آيات من القرآن الكريم

يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ
ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂ ﰄﰅﰆ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﱿ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ

فإذا كان هذا شأنه، وأنا قد اختارني واصطفاني لرسالته، فحقيق علي أن لا أكذب عليه، ولا أقول عليه إلا الحق. فإني لو قلت غير ذلك لعاجلني بالعقوبة، وأخذني أخذ عزيز مقتدر.
فهذا موجب لأن ينقادوا له ويتبعوه، خصوصا وقد جاءهم ببينة من الله واضحة على صحة ما جاء به من الحق، فوجب عليهم أن يعملوا بمقصود رسالته، ولها مقصودان عظيمان. إيمانهم به، واتباعهم له، وإرسال بني إسرائيل الشعب الذي فضله الله على العالمين، أولاد الأنبياء، وسلسلة يعقوب عليه السلام، الذي موسى عليه الصلاة والسلام واحد منهم.
فقال له فرعون: ﴿إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.
﴿فَأَلْقَى﴾ موسى ﴿عَصَاهُ﴾ في الأرض ﴿فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ﴾ أي: حية ظاهرة تسعى، وهم يشاهدونها.
﴿وَنزعَ يَدَهُ﴾ من جيبه ﴿فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾ من غير سوء، فهاتان آيتان كبيرتان دالتان على صحة ما جاء به موسى وصدقه، وأنه رسول رب العالمين، ولكن الذين لا يؤمنون لو جاءتهم كل آية لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.
فلهذا ﴿قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ﴾ حين بهرهم ما رأوا من الآيات، ولم يؤمنوا، وطلبوا لها التأويلات الفاسدة: ﴿إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ أي: ماهر في سحره.
ثم خوفوا ضعفاء الأحلام وسفهاء العقول، بأنه ﴿يُرِيدُ﴾ موسى بفعله هذا ﴿أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ﴾ أي: يريد أن يجليكم (١) عن أوطانكم ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ أي: إنهم تشاوروا فيما بينهم ما يفعلون بموسى، وما يندفع به ضرره بزعمهم عنهم، فإن ما جاء به إن لم يقابل بما يبطله ويدحضه، وإلا دخل في عقول أكثر الناس.
فحينئذ انعقد رأيهم إلى أن قالوا لفرعون: ﴿أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾ أي: احبسهما وأمهلهما، وابعث في المدائن أناسا يحشرون أهل المملكة ويأتون بكل سحار عليم، أي: يجيئون بالسحرة المهرة، ليقابلوا ما جاء به موسى، فقالوا: يا موسى اجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى.
﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى﴾.
وقال هنا: ﴿وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ﴾ طالبين منه الجزاء إن غلبوا فـ ﴿قَالُوا إِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ﴾ ؟
فـ ﴿قَالَ﴾ فرعون: ﴿نَعَمْ﴾ لكم أجر ﴿وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ فوعدهم الأجر والتقريب، وعلو المنزلة عنده، ليجتهدوا ويبذلوا وسعهم وطاقتهم في مغالبة موسى.
فلما حضروا مع موسى بحضرة الخلق العظيم ﴿قَالُوا﴾ على وجه التألي وعدم -[٣٠٠]- المبالاة بما جاء به موسى: ﴿يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ﴾ ما معك ﴿وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ﴾.
فـ ﴿قَالَ﴾ موسى: ﴿أَلْقُوا﴾ لأجل أن يرى الناس ما معهم وما مع موسى.
﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا﴾ حبالهم وعصيهم، إذا هي من سحرهم كأنها حيات تسعى، فـ ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ لم يوجد له نظير من السحر.
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾ فَأَلْقَاهَا ﴿فَإِذَا هِيَ﴾ حية تسعى، فـ ﴿تَلْقَفُ﴾ جميع ﴿مَا يَأْفِكُونَ﴾ أي: يكذبون به ويموهون.
﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ﴾ أي: تبين وظهر، واستعلن في ذلك المجمع، ﴿وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
﴿فَغُلِبُوا هُنَالِكَ﴾ أي: في ذلك المقام ﴿وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ﴾ أي: حقيرين قد اضمحل باطلهم، وتلاشى سحرهم، ولم يحصل لهم المقصود الذي ظنوا حصوله.
وأعظم من تبين له الحق العظيم أهل الصنف والسحر، الذين يعرفون من أنواع السحر وجزئياته، ما لا يعرفه غيرهم، فعرفوا أن هذه آية عظيمة من آيات الله لا يدان لأحد بها.
﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾
أي: وصدقنا بما بعث به موسى من الآيات البينات.

