
الرازي- رحمه الله-: وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله- تعالى- ذكر في هذه السورة مكارم الأخلاق وأدب نبيه صلّى الله عليه وسلّم لكن الله- تعالى- أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه المرسل، فكلما ذكر للنبي مكرمة، وعلمه أدبا ذكر للمؤمنين ما يناسبه، فكما بدأ الله في تأديب النبي صلّى الله عليه وسلّم بذكر ما تعلق بجانب الله بقوله: يا أيها النبي اتق الله! وثنى بما يتعلق بأزواجه حيث قال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ، وثلث بما يتعلق بجانب عامة الأمة بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً. كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله حيث يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ، ثم ثنى بما يتعلق بأزواجهن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ وثلث بما يتعلق بأدب المؤمنين مع النبي حيث قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ.
والمعنى المراد: إذا نكحتم المؤمنات وكذلك الكتابيات- وإنما تركهن ليعلم المؤمنون أن الأولى نكاح المؤمنات- ثم طلقتموهن من قبل الدخول بهن فليس لكم عليهن من عدة، إذ المطلقة قبل الدخول بها لا تحتاج إلى براءة رحم، وإنما المتوفى زوجها عدتها أربعة أشهر وعشر تفجعا على زوجها لا لبراءة الرحم إذ الرحم تبرأ بشهر أو بحيضة.
والواجب هو أن يمتّعن، أى: يعطين المتعة وهي نصف المهر إذا فرض لها مهر، أو أى شيء يستمتعن به جبرا لخاطرهن، وسرحوهن سراحا جميلا لا ألم فيه ولا تعذيب.
من خصوصيات النبي صلّى الله عليه وسلّم [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢)

المفردات:
أُجُورَهُنَّ: مهورهن أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ: رده يَسْتَنْكِحَها: ينكحها حَرَجٌ: إثم وضيق تُرْجِي: من الإرجاء وهو التأخير وَتُؤْوِي: تضم ابْتَغَيْتَ أى: طلبت عَزَلْتَ والعزلة: الإزالة والمراد عزلتها من القسمة.
المعنى:
يا أيها النبي إن الله أحل لك أن تتزوج من النساء اللاتي أعطيتهن مهورهن واللاتي تملكهن بيمينك من الفيء والغنيمة. وأحل الله لك من بنات أقاربك ما شئت من بنات عمك، وبنات عماتك، وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك. وأحل الله لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها إليك. وأردت نكاحها خالصة من دون المؤمنين، كل ذلك لئلا يكون عليك حرج ولا إثم.

ومعنى هذا- والله أعلم- أن الله يبين للنبي الجهة والوصف العام الذي يصح أن يكون أساسا لاختياره نساءه، فالمرأة التي أوتيت أجرها وقبلت مهرها مهما كان فهي أولى وأفضل ممن لم تأخذ صداقها، والمملوكة التي سباها الرجل بنفسه أفضل من التي اشتراها من غيره. وبنات عمه وعماته وخاله وخالاته أولى إذا هاجرن مع النبي، فإن من هاجر أشرف وأولى ممن لم يهاجر.
روى السدى عن أم هانئ بنت أبى طالب قالت: خطبنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاعتذرت إليه- لأننى كنت امرأة كثيرة العيال- فقبل عذري فأنزل الله هذه الآية. قالت: فلم أكن أحل له، لأننى لم أهاجر وكنت من الطلقاء.
ويؤكد هذا المعنى- أفضلية وأولوية تلك الأصناف- قوله تعالى: وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأراد نكاحها خالصة له حتى تصير له زوجة، وللمؤمنين أما.
وقد ذكر القرطبي- رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية وجهين آخرين: أولهما أن الآية تفيد حل جميع النساء للنبي إذا آتاهن أجورهن، وعلى هذا فالآية مبيحة للنبي صلّى الله عليه وسلّم التزوج بمن شاء ما عدا المحارم لأنه لا جائز أن تفهم أن المراد أحل له أزواجه اللاتي هن معه لأن الحل يقتضى تقدم الحظر، ولا حظر موجود، وأيضا فلم يكن تحته من بنات عمه ولا عماته. ولا خاله ولا خالاته، فثبت أنه أحل له التزويج بهؤلاء ابتداء، وعلى ذلك فالآية ناسخة- على رأى من يقول بالنسخ- لقوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وإن كانت متقدمة عليها.
وقيل المراد: أحللنا لك أزواجك اللاتي هن عندك فقط، وآتيتهن أجورهن لأنهن اخترنك وآثرن البقاء معك على الدنيا وزخرفها، والذي رجح هذا قوله- تعالى- آتيت أجورهن: لأن (آتى) فعل ماض ليس للمستقبل، ويؤيد هذا التأويل قول ابن عباس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتزوج من أى النساء شاء، وكان يشق ذلك على نسائه.
فلما نزلت هذه الآية، وحرم عليه بها النساء، إلا من سمى سر نساؤه، وهذا رأى الجمهور، وفيه تضييق على النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقد رجح القول الأول القرطبي لما ذكرناه عنه، ولقول عائشة- رضى الله عنها-:
ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أحل الله تعالى له النساء. بقي ذكر بنات عمه

وعماته... إلخ فالجمهور يقولون: أحل الله لك ذلك زائدا على الأزواج اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك، لأنه لولا أراد أحللنا لك كل امرأة تزوجتها وآتيتها المهر لما كان لذكرهن فائدة- وأصحاب الرأى الأول يقولون إن المراد التوسيع على النبي لا التضييق عليه وتلك خصوصية له، وإنما ذكرهن تشريفا لهن ولهذا نظير قوله:
فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [سورة الرحمن آية ٦٨]- الله أعلم بكتابه.
وإنما خص المهاجرات من الأقارب بجواز تزوج النبي منهن متى شاء لأن من لم يهاجر لم يكمل، ومن لم يكمل لا يصلح للنبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كمل وشرف وعظم.
وهل يجوز نكاح الهبة؟ لقد أجمع العلماء أن هبة المرأة نفسها غير جائزة وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم عليه نكاح، وعند أبى حنيفة وصاحبه: إذا وهبت فأشهد هو على نفسه بمهر فذلك جائز.
لقد وهب كثير من النساء أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلّم،
وروى عن عائشة أنها قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأقول: أما تستحي امرأة تهب نفسها لرجل؟ حتى أنزل الله- سبحانه وتعالى-: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ
فقالت: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
وروى البخاري أن خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله، وقيل الموهوبات أربع: ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة، وأم شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم.
قال الشعبي في قوله تعالى: ترجى من تشاء منهن.. الآية.. هن الواهبات أنفسهن وتزوج رسول الله منهن، وترك منهن، وقال الزهري: ما علمنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرجأ أحدا من أزواجه بل آواهن كلهن. وهذا هو المعقول، والآية سيقت توسعة على رسول الله.
وقيل: المعنى المراد هو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مخير مع أزواجه بين أن يقسم بالسوية أو يترك القسم إن شاء أرجأ وأخر بعضهن، وإن شاء آوى إليه وجمع بعضهن، ولكنه كان يقسم بالسوية، ويؤوى إليه الكل، دون أن يفرض الله عليه ذلك من قبل، وإنما فعل ذلك تطييبا لنفوسهن وصونا لها عن أحوال الغيرة التي قد تؤدى إلى ما لا تحمد عقباه.

ومن ابتغيتها وطلبتها بعد أن عزلتها وأزلتها فلا جناح عليك في ذلك، أى: إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن من القسمة وتضمها إليك فلا بأس عليك في ذلك، وكذلك حكم الإرجاء، ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أدنى إلى إرضائهن وسرورهن بكل ما تفعل، وتلك خصوصية للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
ومن الأحكام الشرعية أن الرجل الذي يتزوج امرأتين واجب عليه أن يعدل بينهن بالسوية في كل شيء.
الله يعلم ما في قلوبكم، وكان الله عليما بكل شيء حليما في كل حكم.
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ الآية.. في هذه الآية خلاف بين العلماء تبعا لما قالوا في تفسير قوله تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية.
فقال بعضهم: لا يحل لك النساء من بعد ما وصفنا وبينا لك من الأوصاف السابقة أما غيرهن من الكتابيات أو غير المهاجرات من أقاربك فلا يحل لك منهن أحد، وقال بعضهم: هذه منسوخة بالآية المتقدمة، وتقدمها في التلاوة لا يضر.
وقال بعضهم: لما اختار نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم ذاته الشريفة جوزين على ذلك بتحريم غيرهن على النبي، وعدم طلاقهن منه، وجعلهن أمهات للمؤمنين، ذلك مكافأة لهن على ذلك.
ولا أن تبدل بهن من أزواج، أى: لا يحل طلاقهن وتزوج غيرهن، ولو كنت معجبا بحسنهن إلا ما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك.
وكان الله على كل شيء رقيبا.
كلمة عن تعدد أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم
لقد تكلم بعض الناس في أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وكثرتهن يرمون إلى أنه رجل شهوانى لا يعقل أن يكون نبيا!! حقيقة مات النبي عن تسع نسوة لكل واحدة ظرف خاص في زواجها لو عرفناه لحكمنا حكما صحيحا في هذا الموضوع. أما السيدة خديجة فقد تزوجها وسنه خمس وعشرون سنة وسنها أربعون سنة، ومع هذا الفارق الكبير فقد عاشا عيشة سعيدة حتى توفيت، وقد أمضى معها زهرة شبابه، إذ ماتت وهي في سن