك فالمفعول الثاني محذوف لأنه معلوم، ولم يصرح به تأدبا أَنْظُرْ إِلَيْكَ مجزوم في جواب الدعاء، واستشكل بأن الرؤية مسببة عن النظر متأخرة عنه كما يريك ذلك النظر إلى قولهم: نظرت إليه فرأيته، ووجهه أن النظر تقليب الحدقة نحو الشيء التماسا لرؤيته والرؤية الإدراك بالباصرة بعد التقليب وحينئذ كيف يجعل النظر جوابا لطلب الرؤية مسببا عنه وهو عكس القضية.
وأجيب بأن المراد بالإراءة ليس إيجاد الرؤية بل التمكن منها مطلقا أو بالتجلي والظهور وهو مقدم على النظر وسبب له، ففي الكلام ذكر الملزوم وإرادة اللازم أي مكنى من رؤيتك أو تجل لي فأنظر إليك وأراك قالَ استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال رب العزة حين قال موسى عليه السلام ذلك، فقيل: قال: لَنْ تَرانِي أي لا قابلية لك لرؤيتي وأنت على ما أنت عليه، وهو نفي للإراءة المطلوبة على أتم وجه وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ استدراك لبيان أنه عليه السلام لا يطيق الرؤية، والمراد من الجبل طور سيناء كما ورد في غير ما خبر، وفي تفسير الخازن وغيره أن اسمه زبير بزاي مفتوحة وباء موحدة مكسورة وراء مهملة بوزن أمير فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ ولم يفتته التجلي فَسَوْفَ تَرانِي إذا تجليت لك فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أي ظهر له على الوجه اللائق بجنابه تعالى بعد جعله مدركا لذلك جَعَلَهُ دَكًّا أي مدكوكا متفتتا، والدك والدق اخوان كالشك والشق. وقال شيخنا الكوراني: إن الجبل مندرج في الأشياء التي تسبح بحمد الله بنص وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: ٤٤] المحمول على ظاهره عند التحقيق المستلزم لكونه حيا مدركا حياة وإدراكا لائقين بعالمه ونشأته، وقيل: هذا مثل لظهور اقتداره سبحانه وتعلق إرادته بما فعل بالجبل لا أن ثم تجليا وهو نظير ما قرر في قوله تعالى: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:
٨٢] من أن المراد أن ما قضاه سبحانه وأراد كونه يدخل تحت الوجود من غير توقف لا أن ثمة قولا. وتعقبه صاحب الفرائد بأن هذا المعنى غير مفهوم من الآية لأن تجلى مطاوع جليته أي أظهرته يقال: جليته فتجلى أي أظهرته فظهر

صفحة رقم 44

ولا يقدر تجلي اقتداره لأنه خلاف الأصل، على أن هذا الحمل بعيد عن المقصود بمراحل.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي والحاكم وصححاه. والبيهقي وغيرهم من طرق عن أنس بن مالك «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ إلخ قال هكذا وأشار بإصبعيه ووضع طرف إبهامه على أنملة الخنصر- وفي لفظ- على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل»
وعن ابن عباس أنه قال ما تجلى منه سبحانه للجبل إلا قدر الخنصر فجعله ترابا، وهذا كما لا يخفى من المتشابهات التي يسلك فيها طريق التسليم وهو أسلم وأحكم أو التأويل بما يليق بجلال ذاته تعالى. وقرأ حمزة والكسائي «دكاء» بالمد أي أرضا مستوية، ومنه قولهم ناقة دكاء للتي لم يرتفع سنامها. وقرأ يحيى بن وثاب «دكا» بضم الدار والتنوين جمع دكاء كحمر وحمراء أي قطعا دكا فهو صفة جمع، وفي شرح التسهيل لأبي حيان أنه أجري مجرى الأسماء فأجري على المذكر وَخَرَّ مُوسى أي سقط من هول ما رأى، وفرق بعضهم بين السقوط والخرور بأن الأول مطلق والثاني سقوط له صوت كالخرير صَعِقاً أي صاعقا وصائحا من الصعقة، والمراد أنه سقط مغشيا عليه عند ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم وميتا عند قتادة.
روي أنه بقي كذلك مقدار جمعة، وعن ابن عباس أنه عليه السلام أخذته الغشية عشية يوم الخميس يوم عرفة إلى عشية يوم الجمعة، ونقل بعض القصاصين أن الملائكة كانت تمر عليه حينئذ فيلكزونه بأرجلهم ويقولون يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة وهو كلام ساقط لا يعول عليه بوجه، فإن الملائكة عليهم السلام مما يجب تبرئتهم من إهانة الكليم بالوكز بالرجل والغض في الخطاب فَلَمَّا أَفاقَ بأن عاد إلى ما كان عليه قبل وذلك بعود الروح إليه على ما قال قتادة أو بعود الفهم والحس على ما قال غيره، والمشهور أن الافاقة رجوع العقل والفهم إلى الإنسان بعد ذهابهما عنه بسبب من الأسباب، ولا يقال للميت إذا عادت إليه روحه أفاق وإنما يقال ذلك للمغشي عليه ولهذا اختار الأكثرون ما قاله الحبر قالَ تعظيما لأمر الله سبحانه سُبْحانَكَ أي تنزيها لك من مشابهة خلقك في شيء، أو من أن يثبت أحد لرؤيتك على ما كان عليه قبلها، أو من أن أسألك شيئا بغير إذن منك تُبْتُ إِلَيْكَ من الإقدام على السؤال بغير إذن، وقيل: من رؤية وجودي والميل مع إرادتي وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بعظمتك وجلالك أو بأنه لا يراك أحد في هذه النشأة فيثبت على ما قيل، وأراد كما قال الكوراني أنه أول المؤمنين بذلك عن ذوق مسبوق بعين اليقين في نظره، وقيل: أراد أول المؤمنين بأنه لا يجوز السؤال بغير إذن منك.
واستدل أهل السنة المجوزون لرؤيته سبحانه بهذه الآية على جوازها في الجملة، واستدل بها المعتزلة النفاة على خلاف ذلك وقامت الحرب بينهما على ساق، وخلاصة الكلام في ذلك أن أهل السنة قالوا: إن الآية تدل على إمكان الرؤية من وجهين. الأول أن موسى عليه السلام سألها بقوله: رَبِّ أَرِنِي إلخ، ولو كانت مستحيلة فإن كان موسى عليه السلام عالما بالاستحالة فالعاقل فضلا عن النبي مطلقا فضلا عمن هو من أولي العزم لا يسأل المحال ولا يطلبه، وإن لم يكن عالما لزم أن يكون آحاد المعتزلة ومن حصل طرفا من علومهم أعلم بالله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز من النبي الصفي، والقول بذلك غاية الجهل والرعونة، وحيث بطل القول بالاستحالة تعين القول بالجواز، والثاني أن فيها تعليق الرؤية على استقرار الجبل وهو ممكن في نفسه وما علق على الممكن ممكن. واعترض الخصوم الوجه الأول بوجوه. الأول أنا لا نسلم أن موسى عليه السلام سأل الرؤية وإنما سأل العلم الضروري به تعالى إلا أنه عبر عنه بالرؤية مجازا لما بينهما من التلازم. والتعبير بأحد المتلازمين عن الآخر شائع في كلامهم، وإلى هذا ذهب أبو الهذيل بن العلاف وتابعه عليه الجبائي وأكثر البصريين. الثاني أنا سلمنا أنه لم يسأل العلم بل سأل الرؤية حقيقة لكنا نقول: إنه سأل رؤية علم من أعلام الساعة بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فمعنى

صفحة رقم 45

أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أرني أنظر إلى علم من أعلامك الدالة على الساعة، وإلى هذا ذهب الكعبي والبغداديون، الثالث أنا سلمنا أنه سأل رؤية الله تعالى نفسه حقيقة ولكن لم يكن ذلك لنفسه عليه السلام بل لدفع قومه لقائلي أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: ١٥٣] وإنما أضاف الرؤية إليه دونهم ليكون منعه أبلغ في دفعهم وردعهم عما سألوه تنبيها بالأعلى على الأدنى، وإلى هذا ذهب الجاحظ ومتبعوه، الرابع أنا سلمنا أنه سأل لنفسه لكن لا نسلم أن ذلك ينافي العلم بالإحالة إذ المقصود من سؤالها إنما هو أن يعلم الإحالة بطريق سمعي مضاف إلى ما عنده من الدليل العقلي لقصد التأكيد، وذلك جائز كما يدل عليه طلب إبراهيم عليه السلام اراءة كيفية إحياء الموتى، وقوله: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: ٢٦٠] وإلى ذلك ذهب أبو بكر الأصم، الخامس أنا سلمنا أن سؤال الرؤية ينافي العلم بالإحالة لكنا نلتزم القول بعدم العلم وهو غير قادح في نبوته عليه السلام فإن النبوة لا تتوقف على العلم بجميع العقائد الحقة أو جميع ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز بل على ما يتوقف عليه الغرض من البعثة والدعوة إلى الله تعالى وهو وحدانيته وتكليف عباده بالأوامر والنواهي تحريضا لهم على النعيم المقيم، وليس امتناع الرؤية من هذا القبيل، ويؤيد ذلك أنه سأل وقوع الرؤية في الدنيا وهي غير واقعة عندنا وعندكم، ونسب هذا القول إلى الحسن منا وهو غريب منه.
السادس أنا سلمنا العلم بالإحالة لكن لا نسلم امتناع السؤال وإنما يمتنع أن لو كان محرما في شرعه لم لا يجوز أن لا يكون محرما؟، السابع أنا سلمنا الحرمة لكن لا نسلم أن ذلك كبيرة لم لا يجوز أن يكون صغيرة وهي غير ممتنعة على الأنبياء عليهم السلام؟. وتكلموا على الوجه الثاني من وجهين: الأول أنا لا نسلم أنه علق الرؤية على أمر ممكن لأن التعليق لم يكن على استقرار الجبل حال سكونه وإلا لوجدت الرؤية ضرورة وجود الشرط لأن الجبل حال سكونه كان مستقرا بل على استقراره حال حركته وهو محال لذاته، والثالث أنا وإن سلمنا أن استقرار الجبل ممكن لكن لا نسلم أن المعلق بالممكن ممكن فإنه يصح أن يقال: إن انعدم المعلول انعدمت العلة، والعلة قد تكون ممتنعة العدم مع إمكان المعلول في نفسه كالصفات بالنسبة إلى الذات عند المتكلمين، والعقل الأول بالنسبة إليه تعالى عند الحكماء، فيجوز أن تكون الرؤية الممتنعة متعلقة بالاستقرار الممكن، والسر في جواز ذلك أن الارتباط بين المعلق والمعلق عليه إنما هو بحسب الوقوع بمعنى أنه إن وقع عدم المعلول وقع عدم العلة، والممكن الذاتي قد يكون ممتنع الوقوع الذاتي فيجوز التعليق بينهما وليس الارتباط بينهما بحسب الإمكان حتى يلزم إمكان المعلق عليه إمكان المعلق، ثم إنا وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه من الوجهين على جواز الرؤية فهو معارض بما يدل على عدم الجواز فإن لَنْ في الآية لتأبيد النفي وتأكيده وأيضا قول موسى عليه السلام: تُبْتُ إِلَيْكَ دليل كونه مخطئا في سؤاله ولو كانت الرؤية جائزة لما كان مخطئا، والزمخشري عامله الله تعالى بعدله زعم أن الآية أبلغ دليل على عدم إمكان الرؤية، وذكر في كشافه ما ذكر وقال: ثم أعجب من المتسمين بالإسلام المسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة فإنه من منصوبات أشياخهم، والقول ما قال بعض العدلية فيهم:

وجماعة سموا هواهم سنة لجماعة حمر لعمري موكفه
قد شبهوه بخلقه وتخوفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفه
وأجيب عن قولهم: إنه عليه السلام إنما سأل العلم الضروري بأنه لو كانت الرؤية بمعنى العلم الضروري لكان النظر المذكور بعد أيضا بمعناه وليس كذلك، فإن النظر الموصول بإلى نص في الرؤية لا يحتمل سواه فلا يترك للاحتمال. وفي شرح المواقف أن طلب العلم الضروري لمن يخاطبه ويناجيه غير معقول، وأورد عليه أن المراد هو العلم بهويته الخاصة، والخطاب لا يقتضي إلا العلم بوجه كمن يخاطبنا من وراء الجدار، والمراد بالعلم بالهوية

