آيات من القرآن الكريم

وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۚ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ
ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘ ﰿ

٣١] (١)، قال الحسن: الربانيون: علماء أهل الإنجيل، والأحبار: علماء أهل التوراة (٢)، وقال غيره: كله في اليهود؛ لأنه متصل بذكرهم (٣).
وقوله تعالى: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾، قال العلماء وأصحاب المعاني: أنزل الله العلماء بترك النكير على سفلتهم فيما صنعوا منزلتهم، لأنه ذم أولئك بقوله: ﴿ولبئس ما كانوا يعملون﴾ وذم هؤلاء بمثل تلك اللفظة، فالآية تدل على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه (٤)، والفرق بين الصنع والعمل من حيث اللغة أن الصنع بالجودة، يقال: سيف صنيع، إذا جود عمله، وصنع الله لفلان: أي أحسن، وفلان صنعة فلان، إذا استخلصه وأحسن إليه (٥).
٦٤ - قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾، قال ابن عباس في رواية عطاء: "يريد الإمساك عن الرزق" (٦)، وقال في رواية الوالبي: "ليسوا يعنون بذلك أن يده موثقة، ولكن يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده" (٧).

(١) قد يكون هذا سبقًا أو وهمًا، لأن هذه الآية متأخرة ولأن المؤلف رحمه الله تكلم عن الأحبار بالتفصيل عند قوله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ﴾ الآية ٤٤ من هذه السورة.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٦.
(٣) انظر: "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٥.
(٤) قال الطبري رحمه الله: "وكان العلماء يقولون: ما في القرآن آية أشد توبيخًا للعلماء من هذه الآية، ولا أخوف عليهم منها" ثم ساق ما يؤيد ذلك بسنده عن ابن عباس والضحاك، "تفسير الطبري" ٦/ ٢٩٨، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٤٧، "الدر المنثور" ٢/ ٥٢٤.
(٥) "تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠٦٦ (صنع).
(٦) "زاد المسير" ٢/ ٣٩٢، "الدر المنثور" ٢/ ٥٢٥.
(٧) أخرجه الطبري ٦/ ٣٠٠١، وعزاه في "الدهر المنثور" ٢/ ٥٢٥ أيضًا إلى ابن أبي حاتم.

صفحة رقم 452

قال المفسرون: إن الله كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالاً وأخصبهم ناحية، فلما عصوا الله في محمد وكذبوا به، كف الله عنهم ما بسط عليهم من النعمة، فعند ذلك قالت اليهود: يد الله مغلولة، أي مقوضة عن العطاء على جهة الصفة بالبخل، وهذا قول الضحاك وعكرمة وقتادة والكلبي (١) واختيار الفراء والزجاج وابن الأنباري.
قال الفراء: أرادوا ممسكة عن الإنفاق، والإسباغ علينا (٢).
وقال الزجاج: أخبر الله عز وجل بعظيم فريتهم فقال: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ أي: يده ممسكة عن الإسباغ علينا، كما قال الله جل وعز: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء: ٢٩]، تأويله: لا تمسكها عن الإنفاق (٣).
وقوله تعالى: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾، أي جعلوا بخلاء وألزموا البخل، فهم أبخل قوم، فلا يُلقى يهودي أبدًا غير لئيم راضع بخيل. وهذا قول الزجاج (٤) وابن الأنباري، قال أبو بكر: وهذا خبر أخبر الله تعالى به ودل على أن هذين الأمرين وهما الغل واللعن قد نزلا بهم، والتقدير: فغلت أيديهم، أو وغلت أيديهم، فأضمر حرف العطف لأن كلامهم تم، وكان هذا كلامًا مستأنفًا يشبه أول الفصول، والعرب تحذف حروف العطف من رؤوس الآيات ومواضع الفصول نحو قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ [البقرة: ٦٧] أرادت فقالوا، فأضمر

(١) "تفسير الطبري" ٦/ ٣٠٠، "بحر العلوم" ١/ ٤٤٧، "النكت والعيون" ٢/ ٥١، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٦، "زاد المسير" ٢/ ٣٩١، "الدر المنثور" ٢/ ٥٢٥.
(٢) "معاني القرآن" ١/ ٣١٥.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨٩.
(٤) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٠.