(١) كذا في ب، وفي أ: يريد ليجليكم من.

صفحة رقم 299

فـ ﴿قَالَ﴾ لَهُمْ ﴿فِرْعَوْنَ﴾ متهددا على الإيمان: ﴿آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ كان الخبيث حاكما مستبدا على الأبدان والأقوال، قد تقرر عنده وعندهم أن قوله هو المطاع، وأمره نافذ فيهم، ولا خروج لأحد عن قوله وحكمه، وبهذه الحالة تنحط الأمم وتضعف عقولها ونفوذها، وتعجز عن المدافعة عن حقوقها، ولهذا قال الله عنه: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ وقال هنا: ﴿آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ أي: فهذا سوء أدب منكم وتجرؤ عَليَّ.
ثم موه على قومه وقال: ﴿إنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا﴾ أي: إن موسى كبيركم الذي علمكم السحر، فتواطأتم أنتم وهو على أن تنغلبوا له، فيظهر فتتبعوه، ثم يتبعكم الناس أو جمهورهم فتخرجوا منها أهلها.
وهذا كذب يعلم هو ومن سبر الأحوال، أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يجتمع بأحد منهم، وأنهم جمعوا على نظر فرعون ورسله، وأن ما جاء به موسى آية إلهية، وأن السحرة قد بذلوا مجهودهم في مغالبة موسى، حتى عجزوا، وتبين لهم الحق، فاتبعوه.
ثم توعدهم فرعون بقوله: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ ما أحل بكم من العقوبة.
﴿لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ﴾ زعم الخبيث أنهم مفسدون في الأرض، وسيصنع بهم ما يصنع بالمفسدين، من تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أي: اليد اليمنى والرجل اليسرى.
﴿ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ﴾ في جذوع النخل، لتختزوا بزعمه ﴿أَجْمَعِينَ﴾ أي: لا أفعل هذا الفعل بأحد دون أحد، بل كلكم سيذوق هذا العذاب.
فقال السحرة، الذين آمنوا لفرعون حين تهددهم: ﴿إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ﴾ أي: فلا نبالي بعقوبتك، فالله خير وأبقى، فاقض ما أنت قاض.
﴿وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا﴾ أي: وما تعيب منا على إنكارك علينا وتوعدك لنا؟ فليس لنا ذنب ﴿إِلا أَنْ آمَنَّا﴾ بـ[آيَاتِ] ربنا [لما جاءتنا] (١) فإن كان هذا ذنبا يعاب عليه، ويستحق صاحبه العقوبة، فهو ذنبنا.
ثم دعوا الله أن يثبتهم ويصبرهم فقالوا: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ﴾ أي: أفض ﴿عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ أي: عظيما، كما يدل عليه التنكير، لأن هذه محنة عظيمة، تؤدي إلى ذهاب النفس، فيحتاج فيها من الصبر إلى شيء كثير، ليثبت الفؤاد، ويطمئن المؤمن على إيمانه، ويزول عنه الانزعاج الكثير.
﴿وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ أي: منقادين لأمرك، متبعين لرسولك، والظاهر أنه أوقع بهم ما توعدهم عليه، وأن الله تعالى ثبتهم على الإيمان.