صفحة رقم 46

الخاصة انكشاف هويته تعالى على وجه جزئي بحيث لا يمكن عند العقل صدقه على كثيرين كما في المرئي بحاسة البصر، ولا شك في كونه ممكنا في حقه تعالى لأنه قادر على أن يخلق في العبد علما ضروريا بهويته الخاصة على الوجه الجزئي بدون استعمال الباصرة كما يخلق بعده، وفي عدم لزومه الخطاب فإنه إنما يقتضي العلم بالمخاطب بأمور كلية يمكن صدقها على كثيرين عند العقل وإن كانت في الخارج منحصرة في شخص واحد فهو من قبيل التعقل، وبهذا التحرير يعلم رصانة الإيراد ودفع ما أورد عليه، ويظهر منه ركاكة ما قاله الآمدي. من أن حمل الرؤية على العلم يلزم منه أن يكون موسى عليه السلام غير عالم بربه لئلا يلزم تحصيل الحاصل، ونسبة ذلك إلى الكليم من أعظم الجهالات لأنا نقول العلم بالهوية الخاصة على ما ذكرنا ليس من ضروريات النبوة ولا المكالمة كما لا يخفى. نعم يأبى هذا الحمل التعدية كما علمت ويبعده الجواب بلن تراني ولكن انظر إلخ كما هو ظاهر وإن تكلف له الزمخشري بما تمجه الأسماع.
وقيل: إنه لو ساغ هذا التأويل لساغ مثله في أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: ١٥٣] لتساوي الدلالة وهو ممتنع بالإجماع وجهرة لا يزيد على كون النظر موصولا بإلى. وأجيب عن قولهم: إنما سأله أن يريه علما من أعلام الساعة بأنه لا يستقيم لثلاثة أوجه.
أحدها أنه خلاف الظاهر من غير دليل. ثانيها أنه أجيب بلن تراني وهو إن كان محمولا على نفي ما وقع السؤال عنه من رؤية بعض الآيات فهو خلف فإنه قد أراه سبحانه أعظم الآيات وهو تدكدك الجبل، وإن كان محمولا على نفي الرؤية لزم أن لا يكون الجواب مطابقا للسؤال. ثالثها أن قوله سبحانه: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي إن كان محمولا على رؤية الآية فهو محال لأن الآية ليس في استقرار الجبل بل في تدكدكه، وإن كان محمولا على الرؤية لا يكون مرتبطا بالسؤال، فإذن لا ينبغي حمل ما في الآية على رؤية الآية، وعن قولهم: إن الرؤية وقعت لدفع قومه بأن ذلك خلاف الظاهر من غير دليل، وكون الدليل أخذ الصعقة ليس بشيء. وأيضا كان يجب عليه عليه السلام أن يبادر إلى ردعهم وزجرهم عن طلب ما لا يليق بجلال الله تعالى كما قال إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ عند قولهم: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ وقولهم: إن المقصود ضم الدليل السمعي إلى العقلي ليس بشيء إذ ذلك كان يمكن بطلب إظهار الدليل السمعي له من غير أن يطلب الرؤية مع إحالتها، وقصته تقدم الكلام فيها، وما ذكروه في الوجه الخامس ظاهر رده من تقرير الوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما أهل السنة، وحاصله أنه يلزمهم أن يكون الكليم عليه السلام دون آحاد المعتزلة علما ودون من حصل طرفا من الكلام في معرفة ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز، وهذه كلمة حمقاء وطريقة عوجاء لا يسلكها أحد من العقلاء، فإن كون الأنبياء عليهم السلام أعلم ممن عداهم بذاته تعالى وصفاته العلا مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان، وكون الرؤية في الدنيا غير واقعة عند الفريقين إن أريد به أنها غير ممكنة الوقوع فهو أول المسألة وإن أريد أنها ممكنة لكنها لا تقع لأحد فلا نسلم أنه أجمع على ذلك الفريقان، أما المعتزلة فلأنهم لا يقولون بإمكانها، وأما أهل السنة فلأن كثيرا منهم ذهب إلى أنها وقعت لنبينا صلّى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء، وهو قول ابن عباس. وأنس وغيرهما، وقول عائشة رضي الله تعالى عنها: من زعم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء، وهو قول ابن عباس. وأنس وغيرهما، وقول عائشة رضي الله تعالى عنها: من زعم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه فقد أعظم على الله سبحانه الفرية مدفوع أو مؤول بأن المراد من زعم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم في نوره الذي هو نوره أعني النور الشعشعاني الذي يذهب بالأبصار، وهو المشار إليه
في حديث «لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره»
فقد أعظم الفرية، ومن هذا يعلم ما في احتمال إرادة عدم الوقوع مع قطع النظر عن الإمكان وعدمه. وقولهم: إنه يجوز أن لا يكون ذلك الطلب محرما في شرعه فلا يمتنع يرد عليه أن دليل الحرمة ظاهر، فإن طلب المحال لو لم يكن حراما في شرعه عليه السلام لما بلغ في التشنيع على قومه حين طلبوا ما طلبوا على أنا لو سلمنا أنه ليس بحرام يقال: إنه لا فائدة فيه وما

صفحة رقم 47

كان كذلك فمنصب النبوة منزه عنه، ومن هذا يعلم ما في قولهم الأخير.
وأجيب عن قولهم: إن المعلق عليه هو استقرار الجبل حال حركته بأنهم إن أرادوا أن الشرط هو الاستقرار حال وجود الحركة مع الحركة فهو زيادة إضمار وترك لظاهر اللفظ من غير دليل فلا يصح، وإن أرادوا أن الشرط هو الاستقرار في الحالة التي وجدت فيها الحركة بدلا عن الحركة فلا يخفى جوازه، فكيف يدعى أنه محال لذاته؟، وبعضهم قال في الرد: إن المعلق عليه استقرار الجبل بعد النظر بدليل الفاء، وحين تعلقت إرادة الله تعالى بعدم استقراره عقيب النظر استحال استقراره وإن كان بالغير فعدل عن القول بالمحال بالذات إلى القول بالمحال بالغير لأن الغرض يتم به أيضا، وتعقبه السالكوتي وغيره بأنه ليس بشيء لأن استقرار الجبل حين تعلق إرادته تعالى بعدم استقراره أيضا ممكن بأن يقع بدله الاستقرار إنما المحال استقراره مع تعلق إرادته سبحانه بعدم الاستقرار، ولبعض فضلاء الروم هاهنا كلام نقله الشهاب لا تغرنك قعقعته فإن الظواهر لا تترك لمجرد الاحتمال المرجوح، وأجيب عن قولهم لا نسلم أن المعلق بالممكن ممكن إلخ بأن المراد بالممكن المعلق عليه الممكن الصرف والخالي عن الامتناع مطلقا، ولا شك أن إمكان المعلول فيما امتنع عدم علته ليس كذلك بل التعليق بينهما إنما هو بحسب الامتناع بالغير فإن استلزام عدم الصفات وعدم العقل الأول عدم الواجب من حيث إن وجود كل منهما واجب وعدمه ممتنع بوجود الواجب، وأما بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن الأمور الخارجة فلا استلزام بخلاف استقرار الجبل فإنه ممكن صرف غير ممتنع لا بالذات ولا بالعرض كما لا يخفى، على أن بعضهم نظر في صحة المثال لغة وإن كان فيه ما فيه، وما قيل: إنه ليس المقصود في الآية بيان جواز الرؤية وعدم جوازها إذ هو غير مسؤول عنه بل المقصود إنما هو بيان عدم وقوعها وعدم الشرط متكفل بذلك كلام لا طائل تحته، إذ الجواز وعدم الجواز من مستتبعات التعليق بإجماع جهابذة الفريقين، وما ذكروه في المعارضة من أن «لن» تفيد تأبيد النفي غير مسلم، ولو سلّم فيحتمل أن ذلك بالنسبة إلى الدنيا كما في قوله تعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة: ٩٥] فإن إفادة التأبيد فيه أظهر، وقد حملوه على ذلك أيضا لأنهم يتمنونه في الآخرة للتخلص من العقوبة، ومما يهدي إلى هذا أن الرؤية المطلوبة إنما هي الرؤية في الدنيا وحق الجواب أن يطابق السؤال، وقد ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم ما يدل على أن نفي الرؤية مقيد لا مطلق فليتبع بيانه عليه الصلاة والسلام،
فقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول. وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية رَبِّ أَرِنِي إلخ فقال: قال الله تعالى يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده ولا رطب إلا تفرق وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسادهم»
وهذا ظاهر في أن مطلوب موسى عليه السلام كان الرؤية في الدنيا مع بقائه على حالته التي هو عليها حين السؤال من غير أن يعقبها صعق لأن قوله عزّ وجلّ: إنه لن يراني حي إلخ لا ينفي إلا الرؤية في الدنيا مع الحياة لا الرؤية مطلقا، فمعنى لَنْ تَرانِي في الآية لن تراني وأنت باق على هذه الحالة لا لن تراني في الدنيا مطلقا فضلا عن أن يكون المعنى لن تراني مطلقا لا في الدنيا ولا في الآخرة. نعم إن هذا الحديث مخصص بما
صح مرفوعا وموقوفا أنه صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه ليلة الإسراء مع عدم الصعق،
ولعل الحكمة في اختصاصه صلّى الله عليه وسلّم بذلك أن نشأته عليه الصلاة والسلام أكمل نشأة وأعدلها صورة ومعنى لجامعيته صلّى الله عليه وسلّم للحقائق على وجه الاعتدال وهي فيه متجاذبة ومقتضى ذلك الثبات بإذن الله تعالى ومع ذلك فلم يقع له التجلي إلا في دار البقاء فاجتمع مقتضى الموطن مع مقتضى كمال اعتدال النشأة، وقد يقال أيضا على سبيل التنزيل: لو سلمنا دلالة لن على التأبيد مطلقا لكان غاية ذلك انتفاء وقوع الرؤية ولا يلزم منه انتفاء الجواز، والمعتزلة يزعمون ذلك وقولهم: قوله عليه السلام تُبْتُ إِلَيْكَ يدل على كونه مخطئا ليس بشيء لأن التوبة قد تطلق بمعنى الرجوع وإن لم يتقدمها ذنب، وعلى هذا فلا يبعد أن يكون المراد من تبت إليك أي رجعت إليك عن طلب الرؤية.

صفحة رقم 48

وذكر ابن المنير أن تسبيح موسى عليه السلام لما تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه، وأما التوبة في حق الأنبياء عليهم السلام فلا يلزم أن تكون عن ذنب لأن منزلتهم العلية تصان عن كل ما يحط عن مرتبة الكمال، وكان عليه عليه السلام نظرا إلى علو شأنه أن يتوقف في سؤال الرؤية على الإذن فحيث سأل من غير إذن كان تاركا الأولى بالنسبة إليه،
وقد ورد «حسنات الأبرار سيئات المقربين»،
وذكر الإمام الرازي نحو ذلك. وقال الآمدي: إن التوبة وإن كانت تستدعي سابقية الذنب إلا أنه ليس هناك ما يدل قطعا على أن الذنب في سؤاله بل جاز أن تكون التوبة عما تقدم قبل السؤال مما يعده هو عليه السلام ذنبا والداعي لذلك ما رأى من الأهوال العظيمة من تدكدك الجبل على ما هو عادة المؤمنين الصلحاء من تجديد التوبة عما سلف إذا رأوا آية وأمرا مهولا، وذكر أن قوله عليه السلام: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ليس المراد منه ابتداء الإيمان في تلك الحالة بل المراد به إضافة الأولية إليه لا إلى الإيمان، ولعل المراد من ذلك الإخبار الاستعطاف لقبول توبته عليه السلام عما هو ذنب عنده، وأراد بالمؤمنين قومه على ما روي عن مجاهد، وما يشير إليه كلام الزمخشري من أن الآية أبلغ دليل على عدم إمكان الرؤية لا يخفى ما فيه على من أحاط خبرا بما ذكرناه، ومن المحققين من استند في دلالة الآية على إمكانها بغير ما تقدم أيضا، وهو أنه تعالى أحال انتفاء الرؤية على عجز الرائي وضعفه عنها حيث قال له: لَنْ تَرانِي ولو كانت رؤيته تعالى غير جائزة لكان الجواب لست بمرئي، ألا ترى لو قال: أرني أنظر إلى صورتك ومكانك لم يحسن في الجواب أن يقال لن ترى صورتي ولا مكاني بل الحسن لست بذي صورة ولا مكان. وقال بعضهم بعد أن بين كون الآية دليلا على أن الرؤية جائزة في الجملة ببعض ما تقدم: ولذلك رده سبحانه بقوله: لَنْ تَرانِي دون لن أرى ولن أريك ولن تنظر إلي تنبيها على أنه عليه السلام قاصر عن رؤيته تعالى لتوقفها على معد في الرائي ولم يوجد فيه بعد، وذلك لأن لن أرى يدل على امتناع الرؤية مطلقا ولن أريك يقتضي أن المانع من جهته تعالى، وليس في لن تنظر تنبيه على المقصود لأن النظر لا يتوقف على معد وإنما المتوقف عليه الرؤية والإدراك، وعلل النيسابوري عدم كون الجواب لن تنظر إلى المناسب لأنظر إليك بأن موسى عليه السلام لم يطلب النظر المطلق وإنما طلب النظر الذي معه الإدراك بدليل أرني. وانتصر بعضهم للمعتزلة بأن لهم أن يقولوا: إن طلب الاراءة متضمن لطلب رفع الموانع من الرؤية وإيجاد ما تتوقف هي عليه لأن معنى ذلك مكني من الرؤية والتمكين إنما يتم بما ذكر من الرفع والإيجاد، وكان الظاهر في رد هذا الطلب لن أمكنك من رؤيتي لكن عدل عنه إلى لن تراني إشارة إلى استحالة الرؤية وعدم وقوعها بوجه من الوجوه، كأنه قيل: إن رؤيتك لي أمر محال في نفسه وتمكيني إنما يكون من الممكن، ولو لم يكن المراد ذلك بل كان المراد أنك لا قابلية لك لرؤيتي لكان لموسى عليه السلام أن يقول يا رب أنا أعلم عدم القابلية لكني سألتك التمكين وهو متضمن لسؤال إيجادها لأنها مما تتوقف الرؤية عليه، فعلى هذا لا يكون الجواب مفيدا لموسى عليه السلام ولا مقنعا له بخلافه على الأول، فيكون حينئذ هو المتعين. فإن قيل: القابلية وعدم القابلية من توابع الاستعداد وعدم الاستعداد وهما غير مجعولين، قلنا: هذا على ما فيه من الكلام العريض والنزاع الطويل مستلزم لمطلوبنا من امتناع الرؤية كما لا يخفى على من له أدنى استعداد لفهم الحقائق.
وأجيب بأن طلب التمكين من شيء إنما يتضمن طلب رفع الموانع التي في جانب المطلوب منه فقط على ما هو الظاهر لا مطلقا بحيث يشمل ما كان في جانب المطلوب منه وما كان في جانب الطالب، ويرشد إلى ذلك أن قولك:
لم يمكنّي زيد من قتل عمرو مثلا ظاهر في أنه حال بينك وبين قتله مع تهيئك له وارتفاع الموانع التي من قبلك عنه، فكأن موسى عليه السلام لما كلمه ربه هاج به الشوق إلى الرؤية كما قال الحسن: لأن عدو الله إبليس غاص في