صفحة رقم 453

الفاء، وقد ذكرنا مثل هذا فيما تقدم.
وقال الحسن: "غلت أيديهم في نار جهنم على الحقيقة" (١) أي شدت إلى أعناقهم، وتأويله أنهم جوزوا على هذا القول بأن غلت أيديهم في جهنم، قال أبو بكر: ويجوز أن يكون قوله: (غلت أيديهم) دعاءً عليهم، معناه من الله تعالى التعليم لنا، فكأنه عز (٢) ذكره وقفنا على الدعاء عليهم، كما علمنا الاستثناء في غير هذا الموضع حين قال: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ [الفتح: ٢٧] فجرى الدعاء من الله مجرى الاستثناء منه، وكلاهما توقيف وتأديب، كما علمنا الدعاء على أبي لهب بقوله: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ [المسد: ١]، وقد علا وعز أن يكون فوقه مدعو.
وقوله تعالى: ﴿وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾، قال الحسن: عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار (٣).
وقوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾، حكى الزجاج عن بعض أهل اللغة أن هذا جواب لليهود، أجيبوا على قدر كلامهم فقيل: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾. أي هو جواد ينفق كيف يشاء. انتهى كلامه (٤)، وفي هذا يحتاج إلى شرح وإيضاح، اعلم أن اليد تذكر في اللغة على خمسة أوجه: الجارحة، والنعمة، والقوة، والمِلك، وتحقيق إضافة الفعل (٥)، تقول:

(١) "النكت والعيون" ٢/ ٥١، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٦، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٩٢، وتفسير الحسن البصري ١/ ٣٣٣.
(٢) في (ج): (عن).
(٣) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٥١، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٦، "زاد التفسير" ٢/ ٣٩٣.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٠.
(٥) انظر: تهذيب اللغة ٤/ ٣٩٧٥ (يدي).

صفحة رقم 454

لفلان عندي يد أشكره عليها، أي نعمة، قال عدي بن زيد (١):

ولن أذكُرَ النعمان إلا بصالحٍ فإن لهُ عِندي يَدِيًّا وأنعُما (٢)
جمع يدًا على: يديٍّ، كالكلِيْبِ والعبيد. فقوله: (يَدِيًّا وأنعُمًا) اليدي هي الأنعم في المعنى، وحسن التكرير لاختلاف اللفظين، كقوله:
أقوى وأفْقَرَ بعدَ أُمِّ الهَيْثَمِ (٣)
ويستعمل اليد للقوة (٤) وتُعنَى بها، قال الله تعالى: ﴿أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾ [ص: ٤٥] فسروه: ذوي القوى والعقول (٥)، وعلى هذا ما أنشده الأصمعي للغنوي:
اعمِد لما تعلُو فما لَكَ بالذي لا تستطيعُ من الأمورِ يَدَانِ (٦)
يريد ليس لك به قوة، ألا ترى أنه لا مذهب للجارحة ولا للنعمة هنا، وعلى هذا ما ذكره سيبويه من قولهم: (لا يدينِ بها لك)، ومعنى هذه التثنية: المبالغة في نفي الاقتدار والقوة على الشيء، وليس المراد بالتثنية الاثنين الناقص عن الثلاثة، إنما هو الكثرة، ويستعمل بمعنى الملك،
(١) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أبو زيد، فإن البيت في النوادر لأبي زيد ص ٥٣ منسوبًا لضمرة النهشلي كما سيأتي في عزوه.
(٢) البيت في "النوادر في اللغة" لأبي زيد ص ٥٣ نسبه لضمرة بن ضمرة النهشلي. وأفاد منه في "المسائل الحلبيات" ص ٣٠، و"سر صناعة الإعراب" ١/ ٢٤٠، و"اللسان" ٣/ ١٨٧٤ (زنم).
(٣) لم أقف على قائله.
(٤) انظر: "المسائل الحلبيات" ص ٢٧ - ٩٧.
(٥) "النكت والعيون" ٢/ ٥١.
(٦) البيت في "الأضداد" للأصمعي (ثلاثة كتب في "الأضداد" ص٧)، و"المسائل الحلبيات" ص ٢٨.