هذا وفرعون وملؤه وعامتهم المتبعون للملأ قد استكبروا عن آيات الله، وجحدوا بها ظلما وعلوا، وقالوا لفرعون مهيجين له على الإيقاع بموسى، وزاعمين أن ما جاء باطل وفساد: ﴿أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأرْضِ﴾ بالدعوة إلى الله، وإلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، التي هي الصلاح في الأرض، وما هم عليه هو الفساد، ولكن الظالمين لا يبالون بما يقولون.
﴿وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾ أي: يدعك أنت وآلهتك، وينهى عنك، ويصد الناس عن اتباعك.
فـ ﴿قَالَ﴾ فرعون مجيبا لهم، بأنه سيدع بني إسرائيل مع موسى بحالة لا ينمون فيها، ويأمن (٢) فرعون وقومه - بزعمه - من ضررهم: ﴿سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾ أي: نستبقيهن فلا نقتلهن، فإذا فعلنا ذلك أمنا من كثرتهم، وكنا مستخدمين لباقيهم، ومسخرين لهم على ما نشاء من الأعمال ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ لا خروج لهم عن حكمنا، ولا قدرة، وهذا نهاية الجبروت من فرعون والعتو والقسوة.
فـ ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ موصيا لهم في هذه الحالة، - التي لا يقدرون معها على شيء، ولا مقاومة - بالمقاومة الإلهية، والاستعانة الربانية: ﴿اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ﴾ أي: اعتمدوا عليه في جلب ما ينفعكم، ودفع ما يضركم، وثقوا بالله، أنه سيتم أمركم ﴿وَاصْبِرُوا﴾ أي: الزموا الصبر على ما يحل بكم، منتظرين للفرج.
﴿إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ﴾ ليست لفرعون ولا لقومه حتى يتحكموا فيها ﴿يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ -[٣٠١]- أي: يداولها بين الناس على حسب مشيئته وحكمته، ولكن العاقبة للمتقين، فإنهم - وإن امتحنوا مدة ابتلاء من الله وحكمة، فإن النصر لهم، ﴿وَالْعَاقِبَةُ﴾ الحميدة لهم على قومهم وهذه وظيفة العبد، أنه عند القدرة، أن يفعل من الأسباب الدافعة عنه أذى الغير، ما يقدر عليه، وعند العجز، أن يصبر ويستعين الله، وينتظر الفرج.
﴿قَالُوا﴾ لموسى متضجرين من طول ما مكثوا في عذاب فرعون، وأذيته: ﴿أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا﴾ فإنهم يسوموننا سوء العذاب، يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا ﴿وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾ كذلك فـ ﴿قَالَ﴾ لهم موسى مرجيا [لهم] (٣) الفرج والخلاص من شرهم: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ﴾ أي: يمكنكم فيها، ويجعل لكم التدبير فيها ﴿فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ هل تشكرون أم تكفرون؟. وهذا وعد أنجزه الله لما جاء الوقت الذي أراده الله.
قال الله تعالى في بيان ما عامل به آل فرعون في هذه المدة الأخيرة، أنها على عادته وسنته في الأمم، أن يأخذهم بالبأساء والضراء، لعلهم يضرعون. الآيات: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ﴾ أي: بالدهور والجدب، ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ أي: يتعظون أن ما حل بهم وأصابهم معاتبة من الله لهم، لعلهم يرجعون عن كفرهم، فلم ينجع فيهم ولا أفاد، بل استمروا على الظلم والفساد.

(١) زيادة من هامش ب، وهي في أ: آمنا بربنا.
(٢) كذا في ب، وفي أ: ويؤمن.
(٣) زيادة من هامش ب.

صفحة رقم 300

﴿فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ﴾ أي: الخصب وإدرار الرزق ﴿قَالُوا لَنَا هَذِهِ﴾ أي: نحن مستحقون لها، فلم يشكروا الله عليها ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ أي: قحط وجدب ﴿يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ﴾ أي: يقولوا: إنما جاءنا بسبب مجيء موسى، واتباع بني إسرائيل له.
قال الله تعالى: ﴿أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: بقضائه وقدرته، ليس كما قالوا، بل إن ذنوبهم وكفرهم هو السبب في ذلك، بل ﴿أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ أي: فلذلك قالوا ما قالوا.
﴿وَقَالُوا﴾ مبينين لموسى أنهم لا يزالون، ولا يزولون عن باطلهم: ﴿مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ أي: قد تقرر عندنا أنك ساحر، فمهما جئت بآية، جزمنا أنها سحر، فلا نؤمن لك ولا نصدق، وهذا غاية ما يكون من العناد، أن يبلغ بالكافرين إلى أن تستوي عندهم الحالات، سواء نزلت عليهم الآيات أم لم تنزل.
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ﴾ أي: الماء الكثير الذي أغرق أشجارهم وزروعهم، وأضر بهم ضررا كثيرا ﴿وَالْجَرَادَ﴾ فأكل ثمارهم وزروعهم، ونباتهم ﴿وَالْقُمَّلَ﴾ قيل: إنه الدباء، أي: صغار الجراد، والظاهر أنه القمل المعروف ﴿وَالضَّفَادِعَ﴾ فملأت أوعيتهم، وأقلقتهم، وآذتهم أذية شديدة ﴿وَالدَّمَ﴾ إما أن يكون الرعاف، أو كما قال كثير من المفسرين، أن ماءهم الذي يشربون انقلب دما، فكانوا لا يشربون إلا دما، ولا يطبخون إلا بدم.
﴿آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ﴾ أي: أدلة وبينات على أنهم كانوا كاذبين ظالمين، وعلى أن ما جاء به موسى، حق وصدق ﴿فَاسْتَكْبَرُوا﴾ لما رأوا الآيات ﴿وَكَانُوا﴾ في سابق أمرهم ﴿قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ فلذلك عاقبهم الله تعالى، بأن أبقاهم على الغي والضلال.
﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ﴾ أي: العذاب، يحتمل أن المراد به: الطاعون، كما قاله كثير من المفسرين، ويحتمل أن يراد به ما تقدم من الآيات: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، فإنها رجز وعذاب، وأنهم كلما أصابهم واحد منها ﴿قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ﴾ أي: تشفعوا بموسى بما عهد الله عنده من الوحي والشرع، ﴿لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وهم في ذلك كذبة، لا قصد لهم إلا زوال ما حل بهم من العذاب، وظنوا إذا رفع لا يصيبهم غيره.
﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ﴾ أي: إلى مدة قدر الله بقاءهم إليها، وليس كشفا مؤبدا، وإنما هو مؤقت، ﴿إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ﴾ العهد الذي عاهدوا عليه موسى، ووعدوه بالإيمان به، وإرسال بني إسرائيل، فلا آمنوا به ولا أرسلوا معه بني إسرائيل، بل استمروا على كفرهم يعمهون، وعلى تعذيب بني إسرائيل دائبين.
﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ أي: حين جاء الوقت المؤقت لهلاكهم، أمر الله موسى أن يسري ببني إسرائيل ليلا وأخبره أن فرعون سيتبعهم هو وجنوده ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾ يجمعون الناس ليتبعوا بني إسرائيل، وقالوا لهم: ﴿إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِين * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ *ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ﴾.
وقال هنا: ﴿فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ أي: بسبب تكذيبهم بآيات الله وإعراضهم عما دلت عليه من الحق.
﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ﴾ في الأرض، أي: بني إسرائيل الذين كانوا خدمة لآل -[٣٠٢]- فرعون، يسومونهم سوء العذاب أورثهم الله ﴿مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا﴾ والمراد بالأرض هاهنا، أرض مصر، التي كانوا فيها مستضعفين، أذلين، أي: ملكهم الله جميعا، ومكنهم فيها الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا﴾ حين قال لهم موسى: ﴿اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
﴿وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ﴾ من الأبنية الهائلة، والمساكن المزخرفة ﴿وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾ ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.

صفحة رقم 301

﴿يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ﴾ أي: اخترتك واجتبيتك وفضلتك -[٣٠٣]- وخصصتك بفضائل عظيمة، ومناقب جليلة، ﴿بِرِسَالاتِي﴾ التي لا أجعلها، ولا أخص بها إلا أفضل الخلق.
﴿وَبِكَلامِي﴾ إياك من غير واسطة، وهذه فضيلة اختص بها موسى الكليم، وعرف بها من بين إخوانه من المرسلين، ﴿فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ﴾ من النعم، وخذ ما آتيتك من الأمر والنهي بانشراح صدر، وتلقه بالقبول والانقياد، ﴿وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ لله على ما خصك وفضلك.
﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يحتاج إليه العباد ﴿مَوْعِظَةً﴾ ترغب النفوس في أفعال الخير، وترهبهم من أفعال الشر، ﴿وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من الأحكام الشرعية، والعقائد والأخلاق والآداب ﴿فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ﴾ أي: بجد واجتهاد على إقامتها، ﴿وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا﴾ وهي الأوامر الواجبة والمستحبة، فإنها أحسنها، وفي هذا دليل على أن أوامر الله - في كل شريعة - كاملة عادلة حسنة.
﴿سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ بعد ما أهلكهم الله، وأبقى ديارهم عبرة بعدهم، يعتبر بها المؤمنون الموفقون المتواضعون.
وأما غيرهم، فقال عنهم: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ﴾ أي: عن الاعتبار في الآيات الأفقية والنفسية، والفهم لآيات الكتاب ﴿الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ أي: يتكبرون على عباد الله وعلى الحق، وعلى من جاء به، فمن كان بهذه الصفة، حرمه الله خيرا كثيرا وخذله، ولم يفقه من آيات الله ما ينتفع به، بل ربما انقلبت عليه الحقائق، واستحسن القبيح.
﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا﴾ لإعراضهم واعتراضهم، ومحادتهم لله ورسوله، ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ﴾ أي: الهدى والاستقامة، وهو الصراط الموصل إلى الله، وإلى دار كرامته ﴿لا يَتَّخِذُوهُ﴾ أي: لا يسلكوه ولا يرغبوا فيه ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ﴾ أي: الغواية الموصل لصاحبه إلى دار الشقاء ﴿يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا﴾ والسبب في انحرافهم هذا الانحراف ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ فردهم لآيات الله، وغفلتهم عما يراد بها واحتقارهم لها - هو الذي أوجب لهم من سلوك طريق الغي، وترك طريق الرشد ما أوجب.
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ العظيمة الدالة على صحة ما أرسلنا به رسلنا.
﴿وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ لأنها على غير أساس، وقد فقد شرطها وهو الإيمان بآيات الله، والتصديق بجزائه ﴿هَلْ يُجْزَوْنَ﴾ في بطلان أعمالهم وحصول ضد مقصودهم ﴿إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ فإن أعمال من لا يؤمن باليوم الآخر، لا يرجو فيها ثوابا، وليس لها غاية تنتهي إليه، فلذلك اضمحلت وبطلت.
﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا﴾ صاغه السامري وألقى عليه قبضة من أثر الرسول فصار ﴿لَهُ خُوَارٌ﴾ وصوت، فعبدوه واتخذوه إلها.
وقال ﴿هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فنسي﴾ موسى، وذهب يطلبه، وهذا من سفههم، وقلة بصيرتهم، كيف اشتبه عليهم رب الأرض والسماوات، بعجل من أنقص المخلوقات؟ "
ولهذا قال مبينا أنه ليس فيه من الصفات الذاتية ولا الفعلية، ما يوجب أن يكون إلها ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ﴾ أي: وعدم الكلام نقص عظيم، فهم أكمل حالة من هذا الحيوان أو الجماد، الذي لا يتكلم ﴿وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا﴾ أي: لا يدلهم طريقا دينيا، ولا يحصل لهم مصلحة دنيوية، لأن من المتقرر في العقول والفطر، أن اتخاذ إله لا يتكلم ولا ينفع ولا يضر من أبطل الباطل، وأسمج السفه، ولهذا قال: ﴿اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ﴾ حيث وضعوا العبادة في غير موضعها، وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وفيها دليل على أن من أنكر كلام الله، فقد أنكر خصائص إلهية الله تعالى، لأن الله ذكر أن عدم الكلام دليل على عدم صلاحية الذي لا يتكلم للإلهية.
﴿وَلَمَّا﴾ رجع موسى إلى قومه، فوجدهم على هذه الحال، وأخبرهم بضلالهم ندموا و ﴿سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ﴾ أي: من الهم والندم على فعلهم، ﴿وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا﴾ فتنصلوا، إلى الله وتضرعوا و ﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا﴾ فيدلنا عليه، ويرزقنا عبادته، ويوفقنا لصالح الأعمال، ﴿وَيَغْفِرْ لَنَا﴾ ما صدر منا من عبادة العجل ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ الذين خسروا الدنيا والآخرة.

صفحة رقم 302

﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا﴾ أي: ممتلئا غضبا وغيظا عليهم، لتمام غيرته عليه الصلاة السلام، وكمال نصحه وشفقته، ﴿قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي﴾ أي: بئس الحالة التي خلفتموني بها من بعد ذهابي عنكم، فإنها حالة تفضي إلى الهلاك الأبدي، والشقاء السرمدي.
﴿أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾ حيث وعدكم بإنزال الكتاب. فبادرتم - برأيكم الفاسد - إلى هذه الخصلة القبيحة ﴿وَأَلْقَى الألْوَاحَ﴾ أي: رماها من الغضب ﴿وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ﴾ هارون ولحيته ﴿يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾ وقال له: ﴿مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أن لا تَتَّبِعَن أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي﴾ لك بقولي: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ فـ ﴿قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ -[٣٠٤]- و ﴿قَالَ﴾ هنا ﴿ابْنَ أُمَّ﴾ هذا ترقيق لأخيه، بذكر الأم وحدها، وإلا فهو شقيقه لأمه وأبيه: ﴿إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي﴾ أي: احتقروني حين قلت لهم: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾ ﴿وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي﴾ أي: فلا تظن بي تقصيرا ﴿فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ﴾ بنهرك لي، ومسك إياي بسوء، فإن الأعداء حريصون على أن يجدوا عليَّ عثرة، أو يطلعوا لي على زلة ﴿وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ فتعاملني معاملتهم.
فندم موسى عليه السلام على ما استعجل من صنعه بأخيه قبل أن يعلم براءته، مما ظنه فيه من التقصير.
و ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأخِي﴾ هارون ﴿وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ﴾ أي: في وسطها، واجعل رحمتك تحيط بنا من كل جانب، فإنها حصن حصين، من جميع الشرور، وثم كل الخير وسرور.
﴿وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ أي: أرحم بنا من كل راحم، أرحم بنا من آبائنا، وأمهاتنا وأولادنا وأنفسنا.
قال الله تعالى مبينا حال أهل العجل الذين عبدوه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ﴾ أي: إلها ﴿سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ كما أغضبوا ربهم واستهانوا بأمره.
﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾ فكل مفتر على الله، كاذب على شرعه، متقول عليه ما لم يقل، فإن له نصيبا من الغضب من الله، والذل في الحياة الدنيا، وقد نالهم غضب الله، حيث أمرهم أن يقتلوا أنفسهم، وأنه لا يرضى الله عنهم إلا بذلك، فقتل بعضهم بعضا، وانجلت المعركة عن كثير من القتلى (١) ثم تاب الله عليهم بعد ذلك.