صفحة رقم 49

الأرض حتى خرج من بين قدميه فوسوس إليه أنّ مكلمك شيطان فعند ذلك سألها كما قال السدي: وأعوذ بالله من اعتقاده فذهل عن نفسه وما فيها من الموانع فلم يخطر بباله إلا طلب رفع الموانع عنها من قبل الرب سبحانه فنبهه جل شأنه بقوله: لَنْ تَرانِي على وجود المانع فيه عن الرؤية وهو الضعف عن تحملها وأراه ضعف من هو أقوى منه عن ذلك بدك الجبل عند تجليه له، ففائدة الاستدراك على هذا أن يتحقق عنده عليه السلام أنه أضعف من أن يقوم لتجلي الرؤية، وهو على ما هو عليه، ويمكن أن تكون التوبة منه عليه السلام بعد أن أفاق من هذه الغفلة، وحينئذ لا شك أن الجواب ب لَنْ تَرانِي إلخ مفيد مقنع.
هذا وذكر بعض المحققين أن حاصل الكلام في هذا المقام أن موسى عليه السلام كان عالما بإمكان الرؤية ووقوعها في الدنيا لمن شاء الله تعالى من عباده عقلا والشروط التي تذكر لها ليست شروطا عقلية وإنما هي شروط عادية ولم يكن عالما بعدم الوقوع مع عدم تغير الحال حتى سمع ذلك من الرب المتعال، وليس في عدم العلم بما ذكر نقص في مرتبته عليه السلام لأنه من الأمور الموقوفة على السمع، والجهل بالأمور السمعية لا يعد نقصا، فقد صح أن أعلم الخلق على الإطلاق نبينا صلّى الله عليه وسلّم سئل عن أشياء فقال: سأسأل جبريل عليه السلام، وأن جبريل عليه السلام سئل فقال: سأسأل رب العزة، وقد قالت الملائكة: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة: ٣٢] وأن الآية لا تصلح دليلا على امتناع الرؤية على ما يقوله المعتزلة بل دلالتها على إمكانها في الجملة أظهر وأظهر، بل هي ظاهرة في ذلك دون ما يقوله الخصوم وما رواه أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في تفسير لَنْ تَرانِي: إنه لا يكون ذلك أبدا لا حجة لهم فيه لأنه غير واف بمطلوبهم، مع أن التأبيد فيه بالنسبة إلى عدم تغير الحال كما يدل عليه الخبر المروي عنه سابقا، وكذا ما رواه عنه أبو الشيخ إذ فيه: يا موسى إنه لا يراني أحد فيحيا قال موسى: رب إن أراك ثم أموت أحب إلي من أن لا أراك ثم أحيا، وما ذكره الزمخشري عن الأشياخ أنهم قالوا: إنه تعالى يرى بلا كيف هو المشهور.
ونقل المناوي أن الكمال بن الهمام سئل عما
رواه الدارقطني وغيره عن أنس من قوله صلّى الله عليه وسلّم «رأيت ربي في أحسن صورة»
بناء على حمل الرؤية في اليقظة فأجاب بأن هذا حجاب الصورة انتهى، وهو التجلي الصوري الشائع عند الصوفية، ومنه عندهم تجلي الله تعالى في الشجرة لموسى عليه السلام، وتجليه جل وعلا للخلق يوم يكشف عن ساق، وهو سبحانه وإن تجلى بالصورة لكنه غير متقيد بها والله من ورائهم محيط، والرؤية التي طلبها موسى عليه السلام غير هذه الرؤية، وذكر بعضهم أن موسى كان يرى الله تعالى إلا أنه لم يعلم أن ما رآه هو- هو- وعلى هذا الطرز يحمل ما جاء في بعض الروايات المطعون بها، رأيت ربي في صورة شاب، وفي بعضها زيادة له نعلان من ذهب، ومن الناس من حمل الرؤية في رواية الدارقطني على الرؤية المنامية، وظاهر كلام السيوطي أن الكيفية فيها لا تضر وهو الذي سمعته من المشايخ قدس الله تعالى أسرارهم، والمسألة خلافية، وإذا صح ما قاله المشايخ وأفهمه كلام السيوطي فأنا، ولله تعالى الحمد، قد رأيت ربي مناما ثلاث مرات وكانت المرة الثالثة في السنة السادسة والأربعين والمائتين والألف بعد الهجرة، رأيته جل شأنه وله من النور ما له متوجها جهة المشرق فكلمني بكلمات أنسيتها حين استيقظت، ورأيت مرة في منام طويل كأني في الجنة بين يديه تعالى وبيني وبينه ستر حبيك بلؤلؤ مختلف ألوانه فأمر سبحانه أن يذهب بي إلى مقام عيسى عليه السلام ثم مقام محمد صلّى الله عليه وسلّم فذهب بي إليهما فرأيت ما رأيت ولله تعالى الفضل والمنة.
ومنهم من حمل الصورة على ما به التميز والمراد بها ذاته تعالى المخصوصة المنزهة عن مماثلة ما عداه من

صفحة رقم 50

الأشياء البالغة إلى أقصى مراتب الكمال، وما ذكره من البيتين لبعض العدلية فهو في ذلك عثيثة تقرم جلدا أملسا والقول ما قاله تاج الدين السبكي فيهم:

عجبا لقوم ظالمين تلقبوا بالعدل ما فيهم لعمري معرفه
قد جاءهم من حيث لا يدرونه تعطيل ذات الله مع نفي الصفة
وتلقبوا عدلية قلنا نعم عدلوا بربهم فحسبهم سفه
وقال ابن المنير:
وجماعة كفروا برؤية ربهم هذا ووعد الله ما لن يخلفه
وتلقبوا عدلية قلنا أجل عدلوا بربهم فحسبوهم سفه
وتنعتوا الناجين كلا إنهم إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه
وبعد هذا كله نقول: إن الناس قد اختلفوا في أن موسى عليه السلام هل رأى ربه بعد هذا الطلب أم لا، فذهب أكثر الجماعة إلى أنه عليه السلام لم يره لا قبل الصعق ولا بعده. وقال الشيخ الأكبر قدس سره: إنه رآه بعد الصعق وكان الصعق موتا، وذكر قدس سره أنه سأل موسى عن ذلك فأجابه بما ذكر، والآية عندي غير ظاهرة في ذلك، وإلى الرؤية بعد الصعق ذهب القطب الرازي في تقرير كلام للزمخشري، إلا أن ذلك على احتمال أن تفسر بالانكشاف التام الذي لا يحصل إلا إذا كانت النفس فانية مقطوعة النظر عن وجودها فضلا عن وجود الغير فانه قال: إن موسى عليه السلام لما طلب هذه المرتبة من الانكشاف وعبر عن نفسه بأنا دل على أن نظره كان باقيا على نفسه وهي لا تكون كذلك إلا متعلقة بالعلائق الجسمانية مشوبة بالشوائب المادية لا جرم منع عنه هذه المرتبة وأشير إلى أن منعها إنما كان لأجل بقاء أنا وأنت في قوله: أرني ولن تراني، ثم لما لم يرد حرمانه عن حصول هذه المرتبة مع استعداده وتأهله لها علم طريق المعرفة بقوله سبحانه: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فإن الجبل مع عدم تعلقه لما لم يطق نظرة من نظرات التجلي فموسى عليه السلام مع تعلقه كيف يطيق ذلك فلما أدرك الرمز خر صعقا مغشيا عليه متجردا عن العلائق فانيا عن نفسه فحصل له المطلوب فلما أفاق علم أن طلبه الرؤية في تلك الحالة التي كان عليها كان سوء أدب فتاب عنه.
وذهب الشيخ إبراهيم الكوراني إلى أنه عليه السلام رأى ربه سبحانه حقيقة قبل الصعق فصعق لذلك كما دك الجبل للتجلي، وأيده بما
أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما تجلى الله تعالى لموسى عليه السلام كان يبصر دبيب النملة على الصفا في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ،
وبما
أخرجه عن أبي معشر أنه قال: مكث موسى عليه السلام أربعين ليلة لا ينظر إليه أحد إلا مات من نور رب العالمين»

وجمع بين هذا وبين
قوله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله تعالى أعطى موسى الكلام وأعطاني الرؤية وفضلني بالمقام المحمود والحوض المورود»
بأن الرؤية التي أعطاها لنبينا صلّى الله عليه وسلّم هي الرؤية مع الثبات والبقاء من غير صعق كما أن الكلام الذي أعطاه موسى كذلك بخلاف رؤية موسى عليه السلام فإنها لم تجمع له مع البقاء. وعلى هذا فمعنى
قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الدجال «إنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت هو أن أحدا لا يراه في الدنيا مع البقاء ولا يجمع له في الدنيا بينهما»
وفسر الآية بما لا يخلو عن خفاء.
والذاهبون إلى عدم الرؤية مطلقا يجيبون عما ذكره من حديث أبي هريرة وخبر أبي معشر بأن الثاني ليس فيه أكثر من إثبات سطوع نور الله تعالى على وجه موسى عليه السلام وليس في ذلك إثبات الرؤية لجواز أن يشرق نور منه

صفحة رقم 51

تعالى على وجهه عليه السلام من غير رؤية فإنه لا تلازم بين الرؤية وإشراق النور وبأن الأول ليس نصا في ثبوت الرؤية المطلوبة له عليه السلام لأنها كما قال غير واحد عبارة عن التجلي الذاتي ولله تعالى تجليات شتى غير ذلك فلعل التجلي الذي أشار إليه الحديث على تقدير صحة واحد منها، وقد يقطع بذلك فإنه سبحانه تجلى عليه عليه السلام بكلامه واصطفائه وقربه منه على الوجه الخاص اللائق به تعالى، ولا يبعد أن يكون هذا سببا لذلك الإبصار، وهذا أولى مما قيل: إن اللام في لموسى للتعليل ومتعلق تجلى محذوف أي لما تجلى الله تعالى للجبل لأجل إرشاد موسى كان عليه السلام يبصر بسبب إشراق بعض أنواره تعالى عليه حين التجلي للجبل ما يبصر.

تضوع مسكا بطن نعمان إذ مشت به زينب في نسوة خفرات
فالحق الذي لا ينبغي المحيص عنه أن موسى عليه السلام لم يحصل له ما سأل في هذا الميقات، والذي أقطع به أنه نال مقام قرب النوافل والفرائض الذي يذكره الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم بالمعنى الذي يذكرونه كيفما كان، وحاشا لله من أن أفضل أحدا من أولياء هذه الأمة وإن كانوا هم- هم- على أحد من أنبياء بني إسرائيل فضلا عن رسلهم مطلقا فضلا عن أولي العزم منهم «وقد ذكر بعض العارفين من باب الإشارة في هذه الآيات» أن الله تعالى واعد موسى عليه السلام ثلاثين ليلة للتخلص من حجاب الأفعال والصفات والذات كل عشرة للتخلص من حجاب، واختيرت العشرة لأنها عدد كامل كما تقدم الكلام عليه عند قوله سبحانه: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ، لكن بقيت منه بقية ما خلص عنها، واستعمال السواك في الثلاثين الذي نطقت به بعض الآثار إشارة إلى ذلك فضم إلى الثلاثين عشرة أخرى للتخلص من تلك البقية، وجاء أنه عليه السلام أمر بأن يتقرب إليه سبحانه بما يتقرب به في ثلاثين، وأنزلت عليه التوراة في العشرة التي ضمت إليها لتكمل أربعين، وهو إشارة إلى أنه بلغ الشهود الذاتي التام في الثلاثين بالسلوك إلى الله تعالى ولم يبق منه شيء بل فني بالكلية وفي العشرة الرابعة كان سلوكه في الله تعالى حتى رزق البقاء بعد الفناء بالإفاقة، قالوا: وعلى هذا ينبغي أن يكون سؤال الرؤية في الثلاثين والإفاقة بعدها، وكان التكليم في مقام تجلي الصفات وكان السؤال عن افراط شوق منه عليه السلام إلى شهود الذات في مقام فناء الصفات مع وجود البقية، ولَنْ تَرانِي إشارة إلى استحالة الاثنينية وبقاء الإنية في مقام المشاهدة، وهذا معنى قول من قال: رأيت ربي بعين ربي، وقوله سبحانه: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ إشارة إلى جبل الوجود، أي انظر إلى جبل وجودك فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي وهو من باب التعليق بالمحال عنده فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا أي متلاشيا لا وجود له وَخَرَّ مُوسى عن درجة الوجد صَعِقاً أي فانيا فَلَمَّا أَفاقَ بالوجود الموهوب الحقاني قالَ سُبْحانَكَ أن تكون مرئيا لغيرك تُبْتُ إِلَيْكَ عن ذنب البقية، أو رجعت إليك بحسب العلم والمشاهدة إذ ليس في الوجود سواك وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بحسب الرتبة، أي أنا في الصف الأول من صفوف مراتب الأرواح الذي هو مقام أهل الوحدة، وقد يقال: إن موسى إشارة إلى موسى الروح ارتاض أربعين ليلة لتظهر منه ينابيع الحكمة وقال لأخيه هارون القلب اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي من الأوصاف البشرية وَأَصْلَحَ ذات بينهم على وفق الشريعة وقانون الطريقة وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ من القوى الطبيعية، ولما حصل الروح على بساط القرب بعد هاتيك الرياضة وتتابعت عليه في روضات الأنس كاسات المحبة غرد بلبل لسانه في قفص فم وجوده فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ فقال له: هيهات ذاك وأين الثريا من يد المتناول؟ أنت بعد في بعد الاثنينية وحجاب جبل الأنانية فإن أردت ذلك فخل نفسك وائتني.

صفحة رقم 52

هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا... من الحب فاختر ذاك أو خل خلتي
فهان عليه الفناء في جانب رؤية المحبوب ولم يعز لديه كل شيء إذ رأى عزة المطلوب.
ونادي:
فقلت لها: روحي لديك وقبضها... إليك ومن لي أن تكون بقبضتي
وما أنا بالشاني الوفاء على الهوى... وشأني الوفا تأبى سواه سجيتي
فبذل وجوده وأعطى موجوده فتجلى ربه لجبل أنانيته ثم منّ عليه برؤيته وكان ما كان وأشرقت الأرض بنور ربها وطفىء المصباح إذ طلع الصباح وصدح هزار الأنس في رياض القدس بنغم.
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا... سر أرقّ من النسيم إذا سرى
وأباح طرفي نظرة أملتها... فغدوت معروفا وكنت منكرا
فدهشت بين جماله وجلاله... وغدا لسان الحال عني مخبرا
هذا والكلام في الرؤية طويل، وقد تكفل علم الكلام بتحقيق ذلك على الوجه الأكمل، والذي علينا إنما هو كشف القناع عما يتعلق بالآية، والذي نظنه أنا قد أدينا الواجب، ويكفي من القلادة ما أحاط بالجيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل قالَ يا مُوسى استئناف مسوق لتسليته عليه السلام من عدم الإجابة إلى سؤاله على ما اقتضته الحكمة كأنه قيل: إن منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظام ما أعطيتك فاغتنمه وثابر على شكره إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ أي اخترتك وهو افتعال من الصفوة بمعنى الخيار والتأكيد للاعتناء بشأن الخبر عَلَى النَّاسِ الموجودين في زمانك وهذا كما فضل قومه على عالمي زمانهم في قوله سبحانه: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: ٤٧، ١٢٢] بِرِسالاتِي أي بأسفار التوراة. وقرأ أهل الحجاز وروح برسالتي وَبِكَلامِي أي بتكليمي إياك بغير واسطة. أو الكلام على حذف مضاف أي بإسماع كلامي والمراد فضلتك بمجموع هذين الأمرين فلا يرد هارون عليه السلام لأنه لم يكن كليما على أن رسالته كانت تبعية أيضا وكان مأمورا باتباع موسى عليه السلام وكذلك لا يرد السبعون الذين كانوا معه عليه السلام في هذا الميقات في قول لأنهم وإن سمعوا الخطاب إلا أنهم ليس لهم من الرسالة شيء على أن المقصود بالتكليم الموجه إليه الخطاب هو موسى عليه السلام دونهم وبتخصيص الناس بما علمت خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم فلا يرد أن مجموع الرسالة والتكليم بغير واسطة وجد له عليه الصلاة والسلام أيضا على الصحيح، على أنا لو قلنا بأن التكليم بغير واسطة مخصوص به عليه السلام من بين الأنبياء صلّى الله عليه وسلّم لا يلزم منه تفضيله من كل الوجوه على غيره كنبينا عليه الصلاة والسلام فقد يوجد في الفاضل ما لا يوجد في الأفضل وإنما كان الكلام بلا واسطة سببا للشرف بناء على العرف الظاهر وقد قالوا شتان بين من اتخذه الملك لنفسه حبيبا وقربه إليه بلطفه تقريبا وبين من ضرب له الحجاب والحجاب وحال بينه وبين المقصود بواب ونواب، على أن من ذاق طعم المحبة ولو بطرف اللسان يعلم ما في تكليم المحبوب بغير واسطة من اللطف العظيم والبر الجسيم، وكلامه جل شأنه لموسى عليه السلام في ذلك الميقات كثير على ما دلت عليه الآثار، وقد سبق لك ما يدل على كميته من حديث أبي هريرة.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والبيهقي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى شأنه ناجى موسى عليه السلام بمائة ألف وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام فلما سمع كلام الآدميين مقتهم لما وقع في مسامعه من كلام الرب عزّ وجلّ فكان فيما ناجاه أن قال: يا موسى إنه لم يتصنع المتصنعون بمثل الزهد في الدنيا ولم يتقرب إلي المتقربون بمثل الورع عما حرمت عليهم

صفحة رقم 53

ولم يتعبد المتعبدون بمثل البكاء من خشيتي فقال موسى: يا رب وإله البرية كلها ويا مالك يوم الدين ويا ذا الجلال والإكرام ماذا أعددت لهم وماذا جزيتهم؟ قال: أما الزاهدون في الدنيا فإني أبيحهم جنتي حتى يتبؤوا فيها حيث شاؤوا وأما الورعون عما حرمت عليهم فإذا كان يوم القيامة لم يبق عبد إلا ناقشته الحساب وفتشت عما في يديه إلا الورعون فإني أجلّهم وأكرمهم وأدخلهم الجنة بغير حساب، وأما الباكون من خشيتي فأولئك لهم الرفيق الأعلى لا يشاركهم فيه أحد».
وأخرج آدم بن أبي إياس في كتاب العلم عن ابن مسعود قال: لما قرب الله تعالى موسى نجيا أبصر في ظل العرش رجلا فغبطه بمكانه فسأله عنه فلم يخبره باسمه وأخبره بعلمه فقال له: هذا رجل كان لا يحسد الناس على ما أتاهم الله تعالى من فضله، برا بالوالدين، لا يمشي بالنميمة ثم قال الله تعالى: يا موسى ما جئت تطلب؟ قال: جئت أطلب الهدى يا رب. قال: قد وجدت يا موسى. فقال: رب اغفر لي ما مضى من ذنوبي وما غبر وما بين ذلك وما أنت أعلم به مني وأعوذ بك من وسوسة نفسي وسوء عملي فقيل له: قد كفيت يا موسى. قال: يا رب أي العمل أحب إليك أن أعمله؟ قال: اذكرني يا موسى. قال: رب أي عبادك أتقى؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني. قال: رب أي عبادك أغنى؟ قال: الذي يقنع بما يؤتى. قال: رب أي عبادك أفضل؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: رب أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يطلب علم الناس إلى علمه لعله يسمع كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى. قال: رب أي عبادك أحب إليك عملا؟ قال: الذي لا يكذب لسانه، ولا يزني فرجه، ولا يفجر قلبه. قال: رب ثم أي على أثر هذا؟ قال: قلب مؤمن في خلق حسن. قال: رب أي عبادك أبغض إليك؟ قال: قلب كافر في خلق سيء. قال: رب ثم أي على أثر هذا؟ قال: جيفة بالليل بطال بالنهار،
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات. وأبو يعلى وابن حبان والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: قال موسى: يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به؟ قال: قل يا موسى لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقول هذا. قال: قل لا إله إلا الله. قال: لا إله إلا أنت يا رب. إنما أريد شيئا تخصني به. قال: يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة قال: لما ارتقى موسى طور سينا رأى الجبار في أصبعه خاتما فقال: هل مكتوب عليه شيء من أسمائي أو كلامي؟ قال: لا. قال فاكتب عليه لكل أجل كتاب.
وأخرج ابن أبي حاتم عن العلاء بن كثير قال: إن الله تعالى قال: يا موسى أتدري لم كلمتك؟ قال: لا يا رب قال: لأني لم أخلق خلقا تواضع لي تواضعك.
وللقصاص أخبار كثيرة موضوعة في أسئلة موسى عليه السلام ربه وأجوبته جل شأنه له لا ينبغي لمسلم التصديق بها فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أي أعطيتك من شرف الاصطفاء وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي معدودا في عدادهم بأن يكون لك مساهمة كاملة فيهم، وحاصله كن بليغ الشكر فإن ما أنعمت به عليك من أجلّ النعم.
أخرج ابن أبي شيبة عن كعب أنه قال: قال موسى عليه السلام: يا رب دلني على عمل إذا عملته كان شكرا لك فيما اصطنعت إلي، قال: يا موسى قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
قال: فكأن موسى أراد من العمل ما هو أنهك لجسمه مما أمر به فقال له: يا موسى لو أن السموات السبع الخبر وهو في معنى ما في خبر أبي سعيد.
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاجون إليه من الحلال والحرام والمحاسن والقبائح على ما قال الرازي وغيره وما أخرجه الطبراني والبيهقي في الدلائل عن محمد بن يزيد الثقفي قال: اصطحب قيس بن خرشة

صفحة رقم 54

وكعب الأحبار حتى إذا بلغا صفين وقف كعب ثم نظر ساعة ثم قال: ليهراقن بهذه البقعة من دماء المسلمين شيء لا يهراق ببقعة من الأرض مثله فقال قيس: ما يدريك فإن هذا من الغيب الذي استأثر الله تعالى به؟ فقال كعب: ما من الأرض شبر إلا مكتوب في التوراة التي أنزل الله تعالى على موسى ما يكون عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة ظاهر في أن كل شيء أعم مما ذكر، ولعل ذكر ذلك من باب الرمز كما ندعيه في القرآن مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ بدل من الجار والمجرور، أي كتبنا له كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام، وإلى هذا ذهب غير واحد من المعربين، وهو مشعر بأن مِنْ مزيدة لا تبعيضية، وفي زيادتها في الإثبات كلام، قيل: ولم تجعل ابتدائية حالا من موعظة وموعظة مفعول به لأنه ليس له كبير معنى، ولم تجعل موعظة مفعول له وإن استوفى شرائطه لأن الظاهر عطف تفصيلا عن موعظة، وظاهر أنه لا معنى لقولك كتبنا له من كل شيء لتفصيل كل شيء، وأما جعله عطفا على محل الجار والمجرور فبعيد من جهة اللفظ والمعنى.
والطيبي اختار هذا العطف وأن مِنْ تبعيضية وموعظة وحدها بدل، والمعنى كتبنا بعض كل شيء في الألواح من نحو السور والآيات وغيرهما موعظة وكتبنا فيها تفصيل كل شيء يحتاجون إليه من الحلال والحرام ونحو ذلك، وفي ذلك اختصاص الإجمال والتفصيل بالموعظة للإيذان بأن الاهتمام بهذا أشد والعناية بها أتم، ولكونها كذلك كثر مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم بالبشير النذير، وإشعار بأن الموعظة مما يجب أن يرجع إليه في كل أمر يذكر به، ألا يرى إلى أن أكثر الفواصل التنزيلية والردود على هذا النمط نحو أَفَلا تَتَّقُونَ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وإلى سورة الرحمن كيف أعيد فيها ما أعيد وذلك ليستأنف السامع به ادكارا واتعاظا ويجدد تنبيها واستيقاظا، وأنت تعلم أن البعد الذي أشرنا إليه باق على حاله، وقوله سبحانه: لِكُلِّ شَيْءٍ إما متعلق بما عنده أو بمحذوف كما قال السمين وقع صفة له، واختلف في عدد الألواح وفي جوهرها ومقدارها وكاتبها فقيل كانت عشرة ألواح، وقيل: لوحين، قال الزجاج: ويجوز أن يقال في اللغة للوحين ألواح وأنها كانت من زمرد أخضر، أمر الرب تعالى جبريل عليه السلام فجاء بها من عدن، وروي ذلك عن مجاهد، وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج قال: أخبرت أن الألواح كانت من زبرجد، وعن سعيد بن جبير قال: كانوا يقولون إنها كانت من ياقوتة وأنا أقول: إنها كانت من زمرد،
وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة كان طول اللوح اثني عشر ذراعا»
وعن الحسن أنها كانت من خشب نزلت من السماء، وأن طول كل عشرة أذرع، وقيل: أمر الله تعالى موسى عليه السلام بقطعها من صخرة صماء لينهاله فقطعها بيده وسقفها بأصابعه ولا يخفى أن أمثال هذا يحتاج إلى النقل الصحيح وإلا فالسكوت أولى إذ ليس في الآية ما يدل عليه، والمختار عندي أنها من خشب السدر إن صح السند إلى سلسلة الذهب، والمشهور عن ابن جريج أن كاتبها جبريل عليه السلام كتبها بالقلم الذي كتب به الذكر،
والمروي عن علي كرم الله تعالى وجهه ومجاهد وعطاء وعكرمة وخلق كثير أن الله تعالى كتبها بيده وجاء أنها كتبت وموسى عليه السلام يسمع صريف الأقلام التي كتبت بها
وهو المأثور عن الأمير كرم الله تعالى وجهه. وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: خلق الله تعالى آدم بيده وخلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده، ثم قال لأشياء كوني فكانت، وأخرج عبد بن حميد عن وردان بن خالد قال: خلق الله تعالى آدم بيده وخلق جبريل بيده وخلق القلم بيده وخلق عرشه بيده وكتب الكتاب الذي عنده لا يطلع عليه غيره بيده وكتب التوراة بيده وهذا كله من قبيل المتشابه، وفي بعض الآثار أنها كتبت قبل الميقات وأنزلت على ما قيل وهي سبعون وقر بعير يقرأ الجزء منه في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى عليهم السلام. ومما كتب فيها كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس

صفحة رقم 55

ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر أمته وما ادخر لهم عنده وما يسر عليهم في دينهم وما وسع عليهم فيما أحل لهم حتى إنه جاء أن موسى عليه السلام عجب من الخير الذي أعطاه الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأمته وتمنى أن يكون منهم.
وأخرج ابن مردويه. وأبو نعيم في الحلية وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: كان فيما أعطى الله تعالى موسى في الألواح يا موسى لا تشرك بي شيئا فقد حق القول مني لتلفحن وجوه المشركين النار، واشكر لي ولوالديك أقك المتالف وأنسئك في عمرك وأحيك حياة طيبة وأقلبك إلى خير منها، ولا تقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق فتضيق عليك الأرض برحبها والسماء بأقطارها وتبوء بسخطي والنار، ولا تحلف باسمي كاذبا ولا آثما فإني لا أطهر ولا أزكى من لم ينزهني ويعظم أسمائي، ولا تحسد الناس على ما أعطيتهم من فضلي ولا تنفس عليه نعمتي ورزقي فإن الحاسد عدو نعمتي راد لقضائي ساخط لقسمتي التي أقسم بين عبادي ومن يكون كذلك فلست منه وليس مني، ولا تشهد بما لم يع سمعك ويحفظ عقلك ويعقد عليه قلبك فإني واقف أهل الشهادات على شهاداتهم يوم القيامة ثم سائلهم عنها سؤالا حثيثا، ولا تزن ولا تسرق، ولا تزن بحليلة جارك فأحجب عنك وجهي وتغلق عنك أبواب السماء، وأحب للناس ما تحب لنفسك، ولا تذبحن لغيري فإني لا أقبل من القربان إلا ما ذكر عليه اسمي وكان خالصا لوجهي، وتفرغ لي يوم السبت وفرغ لي نفسك وجميع أهل بيتك ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله تعالى جعل السبت لموسى عليه السلام عيدا، واختار لنا الجمعة فجعلها عيدا»
فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي بجد وحزم قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والجملة على إضمار القول عطفا على كتبنا وحذف القول كثير مطرد، والداعي لهذا التقدير كما قال العلامة الثاني رعاية المناسبة لكتبنا له لأنه جاء على الغيبة، ولو كان بدله كتبنا لك لم يحتج إلى تقدير، وأما حديث عطف الإنشاء على الأخبار فلا ضير فيه لأنه يجوز إذا كان بالفاء.
وقيل: هو بدل من قوله سبحانه: فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وضعف بأن فيه الفصل بأجنبي وهو جملة كتبنا المعطوفة على جملة قالَ وهو تفكيك للنظم والضمير المنصوب للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء والعموم لا يكفي في عود ضمير الجماعة بدون تأويله بالجمع، وجوز عوده للتوراة بقرينة السياق، والقائل بالبدلية جعله عائدا إلى الرسالات والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الفاعل أي ملتبسا بقوة، وجوز أن يكون حالا من المفعول أي ملتبسة بقوة براهينها، والأول أوضح، وأن يكون صفة مفعول مطلق أي أخذا بقوة.
وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي أحسنها فالباء زائدة كما في قوله:
سود المحاجر لا يقرأن بالسور ويحتمل أن تكون بالباء أصلية وهو الظاهر، وحينئذ فهي إما متعلقة بيأخذوا بتضمينه معنى يعملوا أو هو من الأخذ بمعنى السيرة، ومنه أخذ أخذهم أي سار سيرهم وتخلق بخلائقهم كما نقول وإما متعلقة بمحذوف وقع حالا ومفعول يأخذوا محذوف أي أنفسهم كما قيل، والظاهر أنه مجزوم في جواب الأمر فيحتاج إلى تأويل لأنه لا يلزم من أمرهم أخذهم، أي إن تأمرهم ويوفقهم الله تعالى يأخذوا، وقيل: بتقدير لام الأمر فيه بناء على جواز ذلك بعد أمر من القول أو ما هو بمعناه كما هنا، وإضافة أفعل التفضيل هنا عند غير واحد كإضافته في زيد أحسن الناس وهي على المشهور محضة على معنى اللام، وقيل: إنها لفظية ويوهم صنيع بعضهم أنها على معنى في وليس به، والمعنى بأحسن الأجزاء التي فيها، ومعنى أحسنيتها اشتمالها على الأحسن كالصبر فإنه أحسن بالإضافة إلى الانتصار، أي مرهم يأخذوا بذلك على طريقة الندب والحث على الأفضل كقوله تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ [الزمر: ٥٥] أو المعنى بأحسن أحكامها والمراد به الواجبات فانها أحسن من المندوبات والمباحات أو هي والمندوبات على ما قيل فإنها أحسن من المباحات.

صفحة رقم 56

وقيل: إن الأحسن بمعنى البالغ في الحسن مطلقا لا بالإضافة وهو المأمور به ومقابله المنهي عنه، وإلى هذا يشير كلام الزجاج حيث قال: أمروا بالخير ونهوا عن الشر وعرفوا ما لهم وما عليهم فقيل: وَأْمُرْ قَوْمَكَ إلخ فافعل نظيره في قولهم: الصيف أحر من الشتاء فانه بمعنى الصيف في حره أبلغ من الشتاء في برده إذ تفضيل حرارة الصيف على حرارة الشتاء غير مرادة بلا شبهة ويقال هنا: المأمور به أبلغ في الحسن من المنهي عنه في القبح.
وتفصيل ما في المقام على ما ذكره الدماميني في تعليقه على المصابيح ونقله عنه الشهاب أن لأفعل أربع حالات. إحداها وهي الحالة الأصلية أن يدل على ثلاثة أمور: الأول اتصاف من هو له بالحدث الذي اشتق منه وبهذا كان وصفا، الثاني مشاركة مصحوبة في تلك الصفة، الثالث مزية مرصوفة على مصحوبة فيها، وبكل من هذين الأمرين فارق غيره من الصفات، وثانيتها أن يخلع عنه ما امتاز به من الصفات ويتجرد للمعنى الوصفي، وثالثتها أن تبقى عليه معانيه الثلاثة ولكن يخلع عنه قيد المعنى الثاني ويخلفه قيد آخر، وذلك أن المعنى الثاني وهو الاشتراك كان مقيدا بتلك الصفة التي هي المعنى الأول فيصير مقيدا بالزيادة التي هي المعنى الثالث، ألا ترى أن المعنى في قولهم العسل أحلى من الخل أن للعسل حلاوة وأن تلك الحلاوة ذات زيادة وأن زيادة حلاوة العسل أكثر من زيادة حموضة الخل، وقد قال ذلك ابن هشام في حواشي التسهيل وهو بديع جدا، ورابعتها أن يخلع عنه المعنى الثاني وهو المشاركة وقيد المعنى الثالث وهو كون الزيادة على مصاحبه فيكون للدلالة على الاتصاف بالحدث وعلى زيادة مطلقة لا مقيدة وذلك في نحو يوسف أحسن إخوته انتهى. وعدم اشتراك المأمور به والمنهي عنه في الحسن المراد مما لا شبهة فيه وإن كان الحسن مطلقا كما في البحر مشتركا فإن المأمور به أحسن من حيث الامتثال وترتب الثواب عليه والمنهي عنه حسن باعتبار الملاذ والشهوة. وقال قطرب كما نقله عنه محيي السنة: المعنى يأخذوا بحسنها وكلها حسن، وهو ظاهر في حمل أفعل على الحالة الثانية، وقيل: المعنى يأخذوا بها وأحسن صلة وليس له من القبول عائد. وقال الجبائي: المراد يأخذوا بالناسخ دون المنسوخ، وقيل: الأخذ بالأحسن هو أن تحمل الكلمة المحتملة لمعنيين أو لمعان على أشبه محتملاتها بالحق وأقربها للصواب، ولا ينبغي أن يحمل الأخذ على الشروع كما في قولك أخذ زيد يتكلم أي شرع في الكلام، والأحسن على العقائد فيكون المراد أمرهم ليشرعوا بالتحلي بالعقائد الحقة وهي لكونها أصول الدين وموقوفة عليها صحة الأعمال أحسن من غيرها من الفروع وهو متضمن لأمرهم بجميع ما فيها كما لا يخفى فإن أخذ بالمعنى المعنى من أفعال الشروع ليس هذا استعمالها المعهود في كلامهم على أن فيه بعد ما فيه، ومثل هذا كون ضمير أحسنها عائدا إلى قوة على معنى مرهم يأخذوها بأحسن قوة وعزيمة فيكون أمرا منه سبحانه أن يأمرهم بأخذها كما أمره به ربه سبحانه إلا أنه تعالى اكتفى في أمره عن ذكر الأحسن بما أشار إليه التنوين فإن ذلك خلاف المأثور المنساق إلى الفهم مع أنا لم نجد في كلامهم أحسن قوة ومفعول يأخذوا عليه محذوف كما في بعض الاحتمالات السابقة غير أنه فرق ظاهر بين ما هنا وما هناك.
سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ توكيد لأمر القوم بالأخذ بالأحسن وبعث عليه على نهج الوعيد والترهيب بناء على ما روي عن قتادة وعطية العوفي من أن المراد بدار الفاسقين دار فرعون وقومه بمصر ورأى بصرية، وجوز أن تكون علمية والمفعول الثالث محذوف أي سأريكم إياها خاوية على عروشها لتعتبروا وتجدوا ولا تهاونوا في امتثال الأمر ولا تعملوا أعمال أهلها ليحل بكم ما حل بهم، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وحسن موقعه قصد المبالغة في الحث وفي وضع الاراءة موضع الاعتبار إقامة السبب مقام المسبب مبالغة أيضا كقوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [النمل: ٦٩] وفي وضع دار الفاسقين موضع أرض مصر الاشعار بالعلية والتنبيه على أن

صفحة رقم 57

يحترزوا ولا يستنوا بسنتهم من الفسق، والسين للاستقبال لأن ذلك قبل الرجوع إلى مصر كما في الكشف.
وقال الكلبي: المراد بدار الفاسقين منازل عاد وثمود والقرون الذين هلكوا، وعن الحسن وعطاء أن المراد بها جهنم، وأيا ما كان فالكلام على النهج الأول أيضا، ويجوز أن يكون على نهج الوعد والترغيب بناء على ما روي عن قتادة أيضا من أن المراد بدار الفاسقين أرض الجبابرة والعمالقة بالشام فإنها مما أبيح لبني إسرائيل وكتب لهم حسبما ينطق به قوله عزّ وجلّ: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: ٢١] ومعنى الإراءة الإدخال بطريق الايراث، ويؤيده قراءة بعضهم «سأورثكم» وجوز على هذا أن يراد بالدار مصر، وفي الكلام على هذه القراءة وإرادة أرض مصر من الدار تغليب لأن المعنى سأورثك وقومك أرض مصر، ولا يصح ذلك عليها إذا أريد من الدار أرض الجبابرة بناء على أن موسى عليه السلام لم يدخلها وإنما دخلها مع القوم بعد وفاته عليه السلام، ويصح بناء على القول بأن موسى عليه السلام دخلها ويوشع على مقدمته، وجوز اعتبار التغليب على القراءة المشهورة أيضا، وقرأ الحسن «سأوريكم» بضم الهمزة وواو ساكنة وراء خفيفة مكسورة وهي لغة فاشية في الحجاز، والمعنى سأبين لكم ذلك وأنوره على أنه من أوريت الزند، واختار ابن جني في تخريج هذه القراءة ولعله الأظهر أنها على الإشباع كقوله:
من حيثما سلكوا ادنو فانظروا سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ استئناف مسوق على ما قال شيخ الإسلام لتحذيرهم عن التكبر الموجب لعدم التفكر في الآيات التي كتبت في ألواح التوراة المتضمنة للمواعظ والأحكام أو ما يعمها وغيرها من الآيات التكوينية التي من جملتها ما وعدوا إراءته من دار الفاسقين، ومعنى صرفهم عنها منعهم بالطبع على قلوبهم فلا يكادون يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها لإصرارهم على ما هم عليه من التكبر والتجبر كقوله سبحانه: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: ٥] أي سأطبع على قلوب الذين يعدون أنفسهم كبراء ويرون أن لهم ارتفاعا في العالم السفلي ومزية على الخلق فلا ينتفعون بآياتي ولا يغتنمون مغانم آثارها فلا تسلكوا مسلكهم فتكونوا أمثالهم. وقيل: هو جواب سؤال مقدر ناشىء من الوعد بإدخال أرض الجبابرة والعمالقة على أن المراد بالآيات ما تلي آنفا ونظائره وبالصرف عنها إزالة المتكبرين عن مقام معارضتها وممانعتها لوقوع أخبارها وظهور أحكامها وظهور أحكامها وآثارها بإهلاكهم على يد موسى أو يوشع عليهما السلام، كأنه قيل: كيف ترى دارهم وهم فيها؟ فقيل لهم: سأهلكهم، وإنما عدل إلى الصرف ليزدادوا ثقة بالآيات واطمئنانا بها وعلى هذين القولين يكون الكلام مع موسى عليه السلام، والآية متعلقة إما بقوله سبحانه: سَأُرِيكُمْ وإما بما تقدمه على الوجه الذي أشير إليه آنفا، وجوز الطيبي كونها متصلة بقوله تعالى: وَأْمُرْ إلخ على معنى الأمر كذلك وأما الإرادة فإني سأصرف عن الأخذ بآياتي أهل الطبع والشقاوة، وقيل:
الكلام مع كافري مكة والآية متصلة بقوله عن شأنه: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها [الأعراف:
١٠٠] الآية، وإيراد قصة موسى عليه السلام وفرعون للاعتبار أي سأصرف المتكبرين عن إبطال الآيات وإن اجتهدوا كما فعل فرعون فعاد عليه فعله بعكس ما أراد، وقيل: إن الآية على تقدير كون الكلام مع قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اعتراض في خلال ما سيق للاعتبار ومن حق من ساق قصة له أن ينبه على مكانه كلما وجد فرصة التمكن منه، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع أن في المؤخر نوع طول يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الجليل، واحتج بالآية بعض أصحابنا على أن الله تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصد عنه وهو ظاهر على تقدير أن يراد بالصرف المنع عن الإيمان وليس بمتعين كما علمت، وقد خاض المعتزلة في تأويلها فأولوها بوجوه ذكرها الطبرسي بِغَيْرِ الْحَقِّ إما صلة للتكبر على معنى يتكبرون ويتعززون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل

صفحة رقم 58

وظلمهم المفرط أو متعلق بمحذوف هو حال من فاعله أي يتكبرون ملتبسين بغير الحق وما له يتكبرون غير محقين لأن التكبر بحق ليس إلا لله تعالى كما
في الحديث القدسي الذي أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما قذفته في النار».
وقيل: المراد أنهم يتكبرون على من لا يتكبر كالأنبياء عليهم السلام لأنه الذي يكون بغير حق، وأما التكبر على المتكبر صدقة، وأنت تعلم أن هذا صورة تكبر لا تكبر حقيقة فلعل مراد هذا القائل: إن التقييد بما ذكر لاظهار أنهم يتكبرون حقيقة.
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها عطف على يتكبرون داخل معه في حكم الصلة، والمراد بالآية إما المنزلة فالمراد برؤيتها مشاهدتها والإحساس بها بسماعها أو ما يعمها وغيرها من المعجزات، فالمراد برؤيتها مطلق المشاهدة المنتظمة للسماع والإبصار، وفسر بعضهم الآيات فيما تقدم بالمنصوبة في الآفاق والأنفس، والآية هنا بالمنزلة أو المعجزة لئلا يتوهم الدور على ما قيل فليفهم، وجوز أن يكون عطفا على سأصرف للتعليل على منوال قوله سبحانه:
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ [النمل: ١٥] على رأي صاحب المفتاح، وأيا ما كان فالمراد عموم النفي لا نفي العموم أي كفروا بكلّ أية آية وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ أي طريق الهدى والسداد لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي لا يتوجهون إليه ولا يسلكونه أصلا لاستيلاء الشيطنة عليهم.
وقرأ حمزة والكسائي «الرّشد» بفتحتين، وقرىء «الرشاد» وثلاثها لغات كالقسم والسقم والسقام، وفرق أبو عمرو كما قال الجبائي بين الرشد والرشد بأن الرشد بالضم الصلاح في الأمر والرشد بالفتح الاستقامة في الدين، والمشهور عدم الفرق وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ أي طريق الضلال يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي يختارونه لأنفسهم مسلكا مستمرا لا يكادون يعدلون عنه لموافقته لأهوائهم وإفضائه بهم إلى شهواتهم ذلِكَ أي المذكور من التكبر وعدم الإيمان بشيء من الآيات وإعراضهم عن سبيل الهدى وإقبالهم التام إلى سبيل الضلال حاصل بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على بطلان ما اتصفوا به من القبائح وعلى حقية أضدادها وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ غير معتدين بها فلا يتكفرون فيها وإلا لما فعلوا ما فعلوا من الأباطيل، وجوز غير واحد أن يكون ذلك إشارة إلى الصرف، وما فيه البحث يدفع بأدنى عناية كما لا يخفى على من مدت إليه العناية أسبابها، وأيا ما كان فاسم الإشارة مبتدأ والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا عنه كما أشرنا إليه.
وقيل: محل اسم الإشارة النصب على المصدر أي سأصرفهم ذلك الصرف بسبب تكذيبهم بآياتنا وغفلتهم عنها، ولا مانع من كون العامل أصرف المقدم لأن الفاصل ليس بأجنبي وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي لقائهم الدار الآخرة على أنه من إضافة المصدر إلى المفعول وحذف الفاعل أو لقائهم ما وعده الله تعالى في الآخرة من الجزاء على أن الإضافة إلى الظرف على التوسع. والمفعول مقدر كالفاعل ومحل الموصول في الاحتمالين الرفع على الابتداء، وقوله تعالى: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ خبره أي ظهر بطلان أعمالهم التي كانوا عملوها من صلة الأرحام وإغاثة الملهوفين بعد ما كانت مرجوة النفع على تقدير إيمانهم بها، وحاصله أنهم لا ينتفعون بأعمالهم وإلا فهي أعراض لا تحبط حقيقة هَلْ يُجْزَوْنَ أي لا يجزون يوم القيامة.
إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إلا جزاء ما استمروا على عمله من الكفر والمعاصي وتقدير هذا المضاف لظهور أن المجزى ليس نفس العمل، وقيل: إن أعمالهم تظهر في صور ما يجزون به فلا حاجة إلى التقدير، وهذه الجملة مستأنفة، وقيل: هي الخبر والجملة السابقة في موضع الحال بإضمار قد، واحتجت الأشاعرة على ما قيل بهذه الآية

صفحة رقم 59

على فساد قول أبي هاشم أن تارك الواجب يستحق العقاب وإن لم يصدر عنه فعل الضد لأنها دلت على أنه لا جزاء إلا على عمل وترك الواجب ليس به.
وأجاب أبو هاشم بأني لا أسمي ذلك العقاب جزاء، ورد بأن الجزاء ما يجزي أي يكفي في المنع عن المنهي عنه والحث على المأمور به والعقاب على ترك الواجب كاف في الزجر عن ذلك الترك فكان جزاء.
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد ذهابه إلى الجبل لمناجاة ربه سبحانه مِنْ حُلِيِّهِمْ جمع حلي كثدي وثدي وهو ما يتخذ للزينة ويتحلى به من الذهب والفضة، والجار والمجرور متعلق باتخذ كمن بعده من قبله ولا ضير في ذلك لاختلاف معنى الجارين فإن الأول للابتداء والثاني للتبعيض، وقيل: للابتداء أيضا، وتعلقه بالفعل بعد تعلق الأول به واعتباره معه، وقيل: الجار الثاني متعلق بمحذوف وقع حالا مما بعده إذ لو تأخر لكان صفة له، وإضافة الحلي إلى ضمير القوم لأدنى ملابسة لأنها كانت للقبط فاستعاروها منهم قبيل الغرق فبقيت في أيديهم وقيل: إنها على ما يتبادر منها بناء على أن القوم ملكوها بعد أن ألقاها البحر على الساحل بعد غرق القبط أو بعد أن استعاروها منهم وهلكوا. قال الإمام: روي أنه تعالى لما أراد إغراق فرعون وقومه لعلمه أنه لا يؤمن أحد منهم أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط ليخرجوا خلفهم لأجل المال أو لتبقى أموالهم في أيديهم.
واستشكل ذلك بكونه أمرا بأخذ مال الغير بغير حق، وإنما يكون غنيمة بعد الهلاك مع أن الغنائم لم تكن حلالا لهم
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي أحلت لي الغنائم» الحديث
على أن ما نقل عن القوم في سورة [طه: ٨٧] من قولهم: حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ يقتضي عدم الحل أيضا.
وأجيب بأن ذلك أن تقول: إنهم لما استعبدوهم بغير حق واستخدموهم وأخذوا أموالهم وقتلوا أولادهم ملكهم الله تعالى أرضهم وما فيها، فالأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده، وكان ذلك بوحي من الله تعالى لا على طريق الغنيمة، ويكون ذلك على خلاف القياس وكم في الشرائع مثله، والقول المحكي سيأتي إن شاء الله تعالى ما فيه، وهذه الجملة كما قال الطيبي عطف على قوله سبحانه: وَواعَدْنا مُوسى عطف قصة على قصة.
وقرأ حمزة والكسائي «حليهم» بكسر الحاء اتباعا لكسر اللام كدلي وبعض «حليهم» على الافراد وقوله سبحانه:
عِجْلًا مفعول اتخذ بمعنى صاغ وعمل، أخر عن المجرور لما مر آنفا، وقيل: إن اتخذ متعد إلى اثنين وهو بمعنى صير والمفعول الثاني محذوف أي إلها، والعجل ولد البقر خاصة وهذا كما يقال لولد الناقة حوار ولولد الفرس مهر ولولد الحمار جحش ولولد الشاة حمل ولولد العنز جدي ولولد الأسد شبل ولولد الفيل دغفل ولولد الكلب جرو ولولد الظبي خشف ولولد الاروية غفر ولولد الضبع فرغل ولولد الدب ديسم ولولد الخنزير خنوص ولولد الحية حربش ولولد النعام رأل ولولد الدجاجة فروج ولولد الفأر درص ولولد الضب حسل إلى غير، والمراد هنا ما هو على صورة العجل.
وقوله تعالى: جَسَداً بدل من عجلا أو عطف بيان أو نعت له بتأويل متجسدا، وفسر ببدن ذي لحم ودم، قال الراغب: الجسد كالجسم لكنه أخص منه، وقيل: إنه يقال لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه، ويقال أيضا لما له لون والجسم لما لا يبين له لون كالهواء، ومن هنا على ما قيل قيل للزعفران الجساد ولما أشبع صبغه من الثياب مجسد، وجاء المجسد أيضا بمعنى الأحمر، وبعض فسر الجسد به هنا فقال: أي أحمر من ذهب لَهُ خُوارٌ هو صوت البقر خاصة كالثغاء للغنم واليعار للمعز والنبيب للتيس والنباح للكلب والزئير للأسد والعواء والوعوعة للذئب والضباح للثعلب والقباع للخنزير والمواء للهرة، والنهيق والسحيل للحمار والصهيل والضبح والقنع والحمحمة للفرس والرغاء للناقة والصنى للفيل والبتغم للظبي والضغيب للأرنب والعرار للظليم والصرصرة للبازي والعقعقة للصقر والصفير

صفحة رقم 60

للنسر والهدير للحمام والسجع للقمري والسقسقة للعصفور والنعيق والنعيب للغراب والصقاء والزقاء للديك والقوقاء والنقيقة للدجاجة والفحيح للحية والنقيق للضفدع والصئي للعقرب والفأرة والصرير للجراد إلى غير ذلك.
وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ «جؤار»
بجيم مضمومة وهمزة، وهو الصوت الشديد، ومثله الصياح والصراخ. والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما وخوار مبتدأ، والجملة في موضع النعت لعجلا.
روي أن السامري لما صاغ العجل ألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام فصار حيا،
وذكر بعضهم في سر ذلك أن جبريل عليه السلام لكونه الروح الأعظم سرت قوة منه إلى ذلك التراب أثرت ذلك الأثر بإذن الله تعالى لأمر يريده عزّ وجلّ، ولا يلزم من ذلك أن يحيا ما يطؤه بنفسه عليه السلام لأن الأمر مربوط بالإذن وهو إنما يكون بحسب الحكم التي لا يعلمها إلا الحكيم الخبير فتدبر. وإلى القول بالحياة ذهب كثير من المفسرين، وأيد بأن الخوار إنما يكون للبقر لا لصورته، وبأن ما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة طه كالصريح فيما دل عليه الخبر. وقال جمع من مفسري المعتزلة: إن العجل كان بلا روح وكان السامري قد صاغه مجوفا ووضع في جوفه أنابيب على شكل مخصوص وجعله في مهب الريح فكانت تدخل في تلك الأنابيب فيسمع لها صوت يشبه خوار العجل ولذلك سمي خوارا. وما في طه سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه. واختلف في هذا الخوار فقيل: كان مرة واحدة، وقيل:
كان مرات كثيرة، وكانوا كلما خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤوسهم. وعن السدي أنه كان يخور ويمشي. وعن وهب نفى الحركة، والآية ساكتة عن إثباتها، وليس في الأخبار ما يعول عليه فالتوقف عن إثبات المشي أولى، وليست هذه المسألة من المهمات، وإنما نسب الاتخاذ إلى قوم موسى عليه السلام وهو فعل السامري لأنهم رضوا به وكثيرا ما ينسب الفعل إلى قوم مع وقوعه من واحد منهم فيقال: قتل بنو فلان قتيلا والقاتل واحد منهم، وقيل: لأن المراد اتخاذهم إياه إلها، فالمعنى صيروه إلها وعبدوه، وحينئذ لا تجوز في الكلام لأن العبادة له وقعت منهم جميعا.
قال الحسن: كلهم عبدوا العجل إلا هارون عليه السلام، واستثنى آخرون غيره معه، وعلى القول قيل: لا بد من تقدير فعبدوه ليكون ذلك مصب الإنكار لأن حرمة التصوير حدثت في شرعنا على المشهور ولأن المقصود إنكار عبادته أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا تقريع لهم وتشنيع على فرط ضلالهم وإخلالهم بالنظر، أي ألم يروا أنه لا يقدر على ما يقدر عليه آحاد البشر من الكلام وإرشاد السبيل بوجه من الوجوه فكيف عدلوه بخالق الأجسام والقوى والقدر، وجعله بعضهم تعريضا بالإله الحق وكلامه الذي لا ينفد وهدايته الواضحة التي لا تجحد، وقيل: إنه تعريض بالله تعالى وبكلامه مع موسى عليه السلام وهدايته لقومه اتَّخَذُوهُ تكرار لجميع ما سلف من الاتخاذ على الوجه المخصوص المشتمل على الذم، وهو من باب الكناية على أسلوب. أن يرى مبصر ويسمع واع أي أقدموا على ما أقدموا عليه من الأمر المنكر.
وَكانُوا ظالِمِينَ اعتراض تذييلي أي إن دأبهم قبل ذلك الظلم ووضع الأشياء في غير موضعها فليس ببدع منهم هذا المنكر العظيم، وكرر الفعل ليبني عليه ذلك، وقيل: الجملة في موضع الحال أي اتخذوه في هذه الحالة المستمرة لهم وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي ندموا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجعله غير واحد كناية عن شدة الندم وغايته لأن النادم إذا اشتد نومه عض يده غما فتصير يده مسقوطا فيها، وأصله سقط فوه أو عضه في يده أي وقع ثم حذف الفاعل وبني الفعل للمفعول به فصار سقط في يده كقولك: مر بزيد، وقرأ ابن السميفع سقط بالبناء للفاعل على الأصل، واليد على ما ذكر حقيقة، وقال الزجاج: معناه سقط الندم في أنفسهم وجعل القطب ذلك من باب الاستعارة التمثيلية حيث شبه حال الندم في النفس بحال الشيء في اليد في التحقيق والظهور ثم عبر عنه بالسقوط في

صفحة رقم 61

اليد ولا لطف للاستعارة التصريحية فيه، وقال الواحدي: إنه يقال لما يحصل وإن لم يكن في اليد وقع في يده وحصل في يده مكروه فيشبه ما يحصل في النفس وفي القلب بما يرى بالعين، وخصت اليد لأن مباشرة الأمور بها كقوله تعالى:
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ [الحج: ١٠] أو لأن الندم يظهر أثره بعد حصوله في القلب في اليد لعضها والضرب بها على أختها ونحو ذلك فقد قال سبحانه في النادم: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ [الكهف: ٤٢] وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ [الفرقان:
٢٧]، وقيل: من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضع ذقنه على يده بحيث لو أزالها سقط على وجهه فكأن اليد مسقوط فيها، وفِي بمعنى على، وقيل: هو من السقاط وهو كثرة الخطأ، وقيل: من السقيط وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج لا ثبات له، فهو مثل لمن خسر في عاقبته ولم يحصل على طائل من سعيه، وعد بعضهم سقط من الأفعال التي لا تتصرف كنعم وبئس.
وقرأ ابن أبي عبلة «أسقط» على أنه رباعي مجهول وهي لغة نقلها الفراء والزجاج، وذكر بعضهم أن هذا التركيب لم يسمع قبل نزول القرآن، ولم تعرفه العرب، ولم يوجد في أشعارهم وكلامهم فلذا خفي على الكثير وأخطؤوا في استعماله كأبي حاتم وأبي نواس، وهو العالم النحرير ولم يعلموا ذلك ولو علموه لسقط في أيديهم وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا
أي تبينوا ضلالهم باتخاذ العجل وعبادته تبينا كأنهم قد أبصروه بعيونهم قيل: وتقديم ذكر ندمهم على هذه الرؤية مع كونه متأخرا عنها للمسارعة إلى بيانه والإشعار بغاية سرعته كأنه سابق على الرؤية.
وقال القطب في بيان تأخر تبين الضلال عن الندم مع كونه سابقا عليه: إن الانتقال من الجزم بالشيء إلى تبين الجزم بالنقيض لا يكون دفعيا في الأغلب بل إلى الشك ثم الظن بالنقيض ثم الجزم به ثم تبينه، والقوم كانوا جازمين بأن ما هم عليه صواب والندم عليه ربما وقع لهم في حال الشك فيه فقد تأخر تبين الضلال عنه انتهى، فافهم ولا تغفل قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا بإنزال التوبة المكفرة وَيَغْفِرْ لَنا بالتجاوز عن خطيئتنا، وتقديم الرحمة على المغفرة مع أن التخلية حقها أن تقدم على التحلية قيل: إما للمسارعة إلى ما هو المقصود الأصلي وإما لأن المراد بالرحمة مطلق إرادة الخير بهم وهو مبدأ لإنزال التوبة المكفرة لذنوبهم، واللام في لَئِنْ موطئة للقسم أي والله لئن إلخ، وفي قوله سبحانه: لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ لجواب القسم كما هو المشهور.
وقرأ حمزة والكسائي «ترحمنا وتغفر لنا» بالتاء الفوقية و «ربنا» بالنصب على النداء، وما حكي عنهم من الندامة والرؤية والقول كان بعد رجوع موسى عليه السلام من الميقات كما ينطق به ما سيأتي إن شاء الله تعالى في طه، وقدم ليتصل ما قالوه بما فعلوه وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ مما حدث منهم أَسِفاً أي شديد الغضب كما قال أبو الدرداء ومحمد القرظي وعطاء والزجاج أو حزينا على ما روي عن ابن عباس والحسن وقتادة رضي الله تعالى عنهم، وقال أبو مسلم: الغضب والأسف بمعنى والتكرير للتأكيد.
وقال الواحدي: هما متقاربان فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ممن فوقك حزنت، فعلى هذا كان موسى عليه السلام غضبان على قومه باتخاذهم العجل حزينا لأن الله تعالى فتنهم، وقد أخبره سبحانه بذلك قبل رجوعه، ونصب الوصفين على أنهما حالان مترادفان أو متداخلان بأن يكون الثاني حالا من الضمير المستتر في الأول، وجوّز أبو البقاء أن يكون بدلا من الحال الأولى وهو بدل كل لا بعض كما توهم.
قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي خطاب إما لعبدة العجل وإما لهارون عليه السلام ومن معه من المؤمنين أي بئسما فعلتم بعد غيبتي حيث عبدتم العجل بعد ما رأيتم مني من توحيد الله تعالى ونفي الشركاء عنه سبحانه واخلاص العبادة له جل جلاله، أو بئسما قمتم مقامي حيث لم تراعوا عهدي ولم تكفوا العبدة عما فعلوا بعد ما رأيتم مني من

صفحة رقم 62

حملهم على التوحيد وكفهم عما طمحت نحوه أبصارهم من عبادة البقر حين قالوا اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.
وجوز أن يكون على الخطاب للفريقين على أن المراد بالخلافة الخلافة فيما يعم الأمرين اللذين أشير إليهما ولا تكرار في ذكر مِنْ بَعْدِي بعد خَلَفْتُمُونِي لأن المراد من بعد ولايتي وقيامي بما كنت أقوم إذ بعديته على الحقيقة إنما تكون على ما قيل بعد فراقه الدنيا، وقيل: إن مِنْ بَعْدِي تأكيد من باب رأيته بعيني وفائدته تصوير نيابة المستخلف ومزاولة سيرته كما أن هنالك تصوير الرؤية وما يتصل به، وما نكرة موصوفة مفسرة لفاعل بئس المستكن فيه والمخصوص بالذم محذوف أي بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم، والذم فيما إذا كان الخطاب لهارون عليه السلام ومن معه من المؤمنين ليس للخلافة نفسها بل لعدم الجري على مقتضاها، وأما إذا كان للسامري وأشياعه فالأمر ظاهر أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أي أعجلتم عما أمركم به ربكم وهو انتظار موسى عليه السلام حال كونهم حافظين لعهده وما وصاهم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم فحدثتم أنفسكم بموتي فغيرتم. روي أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل، وقال: إن هذا إلهكم وإله موسى إن موسى لن يرجع وإنه قد مات. وروي أنهم عدوا عشرين يوما بلياليها فجعلوها أربعين ثم أحدثوا ما أحدثوا. والمعروف تعدي «عجل» بعن لا بنفسه فيقال: عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غير وضمنوه هنا معنى السبق وهو كناية عن الترك فتعدى تعديته ولم يضمن ابتداء. معنى الترك لخفاء المناسبة بينهما وعدم حسنها. وذهب يعقوب إلى أن السبق معنى حقيقي له من غير تضمين، والأمر واحد الأوامر. وعن الحسن أن المعنى أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين فالأمر عليه واحد الأمور والمراد بهذه الأربعين على ما ذكره الطيبي غير الأربعين التي أشار الله إليها بقوله سبحانه: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف: ١٤٢] وسيأتي تتمة الكلام في ذلك قريبا إن شاء الله تعالى.
وَأَلْقَى الْأَلْواحَ أي وضعها على الأرض كالطارح لها ليأخذ برأس أخيه مما عراه من فرط الغيرة الدينية وكان عليه السلام شديد الغضب لله سبحانه. فقد أخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم أنه عليه السلام كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته نارا. وقال القاضي ناصر الدين: أي طرحها من شدة الغضب وفرط الضجرة حمية للدين، ثم نقل أنه انكسر بعضها حين ألقاها، واعترض عليه أفضل المتأخرين شيخ مشايخنا صبغة الله أفندي الحيدري بأن الحمية للدين إنما تقتضي احترام كتاب الله تعالى وحمايته أن يلحق به نقص أو هوان بحيث تنكسر ألواحه ثم قال: والصواب أن يقال: إنه عليه السلام لفرط حميته الدينية وشدة غضبه لله تعالى لم يتمالك ولم يتماسك إن وقعت الألواح من يده بدون اختيار فنزل ترك التحفظ منزلة الإلقاء الاختياري فعبر به تغليظا عليه عليه السلام فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين انتهى.
وتعقبه العلامة صالح أفندي الموصلي عليه الرحمة بأنه لا يخفى أن هذا الإيراد إنما نشأ من جعل قول القاضي حمية للدين مفعولا له لطراحها وهو غير صحيح، فقد صرح في أوائل تفسيره لسورة طه بأن الفعل الواحد لا يتعدى لعلتين وإنما هو مفعول له لشدة الغضب وفرط الضجرة على سبيل التنازع، والتوجيه الذي ذكر للآية هو ما أراده القاضي وتفسيره الإلقاء بالطرح لا ينافي ذلك على ما لا يخفى اهـ، وأقول أنت تعلم أن كون هذا التوجيه هو ما أراده القاضي غير بيّن ولا مبين على أن حديث كون التعبير بالإلقاء تغليظا عليه السلام منحط عن درجة القبول جدا إذ ليس في السباق ولا في السياق ما يقضي بكون المقام عتاب موسى عليه السلام ليفتي بهذا التغليظ نظرا إلى مقامه صلّى الله عليه وسلّم بل المقام ظاهر في الحط على قومه كما لا يخفى على من له أدنى حظ من رفيع النظر، والذي يراه هذا الفقير ما أشرنا إليه أولا. وحاصله أن موسى عليه السلام لما رأى من قومه ما رأى غضب غضبا شديدا حمية للدين وغيرة من الشرك برب العالمين فعجل في وضع الألواح لتفرغ يده فيأخذ برأس أخيه فعبر عن ذلك الوضع بالإلقاء تفظيعا لفعل قومه حيث كانت معاينته سببا

صفحة رقم 63

لذلك وداعيا إليه مع ما فيه من الإشارة إلى شدة غيرته وفرط حميته وليس في ذلك ما يتوهم منه نوع إهانة لكتاب الله تعالى بوجه من الوجوه، وانكسار بعض الألواح حصل من فعل مأذون فيه ولم يكن غرض موسى عليه السلام ولا مر بباله ولا ظن ترتبه على ما فعل، وليس هناك إلا العجلة في الوضع الناشئة من الغيرة لله تعالى، ولعل ذلك من باب وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [طه: ٨٤] واختلفت الروايات في مقدار ما تكسر ورفع، وبعضهم أنكر ذلك حيث إن ظاهر القرآن خلافه. نعم
أخرج أحمد وغيره وعبد بن حميد والبزار وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يرحم الله تعالى موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه تبارك وتعالى أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر»
فتأمل ولا تغفل، وما روي عن ابن عباس أن موسى عليه السلام لما ألقى الألواح رفع منها ستة أسباع وبقي سبع، وكذا ما روي عن غيره نحوه مناف لما
روي فيما تقدم من أن التوراة نزلت سبعين وقرأ يقرأ الجزء منه في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى ويوشع وعزير وعيسى عليهم السلام.
وكذا لما يذكر بعد من قوله تعالى: أَخَذَ الْأَلْواحَ فإن الظاهر منه العهد. والجواب بأن الرفع لما فيها من الخط دون الألواح خلاف الظاهر والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ أي بشعر رأس هارون عليه السلام لأنه الذي يؤخذ ويمسك عادة ولا ينافي أخذه بلحيته كما وقع في سورة طه أو أدخل فيه تغليبا يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ظنا منه عليه السلام أنه قصر في كفهم ولم يتمالك لشدة غضبه وفرط غيظه أن فعل ذلك وكان هارون أكبر من موسى عليهما السلام بثلاث سنين إلا أن موسى أكبر منه مرتبة وله الرسالة والرياسة استقلالا وكان هارون وزيرا له وكان عليه السلام حمولا لينا جدا ولم يقصد موسى بهذا الأخذ إهانته والاستخفاف به بل اللوم الفعلي على التقصير المظنون بحكم الرياسة وفرط الحمية، والقول بأنه عليه السلام إنما أخذ رأس أخيه ليسارّه ويستشكف منه كيفية الواقعة مما يأباه الذوق كما لا يخفى على ذويه، ومثله القول بأن إنما كان لتسكين هارون لما رأى به من الجزع والقلق، وقال أبو علي الجبائي: إن موسى عليه السلام أجرى أخاه مجرى نفسه فصنع به ما يصنع الإنسان به عند شدة الغضب، وقال الشيخ المفيد من الشيعة: إن ذلك للتألم من ضلال قومه وإعلامهم على أبلغ وجه عظم ما فعلوه لينزجروا عن مثله ولا يخفى أن الأمر على هذا من قبيل:

وجانب جناب الوصل هيهات لم يكن وها أنت حي ان تكن صادقا مت
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم فكأنني سبابة المتندم
ولعل ما أشرنا إليه هو الأولى. وجملة يَجُرُّهُ في موضع الحال من ضمير موسى أو من رأس أو من أخيه لأن المضاف جزء منه وهو أحد ما يجوز فيه ذلك، وضعفه أبو البقاء قالَ أي هارون مخاطبا لموسى عليه السلام إزاحة لظنه ابْنَ أُمَّ بحذف حرف النداء لضيق المقام وتخصيص الأم بالذكر مع كونهما شقيقين على الأصح للترقيق، وقيل:
لأنها قامت بتربيته وقاست في تخليصه المخاوف والشدائد، وقيل: إن هارون عليه السلام كانت آثار الجمال والرحمة فيه ظاهرة كما ينبىء عنه قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مريم: ٥٣] وكان مورده ومصدره ذلك، ولذا كان يلهج بذكر ما يدل على الرحمة، ألا ترى كيف تلطف بالقوم لما قدموا على ما قدموا فقال: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ [طه: ٩٠] ومن هنا ذكر الأم ونسب إليها لأن الرحمة فيها أتم ولولاها ما قدرت على تربية الولد وتحمل المشاق فيها وهو منزع صوفي كما لا يخفى، واختلف في اسم أمهما عليهما السلام فقيل: محيانة بنت يصهر بن لاوى، وقيل: يوحانذ، وقيل: يارخا، وقيل: يازخت، وقيل: غير ذلك، ومن الناس من زعم أن لاسمها رضي الله تعالى عنها خاصية في فتح الأقفال وله رياضة مخصوصة عند أرباب الطلاسم والحروف وما هي إلا رهبانية ابتدعوها ما أنزل الله تعالى بها من كتاب.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبوبكر عن عاصم هنا وفي [طه: ٩٤] ابْنَ أُمَّ بالكسر وأصله ابن أمي فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا كالمنادى المضاف إلى الياء.

صفحة رقم 64

وقرأ الباقون بالفتح زيادة في التخفيف أو تشبيها بخمسة عشر إِنَّ الْقَوْمَ الذين فعلوا ما فعلوا اسْتَضْعَفُونِي أي استذلوني وقهروني ولم يبالوا بي لقلة أنصاري وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي وقاربوا قتلي حين نهيتهم عن ذلك والمراد أني بذلت وسعي في كفهم ولم آل جهدا في منعهم فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ أي فلا تفعل ما يشمتون بي لأجله فإنهم لا يعلمون سر فعلك، والشماتة سرور العدو بما يصيب المرء من مكروه.
وقرىء «فلا تشمت بي الأعداء» بفتح حرف المضارعة وضم الميم ورفع الأعداء- حطهم الله تعالى- وهو كناية عن ذلك المعنى أيضا على حد لا أرينك هاهنا. والمراد من الأعداء القوم المذكورون إلا أنه أقيم الظاهر مقام ضميرهم ولا يخفى سره وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا تجعلني معدودا في عدادهم ولا تسلك بي سلوكهم بهم في المعاتبة، أو لا تعتقدني واحدا من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم، فالجعل مثله في قوله تعالى:
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: ١٩] قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية الاعتذار كأنه قيل فماذا قال موسى عليه السلام عند اعتذار أخيه؟ فقيل: قال رَبِّ اغْفِرْ لِي ما فعلت بأخي قبل جلية الحال وحسنات الأبرار سيئات المقربين وَلِأَخِي إن كان اتصف بما يعد ذنبا بالنسبة إليه في أمر أولئك الظالمين، وفي هذا الضم ترضية له عليه السلام ورفع للشماتة عنه، والقول بأنه عليه السلام استغفر لنفسه ليرضى أخاه ويظهر للشامتين رضاه لئلا تتم شماتتهم به ولأخيه للايذان بأنه محتاج إلى الاستغفار حيث كان يجب عليه أن يقاتلهم لي فيه توقف لا يخفى وجهه. وَأَدْخِلْنا جميعا.
فِي رَحْمَتِكَ الواسعة بمزيد الإنعام علينا، وهذا ما يقتضيه المقابلة بالمغفرة، والعدول عن ارحمنا إلى ما ذكر وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فلا غرو في انتظامنا في سلك رحمتك الواسعة في الدنيا والآخرة، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، وادعى بعضهم أن فيه إشارة إلى أنه سبحانه استجاب دعاءه وفيه خفاء إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أي بقوا على اتخاذه واستمروا عليه كالسامري وأشياعه كما يفصح عنه كون الموصول الثاني عبارة عن التائبين فإن ذلك صريح في أن الموصول الأول عبارة عن المصرين سَيَنالُهُمْ أي سيلحقهم ويصيبهم في الآخرة جزاء ذلك غَضَبٌ عظيم لا يقادر قدره مستتبع لفنون العقوبات لعظم جريمتهم وقبح جريرتهم مِنْ رَبِّهِمْ أي مالكهم، والجار والمجرور متعلق بينالهم، أو بمحذوف وقع نعتا لغضب مؤكدا لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائن من ربهم وَذِلَّةٌ عظيمة فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهي على ما أقول: الذلة التي عرتهم عند تحريق إلههم ونسفه في اليم نسفا مع عدم القدرة على دفع ذلك عنه، وقيل: هي ذلة الاغتراب التي تضرب بها الأمثال والمسكنة المنتظمة لهم ولأولادهم جميعا، والذلة التي اختص بها السامري من الانفراد عن الناس والابتلاء بلا مساس، وروي أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك وإذا مس أحدهم أحد غيرهم حمّا جميعا في الوقت، ولعل ما ذكرناه أولى والرواية لم نر لها أثرا، وإيراد ما نالهم بالسين للتغليب، وقيل: وإليه يشير كلام أبي العالية المراد بهم التائبون، وبالغضب ما أمروا به من قتل أنفسهم، وبالذلة إسلامهم أنفسهم لذلك واعترافهم بالضلال، واعتذر عن السين بأن ذلك حكاية عما أخبر الله تعالى به موسى عليه السلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل فإنه قال له: سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ إلخ فيكون سابقا على الغضب، وجعل الكلام جواب سؤال مقدر وذلك أنه تعالى لما بين أن القوم ندموا على عبادتهم العجل بقوله سبحانه: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا والندم توبة ولذلك عقبوه بقولهم: لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا وذكر عتاب موسى لأخيه عليهما السلام ثم استغفاره اتجه لسائل أن يقول: يا رب إلى ماذا يصير أمر القوم وتوبتهم واستغفار نبي الله تعالى وهل قبل الله تعالى توبتهم؟ فأجاب إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ

صفحة رقم 65

أي نقم قبل توبة موسى وأخيه وغفر لهما خاصة وكان من تمام توبة القوم أن الله سبحانه أمرهم بقتل أنفسهم فسلموها للقتل، فوضع الذين اتخذوا العجل موضع القوم اشعارا بالعلية. وتعقب بأن سياق النظم الكريم وكذا سباقه ناب عن ذلك نبوا ظاهرا كيف لا وقوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ينادي على خلافه فإنهم شهداء تائبون فكيف يمكن وصفهم بعد ذلك بالافتراء وأيضا ليس يجزي الله تعالى كل المفترين بهذا الجزاء الذي ظاهره قهر وباطنه لطف ورحمة إلا أن يقال: يكفي في صحة التشبيه وجود وجه الشبه في الجملة ولا بد من التزام ذلك على الوجه الذي ذكرناه أيضا وما ذكر في تحرير السؤال والجواب مما تمجه أسماع ذوي الألباب.
وقال عطية العوفي: المراد سينال أولاد الذين تعبدوا العجل وهم الذين كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأريد بالغضب والذلة ما أصاب بني النضير وقريظة من القتل والجلاء، أو ما أصابهم من ذلك ومن ضرب الجزية عليهم، وفي الكلام على هذا حذف مضاف وهو الأولاد، ويحتمل أن يكون هناك وهو من تعيير الأبناء بما فعل الآباء، ومثله في القرآن كثيرة. وقيل: المراد بالموصول المتخذون حقيقة وبالضمير في ينالهم أخلافهم وبالغضب الغضب الأخروي وبالذلة الجزية التي وضعها الإسلام عليهم أو الأعم منها ليشمل ما ضربه بختنصر عليهم. وتعقب ذلك أيضا بأنه لا ريب في أن توسيط حال هؤلاء في تضاعيف بيان حال المتخذين من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، والمراد بالمفترين المفترون على الله تعالى، وافتراء أولئك عليه سبحانه قول السامري في العجل هذا إلهكم وإله موسى ورضاهم به ولا أعظم من هذه الفرية ولعله لم يفتر مثلها أحد قبلهم ولا بعدهم. وعن سفيان بن عيينة أنه قال: كل صاحب بدعة ذليل وتلا هذه الآية.
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ أي سيئة كانت لعموم المغفرة ولأنه لا داعي للتخصيص ثُمَّ تابُوا عنها مِنْ بَعْدِها أي من بعد عملها وهو تصريح بما تقتضيه ثم وَآمَنُوا أي واشتغلوا بالإيمان وما هو مقتضاه وبه تمامه من الأعمال الصالحة ولم يصروا على ما فعلوا كالطائفة الأولى، وهو عطف على تابوا، ويحتمل أن يكون حالا بتقدير قد، وأيّا ما كان فهو على ما قيل: من ذكر الخاص بعدم العام للاعتناء به لأن التوبة عن الكفر هي الإيمان فلا يقال: التوبة بعد الإيمان كيف جاءت قبله.
قيل: حيث كان المراد بالإيمان ما تدخل فيه الأعمال يكون بعد التوبة. وقيل: المراد به هنا التصديق بأن الله تعالى يغفر للتائب أي ثم تابوا وصدقوا بأن الله تعالى يغفر لمن تاب إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي من بعد التوبة المقرونة بما لا تقبل بدونه وهو الإيمان، ولم يجعل الضمير للسيئات لأنه كما قال بعض المحققين لا حاجة له بعد قوله سبحانه:
ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها لا لأنه يحتاج إلى حذف مضاف ومعطوف من عملها والتوبة عنها لأنه لا معنى لكونه بعدها إلا ذلك لَغَفُورٌ لذنوبهم وإن عظمت وكثرت رَحِيمٌ مبالغ في إفاضة فنون الرحمة عليهم، والموصول مبتدأ وجملة إِنَّ رَبَّكَ إلخ خبر والعائد محذوف، والتقدير- عند أبي البقاء- لغفور لهم رحيم بهم، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة لضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف، وقيل: الخطاب للتائب، ولا يخفى لطف ذلك أيضا، وفي الآية إعلام بأن الذنوب وإن جلّت وعظمت فإن عفو الله تعالى وكرمه أعظم وأجل، وما ألطف قول أبي نواس غفر الله تعالى له:

يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم
ومما ينسب للإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه:

صفحة رقم 66
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا ربي لعفوك سلما