صفحة رقم 455

يقال: هذه الضيعة في يد فلان، أي في ملكه (١)، قال الله تعالى: ﴿الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ [البقرة: ٢٣٧]، ويستعمل بمعنى التولي للشيء وتحقيق إضافة الفعل، كقوله تعالى: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥] أي لما توليت خلقه (٢) تخصيصًا لآدم وتشريفًا بهذا، وإن كان جميع المخلوقات هو خالقها لا غير، ويقال: يدي لك رهن بالوفاء، إذا ضمنت له شيئًا (٣)، وكأن معنى هذا اجتهادي وطاقتي، ويستعمل أيضًا حيث يراد النصرة، وذلك فيما روي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "وهم يد على من سواهم" (٤) أي نصرتهم واحدة وكلمتهم مجتمعة على من شق عصاهم (٥).
وكذلك قوله عليه السلام: "أنا وبنو (٦) المطلب يدٌ واحدةٌ، لم نفترق في جاهلية ولا إسلام" (٧) كأنه أهل نصرة واحدة وكلمة واحدة، وقال أحمد بن يحيى: اليد الجماعة، ومنه الحديث: "وهم يد عَلَى مَنْ سواهم" (٨)، وتستعمل اليد

(١) انظر: "المسائل الحلبيات" ص ٢٩.
(٢) هنا تعسف ظاهر، والتثنية لليدين تدل على إثبات صفة اليد لله عز وجل، بل تؤكد ذلك!.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٧٥ (يدي).
(٤) أخرجه من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الإمام أحمد في مسنده ١/ ١٢٢، وأبو داود (٤٥٣٠) كتاب: الديات، باب: أيقاد المسلم بالكافر؟.
وأخرجه ابن ماجه (٢٦٨٣) كتاب: الديات، باب: المسلمون تتكافأ دماؤهم من حديث ابن عباس ومعقل بن يسار - رضي الله عنه -.
(٥) انظر: "المسائل الحلبيات" ص ٣٠، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٧٧ (يدي).
(٦) في (ج): (بني).
(٧) أخرجه بنحوه الإِمام أحمد في مسنده ٤/ ٨١ من حديث جبير بن مطعم، والنسائي ٧/ ١٣٠ - ١٣١ كتاب قسم الفيء.
(٨) تقدم تخريجه قريبًا.

صفحة رقم 456

للشىء الذي لا يد له تشبيهًا بمن له اليد، قال ابن الأعرابي: يد الدهر: الدهر كله، يقال: لا آتيه يد الدهر، ولد المسند، وكقول ذي الرمة:

أَلاَ طَرَقَت ميٌّ هَيُومًا بِذكرِها وأيدي الثُّريا جُنَّحٌ في المَغَاربِ (١)
فقوله: "أيدي الثُّريا" استعارة واتساع، وذلك أن اليد إذا مالتَ نحو الشيء ودنت إليه، دلل على قربها منه، ودَنوِّها نحوه، وإنما أراد قرب الثريا من المغرب لأفولها، فجعل له يدِيًّا جُنَّحًا نحوها، وأصل هذه الاستعارة لثعلبة بن صُعَير (٢) في قوله:
ألقت ذُكَاءُ يمِينَهَا في كافِرِ (٣)
فجعل للشمس يدًا في المغيب لما أراد أن يصفها بالغروب. ثم للبيد في قوله: حتى إذا ألقت يدًا في كافر.
يعني الشمس بدأت في المغيب، واعلم أن يدًا وزنها: (فَعْلٌ)، يدل على ذلك قولهم: أَيْدٍ، وجمعهم على أفعُل يدل على أنه: (فَعْلٌ)، لأنه أفْعُلًا جمع فَعْل المختص (٤) به كأَفلُس وأكلُب، كما دل آباء وآخاء على وزن: أخِ وأبِ فَعَلٌ لجمعهم لهما على: أفعال، نحو: أجبال وأجمال، وأفعال جمع فَعَل في الأمر الشائع وإن كان قد جاء نادرًا في جمع فَعْل، نحو: زيد وأزياد، وأنف وآناف، والدال التي هي عين الفعل في يد وإن
(١) "ديوانه" ص ٥٥.
(٢) ثعلبة بن صُعَير بن خزاعي المازني المري، شاعر جاهلي من شعراء المفضليات، "الأعلام" ٢/ ٩٩.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) في (ج): (المختصر).

صفحة رقم 457

كانت متحركة بالكسر فأصلها الضم، كما أنها في أكلب وأكعُب (١) كذلك (.......) (٢) حركت بالضم لانقلبت الياء التي هي لام الفعل واوًا لانضمام ما قبلها، فأبدل من الضمة كسرة، فقالوا: حقوٍ وأحقِ، وظبي وأضبٍ، وجِرْوِ وأجر، والياء التي هي لام تحذف لالتقاء الساكنين هي والتنوين، واللام من يَديًا، يدل على ذلك قولهم: يديت إليه يدًا وأيديت. قال بعض بني أسد:
يديت على حُسحَاس بن وَهْبِ (٣)
فيد في الأصل يَدْيٌ (٤)، والفاء واللام من جنس واحد، وهو من باب سلس وقلق، قال أبو علي: ولا نعلم لذلك في الكلام نظيرًا. هذا قوله في أصل يدِ (٥)، وقال أبو الهيثم: أصله يدًا مثل قفًا ورحًا، ثم ثَنَّوا على الأصل فقالوا: يديان، وأنشد:

يديان بيضاوان عند مُحُلَّم قد تمنعانك بينهم أن تهضما (٦)
وقال آخر في الواحد:
يا رُبَّ سارٍ سار ما توَسَّدَا إلا ذرع العنس أو كف اليدا (٧)
هذا هو الكلام في أصل هذا الحرف ومعانيه في اللغة على حد الاختصار، وقد تستعمل اليد وتستعار في مواضع كثيرة يطول بذكرها
(١) في (ج): (ألعب).
(٢) بياض في (ج)، (ش).
(٣) لم أقف عليه.
(٤) انظر: "الممتع في التصريف" ٢/ ٦٢٤.
(٥) لم أقف على كلام أبي علي، وانظر: "الممتع في التصريف" ١/ ٦٠، ٤٠٩، ٢/ ٥٦٢، ٦٢٤.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) لم أقف عليه.

صفحة رقم 458

الكلام، ولما كان الجواد يفرق المال وينفقه بيده، والبخيل يمسك اليد عن الانفاق أسندوا الجود والبخل إلى اليد والبنان والكف والأنامل، فقيل للجواد: فيَّاض الكف، مبسوط اليد، سبي البنان، ثرة الأنامل، في ألفاظ كثير معروفة في أشعارهم. ويقال في ضد ذلك للبخيل: كزّ الأصابع، مقبوض الكف، جعد الأنامل في أشباه لهذا كثيرة.
واليهود لعنهم الله وصفوا الله تعالى بالبخل فقالوا: يد الله مغلولة. على ما بينا في تفسيره في أول الآية، فأجيبوا (١) على قدر كلامهم، ورد عليهم بضد ذلك فقيل: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ أي ليس الأمر على ما وصفتموه به من البخل، بل هو جواد، فليس لذكر اليد في الآية على هذا المعنى معنًى إلا إفادة معنى الجود والبخل (٢)، ومعنى التثنية في قوله: {بَلْ

(١) سقطت بعض أحرف هذه الكلمة في (ج).
(٢) المؤلف عفا الله عنه أول اليد هنا بالجود، والذي عليه المحققون من أهل السنة والجماعة إثبات صفة اليد لله عز وجل حسبما دلت عليه هذه الآية وغيرها على ما يليق بجلال الله وعظمته، قال الطبري رحمه الله في تفسيره: "ففي قول الله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ مع إعلامه عباده أن نعمه لا تحصى، مع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤديان عن الجميع ما ينبىء عن خطأ قول من قال: معنى اليد في هذا الموضع النعمة وصحة قول من قال: إن "يد الله" هي له صفة... وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله وقال به العلماء وأهل التأويل "تفسير الطبري" ٦/ ٣٠٢، وقال البغوي في "تفسيره" ٣/ ٧٦، ٧٧: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ ويد الله صفة من صفاته كالسمع والبصر والوجه، وقال جل ذكره: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥]، وقال النبي - ﷺ -: "كلتا يديه يمين" والله أعلم بصفاته فعلى العباد فيها الإيمان والتسليم".
وسيأتي في سياق المؤلف كلام أبي عبيد والزجاج وأبي بكر بن الأنباري في إثبات صفة اليد والرد على من أولها، وإن كان المؤلف لم يأبه بتقريرهم، وتعلق بما عليه الأشاعرة من التعسّف في التأويل.

صفحة رقم 459

يَدَاهُ مَبسُوطَتَانِ} المبالغة في الجود والإنعام، وهذا طريق في معنى الآية صحيح.
وذهب بعض أهل اللغة أن معنى اليد في هذه الآية النعمة (١) قال في قوله: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ معناه: نعمة الله مقبوضة، وأنكر أبو عبيد والزجاج وابن الأنباري هذا القول، فقال أبو عبيد: من قال هذا فقد زعم أنه ليس لله على العباد إلا نعمتان، لأنه يلزمه أن يقول في قوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ أي: نعمتاه.
وقال الزجاج: هذا القول خطأ، ينقضه ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾، فيكون المعنى: نعمتاه مبسوطتان، ونعم الله أكثر من أن تحصى.
وقال أبو بكر: هذا القول محال في هذه الآية، لأن نعم الله تعالى لا يحاط بعددها، وآلاؤه تفوق الإحصاء، فكيف يقول: نعمتاه مبسوطتان، فيوقع التثنية في الشيء الذي يُقَصِّر كل جمع عنه. الدليل على ما نَصِف قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [ابراهيم: ٣٤، النحل: ١٨] (٢). انتهت الحكاية عنهم.
فهؤلاء الأئمة أنكروا هذا القول، وهو صحيح، وإن أنكروا وذهب عليهم وجه صحته.
قال أبو علي فيما أصلح علي أبي إسحاق: قد دل كلام أبي إسحاق في تفسير قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ على أن المراد به الإمساك، لأنه شبه ذلك بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾

(١) هذا مذهب الأشاعرة!! وسبق من كلام الأئمة كالطبري، والبغوي ما يبين ضعفه ورده.
(٢) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٩٣.

صفحة رقم 460

[الإسراء: ٢٩]، وإذا كان ما حكى عن اليهود من هذا المراد به تبخيل الله تعالى عن ذلك فقوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ رد لم افتروه وإبطال لما بهتوا فيه ونفي له، يدلك على ذلك عطفه بالحرف الدال على الإضراب عما قبله والإثبات لما بعده، فإذا كان المراد بالأول التبخيل والإمساك وكان هذا الثاني نفيًا للأول، وجب أن يكون المراد به إثبات النعمة التي أنكروها وادعوا أنها مقبوضة عنهم، فإنكاره على من قال: إن معنى ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ نعمته مقبوضة عني (١) هو الإنكار لما اعترف به، وقوله: وهذا القول خطأ ينقضه ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ فيكون المعنى: نعمتاه مبسوطتان، ونعم الله أكثر من أن تحصى، فقوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ لا يدل على تقليل النعمة وعلى أن نعمته نعمتان ثنتان ليس غيرهما، ولكنه يدل على الكثرة والمبالغة، وقد جاء التثنية يراد بها الكثرة والمبالغة وتعداد المَثْنَى، لا المعنى الذي يشفع الواحد المفرد، ألا ترى أن قولهم: "لبّيك" إنما هو إقامة على طاعتك بعد إقامة، وكذلك: "سعديك" إنما هو مساعدة بعد مساعدة، وليس المراد بذلك طاعتين ثنتين، ولا مساعدتين ثنتين (٢)، فكذلك الآية، المعنى فيها أن نعمته متظاهرة متتابعة، ليست كما ادعى من أنها مقبوضة ممتنعة، وهذا الذي ذكرناه في: "لبيك وسعديك" وأن المراد به الكثرة قول الخليل وسيبويه ومن وراءهما، فهذا وجه.
وإن شئت حملت المثنى على أنه تثنية جنس، لا تثنية واحد مفرد، ويكون أحد جنسي النعمة نعمة الدنيا والآخر نعمة الآخرة ونعمة الدين، فلا

(١) في النسختين: (عنا).
(٢) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٥١، "تفسير القرطبي" ٦/ ٢٣٩.

صفحة رقم 461

تكون التثنية على هذا مرادًا بها اثنتين، وقد جاء تثنية اسم الجنس في كلامهم مجيئًا واسعًا (١)، قال الفرزدق:

وكُلُّ رفيقي كُلِّ رحلٍ وإن هُما تعاطَى القَنَا قوماهما أخوَانِ (٢)
فتأويل الرفيقين في البيت العموم والإشاعة، ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون رفيقان اثنان لكل رحل.
وبعد، فإذا كانوا قد استجازوا تثنية الجمع الذي على بناء الكثرة كقوله:
لأصْبَحَ القومُ أوتادًا ولم يجِدوا عندَ التفرُّق في الهيجَا جمَالينِ
وكقول أبي النجم:
بين رماحي مالك ونهشل
ونحو ما حكاه سيبويه من قولهم: "لقاحان سوداوان" فأن يجوز تثنية اسم الجنس أجدر، لأنه على لفظ الواحد، فالتثنية فيه أحسن، إذ هو أشبه بألفاظ الأفراد، فإذا بان أن هذه التثنية لا تقتضي قول هذا القائل: نعمة الله مقبوضة ولا تنافيه، ولم ينكر اليد في اللغة بمعنى النعمة صح قوله الذي أنكره أبو إسحاق (٣)، وبأن تحامله عليه (٤)، انتهى كلام أبي علي (٥)،
(١) انظر: "المسائل الحلبيات" ص ٦٨،"تفسير القرطبي" ٦/ ٢٣٩.
(٢) البيت في "المسائل الحلبيات" ص ٦٨ ونسبه المحقق إلى: "ديوان الفرزدق" ٢/ ٣٢٩.
(٣) يعني الزجاج، وقد تقدم إنكاره لتفسير اليد هنا بالنعمه، وأن الزجاج ذهب مذهب أهل السنة وهو منهم في إثبات صفات اليد لله عز وجل على ما وصف به نفسه كما في هذه الآية، ووصفه بها رسوله - ﷺ -.
(٤) بل إن المؤلف ومن أخذ عنه كأبي علي الفارسي هم المتحاملون على أهل السنة في تفسير هذه الآية الجلية في إثبات صفة اليد لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته.
(٥) لم أقف عليه فيما بين يدي من مؤلفات لأبي علي الفارسي، وكذا ما نسبه لسيبويه والخليل.

صفحة رقم 462

وذهب إلى هذا القول من المفسرين محمد بن مقاتل الرازي (١) فقال: أراد: نعمتاه مبسوطتان، نعمته في الدنيا ونعمته في الآخرة.
وقوله تعالى: ﴿يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾، أي: يرزق كما يريد، إن شاء قتر وإن شاء وسع (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾، قال أبو إسحاق: أي كلما أنزل عليك شيء من القرآن كفروا به فيزيد كفرهم (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، أي بين اليهود والنصارى عن الحسن (٤) ومجاهد (٥)، لأنه قد جرى ذكرهم في قوله تعالى: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾ [المائدة: ٥١] (٦).
وقيل: أراد طوائف اليهود (٧)، وهو اختيار الزجاج، قال: جعلهم الله مختلفين في دينهم متباغضين، كما قال جل وعز: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ [الحشر: ١٤] وهو أحد الأسباب التي أذهب الله بها جَدَّهم

(١) المتوفى سنة ٢٤٢ هـ وهو حنفي فاضل، حدث عن وكيع لكنه غير مشهور، ولم أقف له على تفسير، انظر: "ميزان الاعتدال" ٥/ ١٧٢، "معجم المؤلفين" ٣/ ٧٣٠.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٤٩٠، "تفسير الطبري" ٦/ ٣٠٠، "بحر العلوم" ١/ ٤٤٨.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٠.
(٤) "النكت والعيون" ٢/ ٥٢، انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٧.
(٥) أخرجه عن مجاهد "تفسير الطبري" ٦/ ٣٠٢، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٧، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٧، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٤.
(٦) "تفسير الطبري" ٦/ ٣٠٢، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٤.
(٧) "النكت والعيون" ٢/ ٥٢، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٧.

صفحة رقم 463
التفسير البسيط
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي
الناشر
عمادة البحث العلمي - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
سنة النشر
1430
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية