
[سورة النساء (٤) : آية ٣٥]
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)وقوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا... الآية: اختلف من المأمور بالبَعْثَةِ. فقيل: الحُكَّام «١»، وقيل: المُخَاطَب الزَّوْجَانِ، وإِليهما تقديمُ الحَكَمَيْنِ، وهذا في مَذْهب مالك، والأول لربيعةَ وغيره، ولا يُبْعَثُ الحَكَمَانِ إِلاَّ مع شدَّة الخوْفِ والشِّقَاقِ، ومذهبُ مالك وجمهورِ العُلَمَاءِ: أنَّ الحَكَمَيْن يَنْظُران في كلِّ شيء، ويحملان على الظَّالم، ويُمْضِيَان ما رَأَياه مِنْ بقاء أو فراقٍ، وهو قولُ عليَّ بنِ أبي طالب في «المدوَّنة» وغيرها «٢».
وقوله: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً، قال مجاهد وغيره: المرادُ الحَكَمَانِ، أي: إِذا نَصَحَا وقَصَدَا الخَيْرَ، بُورِكَ في وَسَاطتهما «٣»، وقالتْ فرقةٌ: المرادُ الزَّوْجَان، والأول أظهرُ، وكذلك الضميرُ في بَيْنِهِما، يحتمل الأمرين، والأظهر أنه للزّوجين، والاتصاف بعليم خبير: يناسب ما ذكر من إرادة الإصلاح.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧)
وقوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً... العبادة/:
التذلُّل بالطَّاعة، وإِحساناً، مصدرٌ، والعاملُ فيه فِعلٌ، تقديره: وأحْسِنُوا بالوالدين إِحساناً، وَبِذِي القُرْبَى: هو القريبُ النَّسَبِ مِنْ قِبَلِ الأبِ والأُمِّ، قال ابنُ عبَّاس وغيره: والجَارُ ذو القربَى: هو القريبُ النَّسَبِ، والجَارُ الجُنُبِ: هو الجَارُ الأجنبيُّ «٤»، وقالَتْ فرقة: الجَارُ ذو
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ٧٤) برقم (٩٤٠٨- ٩٤٠٩)، وذكره البغوي (١/ ٤٢٤) بنحوه، وابن عطية (٢/ ٤٩)، والسيوطي (٢/ ٢٧٩)، وعزاه للشافعي في «الأم»، وعبد الرزاق في «المصنف»، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «سننه»، عن عبيدة السلماني.
(٣) أخرجه الطبري (٤/ ٧٩) برقم (٩٤٣١)، وذكره ابن عطية (٢/ ٤٩)، والسيوطي (٢/ ٢٨٠)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد. [.....]
(٤) أخرجه الطبري (٤/ ٨٠- ٨٢) برقم (٩٤٣٨: ٩٤٤٩)، وذكره ابن عطية (٢/ ٥٠)، وابن كثير (١/ ٤٩٤)، والسيوطي (٢/ ٢٨٢) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «شعب الإيمان» من طرق، عن ابن عباس.

القربَى: هو الجارِ القريبُ المَسْكنِ منْكَ، والجار الجُنُب هو البعيدُ المَسْكن منْكَ، والمُجَاورة مراتِبُ بعضُها أَلْصَقُ من بعض أدناها الزَّوْجَة.
قال ابنُ عباس وغيره: الصَّاحِبُ بالجَنْبِ: هو الرفيقُ في السَّفَر «١».
وقالَ عليُّ بنْ أبي طَالِبِ، وابنُ مَسْعود، وابنُ أبي لَيْلَى وغيرهم: هو الزوجَةُ «٢»، وقال ابنُ زَيْدٍ: هو الرجلُ يعتريكَ ويُلِمُّ بك لتنفعه «٣»، وأسند الطبريُّ «أنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم كَانَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وهُمَا عَلَى راحلتين، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غَيْضَةً «٤»، فَقَطَعَ قَضِيبَيْنِ، أَحَدُهَمَا مُعْوَجٌّ، وخَرَجَ فَأَعْطَى صَاحِبَهُ القَوِيمَ، وَحَبَسَ هُوَ المُعْوَجَّ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: كُنْتَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَقَّ بِهَذَا، فَقَالَ لَهُ: «يَا فُلاَنُ، إِنَّ كُلَّ صَاحِبٍ يَصْحَبُ الآخَرَ، فَإِنَّهُ مَسْئُولٌ عَنْ صَحَابَتِهِ، وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهِارٍ» «٥»، قلْتُ: وأسند الحافظ محمَّد بن طاهر المقدسيّ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ» «٦». انتهى من «صفوة التصوُّف».
وفي الحديثِ الصحيح، عنِ ابن عمر، قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»، أخرجه البخاريُّ، وأخرجه أيضاً من طريق عائشة (رضي الله عنها) «٧» انتهى.
(٢) ذكره ابن عطية (٢/ ٥١).
(٣) أخرجه الطبري (٤/ ٨٥) برقم (٩٤٨٢)، وذكره البغوي (١/ ٤٢٥)، وابن عطية (٢/ ٥١).
(٤) الغيضة: هي الشجر الملتف. ينظر: «النهاية» (٣/ ٤٠٢).
(٥) أخرجه الطبري في تفسيره (٤/ ٨٥) برقم (٩٤٨٣).
(٦) أخرجه الترمذي (٤/ ٣٣٣)، كتاب «البر والصلة»، باب ما جاء في حق الجوار، حديث (١٩٤٤)، وابن حبان (٢٠٥١- موارد)، وابن خزيمة (٢٥٣٩)، وأحمد (٢/ ١٦٧- ١٦٨)، والحاكم (١/ ٤٤٣)، والدارمي (٢/ ٢١٥) من حديث عبد الله بن عمرو.
(٧) ورد ذلك من حديث عائشة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وأبي أمامة، وأنس بن مالك، وزيد بن ثابت، وحديث جابر بن عبد الله، ومحمد بن مسلمة، ورجل من الأنصار:
فأما حديث عائشة، فأخرجه البخاري (١٠/ ٤٥٥) في الأدب: باب الوصاة بالجار (٦٠١٤)، وفي «الأدب المفرد» (٩٩)، ومسلم (٤/ ٢٠٢٥) في البر والصلة: باب الوصية بالجار، والإحسان إليه (١٤٠- ٢٦٢٤). وأبو داود (٢/ ٧٦٠) في الأدب: باب في حق الجوار (٥١٥١)، والترمذي (٤/ ٢٩٣) في البر والصلة: باب ما جاء في حق الجوار (١٩٤٢)، وابن ماجة (٢/ ١٢١١) في الأدب: باب حق الجوار (٣٦٧٣)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (٤/ ٢٦- ٢٧)، وأحمد (٦/ ٥٢، ٢٣٨)، والخرائطي-

وابنُ السَّبِيلِ: المسافرُ، وسُمِّيَ ابْنُهُ للزومه له، وما ملكت أيمانكم: هم العبيد الأرقّاء.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأخرجه مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عنها.
وأخرجه أحمد (٦/ ٩١، ١٢٥، ١٨٧)، وأبو يعلى (٤٥٩٠)، وأبو نعيم في «الحلية» (٣/ ٣٠٧)، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (ص ٣٦)، والخطيب في «التاريخ» (٤/ ١٨٧) من طريق زبيد عن مجاهد عنها.
وأما حديث ابن عمر، فأخرجه البخاري (٦٠١٥)، ومسلم (١٤١/ ٢٦٢٥)، وأحمد (٢/ ٨٥)، والطبراني في «الكبير» (١٢/ ٣٦٠) (١٣٣٤٠، ٣٣٤٣)، والخرائطي (ص ٣٧)، والبيهقي (٧/ ٢٧)، والبغوي في «شرح السنة» (٦/ ٤٧٠) برقم (٣٣٨١) من طريق عمر بن محمد عن أبيه عنه مرفوعا. وكذا رواه البخاري في «الأدب المفرد» (١٠٢).
وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فأخرجه أبو داود (٥١٥٢)، والترمذي (١٩٤٣)، والبخاري في «الأدب المفرد» (١٠٣)، وأحمد (٢/ ١٦٠)، والحميدي (٢/ ٢٧٠- ٢٧١) برقم (٥٩٣)، والخرائطي (ص ٣٧)، وأبو نعيم في «الحلية» (٣/ ٣٠٦) من طريق مجاهد عنه به.
وعند الحميدي «عن مجاهد بن جبر عن محرر بن قيس بن السائب أن عبد الله بن عمرو... ».
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقد روي هذا الحديث عن مجاهد عن عائشة وأبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أيضا.
وأما حديث أبي هريرة، فأخرجه ابن ماجة (٣٦٧٤)، وأحمد (٢/ ٣٠٥، ٤٤٥)، وأبو نعيم في «الحلية» (٣/ ٣٠٦) من طريق يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد عنه به.
وقال البوصيري في «الزوائد» (٢/ ١٦٤) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
ورواه أحمد: (٢/ ٢٥٩، ٥١٤)، وابن حبان (٢٠٥٢- موارد)، وابن أبي شيبة (٨/ ٥٤٦- ٥٤٧) برقم (٥٤٧٢)، والبزار (٢/ ٣٨١) برقم (١٨٩٨)، وابن عدي (٣/ ٩٤٩)، والبغوي في «شرح السنة» (٦/ ٤٧٠) برقم (٣٣٨٢) من طريق شعبة عن داود بن فراهيج عنه به.
وقال الهيثمي في «المجمع» (٨/ ١٥٩) : رواه البزار، وفيه داود بن فراهيج، وهو ثقة، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات.
وأما حديث أبي أمامة، فأخرجه أحمد (٥/ ٢٦٧)، والخرائطي (٣٧) عن بقية بن الوليد حدثنا محمد بن زياد سمعت أبا أمامة يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوصي بالجار حتى ظننت أنه سيورثه. وكذا رواه الطبراني في «الكبير» (٨/ ١٣٠) برقم (٧٥٢٣).
وقال الهيثمي في «المجمع» (٨/ ١٦٨)، رواه الطبراني، وإسناده جيد.
وأخرجه الطبراني (٧٦٣٠) من طريق يحيى بن أبي كثير عن شداد أبي عمار عن أبي أمامة به، ولفظه لفظ حديث عائشة.
وقال الهيثمي (٨/ ١٦٧) : رواه أحمد والطبراني بنحوه، وصرح بقية بالتحديث، فهو حديث حسن.
وأما حديث أنس فأخرجه الخرائطي مطولا (ص ٣٦) عن الربيع بن صبيح عن يزيد الرقاشي عنه. -

قال ابنُ العَرَبِيّ «١» في «أحكامه» : وقد أمر اللَّه سبحانه بالرِّفْقِ بهم، والإِحسانِ إِلَيْهم وفي «الصحيح» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «إِخْوَانُكُمْ مَلَّكَكُمُ اللَّهُ رِقَابَهُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مِنَ العَمَلِ مَا لاَ يُطِيقُونَ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ، فأعينوهم» »
. انتهى.
وقال الهيثمي: فيه المطلب بن عبد الله بن حنطب، وهو ثقة، وفيه ضعف. وبقية رجاله رجال الصحيح.
وأما حديث جابر، فأخرجه البزار (١٨٩٧) عن زياد بن عبد الله: ثنا الفضل بن مبشر عن جابر بنحوه.
وقال الهيثمي: فيه الفضل بن مبشر، وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله ثقات. وأما حديث محمد بن مسلمة: فأخرجه الطبراني في «الكبير» (١٩/ ٢٣٤- ٢٣٥)، والبيهقي في «الدلائل» (٧/ ٧٧) من طريق محمد بن المثنى قال: حدثنا عباد بن موسى، قال: حدثنا يونس عن الحسن عن محمد بن سلمة به مطولا.
وقال الهيثمي: فيه عباد بن موسى السعدي. وقد ذكر ابن أبي حاتم عباس بن مؤنس، وروى عنه اثنان، فإن كان هذا ابن مؤنس، فرجاله ثقات، وإلا فلم أعرفه.
وأما حديث الأنصاري، فأخرجه أحمد (٥/ ٣٢، ٣٦٥)، والطحاوي (٤/ ٢٧)، والخرائطي (ص ٣٥- ٣٦) من طريق هشام عن حفصة بنت سيرين عن أبي العالية عنه.
(١) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٤٣١).
(٢) أخرجه البخاري (١/ ١٠٦) في الأيمان: باب المعاصي من أمر الجاهلية (٣٠)، و (٥/ ٢٠٦) في العتق:
باب قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «العبيد إخوانكم، فأطعموهم مما تأكلون»، (٢٥٤٥)، و (١٠/ ٤٨٠) في الأدب:
باب ما ينهى عن السباب واللعن (٦٠٥٠).
ومسلم (٣/ ١٢٨٢- ١٢٨٣) في الأيمان: باب إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس (٣٨- ٤٠/ ١٦٦١)، وأبو داود (٢/ ٧٦١) في الأدب: باب في حق المملوك (٥١٥٨)، والترمذي (٤/ ٢٩٤- ٢٩٥) في البر والصلة: باب ما جاء في الإحسان إلى الخدم (١٩٤٥)، وابن ماجة (٢/ ١٢١٦- ١٢١٧) في الأدب: باب الإحسان إلى المماليك (٣٦٩٠)، وأحمد (٥/ ١٥٨)، والبخاري في «الأدب المفرد» (١٨٧)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٤/ ٣٥٦)، والبيهقي (٨/ ٧) من طريق المعرور بن سويد قال: مررنا بأبي ذر بالربذة وعليه برد، وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة.
فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية، فعيرته بأمه، فشكاني إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلقيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية. قلت: يا رسول الله. من سب الرجال سبوا أباه وأمه. قال: يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم».
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. -