
وَالْأَدِلَّةِ عَلَى عَظْمَتِي وَشَرِيعَتِي وَأَحْكَامِي قُلُوبَ الْمُتَكَبِّرِينَ عَنْ طَاعَتِي، وَيَتَكَبَّرُونَ عَلَى النَّاسِ (١) بِغَيْرِ حَقٍّ، أَيْ: كَمَا اسْتَكْبَرُوا بِغَيْرِ حَقٍّ أَذَلَّهُمُ اللَّهُ بِالْجَهْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١١٠] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصَّفِّ: ٥]
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا يَنَالُ الْعِلْمَ حَيِيٌّ وَلَا مُسْتَكْبِرٌ.
وَقَالَ آخَرُ: مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى ذُلِّ التَّعَلُّمِ سَاعَةً، بَقِيَ فِي ذُلِّ الْجَهْلِ أَبَدًا.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَينة فِي قَوْلِهِ: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ قَالَ: أَنْزِعُ عَنْهُمْ فَهْمَ الْقُرْآنِ، وَأَصْرِفُهُمْ عَنْ آيَاتِي.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ (٢)
قُلْتُ: لَيْسَ هَذَا بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ إِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ هَذَا مُطَّرِدٌ فِي حَقِّ كُلِّ أُمَّةٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَحَدٍ وَأَحَدٍ فِي هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ﴾ [يُونُسَ: ٩٦، ٩٧].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا﴾ أَيْ: وَإِنْ ظَهَرَ لَهُمْ سَبِيلُ الرُّشْدِ، أَيْ: طَرِيقُ النَّجَاةِ لَا يَسْلُكُوهَا، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُمْ طَرِيقُ الْهَلَاكِ وَالضَّلَالِ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا.
ثُمَّ عَلَّلَ مَصِيرَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ أَيْ: كَذَّبَتْ بِهَا قُلُوبُهُمْ، ﴿وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ أَيْ: لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِمَّا فِيهَا.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ أَيْ: مَنْ فَعَلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ إِلَى الْمَمَاتِ، حَبِطَ عَمَلُهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أَيْ: إِنَّمَا نُجَازِيهِمْ بِحَسْبِ (٣) أَعْمَالِهِمُ الَّتِي أَسْلَفُوهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ، وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ.
﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (١٤٩) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، الَّذِي اتَّخَذَهُ لَهُمُ السَّامِرِيُّ مِنْ حُلِيِّ الْقِبْطِ، الَّذِي كَانُوا اسْتَعَارُوهُ مِنْهُمْ، فَشَكَّلَ لَهُمْ مِنْهُ عِجْلًا ثُمَّ أَلْقَى فِيهِ الْقَبْضَةَ مِنَ التُّرَابِ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَصَارَ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، وَ"الْخُوَارُ" صَوْتُ الْبَقَرِ.
(٢) تفسير الطبري (١٣/١١٣).
(٣) في أ: "نجازيهم إلا بحسب".

وَكَانَ هَذَا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَهَابِ مُوسَى [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (١) لِمِيقَاتِ رَبِّهِ تَعَالَى، وَأَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ وَهُوَ عَلَى الطُّورِ، حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ: ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾ [طه: ٨٥]
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْعِجْلِ: هَلْ صَارَ لَحْمًا وَدَمًا لَهُ خُوَارٌ؟ أَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى كَوْنِهِ مَنْ ذَهَبٍ، إِلَّا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْهَوَاءُ فَيُصَوِّتُ كَالْبَقَرِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمَّا صَوّت لَهُمُ الْعِجْلُ رَقَصُوا حَوْلَهُ وَافْتَتَنُوا بِهِ، ﴿فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ﴾ [طه: ٨٨] فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا﴾ [طه: ٨٩]
وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا﴾ يُنْكِرُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي ضَلَالِهِمْ بِالْعِجْلِ، وذُهُولهم عَنْ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكِهِ، أَنْ عَبَدُوا (٢) مَعَهُ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَار لَا يُكَلِّمُهُمْ، وَلَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى خَيْرٍ. وَلَكِنْ غَطَّى عَلَى أعيُن بَصَائِرِهِمْ (٣) عَمَى الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، كَمَا تقدم من رواية الإمام أحمد وأبو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمي ويُصِم" (٤)
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ﴾ أَيْ: نَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا، ﴿وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا﴾ وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: "لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا" بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ، "رَبَّنَا" مُنَادَى، "وتَغْفِر لَنَا"، ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ أَيْ: مِنَ الْهَالِكِينَ وَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِذَنْبِهِمْ وَالْتِجَاءٌ إِلَى اللَّهِ عز وجل.
(٢) في م: "يعبدوا".
(٣) في م: "أبصارهم".
(٤) المسند (٥/١٩٤) وسنن أبي داود برقم (٥١٣٠) وقد رواه الإمام أحمد في مسنده (٦/٤٥٠) موقوفا، قال الحافظ ابن حجر في أجوبته عن أحاديث المصابيح: "الموقوف أشبه".