آيات من القرآن الكريم

يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ
ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ

قصة موسى عليه السلام مع فرعون والملأ من قومه
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٣ الى ١١٦]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦)
الإعراب:
حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ أن في موضع جر بعلى بمعنى الباء، وتقديره: حقيق بأن لا أقول. وقرئ بتشديد الياء في: على، فيكون: ألا أقول: في موضع رفع بالابتداء، وما قبله

صفحة رقم 26

خبره وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ معطوف على محذوف، سد مسده حرف الإيجاب: نعم، كأنه قال:
نعم إن لكم لأجرا، وإنكم لمن المقربين.
فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ: إذا للمفاجاة: مبتدأ، وثعبان: خبره.
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ: أن فيهما: في موضع نصب بفعل مقدر، على تقدير: إما أن تفعل الإلقاء، وإما أن نفعل الإلقاء.
البلاغة:
وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ فيه تأكيد الجملة بمؤكدين: إن واللام، لإزالة الشك من نفوس السحرة، ويسمى هذا الخبر إنكاريا.
المفردات اللغوية:
مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد الرسل المذكورين مُوسى هو كليم الله موسى بن عمران أعظم أنبياء بني إسرائيل فِرْعَوْنَ لقب كل ملك لمصر في العهد القديم، وقيل: كان اسمه منپتاح بن رمسيس، سنة ١٢٢٥ ق. م من الأسرة ١٩، مثل لقب كسرى لملك الفرس، وقيصر لملك الروم بِآياتِنا الآيات هنا: المعجزات الدالة على صدق النبي مثل العصا واليد. وَمَلَائِهِ أشراف قومه، والمراد هنا قومه فَظَلَمُوا بِها كفروا وجحدوا بها عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ بالكفر وتلك العاقبة هي إهلاكهم حَقِيقٌ جدير أو خليق به عَلى أَنْ لا أَقُولَ أي بأن لا أقول ثُعْبانٌ مُبِينٌ حية عظيمة.
وَنَزَعَ يَدَهُ أخرجها من جيبه بَيْضاءُ ذات شعاع لِلنَّاظِرِينَ خلاف ما كانت عليه من الجلد الهامد لَساحِرٌ عَلِيمٌ فائق في علم السحر. وفي سورة الشعراء: كان هذا من قول فرعون نفسه، فكأنهم قالوه معه على سبيل التشاور. تَأْمُرُونَ تشيرون علي أَرْجِهْ وَأَخاهُ أخر أمرهما ولا تفصل في شأنهما الآن الْمَدائِنِ أي مدن المملكة حاشِرِينَ جامعين السحرة منها. ساحِرٍ عَلِيمٍ أي ماهر بفنون السحر، يفضل موسى في علم السحر، فجمعوا. تُلْقِيَ عصاك نَحْنُ الْمُلْقِينَ ما معنا.
قالَ: أَلْقُوا أمر بالإذن بتقديم إلقائهم توصلا به إلى إظهار الحق فَلَمَّا أَلْقَوْا حبالهم وعصيهم سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ صرفوها عن حقيقة إدراكها وَاسْتَرْهَبُوهُمْ خوفوهم حيث تخيلوها حيات تسعى.

صفحة رقم 27

المناسبة
هذه هي القصة السادسة من قصص الأنبياء التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة، وفيها من الإيضاح والبيان ما لم يذكر في غيرها من القصص لأن معجزات موسى كانت أقوى من معجزات الأنبياء السابقين، وجهل قوم فرعون الذين أرسل إليهم كان أعظم وأفحش من جهل سائر الأقوام، كما أن موسى أرسل أيضا لغير قومه، أما الأنبياء السابقون فإنهم أرسلوا لأقوامهم.
أضواء من التاريخ:
ذكر اسم موسى في القرآن أكثر من مائة وثلاثين مرة، وله قصص كثيرة مثيرة وعجيبة منذ بداية ولادته حينما كان جماعة فرعون يقتلون أولاد بني إسرائيل ويبقون نساءهم أحياء، فألقته أمه في النيل في صندوق، ثم رده الله إليها لإرضاعه، فهذه قصته مع أمه وأخته في سورتي القصص وطه، ثم قصة خروجه من مصر إلى أرض مدين وهو شاب، بسبب قتله مصريا إغاثة لعبراني، وقصته مذكورة في سورة القصص (١٥- ٢١) وفي سورة طه (الآية ٤٠) ثم سقايته الماشية لابنتي شعيب (القصص ٢٢- ٢٥) ثم مصاهرته لشعيب عليه السلام (القصص ٢٦- ٣٨، وطه ٤١) ثم رعيه ماشية شعيب مهرا لابنته عشر سنين بالوادي المقدس: طوى.
ثم بعثته عليه السلام بينما ذهب لإتيان أهله بنار للاستدفاء وذلك في سورة الإسراء (٢- ٣) وسورة طه (٩- ٦ و١٧- ٣٦، و٤٢- ٤٧) وسورة القصص (٤٥- ٤٦ و٢٩- ٣٥) وسورة الفرقان (٣٥- ٣٦) وسورة الشعراء (١٢- ١٦) وسورة النمل (٧- ١٢) وسورة السجدة (٢٣- ٢٥) وسورة النازعات (١٥- ١٩).
ثم عودته إلى مصر مع أخيه هارون ودعوته فرعون إلى الإيمان برسالته،

صفحة رقم 28

وذلك في سورة الأعراف (١٠٤- ١٠٥) وسورة الشعراء (١٧، ٢٢).
ثم محاورته فرعون في ربوبية الله وإظهاره الآيات البينات الدالة على صدق نبوته في سورة طه (٥٥) وسورة الشعراء (٢٤- ٢٨) وموقف فرعون الطاغية بتجاهل ألوهية الله وادعائه الألوهية، وأمره ببناء صرح يصعد به إلى السماء في سورة القصص (٣٨) وسورة غافر (٣٦- ٣٧) التي قال الله فيها: وَقالَ فِرْعَوْنُ: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً....
وإظهاره معجزتي العصا واليد أمام فرعون في سورة الأعراف (١٠٦- ١٢٦) وسورة يونس (٧٥- ٨٩) وسورة طه (٥٧- ٧٦) وسورة الشعراء (٢٩- ٥٢).
ووصف الله رد فعل فرعون وقومه وتماديهم في الضلال وإصرارهم على الكفر في سورة الأعراف (١٠٧- ١٢٩) وغافر (٢٣- ٢٧) وائتمار آل فرعون بموسى لقتله ودفاع مؤمن عنه في سورة غافر (٢٨- ٣٥، و٣٨- ٤٦) واستخفاف فرعون بموسى في سورة الزخرف (٥١- ٥٤) والنازعات (٢٢- ٢٦).
وكانت آيات العذاب التسع لفرعون وقومه لما كذبوا موسى هي العقاب الفاصل، وتلك الآيات: الجدب (السنون)، ونقص الأموال، ونقص الأنفس، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.
أما العصا واليد وفلق البحر وانبجاس الماء لبني إسرائيل فكانت معجزات لموسى عليه السلام.
أما الآيات التسع فهي مذكورة في سورة الأعراف (١٣٠- ١٣٥) وسورة الإسراء (١٠١- ١٠٢) وسورة طه (٥٩) وسورة النمل (١٣- ١٤) وسورة القصص (٣٦- ٣٧) وسورة الزخرف (٤٦- ٥٠) وسورة القمر (٤١- ٤٢) وسورة النازعات (٢٠- ٢١).

صفحة رقم 29

وإغراق فرعون وملئه في البحر الأحمر مذكور في سورة الأعراف (١٣٦- ١٣٧) وسورة يونس (٩٠- ٩٢) وسورة الإسراء (١٠٣- ١٠٤) وسورة طه (٧٧- ٧٩) وسورة الشعراء (٥٢- ٦٨) وسورة القصص (٣٩- ٤٠) وسورة الزخرف (٥٥- ٥٦) وسورة الدخان (١٧- ٣١) وسورة الذاريات (٣٨- ٤٠).
وأما عقاب فرعون وقومه في الآخرة ففيه عبرة لكل من ادعى الألوهية وتغطرس واستكبر عن قبول دعوة الأنبياء، وهو مذكور في سورة هود (٩٦- ٩٩) وسورة القصص (٤١- ٤٢) وسورة غافر (٤٥- ٥٢) وسورة الدخان (٤٣- ٥٠).
وقد قلّد بنو إسرائيل في عهد موسى وثنية المصريين، ولم يؤمن بموسى إلا ذرية من قومه على حال رهبة من فرعون أن يفتنهم عن دينهم ويردهم إلى الوثنية، كما قال تعالى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وطلبوا من موسى حينما رأوا عباد الأصنام أن يتخذ لهم إلها كما لهؤلاء القوم آلهة، وكذلك طلبوا الاستبدال بالمن والسلوى الحبوب والبصل والثوم والبقول، وذلك مذكور في سورة البقرة: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ (٦١) وفي سورة الأعراف: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ (١٣٨- ١٤٠) وضرب الحجر وانفجار العيون الاثنتي عشرة في سورة الأعراف (١٥٩- ١٦٠) وإنزال المن والسلوى في سورة طه (٨٠- ٨٢).
ثم ذهب موسى تاركا بني إسرائيل لميقات ربه، وكتب له الألواح المتضمنة الوصايا التي طلب إلى بني إسرائيل العمل بها، وذلك مذكور في سورة الأعراف:
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً... (١٤٢- ١٤٧).
وفي أثناء غيبة موسى في جبل الطور اتخذ السامري عجلا إلها لبني إسرائيل

صفحة رقم 30

يعبدونه، صنعه من ذهب بعد أن جمعه من حلي النساء، وجعله بفعل تأثير الرياح والرمال أو أثر قدم فرس جبريل ذا خوار أي كصوت الثور، وقال لهم: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى. ولم يفلح هارون في ردهم عن عبادة العجل: قالُوا: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى [طه ٢٠/ ٩١]. وبعد عودة موسى غضب على أخيه هارون وأخذ بلحيته ورأسه يجره إليه، وكان فيه حدة، فاعتذر إليه هارون بأنه بذل أقصى جهده. ثم عاتب موسى النبي، موسى السامري فقال السامري: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ، فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي [طه ٢٠/ ٩٦] فعاقبه موسى بالطرد والتشرد وأن يقول في حياته: لا مِساسَ.
وقصة عبادة العجل مذكورة في سورة البقرة (٥٤، و٩٢- ٩٣) وسورة الأعراف (١٤٨- ١٥٤) وسورة طه (٨٤- ٩٨).
ثم أمر الله على لسان موسى بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة وهي فلسطين أرض الموعد، فتمردوا، فحرمت عليهم، وتاهوا في الأرض أربعين سنة يعيشون في البرية، من عهد خروجهم من مصر، إلى أن مات موسى، وعبروا نهر الأردن، وملكوا أريحاء وما حولها غرب الأردن أربعين سنة. وتلك القصة مذكورة في سورة المائدة (٢٠- ٢٦).
وفي صحراء التيه ذكر الله تعالى في سورتي البقرة والأعراف أنه رفع جبل الطور فوق بني إسرائيل حتى صار كأنه ظلة، وظنوا أنه واقع عليهم أو أيقنوا ذلك، وأمرهم أن يأخذوا ما آتاهم من الأحكام بقوة بأن يفعلوها دون تذمر أو توقف. وقصة نتق الجبل مذكورة في سورة البقرة (٦٣- ٦٤) وسورة الأعراف (١٧١).
وبالرغم من أعجوبة قصة البقرة (البقرة ٦٧- ٧٤) التي ذكرناها في الجزء الأول، فإن بني إسرائيل لم يتعظوا بها، وبقيت قلوبهم على قساوتها كأنها الحجارة أو أشد قسوة، ولم تفلح مواعظ موسى فيهم.

صفحة رقم 31

ولموسى عليه السلام موقف متشدد مع قارون الثري الطاغية، وقد ذكرت قصته في سورة القصص (٧٦- ٨٣) كما ذكر ما آل إليه أمر طغيانه بخسف الأرض به وبداره، وإبادة أعداء موسى المقدر عددهم مائتين وخمسين.
ويلاحظ أن موسى أوذي من بني إسرائيل وأظهر الله براءته من عيب اتهموه به وهو الأدرة (ورم في الخصية) أو البرص، وذلك في سورة الأحزاب (٦٩) وسورة الصف (٥).
ولما رأى بنو إسرائيل اقترافهم الإثم الكبير بعبادة العجل، اختار موسى من القوم سبعين رجلا يذهبون معه إلى الجبل الذي اعتاد مناجاة الله فيه وهو جبل الطور، ليقدموا الطاعة لله ويندموا على ما اقترفوا من إثم، ويتوبوا من عبادة العجل، فلما كلم الله تعالى موسى وهم شهود يسمعون كلام الله، عاد جماعة منهم إلى التمرد والعصيان، ولم يؤمنوا أن الله تعالى هو الذي يكلم موسى وأنه أعطاه التوراة، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظر بعضهم إلى بعض، ثم بعثهم الله من بعد موتهم، بعد تضرع موسى وتذلله، وطلبه العفو عما صدر من سفهائهم، والقصة مذكورة في سورتي البقرة (٥٥- ٥٦) والأعراف (١٥٥- ١٥٧).
ولموسى قصة طريفة مع العبد الصالح الخضر، مذكورة في سورة الكهف (٦٠- ٨٢).
وتكرر في القرآن تذكير الله تعالى بني إسرائيل بنعمه عليهم مثل آيات سورة البقرة (٤٧- ٥٧، و٦٠- ٦١) وفي سورة الأعراف (١٤١) وسورة إبراهيم (٦- ٨).
وقد مات هارون أولا في جبل «هور» ودفنه موسى، ثم مات موسى في جبل «نبو» ودفن على الكثيب الأحمر.

صفحة رقم 32

وبعد وفاة موسى قام بأمر بني إسرائيل يوشع بن نون من سبط يوسف، بعد خروجهم من التيه، أمرهم الله أن يدخلوا مدينة بفلسطين هي بيت المقدس أورشليم» أو أريحا، وذلك بأن يدخلوا باب المدينة سجّدا، أي خاشعين متذللين، وأن يقولوا: حطة فخالفوا ودخلوا على هيئة غير التي أمروا بها، فغضب الله عليهم وأنزل عليهم العذاب، والقصة مذكورة في سورة البقرة (٥٨- ٥٩) وسورة الأعراف (١٦١- ١٦٢).
وأثنى الله على موسى وهارون في سورة مريم (٥١- ٥٣) وسورة الصافات (١١٤- ١٢٢) وسورة غافر (٥٣- ٥٤).
ما يستفاد من قصة موسى عليه السلام:
شريعة موسى في أصلها الموحى به كشريعة الإسلام في الجملة، وأمته ذات تاريخ مليء بالاضطرابات والقلاقل والأحداث العنيفة، وكانت ذات سلطة أحيانا، وساهمت بشيء من المدنيّة. وكان لقصة موسى مع بني إسرائيل عبر وعظات هي:
١- أنقذ الله موسى من القتل وهو طفل رضيع، وألقته أمه في النيل، ثم ردّه الله إليها لإرضاعه، وتلك عصمة الله ورعايته له ورحمته بأمه.
٢- تربّى موسى في قصور فرعون وكان مؤمنا ونبيا من أولي العزم، وموسى السامري الذي ربّاه جبريل كافر شقي ابتدع عبادة العجل.
٣- هجرة موسى أو خروجه من أرض مصر بنصيحة رجل من أقصى المدينة بالابتعاد عن مصر، كانت خيرا كلها، فإنه صاهر شعيبا عليه السلام، وأوحى الله إليه بالنبوة، وكانت نصيحة الرجل له من تيسير الله له وفضله عليه لأنها كانت سببا في نجاته وبعثته. وهكذا فإن من توكل على الله صانه وحماه.

صفحة رقم 33

٤- لا أثر لقوة البشر وتآمرهم على الإنسان إذا لازمته العناية الإلهية، فإن بأس فرعون وملأه لم يلحق ضررا بموسى. وانظر إلى هذه المحاورة الحادة، إذ قال له فرعون: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً [الإسراء ١٧/ ١٠١] فأجابه موسى بعد تلطف كثير وصبر على الجدال بالباطل: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ، وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء ١٧/ ١٠٢].
٥- الفرج الإلهي يأتي بعد الشدة، ونصرة الحق تأتي عند اشتداد الأزمة، فقد دافع رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه عن موسى، وحذر فرعون وآله بطش الله، غير خائف ولا مبال به وبسلطته، ضاربا الأمثال بالأمم الخالية، كما جاء في قوله تعالى في سورة غافر: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ...
[٢٨- ٣٥].
٦- إذا فاضت مشاعر الإيمان في النفس، هانت أمامها كل الصعاب، فإن السحرة آمنوا برب موسى، غير مبالين بفرعون وسطوته.
٧- الصبر مفتاح الفرج وحميد العاقبة، فإن بني إسرائيل صبروا على أذى فرعون بتقتيل الأبناء واستحياء النساء ثم أعقبهم الله الحسنى بما صبروا: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [الأعراف ٧/ ١٣٧].
وتعرضوا لهجوم الرومان بقيادة «طيطس» الروماني، فخربوا بيتهم المقدس وهيكلهم الضخم، بعد سنة ٧١ م فتركوا فلسطين ثم عادوا إليها بعد وفاة موسى وأسسوا مملكة أريحا، واحتلوا جهات من الحجاز، كتيماء ووادي القرى وفدك وخيبر ويثرب، وبنوا فيها المصانع والحصون، انتظارا لظهور النبي الذي

صفحة رقم 34

وعدوا به من العرب الإسماعيليين في يثرب، وأملا في مؤازرتهم ومناصرتهم، فأقاموا على الطريق بين يثرب وفلسطين.
٨- حلم موسى على قومه بني إسرائيل، فبالرغم من غضب الله عليهم بسبب عبادة العجل، وطلب شيوخهم الذين جاؤوا للتوبة رؤية الله تعالى جهلا وتعنتا، فإن موسى تضرع إلى ربه طالبا العفو عن زلات سفهائهم، وقال:
رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ، أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا، إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ، تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ، وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ، أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ [الأعراف ٧/ ١٥٥].
التفسير والبيان:
يذكر الله تعالى أنه بعث بعد الرسل المتقدم ذكرهم كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام، موسى، بالآيات أي الحجج والدلائل البينة والمعجزات الدالة على صدقه ورسالته، إلى فرعون: وهو ملك مصر في زمن موسى، وملئه أي قومه، فجحدوا وكفروا بها، ظلما منهم وعنادا، فانظر أيها الرسول (أي محمد) كيف كان مصير المفسدين في الأرض بالظلم واستعباد البشر، وهم فرعون وملؤه الذين صدوا عن سبيل الله وكذبوا رسله، أي انظر يا محمد كيف فعلنا بهم، وأغرقناهم عن آخرهم بمرأى من موسى وقومه، وهذا أبلغ في النكال بفرعون وقومه، وأشفى لقلوب أولياء الله: موسى وقومه المؤمنين به.
ونظير الآية قوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها، وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ، ظُلْماً وَعُلُوًّا، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل ٢٧/ ١٤].
وقال: إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ولم يقل: وقومه لأن الذين استعبدهم فرعون وعاضدوه هم أتباع الحكم والسلطان، وليس سائر الشعب المصري، وإنما كان الشعب تبعا للحكام، فلو آمن فرعون لتبعه الشعب كله.

صفحة رقم 35

وقوله: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ فيه تشويق واجتذاب الأنظار إلى ما سيذكره تعالى من المصير المشؤوم لفرعون وملئه، ونجاة موسى وبني إسرائيل.
ثم بدأ الله تعالى بعد هذا التشويق ببيان فصول القصة، وأول فصل منها:
إخباره تعالى عن مناظرة موسى لفرعون وتغلبه عليه بالحجة والمنطق، وإظهاره الآيات البيّنات في مجلس فرعون وقومه قبط مصر.
وقال موسى: يا فرعون أي يا ملك مصر، إني رسول من رب العالمين، أي مالك كل شيء وخالقه ومدبره، وجدير بي «١» ألا أقول على الله إلا الحق، فإن الرسول لا يكذب على الله الذي بيده ملكوت كل شيء، لذا فإني لا أخبر عن الله إلا بما هو حق وصدق لما أعلم من جلاله وعظيم شأنه.
وهاتان الجملتان تتضمنان عقيدة التوحيد: وهي أن للعوالم كلها إنسها وجنّها ربا واحد، وعقيدة النوبة والرسالة المؤيدة منه تعالى بالعصمة في التبليغ.
ومن المؤيدات قوله: قد جئتكم ببرهان وحجة قاطعة من الله أعطانيها دليلا وشاهدا على صدقي فيما أخبرتكم عنه.
وقوله: مِنْ رَبِّكُمْ إشارة إلى أن جميع الناس مربوبون لله ومخلوقون به، وأن فرعون ليس ربا ولا إلها، وإلى أن البينة ليست من صنع موسى.
ثم رتب على إثباته نبوته بالبينة الواضحة طلب موسى من فرعون إطلاق سراح بني إسرائيل من أسره واستعباده وقهره، وتركهم حتى يذهبوا معه راجعين إلى الأرض المقدسة التي هي وطنهم ومولد آبائهم، ليتفرغوا إلى عبادة ربهم وربه فإنهم من سلالة

(١) الباء وعلى يتعاقبان، فعلى في قوله تعالى: «حَقِيقٌ عَلى» بمعنى الباء، يقال: رميت بالقوس وعلى القوس، وجاء على حال حسنة وبحال حسنة.

صفحة رقم 36

نبي كريم: إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن.
وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي وانقرضت الأسباط، تغلب فرعون على نسل بني إسرائيل واستعبدهم، فأنقذهم الله بموسى عليه السلام، وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر، واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام.
قال فرعون مجيبا موسى: إن كنت مؤيدا بآية من عند ربك، فأظهرها لنراها، إن كنت صادقا فيما ادعيت.
فأجابه موسى على الفور إلى ما طلبه بالفعل لا بالقول: فألقى عصاه من يمينه على الأرض أمام فرعون فإذا هي ثعبان (ذكر الحيات) مبين، أي ظاهر واضح حقيقي يتحرك ويسير من مكان إلى مكان.
وأخرج يده من جيب قميصه بعد ما أدخلها فيه، فإذا هي بيضاء تتلألأ من غير برص ولا مرض، كالشمس المضيئة، كما قال تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النمل ٢٧/ ١٢].
وهذا هو الفصل الثاني من القصة.
ولا داعي للاسترسال في أوصاف الثعبان والعصا واليد، بأكثر مما دلت عليه الآيات القرآنية إذ ليس لها سند يوثق به، وإنما هي من الروايات الإسرائيلية التي دسها بعض الدخلاء غير المتورعين ولا المدققين، مثل كعب الأحبار الإسرائيلي، ووهب بن منبّه الفارسي الأصل.
ومن المعلوم أن إثارة الفتن السياسية في صدر الإسلام يعود أمرها إلى جماعة السابئيين (أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي) وجماعات الفرس الذين دخلوا في الإسلام لهدمه من الداخل، وقد قتل عمر على يد أبي لؤلؤة الفارسي المرسل من جماعة سرية في فارس، وقتل عثمان بدسائس عبد الله بن سبأ.

صفحة رقم 37

ثم جاء الفصل الثالث من القصة ومضمونه مقالة ملأ فرعون: قال السادة من قوم فرعون الموافقون له وأهل مشورته: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ أي خبير بفنون السحر وأنواعه، وله خطره إذ قد يستميل الناس بسحره، فيكون ذلك سببا لغلبته علينا، ونزع ملكنا، وإخراجنا من أرضنا بسحره، وذلك كله مصرح به في آية أخرى خاطبوا بها موسى وأخاه هارون: قالُوا: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا، وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ، وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ [يونس ١٠/ ٧٨] وهو في الواقع صدى لما قاله فرعون وحكاه الله عنه بقوله: قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ، فَماذا تَأْمُرُونَ [الشعراء ٢٦/ ٣٤- ٣٥].
ثم وقع ما خافوا منه، كما قال تعالى: وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ [القصص ٢٨/ ٦].
وتابع الملأ كلامهم وإبداء رأيهم: قال الملأ لفرعون بعد أن استشارهم بقوله السابق: فَماذا تَأْمُرُونَ؟: أخّر الفصل في أمره وأمر أخيه، وأرسل في الأقاليم ومدائن ملكك فئة من جندك حاشرين، أي جامعين لك السحرة من سائر البلاد. وإنما قال: في المدائن لأن السحر ينشط في المدن الجامعة المأهولة بكثرة الناس.
وكان السحر في زمانهم غالبا كثيرا، فتوهموا أن ما جاء به موسى عليه السلام من قبيل شعوذة الساحرين، فجمعوا له السحرة، ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات، كما أخبر تعالى فرعون حيث قال: قالَ: أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى، فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ، فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ، مَكاناً سُوىً. قالَ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى، فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ، فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى [طه ٢٠/ ٥٧- ٦٠].

صفحة رقم 38

يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ أي إن ترسلهم يأتوك بكل ساحر ماهر بفنون السحر. وواضح أن الهدف الإتيان بالمهرة لتحقيق الغلبة والتفوق. قال الزمخشري: وكانت هذه مؤامرة مع القبط.
ثم جاء الفصل الرابع وهو دور السحرة.
وجاء السحرة من كل مكان، وقالوا لفرعون: هل لنا أجر لقاء الغلبة على موسى؟ فقال فرعون: نعم لكم أجر عظيم، وتصبحون من المقرّبين إلى في المركز والمجلس، وهذا إغراء في الجمع بين المركز المالي والأدبي.
قال السحرة لموسى في اليوم المخصص: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ بسحرك أولا، وإما أن نلقي ما عندنا؟ وفي هذا التخيير اعتزاز شديد بأنفسهم، وثقة بخبرتهم، وعدم مبالاة بعمله.
فأجاب موسى جواب الذكي الخبير لأن المتأخر في العمل يكون أدرى بما تقتضيه الحال، وهو واثق أيضا بشأنه وغلبته عليهم: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ، وهذا إذن بتقديم الفعل، لا أمر يقرهم به على فعل السحر، وهو بقوله المذكور يريد أن يري الناس صنيعهم ويتأملوه، ويستفرغ ما عندهم من طاقات، فإذا فرغوا من زيفهم وشعوذتهم، جاءهم الحق الواضح، فيكون أوقع في النفوس. لذا قال تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا، سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ، وَاسْتَرْهَبُوهُمْ، وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف ٧/ ١١٦] أي خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوه، له حقيقة واقعية، ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال، كما قال تعالى: قالَ: بَلْ أَلْقُوا، فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى. فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى. قُلْنا: لا تَخَفْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى. وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا، إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه ٢٠/ ٦٦- ٦٩].
وتتجلى ثقة موسى بنفسه وبأن ما لديه معجزة إلهية ليست من جنس

صفحة رقم 39

السحر، في قوله تعالى: قالَ مُوسى: ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ، إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ، إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ. وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [يونس ١٠/ ٨١- ٨٢].
ومعنى قوله تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ... أي لما ألقوا حبالهم وأخشابهم، سحروا أعين المتفرجين، ومنهم موسى الذي خيل إليه من سحرهم أنها تسعى، وجاؤوا بسحر عظيم المظهر، كبير التأثير في أعين الناس.
روي أنهم لوّنوا حبالهم وخشبهم وجعلوا فيها ما يوهم الحركة، قيل: جعلوا فيها الزئبق.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت آيات قصة موسى على ما يأتي:
١- آية ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا دلت على أن النبي لا بد له من آية ومعجزة يمتاز بها عن غيره إذ لو لم يكن مختصا بهذه الآية لم يكن قبول قوله أولى من قبول قول غيره.
ودلت أيضا على أنه تعالى آتاه آيات كثيرة ومعجزات كثيرة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أول آياته: العصا ثم اليد.
ودلت كذلك على أن فرعون وجماعته ظلموا بالآيات التي جاءتهم، فاستحقوا العقاب الشامل وهو الإغراق في البحر لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وإنهم وضعوا الإنكار في موضع الإقرار. والكفر في موضع الإيمان، فكان ذلك ظلما منهم لتلك الآيات.
٢- دل قوله: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ على وجود الإله لأن العالم

صفحة رقم 40

محتاج إلى إله يوجده ويخلقه، ومتصف بصفات كالضعف والتغير ونحوها تجعله مفتقرا إلى ربّ يربّيه.
٣- وقوله: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ يشير إلى أن الرسول لا يقول إلا الحق.
٤- إن طلب موسى عليه السلام إرسال شعب بني إسرائيل معه الذي رتبه على كونه رسولا طلب ليس من السهل على حاكم تلبيته، لاحتمال تكوين خصوم ضده، من طريق تبليغهم الحكم الإلهي، وإعدادهم لمجابهة فرعون.
٥- قوله: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ هو المعجزة الظاهرة القاهرة، وقد طلب فرعون من موسى إظهار تلك المعجزة: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها.. دليلا على صدقه فيما يدعيه من الرسالة المرسل بها من الله. وكانت المعجزة قلب العصا ثعبانا، وإظهار اليد البيضاء.
٦- اختار الطاغية الكافر: فرعون وجماعته تكذيب هذه المعجزة الخارقة، وادعى كون موسى ساحرا، فتشاور مع كبار رجال دولته، فأشاروا بالمبارزة بين سحرة صعيد مصر المهرة وبين موسى.
وتم جمع السحرة من أنحاء المملكة، قيل: كانوا سبعين رجلا أو ثلاثة وسبعين. ودل قوله: وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ على أن السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان.
٧- دل قوله: فَأَلْقى عَصاهُ... وقوله: وَنَزَعَ يَدَهُ على أنه تعالى يجعل معجزة كل نبي من جنس ما كان غالبا على أهل ذلك الزمان، فلما كان السحر غالبا على أهل زمان موسى عليه السلام، كانت معجزته شبيهة بالسحر، وإن كان مخالفا للسحر في الحقيقة. ولما كان الطب غالبا على أهل زمان عيسى

صفحة رقم 41

عليه السلام كانت معجزته من جنس الطب، ولما كانت الفصاحة غالبة على أهل زمان محمد عليه الصلاة والسلام كانت معجزته القرآن أبلغ الكلام من جنس الفصاحة.
٨- دل قوله: وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا... على أن كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبدا ذليلا مهينا عاجزا، وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة في دفع موسى عليه السلام. ودل أيضا على أن السحرة ما كانوا قادرين على قلب الأعيان أو الأشياء، فلم يتمكنوا من قلب الحبال والعصي حيات فعلية، كما لم يتمكنوا من قلب التراب ذهبا، وأن يجعلوا أنفسهم ملوك العالم، ولو كانوا قادرين على ذلك لما احتاجوا إلى طلب الأجر والمال من فرعون.
والمقصود من هذه الآيات تنبيه الإنسان لهذه الدقائق، وألا يغتر بكلمات أهل الأباطيل والأكاذيب.
٩- قوله: وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ فيه ما يدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله، من قولهم: نَكُونَ وتأكيد الضمير المتصل بالمنفصل وهو نَحْنُ وتعريف الخبر وهو الْمُلْقِينَ بقصد كسب الشهرة واجتذاب أنظار الناس.
وقد جاراهم موسى في رغبتهم ازدراء لشأنهم وقلة المبالاة بهم، وثقته بالتأييد الإلهي، وأن المعجزة لن يغلبها شيء.
١٠- دل قوله تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ على أن السحر محض التمويه. ولو كان السحر حقا، لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم. وكل ما في الأمر أنهم تخيلوا أحوالا عجيبة، مع أن الأمر في الحقيقة خلاف ذلك. ودل قوله: وَاسْتَرْهَبُوهُمْ على أن العوام خافوا من حركات تلك الحبال والعصي.

صفحة رقم 42

وأما خوف موسى فليس كخوف العوام، وإنما لعله خاف من وقوع التأخير في ظهور حجته على سحرهم.
١١- السحر كما دلت الآية مجرد خيال وتمويه لا حقيقة فيه، لذا يسمى بالشّعوذة والدجل، وهو إما أن يعتمد على بعض خواص المادة كتمدد الزئبق الذي وضعه سحرة فرعون في حبالهم وعصيهم، وإما أن يستعان فيه بخفة اليد في إخفاء بعض الأشياء وإظهار بعضها، وإما أن يلجأ فيه إلى تأثير النفس القوية في إرادة النفس الضعيفة، وقد يستعان حينئذ بأرواح الشياطين، ومنه ما يسمى في عصرنا بالتنويم المغناطيسي.
١٢- الفرق بين السحر والمعجزة: أن المعجزة حقيقة تظهر على يد مدعي النبوة، والسحر خيال يحدث على يد رجل فاسق.
لذا أخطأ من زعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سحر، وأن السحر أثّر فيه، حتى قال:
«إنه يخيّل إلي أني أقول الشيء وأفعله، ولم أقله ولم أفعله» وإن امرأة يهودية سحرته في وعاء طلع النخل ووضعته تحت الحجر الذي يقف عليه المستقي من البئر، حتى أتاه جبريل فأخبره بذلك، فاستخرج وزال عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم. وهذا كله من وضع الملحدين الذين يحاولون العبث بالنبوة وإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام.
وهذا ينافي قوله تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى. وجائز أن تفعل المرأة اليهودية ذلك بجهلها، ثم أطلع الله نبيه على فعلها، لا أن ذلك ضره وخلط عليه أمره.

صفحة رقم 43
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية