
يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة بأنهم وصفوه بأنه بخيل كما وصفوه بأنه فقير، وهم أغنياء وعبروا عن البخل بأن قالوا :﴿ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ ﴾، قال ابن عباس :﴿ مَغْلُولَةٌ ﴾ : أي بخيلة. لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة، ولكن يقولون : بخيل، يعني أمسك ما عنده بخلاً، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. وقد قال عكرمة إنها نزلت في ( فنحاص اليهودي ) عليه لعنة الله، وقد تقدم أنه الذي قال :﴿ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ﴾ [ آل عمران : ١٨١ ]، فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقال محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال، قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس : إن ربك بخيل لا ينفق، فأنزل الله :﴿ وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ ﴾ وقد رد الله عزَّ وجلَّ عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافترواه وائتفكوه فقال :﴿ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ ﴾، وهكذا وقع لهم، فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم، كما قال تعالى :﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتاهم الله مِن فَضْلِهِ ﴾ [ النساء : ٥٤ ]، وقال تعالى :﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة ﴾ [ آل عمران : ١١٢ ] الآية، ثم قال تعالى :﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ ﴾ أي بل هو الواسع الجزيل العطاء الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه، كما قال :﴿ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [ إبراهيم : ٣٤ ] والآيات في هذا كثيرة. وقد قال أبو هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :« إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه - قال - وعرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض - أو القبض - يرفع ويخفض، وقال : يقول الله تعالى :» أنفق أنفق عليك « أخرجاه في الصحيحين. وقوله تعالى :﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ﴾ أي يكون ما آتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم، فكما يزداد به المؤمنون تصديقاً وعملاً صالحاً وعلماً نافعاً، يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك طغياناً وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء ﴿ وَكُفْراً ﴾ أي تكذيباً كما قال تعالى :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [ فصلت : ٤٤ ]، وقال تعالى :﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً ﴾ [ الإسراء : ٨٢ ]، وقوله تعالى :﴿ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة ﴾ يعني أنه لا تجتمع قلوبهم، بل العداوة واقعة بين فرقهم بعضهم في بعض دائماً، لأنهم لا يجتمعون على حق وقد خالفوك وكذبوك.
صفحة رقم 676
وقوله تعالى :﴿ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله ﴾ أي كلما عقدوا أسباباً يكيدونك بها، وكلما أبرموا أموراً يحاربونك بها أبطلها الله ورد كيدهم عليهم وحاق مكرهم السيء بهم، ﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً والله لاَ يُحِبُّ المفسدين ﴾ أي من سجيتهم أنهم دائما يسعون في الإفساد في الأرض فساداً، والله لا يحب من هذه صفته، ثم قال جلَّ وعلا :﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب آمَنُواْ واتقوا ﴾ أي لو أنهم آمنوا بالله ورسوله، واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم ﴿ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النعيم ﴾، أي لأزلنا عنهم المحذور وأنلناهم المقصود، ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ قال ابن عباس : هو القرآن، ﴿ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾، أي لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأديهم عن الأنبياء، على ما هي عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمداً ﷺ، فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتماً لا محالة. وقوله تعالى :﴿ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾ يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء، والنابت لهم من الأرض، وقال ابن عباس :﴿ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ ﴾ يعني لأرسل السماء عليهم مدراراً، ﴿ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾ يعني يخرج من الأرض بركاتها، كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض ﴾ [ الأعراف : ٩٦ ] الآية، وقال تعالى :﴿ ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس ﴾ [ الروم : ٤١ ] الآية. وقال بعضهم : معناه ﴿ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾ يعني من غير كد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء.
وقد ذكر ابن أبي حاتم أن رسول الله ﷺ قال :« » يوشك أن يرفع العلم «، فقال زياد بن لبيد يا رسول الله وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا فقال :» ثكلتك أمك يا ابن لبيد إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة، أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله «، ثم قرأ :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل ﴾، وقوله تعالى :﴿ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾ كقوله :﴿ وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٥٩ ] فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد وهو أوسط مقامات هذه الأمة، وفوق ذلك رتبة السابقين، كما في قوله عزَّ وجلَّ :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ﴾ [ فاطر : ٣٢-٣٣ ] الآية، والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة كلهم يدخلون الجنة.