
ويصنعون وَاحِدٌ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ، حَدَّثَنَا قَيْسٌ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ تَوْبِيخًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ «لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يعملون» قَالَ: كَذَا قَرَأَ وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَخْوَفُ عِنْدِي مِنْهَا، إِنَّا لَا نَنْهَى، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «٢».
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ذَكَرَهُ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح، حدثنا ثابت أبو سعيد الهمداني قال لقيته بِالرَّيِّ فَحَدَّثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ قَالَ:
خَطَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِرُكُوبِهِمُ الْمَعَاصِي وَلَمْ يَنْهَهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ، فَلَمَّا تَمَادَوْا فِي الْمَعَاصِي أَخَذَتْهُمُ الْعُقُوبَاتُ فَمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهُوا عَنِ الْمُنْكَرِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمْ مِثْلُ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يَقْطَعُ رِزْقًا وَلَا يُقَرِّبُ أَجَلًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ قَوْمٍ يَكُونُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مَنْ يَعْمَلُ بِالْمَعَاصِي هم أعز منه وأمنع، ولم يُغَيِّرُوا إِلَّا أَصَابَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعَذَابٍ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «٤» عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ فِي قَوْمٍ يَعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي يَقْدِرُونَ أَنْ يُغِّيرُوا عَلَيْهِ، فَلَا يُغَيِّرُونَ إِلَّا أَصَابَهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا» وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ وَكِيعٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ بِهِ، قَالَ الحافظ المزي: وهكذا رواه شعبة عن أبي إسحاق به.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٤ الى ٦٦]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦)
(٢) المصدر السابق.
(٣) مسند أحمد ٤/ ٣٦٣.
(٤) سنن أبي داود (ملاحم باب ١٧).

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْيَهُودِ- عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ- بِأَنَّهُمْ وَصَفُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَتَعَالَى عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا بِأَنَّهُ بَخِيلٌ، كَمَا وَصَفُوهُ بِأَنَّهُ فَقِيرٌ وَهُمْ أغنياء وعبروا عن البخل بأن قالوا يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطِّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَغْلُولَةٌ أَيْ بَخِيلَةٌ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ قَالَ:
لَا يَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّ يد الله موثقة، ولكن يقولون: بخيل يعني أمسك ما عنده بخلا تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وَالضَّحَّاكِ، وَقَرَأَ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً يَعْنِي أَنَّهُ يَنْهَى عَنِ الْبُخْلِ وَعَنِ التَّبْذِيرِ، وهو زيادة الْإِنْفَاقِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْبُخْلِ بِقَوْلِهِ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي فِنْحَاصَ الْيَهُودِيِّ، عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ الَّذِي قَالَ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آلِ عِمْرَانَ: ١٨١] فَضَرَبَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ إِنَّ رَبَّكَ بَخِيلٌ لَا يُنْفِقُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ مَا قَالُوهُ وَقَابَلَهُمْ فِيمَا اخْتَلَقُوهُ وَافْتَرَوْهُ وَائْتَفَكُوهُ، فَقَالَ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا وَهَكَذَا وَقَعَ لَهُمْ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ مِنَ الْبُخْلِ وَالْحَسَدِ وَالْجُبْنِ وَالذِّلَّةِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: ٥٣- ٥٤]، وقال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [البقرة: ٦١ وآل عِمْرَانَ: ١١٢].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ أَيْ بَلْ هُوَ الْوَاسِعُ الْفَضْلِ، الْجَزِيلُ الْعَطَاءِ، الَّذِي مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَهُ خَزَائِنُهُ، وَهُوَ الَّذِي مَا بِخَلْقِهِ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّذِي خَلَقَ لَنَا كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فِي لَيْلِنَا وَنَهَارِنَا، وَحَضَرِنَا وَسَفَرِنَا، وَفِي جميع أحوالنا، كما قال وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٤] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ «١» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم «أن يَمِينَ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ «٢» اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ- قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَفِي يَدِهِ الْأُخْرَى
(٢) السحّاء: الدائمة الصب والعطاء. لا يغيضها: لا ينقصها. [.....]

القبض يرفع ويخفض. وقال: يقول اللَّهُ تَعَالَى: «أَنْفِقْ، أُنْفِقْ عَلَيْكَ» أَخْرَجَاهُ فِي الصحيحين، البخاري في التوحيد عن علي بن الْمَدِينِيِّ، وَمُسْلِمٌ فِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، كلاهما عن عبد الرزاق به.
وقوله تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً أَيْ يَكُونُ مَا أَتَاكَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ مِنَ النِّعْمَةِ نِقْمَةٌ فِي حَقِّ أَعْدَائِكَ مِنَ الْيَهُودِ وَأَشْبَاهِهِمْ، فَكَمَا يَزْدَادُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا صَالِحًا وَعِلْمًا نَافِعًا، يزداد به الكافرون الْحَاسِدُونَ لَكَ وَلِأُمَّتِكَ طُغْيَانًا، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ وَالْمُجَاوَزَةُ لِلْحَدِّ فِي الْأَشْيَاءِ، وَكُفْرًا أَيْ تَكْذِيبًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فُصِّلَتْ: ٤٤] وَقَالَ تَعَالَى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: ٨٢]، وقوله تعالى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يَعْنِي أَنَّهُ لَا تَجْتَمِعُ قُلُوبُهُمْ بَلِ الْعَدَاوَةُ وَاقِعَةٌ بَيْنَ فِرَقِهِمْ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ دَائِمًا، لِأَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى حَقٍّ، وَقَدْ خَالَفُوكَ وَكَذَّبُوكَ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ، قَالَ: الْخُصُومَاتُ وَالْجِدَالُ فِي الدِّينِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَوْلُهُ كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ أَيْ كُلَّمَا عَقَّدُوا أَسْبَابًا يَكِيدُونَكَ بِهَا، وَكُلَّمَا أَبْرَمُوا أُمُورًا يُحَارِبُونَكَ بِهَا، أبطلها الله ورد كيدهم عليهم، وحاق مَكْرُهُمُ السَّيِّئُ بِهِمْ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ أَيْ مِنْ سَجِيَّتِهِمْ أَنَّهُمْ دَائِمًا يَسْعَوْنَ فِي الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، ثُمَّ قال جلا وَعَلَا: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا أَيْ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقَوْا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَيْ لأزلنا عنهم المحذور وأنلناهم الْمَقْصُودَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وغيره:
هو الْقُرْآنَ، لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أَيْ لَوْ أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِمَا فِي الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير، لَقَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ كُتُبَهُمْ نَاطِقَةٌ بِتَصْدِيقِهِ وَالْأَمْرِ باتباعه حتما لا محالة.
وقوله تعالى: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يَعْنِي بِذَلِكَ كَثْرَةَ الرِّزْقِ النَّازِلِ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّابِتِ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ يَعْنِي لَأَرْسَلَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا، وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يَعْنِي يُخْرِجُ مِنَ الْأَرْضِ بَرَكَاتِهَا، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: ٩٦] وقال تَعَالَى:
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الرُّومِ: ٤١]، وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ لَأَكَلُوا

مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ
يَعْنِي مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَلَا تَعَبٍ وَلَا شَقَاءٍ وَلَا عَنَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ لَكَانُوا فِي الْخَيْرِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: هُوَ فِي الْخَيْرِ مِنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ، ثُمَّ رد هذا القول لمخالفته أَقْوَالِ السَّلَفِ «١».
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ حَدِيثَ عَلْقَمَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «يُوشِكُ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ» فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يُرْفَعُ الْعِلْمُ وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ وَعَلَّمْنَاهُ أَبْنَاءَنَا؟ فقال «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ لَبِيدٍ إِنْ كُنْتُ لأراك من أفقه أهل المدينة، أو ليست التَّوْرَاةُ.
وَالْإِنْجِيلُ بِأَيْدِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ حِينَ تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ» ثُمَّ قَرَأَ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ هَكَذَا أَوْرَدَهُ ابن أبي حاتم مُعَلَّقًا مِنْ أَوَّلِ إِسْنَادِهِ مُرْسَلًا فِي آخِرِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» بْنُ حَنْبَلٍ مُتَّصِلًا مَوْصُولًا، فَقَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ زِيَادِ بْنِ لبيد أنه قَالَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، فَقَالَ «وَذَاكَ عِنْدَ ذَهَابِ الْعِلْمِ» قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ أُمِّ لَبِيدٍ، إِنْ كُنْتُ لَأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ، أَوْ لَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ولا ينتفعون مما فيهما بشيء» هكذا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ، وَهَذَا إسناد صحيح.
وقوله تَعَالَى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ كقوله وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف: ١٥٩] وكقوله من أَتْبَاعِ عِيسَى فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ [الْحَدِيدِ: ٢٧]، فَجَعَلَ أَعْلَى مَقَامَاتِهِمُ الِاقْتِصَادَ وَهُوَ أَوْسَطُ مَقَامَاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفَوْقَ ذَلِكَ رُتْبَةُ السَّابِقَيْنِ، كما في قوله عز وجل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها [فَاطِرٍ: ٣٢، ٣٣]، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ مِنْ هَذِهِ الأمة كلهم يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عدي حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ «تَفَرَّقَتْ أُمَّةُ مُوسَى عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ مِلَّةً:
سَبْعُونَ مِنْهَا فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَتَفَرَّقَتْ أمة عيسى على اثنتين وسبعين ملة: واحدة فِي الْجَنَّةِ، وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ مِنْهَا فِي النَّارِ، وَتَعْلُو أُمَّتِي عَلَى الْفِرْقَتَيْنِ جَمِيعًا وَاحِدَةٌ فِي الجنة،
(٢) مسند أحمد ٤/ ١٦٠.