ولهذا ذكر حكما عاما يدخلون فيه هم وغيرهم، فقال: ﴿وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ﴾ من شرك وكبائر، وصغائر ﴿ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا﴾ بأن ندموا على ما مضى، وأقلعوا عنها، وعزموا على أن لا يعودوا ﴿وَآمنُوا﴾ بالله وبما أوجب الله من الإيمان به، ولا يتم الإيمان إلا بأعمال القلوب، وأعمال الجوارح المترتبة على الإيمان ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا﴾ أي: بعد هذه الحالة، حالة التوبة من السيئات والرجوع إلى الطاعات، ﴿لَغَفُورٌ﴾ يغفر السيئات ويمحوها، ولو كانت قراب الأرض ﴿رَحِيمٌ﴾ بقبول التوبة، والتوفيق لأفعال الخير وقبولها.
﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ﴾ أي: سكن غضبه، وتراجعت نفسه، وعرف ما هو فيه، اشتغل بأهم الأشياء عنده، فـ ﴿أَخَذَ الألْوَاحَ﴾ التي ألقاها، وهي ألواح عظيمة المقدار، جليلة ﴿وَفِي نُسْخَتِهَا﴾ أي: مشتملة ومتضمنة ﴿هُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ أي: فيها الهدى من الضلالة، وبيان الحق من الباطل، وأعمال الخير وأعمال الشر، والهدى لأحسن الأعمال، والأخلاق، والآداب، ورحمة وسعادة لمن عمل بها، وعلم أحكامها ومعانيها، ولكن ليس كل أحد يقبل هدى الله ورحمته، وإنما يقبل ذلك وينقاد له، ويتلقاه بالقبول الذين [هم] (٢) ﴿لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ أي: يخافون منه ويخشونه، وأما من لم يخف الله ولا المقام بين يديه، فإنه لا يزداد بها إلا عتوا ونفورا وتقوم عليه حجة الله فيها.
﴿و﴾ لما تاب بنو إسرائيل وتراجعوا إلى رشدهم ﴿اخْتَارَ مُوسَى﴾ منهم ﴿سَبْعِينَ رَجُلا﴾ من خيارهم، ليعتذروا لقومهم عند ربهم، ووعدهم الله ميقاتا يحضرون فيه، فلما حضروه، قالوا: يا موسى، ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ فتجرأوا على الله جراءة كبيرة، وأساءوا الأدب معه، فـ ﴿أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ فصعقوا وهلكوا.
فلم يزل موسى عليه الصلاة والسلام، يتضرع إلى الله ويتبتل ويقول ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ أن يحضروا ويكونون في حالة يعتذرون فيها لقومهم، فصاروا هم الظالمين ﴿أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا﴾ أي: ضعفاء العقول، سفهاء الأحلام، فتضرع إلى الله واعتذر بأن المتجرئين على الله ليس لهم عقول كاملة، تردعهم عما قالوا وفعلوا، وبأنهم حصل لهم فتنة يخطر بها الإنسان، ويخاف من ذهاب دينه فقال: ﴿إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾ أي: أنت خير من غفر، وأولى من رحم، وأكرم من أعطى وتفضل، فكأن موسى عليه الصلاة والسلام، قال: المقصود يا رب بالقصد الأول لنا كلنا، هو التزام طاعتك والإيمان بك، وأن من حضره عقله ورشده، وتم على ما وهبته من التوفيق، فإنه لم يزل مستقيما، وأما من ضعف عقله، وسفه رأيه، وصرفته الفتنة، فهو الذي فعل ما فعل، لذينك السببين، ومع هذا فأنت أرحم الراحمين، وخير الغافرين، فاغفر لنا وارحمنا.
فأجاب الله سؤاله، وأحياهم من بعد موتهم، وغفر لهم -[٣٠٥]- ذنوبهم.

(١) في النسختين: قتلى كثيرة.
(٢) زيادة من هامش ب.

صفحة رقم 303

وقال موسى في تمام دعائه ﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ من علم نافع، ورزق واسع، وعمل صالح.
﴿وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ : وهي ما أعد الله لأوليائه الصالحين من الثواب.
﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ أي: رجعنا مقرين بتقصيرنا، منيبين في جميع أمورنا.
﴿قَالَ﴾ الله تعالى ﴿عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ﴾ ممن كان شقيا، متعرضا لأسبابه، ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ من العالم العلوي والسفلي، البر والفاجر، المؤمن والكافر، فلا مخلوق إلا وقد وصلت إليه رحمة الله، وغمره فضله وإحسانه، ولكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة، ليست لكل أحد، ولهذا قال عنها: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ المعاصي، صغارها وكبارها.
﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ الواجبة مستحقيها ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ ومن تمام الإيمان بآيات الله معرفة معناها، والعمل بمقتضاها، ومن ذلك اتباع النبي ﷺ ظاهرا وباطنا، في أصول الدين وفروعه.
﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ﴾ احتراز عن سائر الأنبياء، فإن المقصود بهذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم.
والسياق في أحوال بني إسرائيل وأن الإيمان بالنبي محمد ﷺ شرط في دخولهم في الإيمان، وأن المؤمنين به المتبعين، هم أهل الرحمة المطلقة، التي كتبها الله لهم، ووصفه بالأمي لأنه من العرب الأمة الأمية، التي لا تقرأ ولا تكتب، وليس عندها قبل القرآن كتاب.
﴿الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ﴾ باسمه وصفته، التي من أعظمها وأجلها، ما يدعو إليه، وينهى عنه. وأنه ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وهو كل ما عرف حسنه وصلاحه ونفعه.
﴿وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ وهو: كل ما عرف قبحه في العقول والفطر.
فيأمرهم بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجار والمملوك، وبذل النفع لسائر الخلق، والصدق، والعفاف، والبر، والنصيحة، وما أشبه ذلك، وينهى عن الشرك بالله، وقتل النفوس بغير حق، والزنا، وشرب ما يسكر العقل، والظلم لسائر الخلق، والكذب، والفجور، ونحو ذلك.
فأعظم دليل يدل على أنه رسول الله، ما دعا إليه وأمر به، ونهى عنه، وأحله وحرمه، فإنه ﴿يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ﴾ من المطاعم والمشارب، والمناكح.
﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ من المطاعم والمشارب والمناكح، والأقوال والأفعال.
﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ أي: ومن وصفه أن دينه سهل سمح ميسر، لا إصر فيه، ولا أغلال، ولا مشقات ولا تكاليف ثقال.
﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ﴾ أي: عظموه وبجلوه ﴿وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزلَ مَعَهُ﴾ وهو القرآن، الذي يستضاء به في ظلمات الشك والجهالات، ويقتدى به إذا تعارضت المقالات، ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الظافرون بخير الدنيا والآخرة، والناجون من شرهما، لأنهم أتوا بأكبر أسباب الفلاح.
وأما من لم يؤمن بهذا النبي الأمي، ويعزره، وينصره، ولم يتبع النور الذي أنزل معه، فأولئك هم الخاسرون.
ولما دعا أهل التوراة من بني إسرائيل، إلى اتباعه، وكان ربما توهم متوهم، أن الحكم مقصور عليهم، أتى بما يدل على العموم فقال:
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ أي: عربيكم، وعجميكم، أهل الكتاب منكم، وغيرهم.
﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ يتصرف فيهما بأحكامه الكونية والتدابير السلطانية، وبأحكامه الشرعية الدينية التي من جملتها: أن أرسل إليكم رسولا عظيما يدعوكم إلى الله وإلى دار كرامته، ويحذركم من كل ما يباعدكم منه، ومن دار كرامته.
﴿لا إِلَهَ إِلا هُوَ﴾ أي: لا معبود بحق، إلا الله وحده لا شريك له، ولا تعرف عبادته إلا من طريق رسله، ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي: من جملة تدابيره: الإحياء والإماتة، التي لا يشاركه فيها أحد، الذي جعل الموت جسرا ومعبرا يعبر منه إلى دار البقاء، التي من آمن بها صدق الرسول محمدا ﷺ قطعا.
﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ﴾ إيمانا في القلب، متضمنا لأعمال القلوب والجوارح. ﴿الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ﴾ أي: آمنوا بهذا الرسول المستقيم في عقائده وأعماله، ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ في مصالحكم الدينية والدنيوية، فإنكم إذا لم تتبعوه ضللتم ضلالا بعيدا.

صفحة رقم 305
تيسير الكريم الرحمن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد آل سعدي
تحقيق
عبد الرحمن بن معلا اللويحق
الناشر
مؤسسة الرسالة
الطبعة
الأولى 1420ه -2000 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية