آيات من القرآن الكريم

يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ
ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝ

على إيمانهم، حتى بيّن الله له طباعهم وأخلاقهم ليعرف مبلغ أمرهم فى قبول دعوته وأنه لا أمل له فيهم بحال.
(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) أي وما وجدنا لأكثر أولئك الأقوام عهدا ما يفون به سواء كان عهد الفطرة التي فطر الله الناس عليها- إذ قد فطر الله أنفس البشر على الشعور بسلطان غيبى فوق جميع القوى، وعلى إيثار الحسن واجتناب غيره وعلى حب الكمال وكراهة النقص- أم كان العهد الذي أخذه ربهم عليهم وهم فى الأصلاب أنه ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو، وأقروا بذلك وشهدوا على أنفسهم به وخالفوه وتركوه وراء ظهورهم وعبدوا معه غيره بلا دليل ولا حجة من عقل ولا شرع،
وقد جاء فى صحيح مسلم: «يقول الله: إنى خلقت عبادى حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم»
وفى الصحيحين: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه».
(وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) أي وإننا وجدنا أكثرهم خارجين على كل عهد فطرى وشرعى وعرفى، فهم ناكثون غادرون للعهود مرتكبون أفانين المعاصي.
وفى التعبير بالأكثر إيماء إلى أن بعضهم قد آمن والتزم كل عهد عاهده الله عليه أو تعاهد عليه مع الناس.
وهذا من دأب القرآن فى تحقيق الحقائق على وجه الصدق بحيث لا تشوبها شبهات المبالغة بما يسلب أحدا حقه أو يعطى أحدا حق غيره.
قصص موسى عليه السلام
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٣ الى ١١٢]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)

صفحة رقم 20

تفسير المفردات
موسى: هو موسى بن عمران (بكسر العين) وأهل الكتاب يقولون: (عمرام) بفتح أوله، وإنما سمى موسى لأنه ألقى بين ماء وشجر، فالماء بالقبطية (مو) والشجر:
(سى) وذلك أن أمه وضعته بعد ولادته فى تابوت: (صندوق) وأقفلته إقفالا محكما وألقته فى (نهر النيل) خوفا من فرعون وحكومته أن يعلموا به فيقتلوه، إذ كانوا يذبحون ذكور بنى إسرائيل عند ولادتهم ويتركون نساءهم.
وفرعون لقب لملوك مصر القدماء كلقب قيصر لملوك الروم وكسرى لملوك الفرس.
والراجح لدى كثير ممن يعنون بالتاريخ المصري القديم أن فرعون موسى هو الملك منفتاح وكان يلقب بسليل الإله. (رع) أي الشمس وقد كتب بجانب هيكله الذي بدار الآثار المصرية الآية الكريمة: «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً».
والملأ أشراف القوم، وظلموا بها: جحدوا بها وكفروا، وحقيق: أي جدير وخليق به، يقولون أنت حقيق بكذا كما يقول: أنت جدير به وخليق به، والنزع: إخراج الشيء من مكانه، وتأمرون: أي تشيرون فى أمره، يقولون: مرنى بكذا على معنى: أشر علىّ وأدل برأيك، وأرجئ: أي أرجئ أمره وأخره ولا تفصل فيه بادى الرأى، وفى المدائن

صفحة رقم 21

أي مدائن ملكت، وحاشرين أي جامعين سائقين السحرة منها، وعليم: أي بفنون السحر، ماهر فيها
المعنى الجملي
هذه هى القصة السادسة من قصص الأنبياء التي ذكرت فى هذه السورة وفيها من الإيضاح والتفصيل ما لم يذكر فى غيرها، لأن معجزات موسى كانت أقوى من معجزات غيره ممن سبق ذكرهم، وجهل قومه كان أفحش. وقد ذكرت قصته فى عدة سور مكية بين مطولة ومختصرة، وذكر اسمه فى سور كثيرة زادت على مائة وثلاثين مرة وسر هذا:
أن قصته أشبه قصص الرسل بقصص النبي ﷺ إذ أنه أوتى شريعة دينية دنيوية، وكوّن الله تعالى به أمة عظيمة ذات ملك ومدنية.
الإيضاح
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها) أي ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى بالمعجزات التي تدل على صدقه فيما يبلغه عنا إلى فرعون وأشراف قومه فظلموا أنفسهم وقومهم بالكفر بها كبرا وجحودا فكان عليهم إثم ذلك وإثم قومهم الذين حرموا من الإيمان باتباعهم لهم، وقال: «إلى فرعون وملئه» ولم يقل فرعون وقومه لأن الملك ورجال الدولة هم الذين كانوا مستعبدين لبنى إسرائيل وبيدهم أمرهم وليس لسائر المصريين من الأمر شىء لأنهم كانوا مستعبدين أيضا، ولكن الظلم كان على بنى إسرائيل الغرباء أشد، ولو آمن فرعون وملؤه لآمن سائر المصريين لأنهم كانوا تبعا لهم، وقد كان موسى مرسلا إلى قومه بنى إسرائيل قصدا وإلى فرعون وملئه وسيلة.
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي فانظر أيها الرسول كيف كان عاقبة فرعون وملئه المفسدين فى الأرض بالظلم واستعباد البشر حين جحدوا آيات الله وكفروا بها.

صفحة رقم 22

وفى هذا تشويق وتوجيه للنظر إلى ما سيقصه الله تعالى من عاقبة أمرهم، إذ نصر رسوله موسى وهو واحد من شعب مستضعف مستعبد لهم، على فرعون وملئه وهم أعظم أهل الأرض قوة وصولة بأن أبطل سحرهم وأقنع علماءهم وسحرتهم بصحة رسالته وكون آياته من عند الله، ثم نصره بإرسال أنواع العذاب على البلاد ثم بإنقاذ قومه وإغراق فرعون ومن تبعه من ملئه وجنوده. وهذه عبرة قائمة على وجه الدهر وحجة على أن الغلب ليس للقوة المادية فحسب، كما يقوله المغرورون بعظمة الأمم الظالمة فى الغرب لمن استضعفتهم من أهل الشرق.
وبعد التشويق والتنبيه المتقدم، قص الله تعالى ما كان من أولئك القوم فى مبدأ أمرهم حتى انتهوا إلى تلك العاقبة.
(وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) أي إن موسى ﷺ بلّغ فرعون أنه رسول من رب العالمين كلهم: أي سيدهم ومالكهم ومدبر جميع أمورهم، فهو لا يقول على الله إلا الحق، إذ لا يمكن أن يبعث الله رسولا يكذب عليه وهو الذي بيده ملكوت كل شىء، فهو معصوم من الكذب والخطأ فى التبليغ.
والخلاصة- إن كلامه اشتمل على عقيدة الوحدانية، وهى أن للعالمين ربا واحدا وعلى عقيدة الرسالة المؤيدة منه تعالى بالعصمة فى التبليغ والهداية.
ثم ذكر بعد هذا أن الله أيده ببينة تدل على صدقه فى دعواه فقال:
(قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي قد جئتكم ببرهان من ربكم شاهد على صدق ما أقول.
وفى قوله: من ربكم إيماء إلى أنهم مربوبون وأن فرعون ليس ربا ولا إلها، وإلى أن البينة ليست من كسب موسى ولا مما يستقل به عليه السلام. ثم رتب على مجيئه بالبينة طلبه منه أن يرسل معه بنى إسرائيل أي يطلقهم من أسره ويعتقهم من رقه وقهره ليذهبوا معه إلى دار غير داره ويعبدوا فيها ربهم وربه.

صفحة رقم 23

ثم حكى سبحانه ما قاله فرعون حينئذ:
(قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي قال فرعون لموسى إن كنت قد جئت مؤيدا بآية من عند من أرسلك كما تدّعى فأتنى بها وأظهرها لدىّ إن كنت ممن يقول الصدق ويلتزم قول الحق.
ثم ذكر أن موسى أجابه إلى ما طلبه فقال:
(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أي فلم يلبث موسى أن ألقى عصاه التي كانت بيمينه أمام فرعون فإذا هى ثعبان- ذكر الحيات- مبين، أي ظاهر بيّن لا خفاء فى كونه ثعبانا حقيقيا يسعى وينتقل من مكان إلى آخر وتراه الأعين من غير أن يسحرها ساحر فيخيل إليها أنها تسعى، وقوله:
ونزع يده، أي أخرجها من جيب قميصه بعد أن وضعها فيه بعد إلقاء العصا فإذا هى بيضاء ناصعة البياض تتلألأ لكل من ينظر إليها.
وقد ذكر رواة التفسير بالمأثور روايات غاية فى الغرابة فى وصف الثعبان ليس لها سند يوثق به وما هى إلا إسرائيليات تلقفها المفسرون من أهل الكتاب الذين كانوا يكيدون للإسلام وللعرب كروايات وهب بن منبّه وهو فارسى الأصل أخرج كسرى والده إلى بلاد اليمن فأسلم فى زمن النبي ﷺ وكان ابنه من بعده يختلف إلى بلاده بعد فتحها، ومثله روايات كعب الأحبار الإسرائيلى، وقد كان كلاهما كثير الرواية للغرائب التي لا يعرف لها أصل معقول ولا منقول، وقومهما كانوا يكيدون للمسلمين الذين فتحوا بلاد الفرس وأجلوا اليهود من الحجاز، ألا ترى أن قاتل الخليفة الثاني فارسى مرسل من جماعة سرية لقومه، وقتلة الخليفة الثالث كانوا مفتونين بدسائس عبد الله بن سبأ اليهودي.
ويرى المحققون من أعلام المسلمين أن الفتن السياسية والأكاذيب التي حدثت فى الرواية فى الصدر الأول يرجع أمرها إلى جماعة السبئيين وجماعات الفرس التي كانت تزوّد هؤلاء الوضاعين بأسلحة من الغش والتدليس ليفسد الإسلام على أهله، ولولا أن قيض الله للاسلام جماعة من أهل التحقيق أخرجوا البهرج والزيوف وألقوه

صفحة رقم 24

وراءهم ظهريا وأبقوا الجيّد الذي لا لبس فيه ولا شك فى صحة روايته لكان خطبهم قد استفحل فى الإسلام وأفسدوا كثيرا منه على أهله، ولكن الله قد حفظ الحنيفية لأهلها بيضاء نقية سمحة لا عنت فيها ولا إرهاق:
ثم حكى ما قاله قومه بعد أن رأوا من موسى ما رأوا.
(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ) أي قال الأشراف من قوم فرعون وهم أهل مشورته ورؤساء دولته: إن هذا لساحر عليم: أي ماهر فى فنون السحر قد وجه كل همه لسلب ملككم منكم وإخراجكم من أرضكم بسحره، إذ به يستميل الشّعب وينتزع منكم الملك، ثم يخرج الملك وعظماء رجاله من البلاد حتى لا يناوئوه فى شئون الملك واستعادته منه.
وقد أبان هذا المعنى بوضوح بقوله فى سورة يونس حكاية عنهم من مراجعتهم لموسى وأخيه: «قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ».
ولم يكن هذا القول منهم إلا صدى لما قاله فرعون وقد حكاه الله عنه فى سورة الشعراء بقوله: «قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ» وقد ردّدوه بعده وصار بعضهم يلقيه إلى بعض كما هى عادة الناس فى ترديد كلام الملوك والرؤساء إظهارا للموافقة عليه وتعميما لتبليغه، وبعد أن أتموا مقالتهم موافقين ما قاله فرعون تشاوروا فى أمره بماذا يحتالون لإطفاء نوره وإخماد نار دعوته متخوّفين أن يستميل الناس بسحره، فاتفقت كلمتهم على ما حكاه الله عنهم بقوله:
(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أي قال الملأ لفرعون حين استشارهم بقوله: فماذا تأمرون؟ أخّر الفصل فى أمره وأمر أخيه وأرسل فى مدائن ملكك جماعات من رجال شرطتك وجندك جاشرين: أي جامعين لك السحرة منها وسائقيهم إليك

صفحة رقم 25

وقد كان السحر فى زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا، ومن ثمّ خيّل إلى كثير منهم أن ما جاء به موسى من قبيل ما تشعبذ به سحرتهم فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات كما حكى الله عن فرعون حيث قال: «أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى، فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً. قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى، فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى».
(يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) أي فإن ترسلهم يأتوك بكل ساحر مجيد لفنون السحر ماهر فيها فيكشفوا لك حقيقة ما جاء به موسى فلا يفتنّ به أحد.
وإنما قال فى المدائن لأن السحر من العلوم التي توجد فى المدائن الجامعة المأهولة بدور العلم والصناعة، وإنما نصحوه بإحضار السحرة الماهرين، لأنهم الجديرون أن يأتوا موسى بمثل ما أتى به من الأمر العظيم.
فذلكة فى السحر وضروبه
السحر أعمال غريبة وحيل تخفى حقيقتها على جماهير الناس لجهلهم لأسبابها، وقد كان فنا من الفنون التي يتعلمها قدماء المصريين فى مدارسهم الجامعة مع كثير من العلوم الكونية، واقتفى أثرهم فى ذلك البابليون والهنود وغيرهم ولا يزال يؤثر عن الوثنيين من الهنود أعمال غريبة مدهشة من السحر اهتم بعض الإنكليز وغيرهم بالبحث بن حقيقة أمرها فعرفوا بعضا وجهلوا تعليل الأكثر.
وهو لا يروج إلا بين الجاهلين وله مكانة عظيمة فى القبائل الهمجية، والبلاد ذات الحضارة تسميه بالشّعوذة والاحتيال والدجل، وهو أنواع ثلاثة:
(١) ما بعمل بأسباب طبيعية من خواص المادة معروفة للساحر مجهولة عند من يسحرهم بها كالزئبق الذي قيل إن سحرة فرعون وضعوه فى حبالهم وعصيّهم كما سنذكره بعد، ولو ادعى علماء الطبيعة والكيمياء فى هذا العصر السحر فى أواسط إفريقيا

صفحة رقم 26

وغيرها من البلاد التي يروج فيها السحر لأروهم العجب العجاب من غرائب الكهرباء وغيرها حتى لو ادّعوا فيهم الألوهية لخضعوا لهم فضلا عن النبوة والولاية.
(٢) الشعوذة التي ملاك أمرها خفة اليدين فى إخفاء بعض الأشياء وإظهار بعض وإراءة بعضها بغير صورها وغير ذلك مما هو معروف فى هذه البلاد وغيرها من البلاد المتمدينة.
(٣) ما يكون مداره على تأثير الأنفس ذات الإرادة القوية فى الأنفس الضعيفة القابلة للأوهام والانفعالات التي يسميها علماء النفس: (بالأنفس الهستيرية) وأصحاب هذا النوع يستعينون على أعمالهم بأرواح الشياطين ومنهم من يكتب الأوفاق والطلسمات للحب والبغض إلى نحو ذلك.
ومن ذلك ما استحدث فى هذا العصر من التنويم المغناطيسى.
وعلى الجملة فالسحر صناعة تتلقي بالتعليم كما ثبت بنص الكتاب الكريم.
وبالاختبار الذي لم يبق فيه شك بين العلماء فى هذا العصر.
قال أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص وهو من فقهاء الحنفية فى القرن الرابع:
زعموا أن النبي ﷺ سحر وأن السحر عمل فيه حتى قال فيه: (إنه يخيّل إلىّ أنى أقول الشيء وأفعله، ولم أقله ولم أفعله وإن امرأة يهودية سحرته فى جفّ طلعة: (وعاء طلع النخل) ومشط ومشاطة حتى أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أنها سحرته فى جفّ طلعة وهو تحت راعوفة البئر «١». فاستخرج وزال عن النبي ﷺ ذلك العارض.
إلى أن قال: ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعبا بالحشو الطّغام واستجرارا لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام والقدح فيها، وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة وأن جميعه من نوع واحد. والعجب ممن يجمع بين

(١) المشاطة: بالضم الشعر الذي يسقط حين تسريحه بالمشط، وراعوفة البئر: الحجر الثابت الذي يقف عليه المستقى من البئر، أي إنها وضعت المشط والمشاطة فى جف طلعة تحت حجر البئر.

صفحة رقم 27
تفسير المراغي
عرض الكتاب
المؤلف
أحمد بن مصطفى المراغي
الناشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر
الطبعة
الأولى، 1365 ه - 1946 م
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية