وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ
[البقرة: ٢٣٧] قال: فصار لها نصف الصداق ولا متاع لها، وأنكر الحسن وأبو العالية النسخ وقالا لها نصف الصداق ولها المتاع.
وجاء في رواية أخرى أخرجها عبد بن حميد عن الحسن أيضا أن لكل مطلقة متاعا دخل بها أم لم يدخل بها فرض لها أو لم يفرض
، وظاهره دعوى الوجوب في الكل وهو خلاف ما عندنا، وقد علمت الحكم في صورتين وهو في الصورتين الباقيتين الاستحباب، وأما دعوى النسخ فلا يخفى ما فيها، والظاهر أن الفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها، وقيل: فصيحة أي إذا كان كما ذكر فمتعوهن وَسَرِّحُوهُنَّ أي أخرجوهن من منازلكم إذ ليس لكم عليهن عدة وأصل التسريح أن ترعى الإبل السرح وهو شجر له ثمرة ثم جعل لكم إرسال في الرعي ثم لكل إرسال وإخراج سَراحاً جَمِيلًا مشتملا على كلام طيب عاريا عن أذى ومنع واجب، وقيل: السراح الجميل أن لا يطالبوهن بما آتوهن، وقال الجبائي: هو الطلاق السني، وليس بشيء لأن ذاك لعطفه على التمتيع الواقع بعد الفاء مرتب على الطلاق فيلزم ترتب الطلاق السني على الطلاق والضمير لغير المدخول بهن فلا يمكن أن يكون ذلك طلاقا مرتبا على الطلاق الأول لأن غير المدخول بهن لا يتصور فيها لحوق طلاق بعد طلاق آخر مع أنها إذا طلقت بانت.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن كما قال مجاهد، وغيره وأطلق الأجر على المهر لأنه أجر على الاستمتاع بالبضع وغيره مما يجوز به الاستمتاع وتقييد الإحلال له بإعطائها معجله كما يفهم من معنى آتَيْتَ ظاهرا ليس لتوقف الحل عليه بل لإيثار الأفضل له صلّى الله عليه وسلم فإن في التعجيل براءة الذمة
وطيب النفس ولذا كان سنّة السلف لا يعرف منهم غيره، وقال الإمام: من الناس من قال بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجب عليه إعطاء المهر أولا وذلك لأن المرأة لها الامتناع من تسليم نفسها إلى أن تأخذ المهر والنبي صلّى الله عليه وسلم ما كان يستوفي ما لا يجب له والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان حلالا وكيف والنبي عليه الصلاة والسلام إذا طلب شيئا حرم الامتناع فلو طلب التمكين قبل إيتاء المهر لزم أن يجب وأن لا يجب وهو محال ولا كذلك أحدنا اهـ وفيه بحث لا يخفى، وحمل الإيتاء على الإعطاء وما في حكمه كالتسمية في العقد، وجعل التقييد لإيثار الأفضل أيضا فإن التسمية أولى من تركها وإن جاز العقد بدونها ولزم مهر المثل خلاف الظاهر.
واستدل أبو الحسن الكرخي من أصحابنا بقوله تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ على أن النكاح ينعقد بلفظ الإجارة كما ينعقد بلفظ التزويج ويكون لفظ الإجارة مجازا عنه لأن الثابت بكل منهما ملك منفعة فوجد المشترك ورد بأنه لا يلزم من تسمية المهر أجرا صحة النكاح بلفظ الإجارة وما ذكر من التجوز ليس بشيء لأن الإجارة ليست سببا لملك المنفعة حتى يتجوز بها عنه قاله في الهداية، وقال بعضهم: إن الإجارة لا تنعقد إلا مؤقتة والنكاح يشترط فيه نفيه فيتضادان فلا يستعار أحدهما للآخر. وتعقب بأنه إن كان المتضادان هما العرضين اللذين لا يجتمعان في محل واحد لزمكم مثله في البيع من كونه لا يجامع النكاح مع جواز العقد به عند الأصحاب، على أن التحقيق أن التوقيت ليس مفهوم لفظ الإجارة ولا جزأ منه بل شرط لاعتباره فيكون خارجا عنه فهو مجرد تمليك المنافع بعوض غير أنه إذا وقع مجردا لا يعتبر شرعا على مثال الصلاة فإنها الأقوال والأفعال المعروفة ولو وجدت من غير طهارة لا تعتبر، ولا يقال: إن الطهارة جزء مفهوم الصلاة هذا ومثل تقييد إحلال الأزواج بما ذكر على ما قيل تقييد إحلال المملوكة بكونها ممن باشر سباءها وشاهده في قوله تعالى وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها لجواز كون السبي ليس في محله، ولذا نكح بعض المتورعين الجواري بعقد بعد الشراء مع القول بعدم صحة العقد على الإماء. واستشكل ذلك بمارية بنت شمعون القبطية رضي الله تعالى عنها فإنها لم تكن مسبية بل أهداها له صلّى الله عليه وسلم أمير القبط جريج بن مينا صاحب الإسكندرية ومصر وأجيب بأن هذا غير وارد لأن هدايا أهل الحرب للإمام لها حكم الفيء، وقد يقال: إنه يستشكل بسرية له صلّى الله عليه وسلم أخرى وهي جارية وهبتها له عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها وكان هجرها عليه الصلاة والسلام في شأن صفية بنت حيي ذا الحجة والمحرم وصفر فلما كان شهر ربيع الأول الذي قبض فيه رضي عنها ودخل عليها فقالت ما أدري ما أجزيك فوهبتها له وقد عدوها من سراريه صلّى الله عليه وسلم والجواب المذكور لا يتسنى فيها، ولعل الجواب عن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام تسراها بيانا للجواز ولا يبعد أنه كان متحققا بدء أمرها وما جرى ليها بحيث كأنه باشر سبيها وشاهده، ويحتمل أنها كانت مما أفاء الله تعالى عليه الصلاة والسلام فملكتها زينب ببعض أسباب الملك ثم وهبتها له صلّى الله عليه وسلم.
ومع ذلك قد أطلق عليه الصلاة والسلام حل المملوكة بعد ولم يقيد بحسب الظاهر بكونها مما أفاء الله عليه في قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ.
ثم إن هبة هذه الجارية كانت شهر وفاته صلّى الله عليه وسلم والآية نزلت قبل لأنها نزلت أما سنّة الأحزاب وهي السنة الخامسة من الهجرة وإما بعيد الفتح وهو السنة الثامنة منها وعلى هذا يكون ما وقع من أمر مارية متقدما على نزول الآية لأنها أهديت له صلّى الله عليه وسلم السنة السابعة من الهجرة فإنه عليه الصلاة والسلام فيها أرسل رسله إلى الملوك ومنهم حاطب بن أبي بلتعة اللخمي أرسله إلى المقوقس أمير القبط المتقدم ذكره فقدم منه بمارية وبأختها شيرين وبأخ أو بابن عم لها خصي يقال له مابور وببغلة تسمى دلدلا وبحمار يسمى يعفورا أو عفيرا وبألف مثقال ذهبا وبغير ذلك فتدبر، ومثل ما ذكر على ما قيل تقييد القرائب بكونها مهاجرات معه صلّى الله عليه وسلم في قوله سبحانه:
وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ فهن أفضل من غيرهن، والمعية للتشريك في الهجرة لا للمقارنة في الزمان كأسلمت مع سليمان، قال أبو حيان: يقال دخل فلان معي وخرج معي أي كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان، ولو قلت: خرجنا معا اقتضى المعنيين الاشتراك في الفعل والاقتران في الزمان وهو كلام حسن، وحكى الماوردي قولا بأن الهجرة شرط في إحلال الأزواج على الإطلاق وهو ضعيف جدا. وقولا آخر بأنها شرط في إحلال قراباته عليه الصلاة والسلام المذكورات واستدل له بما
أخرجه ابن سعد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أم هانىء فاختة بنت أبي طالب قالت: «خطبني رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى قوله سبحانه: هاجَرْنَ مَعَكَ قالت فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر معه كنت من الطلقاء»
وأجيب بأن عدم الحل لفقد الهجرة إنما فهم من قول أم هانىء فلعلها إنما قالت ذلك حسب فهمها إياه من الآية وهو لا ينتهض حجة علينا إلا إذا جاءت به رواية عن النبي صلّى الله عليه وسلم، لا يقال: إنه
أخرج ابن سعد عن أبي صالح مولى أم هانىء قال: «خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أم هانىء بنت أبي طالب فقالت: يا رسول الله إني مؤتمة وبني صغار فلما أدرك بنوها عرضت نفسها عليه عليه الصلاة والسلام فقال: أما الآن فلا إن الله تعالى أنزل علي يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ- إلى- اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ
ولم تكن من المهاجرات وهو يدل على أنه نفسه صلّى الله عليه وسلم فهم الحرمة وإلا لتزوجها لأنا نقول بعد تسليم صحة الخبر: لا نسلم أنه صلّى الله عليه وسلم فهم الحرمة وعدم التزوج يجوز أن يكون لكونه خلاف الأفضل، ويدل خبر أم هانىء على أن هذه الآية نزلت بعد الفتح فلا تغفل. وادعى بعضهم أن تحريم نكاح غير المهاجرة عليه صلّى الله عليه وسلم كان أولا ثم نسخ، وعن قتادة أن معنى هاجَرْنَ مَعَكَ أسلمن معك، قيل: وعلى هذا لا يحرم عليه عليه الصلاة والسلام إلا الكافرات وهو في غاية البعد كما لا يخفى، والظاهر أن المراد بأزواجك اللاتي آتيت مهورهن نساؤه صلّى الله عليه وسلم اللاتي كن في عصمته وقد آتاهن مهورهن كعائشة وحفصة وسودة وبما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك نحو ريحانة بناء على ما قاله محمد بن إسحاق أنه صلّى الله عليه وسلم لما فتح قريظة اصطفاها لنفسه فكانت عنده حتى توفيت عنده وهي في ملكه ووافقه في ذلك غيره
أخرج الواقدي بسنده إلى أيوب بن بشير قال: إنه عليه الصلاة والسلام أرسل بها إلى بيت سلمى بنت قيس أم المنذر فكانت عندها حتى حاضت حيضة ثم طهرت من حيضها فجاءت أم المنذر فأخبرته صلّى الله عليه وسلم فجاءها في منزل أم المنذر فقال لها: إن أحببت أن أعتقتك وأتزوجك فعلت وإن أحببت أن تكوني في ملكي أطؤك بالملك فعلت فقالت: يا رسول الله أحب أن أخف عليك وأن أكون في ملكك فكانت في ملك رسول الله صلّى الله عليه وسلم يطؤها حتى ماتت
. وذهب بعضهم إلى أنه عليه الصلاة والسلام أعتقها وتزوجها، وأخرج ذلك الواقدي أيضا عن ابن أبي ذئب عن الزهري ثم قال: وهذا الحديث أثبت عندنا: وروي عنها أنها قالت: لما سبيت بنو قريظة عرض السبي على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكنت فيمن عرض عليه فأمر بي عزلت وكان له صفي كل غنيمة فلما عزلت خار الله تعالى لي فأرسل بي إلى منزل أم المنذر بنت قيس أياما حتى قتل الأسرى وفرق السبي فدخل علي صلّى الله عليه وسلم فتجنبت منه حياء فدعاني فأجلسني بين يديه فقال: إن اخترت الله ورسوله اختارك رسول الله لنفسه فقلت: إني اختار الله تعالى ورسوله فلما أسلمت أعتقني رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتزوجني وأصدقني اثنتي عشرة أوقية ذهبا كما كان يصدق نساءه وأعرس بي في بيت أم المنذر وكان يقسم لي كما يقسم لنسائه وضرب علي الحجاب، ولم يذكر ابن الأثير غير القول بإعتاقها وتزوجها ومنهم من ذهب إلى أنها أسلمت فأعتقها عليه الصلاة والسلام فلحقت بأهلها وكانت تحتجب عندهم وتقول: لا يراني أحد بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحكي لحوقها بأهلها عن الزهري وادعى بعضهم بقاءها حية بعده عليه الصلاة والسلام وأنها توفيت سنة ست عشرة أيام خلافة عمر رضي الله تعالى عنه. وذكر ابن كمال في
تفسيره لبيان الموصول صفية وجويرية. والمذكور في أكثر المعتبرات في أمرهما أن صفية لما جمع سبي خيبر أخذها دحية
وقد قال له صلّى الله عليه وسلم: اذهب فخذ جارية ثم أخبر عليه الصلاة والسلام أنها لا تصلح إلا له لكونها بنت سيد قومه فقال لدحية: خذ غيرها
وأخذها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأعتقها وتزوجها وكان صداقها نفسها،
وأن جويرية في غزوة بني المصطلق وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري فكاتبته على نفسها ثم جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث وكان من أمري ما لا يخفى عليك ووقعت في سهم ثابت بن قيس وإني كاتبت نفسي فجئت أسألك في كتابتي فقال عليه الصلاة والسلام فهل لك إلى ما هو خير: قالت؟ وما هو يا رسول الله؟ قال:
أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك قالت: قد فعلت، وقال ابن هشام ويقال اشتراها صلّى الله عليه وسلم من ثابت وأعتقها وتزوجها وأصدقها أربعمائة درهم
، ولا يخفى عليك أنه إذا كان المراد إحلال ما ملكت يمينه صلّى الله عليه وسلم حين الملك من حيث إنه ملك له وإن لم يحصل وطء بالفعل يدخل جميع ما ملكه عليه الصلاة والسلام من الجواري حين الملك ولا يضر الإعتاق والتزوج بعد ذلك وحل الوطء بسبب النكاح لا الملك وإن كان المراد إحلال ذلك مع وقوع الوطء بالفعل ووصف الملك قائم لا يصح بيان الموصول إلا بمملوكة وطئها عليه الصلاة والسلام وهي ملكه كريحانة في قول وجارية أصابها في بعض السبي وعدوها من سراريه صلّى الله عليه وسلم ولم يذكر المعظم اسمها وعد الجلبي من سراريه عليه الصلاة والسلام جارية سماها زليخة القرظية فلعلها هي التي لم تسم وكمارية القبطية والجارية التي وهبتها له عليه الصلاة والسلام زينب، وقد سمعت الكلام فيهما آنفا والمراد ببنات عمه وبنات عماته بنات القرشيين وبنات القرشيات فإنه يقال للقرشيين قربوا أو بعدوا أعمامه صلّى الله عليه وسلم وللقرشيات قربن أو بعدن عماته عليه الصلاة والسلام، والمراد ببنات خاله وبنات خالاته بنات بني زهرة ذكورهم وإناثهم وإلى هذا ذهب الطبرسي في مجمع البيان ولم يذكر غيره، وإطلاق الأعمام والعمات على أقارب الشخص من جهة أبيه ذكورا وإناثا قربوا أو بعدوا والأخوال والخالات على أقاربه من جهة أمه كذلك شائع في العرف كثير في الاستعمال.
واللاتي نكحهن ودخل بهن صلّى الله عليه وسلم من القرشيات ست وكان نكاحه بعضهن قبل نزول الآية بيقين ونكاحه بعضهن الآخر محتمل للقبلية والبعدية كما لا يخفى على من راجع كتب السير وسمع ما قيل في وقت نزول الآية، ولم نقف على أنه عليه الصلاة والسلام نكح أحدا من الزهريات أصلا فالمراد بإحلال نكاح أولئك مجرد جوازه وهو لا يستدعي الوقوع، وإذا حمل العم على أخي الأب والعمة على أخته والخال على أخي الأم والخالة على أختها اقتضى ظاهر الآية أن يكون له صلّى الله عليه وسلم عم وعمة وخال وخالة كذلك وأن يكون لهم بنات وذلك مشهور في شأن العم والعمة وبناتهما فقد ذكر معظم أهل السير عدة أعمام له صلّى الله عليه وسلم وعدة بنات لهم كالعباس ومن بناته أم حبيبة تزوجها أسود المخزومي وكان قد خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ما قيل فوجد أباها أخاه من الرضاعة كان قد أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب، وكأبي طالب ومن بناته أم هانىء وقد سمعت ما قيل في شأنها وجمانة كانت إحدى المبايعات له صلّى الله عليه وسلم وكانت تحت أبي سفيان بن الحارث عمها، وكأبي لهب ومن بناته خالدة تزوجها عثمان بن أبي العاصي الثقفي وولدت له، ودرة أسلمت وهاجرت وكانت تحت الحارث بن نوفل ثم تحت دحية الكلبي، وعزة تزوجها أوفى بن أمية، وكالزبير ومن بناته ضباعة زوجة المقداد بن الأسود وأم الحكم ويقال إنها أخته عليه الصلاة والسلام من الرضاعة وكان يزورها بالمدينة وكحمزة ومن بناته أمامة لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم من عمرة القضاء أتى بها من مكة وزوجها سلمة بن أم سلمة ومقتضى قول القسطلاني أن حمزة أخوه صلّى الله عليه وسلم من الرضاعة أرضعتهما ثويبة بلبن ابنها مسروح أنها لا تحل له عليه الصلاة والسلام بل ذكر هو أيضا أنها عرضت عليه فقال هي ابنة أخي من الرضاعة وكالحارث ومن بناته
أروى زوجة أبي وداعة وكالمقوم ومن بناته من اسمها أروى أيضا زوجة ابن عمها أبي سفيان بن الحارث وذكروا أيضا له صلّى الله عليه وسلم عدة عمات وعدة بنات لهن، منهن أميمة ومن بناتها زينب أم المؤمنين وهي التي نزل فيها قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها [الأحزاب: ٣٧] وأم حبيبة وكانت زوجة عبد الرحمن بن عوف، وحمنة وكانت عند مصعب بن عمير ثم عند طلحة أحد العشرة، ومنهن البيضاء ومن بناتها أروى أم عثمان رضي الله تعالى عنه وأم طلحة بنتا كريز بن ربيعة، ومنهن عاتكة ومن بناتها قريبة بنت زاد الراكب أبي أمية بن المغيرة، ومنهن صفية ومن بناتها صفية بنت الحارث بن حارثة وأم حبيبة بنت العوام بن خويلد، وأما الخال والخالة فلم يشتهر ذكرهما، نعم
ذكر في الإصابة فريعة بنت وهب الزهرية رفعها النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: من أراد أن ينظر إلى خالة رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلينظر إلى هذه،
وفيها أيضا فاختة بنت عمرو الزهرية خالة النبي صلّى الله عليه وسلم.
أخرج الطبراني من طريق عبد الرحمن بن عثمان الوقاصي عن ابن المنكدر عن جابر سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: وهبت خالتي فاختة بنت عمرو غلاما وأمرتها أن لا تجعله جازرا ولا صائغا ولا حجاما
، والوقاصي ضعيف.
وقال: في صفية بنت عبد المطلب هي شقيقة حمزة أمهما هالة خالة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي هالة بنت وهب كما في المواهب ولم نقف لهذه الخالة على بنت غير صفية عمته عليه الصلاة والسلام، وكذا لم نقف على بنات لمن ذكرنا قبلها، ووقفنا على خال واحد له عليه الصلاة والسلام وهو عبد يغوث بن وهب ولم نقف على بنت له وإنما وقفنا على ابنين أحدهما الأرقم وله ابن يسمى عبد الله وهو صحابي كتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ولصاحبيه وكان على بيت المال في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وكان أثيرا عنده حتى أن حفصة روت عنه أنه قال لها: لولا أن ينكر على قومك لاستخلفت عبد الله بن الأرقم، وقيل: هو ابن عبد يغوث والأرقم هو عبد يغوث، والبخاري على ما قلنا وقد أسلم يوم الفتح، وقال بعضهم فيه: خال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن الناس من ذكر لعبد الله هذا أخا سماه عبد الرحمن بن الأرقم وأثبت له الصحبة وفي ذلك مقال، وثانيهما الأسود وأطلق عليه النبي عليه الصلاة والسلام اسم الخال،
فقد روي أنه كان أحد المستهزئين به صلّى الله عليه وسلم فقصد جبريل عليه السّلام إهلاكه فقال صلّى الله عليه وسلم: يا جبريل خالي فقال: دعه عنك
، وله ابن هو عبد الرحمن وبنت هي خالدة وكانت من المهاجرات الصالحات وقد أطلق عليها أيضا اسم الخالة.
أخرج المستغفري من طريق أبي عمير الجرمي عن معمر عن الزهري عن عبيد الله مرسلا قال: دخل النبي صلّى الله عليه وسلم منزله فرأى عند عائشة امرأة فقال: من هذه يا عائشة قالت: هذه إحدى خالاتك فقال: إن خالاتي بهذه البلدة لغرائب فقالت: هذه خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث فقال: سبحان الذي يخرج الحي من الميت قرأها مثقلة.
وأخرج موسى بن إبراهيم عن أبيه عن أبي سلمة عن عائشة موصولا نحوه
، وفي هذا الخبر وما قبله إطلاق الخال والخالة على قرابة الأم وإن لم يكن الخال أخاها والخالة أختها، وبذلك يتأيد ما ذكرناه سابقا فاحفظ ذاك والله تعالى يتولى هداك، وإياك أن تظن الأمر فرضيا أو أن الخطاب وإن كان خاصا في الظاهر عام في الحقيقة فيكفي وجود بنات خال وبنات خالات لغيره عليه الصلاة والسلام كما يظن ذلك من يشهد العم بجهله ويصدق الخال بقلة عقله، هذا وقد كثر السؤال عن حكمة أفراد العم والخال وجمع العمة والخالة حتى أن السبكي على ما قيل صنف جزءا فيه سماه الهمة في أفراد العم وجمع العمة.
قال الخفاجي: وقد رأيت لهم فيه كلمات ضعيفة كقول الرازي إن العم والخال على زنة المصدر ولذا لم يجمعا بخلاف العمة والخالة، وقيل لم يجمعا ليعما إذا أضيفا، والعمة والخالة لا يعمان لتاء الوحدة وهي إن لم تمنع العموم حقيقة تأباه ظاهرا، ولا يأبى ذلك قوله تعالى في سورة: بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ [النور: ٦١] لأنه
على الأصل، ثم قال: وأحسن منه ما قيل إن أعمامه صلّى الله عليه وسلم العباس وحمزة رضي الله تعالى عنهما أخواه من الرضاع لا تحل له بناتهما، وأبو طالب ابنته أم هانىء لم تكن مهاجرة اهـ، وما ادعى ضعفه فهو كما قال وما زعم أنه أحسن منه إن كان كما نقلناه بهذا المقدار خاليا عن إسقاط شيء حسبما وجدناه في نسختنا فهو مما لا حسن فيه فضلا عن كونه أحسن، وإن كان له تتمة فالنظر فيه بعد الاطلاع عليها إليك وأظنه على العلات ليس بشيء.
وقال بعض الأجلة المعاصرين من العلماء المحققين لا زال سعيد زمانه سابقا بالفضل على أقرانه: يحتمل أن يكون إفراد العم لأنه بمنزلة الأب بل قد يطلق عليه الأب ومنه في قول: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام: ٧٤] والأب لا يكون إلا واحدا فكان الافراد أنسب بمن ينزل منزلته ويكون جمع العمة على الأصل وإفراد الخال ليكون على وفق العم وجمع الخالة وإن كانت بمنزلة الأم لتكون على وفق العمات، ويحتمل أن يكون إفراد المذكر وجمع المؤنث لقلة الذكور وكثرة الإناث، وقد ورد في الآثار ما يدل على أن النساء أكثر من الرجال.
وقال آخر من أولئك الأجلة لا زالت مدارس العلم تزهو به وتشكر فضله: إن ذلك لما فيه من الحسن اللفظي فإن بين العم والعمات والخال والخالات نوعا من الجناس ولأن أعمامه عليه الصلاة والسلام كانوا على ما ذكره صاحب ذخائر العقبى اثني عشر عما وعماته كن ستا فلو قيل أعمامك لتوهم أنهم أقل من اثني عشر لأنه جمع قلة وغاية ما يصدق هو عليه تسعة أو عشرة على قول ولو قيل: عمتك لم تتحقق الإشارة إلى قلتهن فلذا أفرد العم وجمعت العمة وقيل: خالك وخالاتك ليوافق ما قبل، وأنا أقول: الذي يغلب على ظني في ذلك ما حكاه أبو حيان عن القاضي أبي بكر بن العربي من أن ما ذكر عرف لغوي على معنى أنه جرى عرف اللغويين في مثل ذلك على إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة، ونحن قد تتبعنا كثيرا من أشعار العرب فلم نر العم مضافا إليه ابن أو بنت بالإفراد أو الجمع إلا مفردا نحو قوله:
جاء شقيق عارضا رمحه | إن بني عمك فيهم رماح |
فتى ليس لابن العم كالذئب إن رأى | بصاحبه يوما دما فهو آكله |
قالت بنات العم يا سلمى وإن | كان فقيرا معدما قالت وإن |
يا بنت عما لا تلومي واهجعي | فليس يخلو عنك يوما مضجعي |
إضافة الفرع كالبنين والبنات إلى ذلك، ولعل في الإفراد مع جمع المضاف المذكور إشارة إلى أن البنين والبنات وإن كانوا بنين وبنات لمتعددين في نفس الأمر إلا أنهم في حكم البنين والبنات لواحد وأن كل واحد من الأعمام والأخوال لمزيد شفقته على أبناء وبنات كل كأنه أب لأبناء وبنات كل، وهذا الذي ذكرناه لا يوجد في العمات والخالات. ولا يرد عليه جمع العم والخال في آية النور كما لا يخفى على من له أدنى نور يهتدي به إذا أشكلت الأمور، ويمكن أن يقال في الحكمة هاهنا خاصة: إنه لما كان المفرد أصلا والمجموع فرعه والمذكر أصلا والمؤنث فرعه أتى بالعم والخال المذكرين مفردين وبالعمة والخالة المؤنثين مجموعين فاجتمع في الأولين أصلان وفي الأخيرين فرعان بحكم شبيه الشيء منجذب إليه وإن الطيور على أشباهها تقع، وما ألطف هذا الاجتماع في منصة مقام النكاح لما فيه من الإشارة إلى الكفاءة وأن المناسب ضم الجنس إلى جنسه كما يقتضيه بعض الآيات وهو لعمري ألطف من جمع المذكر وإفراد المؤنث ليجتمع في كل أصل وفرع فيوافق ما في النكاح من اجتماع ذكر هو أصل وأنثى هي فرع لخلوه عن الإشارة إلى ذلك الضم المناسب المستحسن عند كل ذي رأي صائب على أن في جمع أصلين في العم موافقة لما في النكاح من جمع الزوجين الذين هما أصلان لما يتولد منهما وإذا اعتبر جمعهما في الخال الذي قرابته من جهة الأم التي لا تعتبر في النسب وافق الجملة ما في النكاح من اجتماع أصل وفرع فلا يفوت ذلك بالكلية على ما في النظم الجليل.
وأيضا في الانتقال من الإفراد إلى الجمع في جانبي العمومة والخئولة إشارة إلى ما في النكاح من انتقال كل من الزوج والزوجة من حال الانفراد إلى حال الاجتماع فلله تعالى در التنزيل، هذا ما عندي وهو زهرة ربيع لا تحمل الفرك ومع هذا قسه إلى ما سمعت عن ساداتنا المعاصرين واختر لنفسك ما يحلو والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً بالنصب عطفا على مفعول أحللنا عند جمع وليس معنى أَحْلَلْنا إنشاء لاحلال الناجز ولا الاخبار عن إحلال ماض بل إعلام بمطلق الإحلال المنتظم لما سبق ولحق فلا يعكر على ذلك الشرط وهذا كما تقول أبحت لك أن تكلم فلانا إن سلم عليك، ولما فيه من البحث قال بعضهم: إنه نصب بفعل يفسره ما قبل أي ويحل لك امرأة أو وأحللنا لك امرأة وهو مستقبل لمكان الشرط. وقرأ أبو حيوة بالرفع على أنه مبتدأ والخبر محذوف أي وامرأة مؤمنة أحللناها لك أيضا إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ أي ملكته المتعة بها بأي عبارة كانت بلا مهر.
وقرأ أبي والحسن والشعبي وعيسى وسلام «أن وهبت» بفتح الهمزة أي لأن وهبت وقيل: أي وقت أن وهبت أو مدة أن وهبت فتكون أن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب على الظرفية، وأكثر النحاة لا يجيزونه في غير المصدر الصريح كآتيك خفوق النجم وغير ما المصدرية، وجوز أن يكون المصدر بدلا من امْرَأَةً وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «إذ وهبت» وإذ ظرف لما مضى وقيل: هي مثلها في قوله تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف: ٣٩] إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها أي يتملك المتعة بها بأي عبارة كانت بلا مهر وهذا شرط للشرط الأول في استيجاب الحل فهبتها نفسها منه صلّى الله عليه وسلم لا يوجب له حلها إلا بإرادته نكاحها وهذه الإرادة جارية مجرى قبول الهبة، وقال ابن كمال: الإرادة المذكورة عبارة عن القبول ولا وجه لحملها على الحقيقة لأن قوله تعالى: يَسْتَنْكِحَها يغني عن الإرادة بمعناه الوضعي وهو يشير إلى أن السين للطلب، وكلام بعض الأجلة على هذا حيث قال: إرادة طلب النكاح كناية عن القبول.
وقيل: استفعل هنا بمعنى فعل فالاستنكاح بمعنى النكاح لئلا يتوهم التكرار وفيه نظر، واستظهر صاحب هذا القيل حمل الإرادة على الإرادة المتقدمة على الهبة بناء على أن التركيب يقتضي تقدم هذا الشرط فقد قالوا: إذا اجتمع
شرطان فالثاني شرط في الأول متأخر في اللفظ متقدم في الوقوع وهو بمنزلة الحال، ومن هنا قال الفقهاء: لو قال: إن ركبت إن أكلت فأنت طالق لا تطلق ما لم يتقدم الآكل على الركوب ليتحقق تقييد الحالية.
واستشكل السمين هذه القاعدة بما هنا بناء على أنهم جعلوا ذلك الشرط بمنزلة القبول لاقتضاء الواقع ذلك، ثم ذكر أنه عرضه على علماء عصره فلم يجدوا مخلصا منه إلا بأن هذه القاعدة ليست بكلية بل مخصوصة بما لم تقم قرينة على تأخر الثاني كما في نحو إن تزوجتك إن طلقتك فعبدي حرّ فإن الطلاق لا يتقدم التزوج وما نحن فيه من هذا القبيل ثم قال: فمن جعل الشرط الثاني هنا مقدما لم يصب ورأيت في الفن السابع من الأشباه والنظائر النحوية للجلال السيوطي عليه الرحمة كلاما لابن هشام ذكر فيه أن جعل الآية كالمثال ونظمهما في سلك مسألة اعتراض الشرط على الشرط هو ما ذهب إليه جماعة منهم ابن مالك وذهب هو إلى أن المثال من مسألة الاعتراض المذكور دون الآية واحتج عليه بما احتج، ثم ذكر الخلاف في صحة تركيب ما وقع فيه الاعتراض كالمثال وأن الجمهور على جوازه وهو الصحيح وأن المجيزين اختلفوا في تحقيق ما يقع به مضمون الجواب الواقع بعد الشرطين على ثلاثة مذاهب، أحدهما أنه إنما يقع بمجموع أمرين، أحدهما حصول كل من الشرطين، والآخر كون الشرط الثاني واقعا قبل وقوع الأول ففي المثال لا يقع الطلاق إلا بوقوع الركوب والأكل من تقدم وقوع الأكل على الركوب، وذكر أن هذا مذهب الجمهور. وثانيها أنه يقع بحصول الشرطين مطلقا وذكر أنه حكاه له بعض العلماء عن إمام الحرمين وأنه رآه محكيا عن غيره بعد. وثالثها أنه يقع بوقوع الشرطين على الترتيب فإنما تطلق في المثال إذا ركبت أولا ثم أكلت وأبطل كلا من المذهبين الأخيرين وذكر في توجيه التركيب على المذهب الأول مذهبين. الأول مذهب الجمهور أن الجواب المذكور للشرط الأول وجواب الثاني محذوف لدلالة الأول وجوابه عليه ولإغناء ذلك عنه وقيامه مقامه لزم في وقوع المعلق على ذلك أن يكون الثاني واقعا قبل الأول ضرورة أن الجواب لا بدّ من تأخره عن الشرط فكذا الأمر في القائم مقام الشرط، والثاني مذهب ابن مالك أن الجواب المذكور للأول والثاني لا جواب له لا مذكور ولا مقدر لأنه مقيد للأول تقييده بحال واقعة موقعه فالمعنى في المثال إن ركبت آكلة فأنت طالق، وفيه أنه خارج عن القياس وأنه لا يطرد في إن قمت إن قعدت فأنت طالق وأن الشرط بعيد عن مذهب الحال لمكان الاستقبال.
وبالجملة قد أطال الكلام في هذه المسألة وهي مسألة شهيرة ذكرها الأصوليون وغيرهم وفيما ذكرنا فيها اكتفاء بأقل اللازم هاهنا فتأمل.
وأكثر العلماء على وقوع الهبة واختلفوا في تعيين الواهبة فعن ابن عباس وقتادة وعكرمة هي ميمونة بنت الحارث الهلالية، وفي المواهب يقال: إن ميمونة وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم وذلك أن خطبته عليه الصلاة والسلام انتهت إليها وهي على بعيرها فقالت: البعير وما عليه لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلم وكان ذلك سنة سبع بعد غزوة خيبر وبنى عليها عليه الصلاة والسلام بسرف على عشرة أميال من مكة، وعليه تكون إرادة النكاح سابقة على الهبة فيضعف به قول السمين: وعن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما والضحاك ومقاتل هي أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم الدوسية، قال في الصفوة: والأكثرون على أنها هي التي وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم فلم يقبلها فلم تتزوج حتى ماتت. وفي الدر المنثور عن منير بن عبد الله الدوسي أنه عليه الصلاة والسلام قبلها، وعن عروة والشعبي هي زينب بنت خزيمة من الأنصار كانت تدعى في الجاهلية أم المساكين لإطعامها إياهم وكان ذلك في سنة ثلاث ولم تلبث عنده صلّى الله عليه وسلم إلا قليلا حتى توفيت رضي الله تعالى عنها.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: التي وهبت نفسها
للنبي صلّى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم وقد أرجأها عليه الصلاة والسلام فتزوجها عثمان بن مظعون بإذنه صلّى الله عليه وسلم وقال بعضهم:
يجوز تعدد الواهبات فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن عروة بن الزبير قال: كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلم فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ قالت عائشة: يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك فقوله: من اللاتي وهبن أنفسهن صريح في تعددهن، وأنكر بعضهم وقوع الهبة وقيل: إن قوله تعالى: إِنْ وَهَبَتْ يشير إلى عدم وقوعها وأنها أمر مفروض وكذا تنكير امْرَأَةً فالمراد الإعلام بالإحلال في هذه الصورة إن اتفقت وأنكر بعضهم القبول.
أخرج ابن سعد عن ابن أبي عون أن ليلى بنت الحطيم وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم ووهبن نساء أنفسهن فلم نسمع أن النبي صلّى الله عليه وسلم قبل منهن أحدا، وما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في السنن عن ابن عباس قال: لم يكن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له يحتمل نفي القبول ويحتمل نفي الهبة، وإيراده صلّى الله عليه وسلم في الموضعين بعنوان النبوة بطريق الالتفات للتكرمة والإيذان بأنها المناط لثبوت الحكم فيختص به عليه الصلاة والسلام حسب اختصاصها به كما ينطق به قوله تعالى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ويتضمن ذلك الإشارة إلى أن هبة من تهب لم تكن حرصا على الرجال وقضاء الوطر بل على الفوز بشرف خدمته صلّى الله عليه وسلم والنزول في معدن الفضل، وبذلك يعلم أن قول عائشة: ما في امرأة وهبت نفسها لرجل خير وكذا اعتراضها السابق صادر من شدة غيرتها رضي الله تعالى عنها على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا بدع فالمحب غيور وقد قال بعض المحبين:
أغار إذا آنست في الحي أنة | حذارا وخوفا أن تكون لحبه |
وقال أبو البقاء: هو حال من ضمير وَهَبَتْ أو صفة لمصدر محذوف أي هبة خالصة. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ذاك خلوص لك وخصوص أو هي أي تلك المرأة أو الهبة خالصة لك لا تتجاوز المؤمنين.
واستدل الشافعية رضي الله تعالى عنهم به على أن النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة لأن اللفظ تابع للمعنى وقد خص عليه الصلاة والسلام بالمعنى فيختص باللفظ، وقال بعض أجلة أصحابنا في ذلك: إن المراد بالهبة في الآية تمليك المتعة بلا عوض بأي لفظ كان لا تمليكها بلفظ وهبت نفسي فحيث لم يكن ذلك نصافي التمليك بهذا اللفظ لم يصلح لأن يكون مناطا للخلاف في انعقاد النكاح بلفظ الهبة إيجابا وسلبا، ومعنى خلوص الإحلال المذكور له صلّى الله عليه وسلم من دون المؤمنين كونه متحققا في حقه غير متحقق في حقهم إذ لا بدّ في الإحلال لهم من مهر المثل.
وظاهر كلام العلامة ابن الهمام اعتبار لفظ الهبة حيث قال في الفتح: قد ورد النكاح بلفظ الهبة وساق الآية ثم قال: والأصل عدم الخصوصية حتى يقوم دليلها، وقوله تعالى: خالِصَةً لَكَ يرجع إلى عدم المهر بقرينة إعقابه بالتعليل بنفي الحرج فإن الحرج ليس في ترك لفظ إلى غيره خصوصا بالنسبة إلى أفصح العرب بل في لزوم المال، وبقرينة وقوعه في مقابلة المؤتى أجورهن فصار الحاصل أحللنا لك الأزواج المؤتى مهورهن والتي وهبت نفسها لك فلم تأخذ مهرا خالصة هذه الخصلة لك من دون المؤمنين أما هم فقد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم إلخ من صفحة رقم 237
المهر وغيره. وأبدى صدر الشريعة جواز كونه متعلقا بأحللنا قيدا في إحلال أزواجه له صلّى الله عليه وسلم لإفادة عدم حلهن لغيره صلّى الله عليه وسلم انتهى، وجوز بعضهم كونه قيدا في إحلال الإماء أيضا لإفادة عدم حل إمائه كأزواجه لأحد بعده عليه الصلاة والسلام، وبعض آخر كونه قيدا لإحلال جميع ما تقدم على القيود المذكورة أي خلص إحلال ما أحللنا لك من المذكورات على القيود المذكورة خلوصها من دون المؤمنين فإن إحلال الجميع على القيود المذكورة غير متحقق في حقهم بل المتحقق فيه إحلال بعض المعدود على الوجه المعهود، واختاره الزمخشري، وأيا ما كان فقوله تعالى:
قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ اعتراض بين المتعلق والمتعلق، والأول على جميع الأوجه قوله سبحانه: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ والثاني على الوجه الأخير وهو تعلق خالصة بجميع ما سلف من الإحلالات الأربع قوله تعالى خالِصَةً وهو مؤكد معنى اختصاصه عليه الصلاة والسلام بما اختص به بأن كلا من الاختصاص عن علم وأن هذه الحظوة مما يليق بمنصب الرسالة فحسب فالمعنى أن الله تعالى قد علم ما ينبغي من حيث الحكمة فرضه على المؤمنين في حق الأزواج والإماء وعلى أي حد وصفة ينبغي أن يفرض عليهم ففرضه واختصك سبحانه بالتنزيه واختيار ما هو أولى وأفضل في دنياك حيث أحل جل شأنه لك أجناس المنكوحات وزاد لك الواهبة نفسها من غير عوض لئلا يكون عليك ضيق في دينك، وهو على الوجه الأول الذي ذكرناه وهو تعلق خالصة بالواهبة خاصة قوله عزّ وجلّ: إِنَّا أَحْلَلْنا وهو الذي استظهره أبو حيان وأمر الاعتراض عليه في حاله، وبعضهم يجعل المتعلق خالصة على سائر الأوجه والتعلق به باعتبار ما فيه من معنى ثبوت الإحلال وحصوله له صلّى الله عليه وسلم لا باعتبار اختصاصه به عليه الصلاة والسلام لأن مدار انتفاء الحرج هو الأول لا الثاني الذي هو عبارة عن عدم ثبوته لغيره صلّى الله عليه وسلم.
وقال ابن عطية: إن لِكَيْلا إلخ متعلق بمحذوف أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح لئلا يكون عليك حرج ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك عزّ وجلّ فلا اعتراض على هذا، ولا يخلو عن اعتراض فتدبر ولا تغفل.
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً أي كثير المغفرة فيغفر ما يشاء مما يعسر التحرز عنه وغيره رَحِيماً أي وافر الرحمة، ومن رحمته سبحانه أن وسع الأمر في مواقع الحرج تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي تؤخر من تشاء من نسائك وتترك مضاجعتها وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وتضم إليك من تشاء منهن وتضاجعها، وروي هذا عن قتادة.
وعن ابن عباس والحسن أي تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء، وقال بعضهم: الإرجاء والإيواء لإطلاقهما يتناولان ما في التفسيرين وما ذكر فيهما فإنما هو من باب التمثيل ولا يخلو عن حسن، وفي رواية عن الحسن أن ضمير مِنْهُنَّ لنساء الأمة والمعنى تترك نكاح من تشاء من نساء أمتك فلا تنكح وتنكح منهن من تشاء.
وقال: كان صلّى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره أن يخطبها حتى يتركها وعن زيد بن أسلم والطبري أنه للواهبات أنفسهن أي تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء منهن فلا تقبلها، وعن الشعبي ما يقتضيه، فقد أخرج ابن سعد والبيهقي في السنن وغيرهما عنه قال: كن نساء وهبن أنفسهن لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن فلم يقربن حتى توفي عليه الصلاة والسلام ولم ينكحن بعده، منهن أم شريك فذلك قوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ ويشهد لما تقدم من رجوعه إلى النساء ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن أبي رزين قال: هم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يطلق من نسائه فلما رأين ذلك أتينه فقلن لا تخل سبيلنا وأنت في حل فيما بيننا وبينك افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت فأنزل الله تعالى الآية أرجأ منهن نسوة وكان ممن أرجأ ميمونة وجويرية وأم حبيبة وصفية وسودة وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب رضي الله تعالى عنهن أجمعين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر «ترجىء» بالهمزة وهو عند الزجاج
أجود والمعنى واحد وَمَنِ ابْتَغَيْتَ أي طلبت مِمَّنْ عَزَلْتَ أي تجنبت وحمل هذا التجنب على ما كان بطلاق، ومن شرطية منصوبة بما بعدها، وقوله تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْكَ جوابها أي من طلبتها ممن طلقت فليس عليك إثم في طلبها أو موصولة والجملة خبرها أي والتي طلبتها لا جناح عليك في طلبها والمراد نفي أن يكون عليه عليه الصلاة والسلام إثم في إرجاع المطلقة، وقيل من موصولة معطوفة على مَنْ تَشاءُ الثاني والمراد به غير المطلقة ومعنى فلا جناح عليك فلا إثم عليك في شيء مما ذكر من الأرجاء والإيواء والابتغاء والمراد تفويض ذلك إلى مشيئته صلّى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: المراد به ما كان بترك مضاجعة بدون طلاق، والمقصود من الآية بيان أن له صلّى الله عليه وسلم ترك مضاجعة من شاء من نسائه ومضاجعة من شاء منهن أي ممن لم يكن أرجأها وترك مضاجعتها والرجوع إلى مضاجعة من ترك مضاجعتها واعتزلها فمن عزل هي المرجأة، وأفاد صاحب الكشاف أن الآية متضمنة قسمة جامعة لما هو الفرض لأنه صلّى الله عليه وسلم إما أن يطلق وإما أن يمسك وإذا أمسك ضاجع أو ترك وقسم أو لم يقسم وإذا طلق وعزل فأما أن يخلي المعزولة لا يبتغيها أو يبتغيها وانفهام الطلاق والإمساك بأقسامه بواسطة إطلاق الأرجاء والإيواء في قوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي وانفهام ابتغاء المعزولة من قوله سبحانه وَمَنِ ابْتَغَيْتَ إلخ ومتى فهم أن لا جناح في ابتغاء المعزولة بالطلاق وردها إلى النكاح فهم منه أن رفع النكاح في عدم ردها من طريق الأولى ولقد أجاد فيما أفاد، وجوز بعضهم أن يكون من مبتدأ وفي الكلام معطوف وخبر محذوفان أي ومن ابتغيت ممن عزلت ومن لم تعزل سواء، وقوله سبحانه: فَلا جُناحَ عَلَيْكَ تأكيد لذلك ولا يخفى بعده وتعسفه، وقال الحسن: معنى- ومن ابتغيت- إلخ من مات من نسائك اللواتي عندك أو خليت سبيلها فلا جناح عليك في أن تستبدل عوضها من اللاتي أحللت لك فلا تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك كذا في البحر، وكأنه جعل من للبدل كالتي في قوله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة: ٣٨] ومن عزلت شاملا لمن ماتت ومن طلقت وكلاهما بعيد، وثانيهما أبعد من أولهما بكثير ومثله اعتبار ما اعتبره من القيود وبالجملة هو قول تبعد نسبته إلى الحسن، وأبعد من ذلك نسبته إلى ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما في الدر المنثور.
ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ أي تفويض الأمر إلى مشيئتك أقرب إلى قرة عيونهن وسرورهن ورضاهن جميعا لأنه حكم كلهن فيه سواء ثم أن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا منك وإن رجحت بعضهن علمن أنه بحكم الله تعالى فتطمئن به نفوسهن، وروي هذا عن قتادة، والمراد بما آتيتهن عليه ما صنعت معهن فيتناول ترك المضاجعة والقسم، وعن ابن عباس ومجاهد أن المعنى أنهن إذا علمن أن لك ردهن إلى فراشك بعد ما اعتزلتهن قرت أعينهن ولم يحزنّ ويرضين بما تفعله من التسوية والتفضيل لأنهن يعلمن أنك لم تطلقهن، وظاهره جعل المشار إليه العلم بأن له صلّى الله عليه وسلم الإيواء، وأظهر منه في ذلك قول الجبائي ذلك العلم منهن بأنك إذا عزلت واحدة كان لك أن تؤويها بعد ذلك أدنى لسرورهن وقرة أعينهن.
وقال بعض الأجلة: كون الإشارة إلى التفويض أنسب لفظا لأن ذلك للبعيد وكونها إلى الإيواء أنسب معنى لأن قرة عيونهن بالذات إنما هي بالإيواء فلا تغفل، والأعين جمع قلة وأريد به هاهنا جمع الكثرة وكأن اختياره لأنه أوفق بكمية الأزواج، وقرأ ابن محيصن «تقر» من أقر وفاعله ضميره صلّى الله عليه وسلم «أعينهنّ» بالنصب على المفعولية.
وقرىء «تقرّ» مبنيا للمفعول وأعينهن بالرفع نائب الفاعل وكُلُّهُنَّ بالرفع في جميع ذلك وهو توكيد لنون يَرْضَيْنَ.
وقرأ أبو إياس جوية بن عائذ «كلهن» بالنصب تأكيدا لضميره في «آتيتهن» قال ابن جني: وهذه القراءة راجعة
إلى معنى قراءة العامة «كلّهنّ» بضم اللام وذلك أن رضاهن كلهن بما أوتين كلهن على انفرادهن واجتماعهن فالمعنيان إذن واحد إلا أن للرفع معنى وذلك أن فيه إصراحا من اللفظ بأن يرضين كلهن، والإصلاح في القراءة الشاذة إنما هو في إتيانهن وإن كان محصول الحال فيهما واحدا مع التأويل انتهى، وقال الطيبي في توكيد الفاعل دون المفعول إظهار لكمال الرضا منهن وإن لم يكن الإيتاء كاملا سويا، وفي توكيد المفعول إظهار أنهن مع كمال الإيتاء غير كاملات في الرضا والأول أبلغ في المدح لأن فيه معنى التتميم وذلك أن المؤكد يرفع إيهام التجوز عن المؤكد انتهى فتأمل وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ خطاب له صلّى الله عليه وسلم ولأزواجه المطهرات على سبيل التغليب.
والمراد بما في القلوب عام ويدخل فيه ما يكون في قلوبهن من الرضا بما دبر الله تعالى في حقهن من تفويض الأمر إليه صلّى الله عليه وسلم ومقابل ذلك وما في قلبه الشريف عليه الصلاة والسلام من الميل إلى بعضهن دون بعض، والكلام بعث على الاجتهاد في تحسين ما في القلوب، ولعل اعتباره صلّى الله عليه وسلم في الخطاب لتطييب قلوبهن، وفي الكشاف أن هذا وعيد لمن لم يرض منهن بما دبر الله تعالى من ذلك وفوض سبحانه إلى مشيئة رسوله عليه الصلاة والسلام وبعث على تواطؤ قلوبهن والتصافي بينهن والتوافق على طلب رضا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وطيب نفسه الكريمة، والظاهر أنه غير قائل بدخوله صلّى الله عليه وسلم في الخطاب، وحينئذ فأما أن يقول: إنه عام لهن ولسائر المؤمنين وإما أن يقول بأنه خاص بهن ولعله ظاهر كلامه وعليه لا يظهر وجهه التذكير، وربما يقال على الأول: إن المقام غير ظاهر في اقتضاء دخول سائر المؤمنين في الخطاب، وقال ابن عطية: الإشارة بذلك هاهنا إلى ما في قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص ويدخل في المعنى المؤمنون، وربما يتخيل أن الخطاب لجميع المكلفين والكلام بعث على تحسين ما في القلوب في شأن ما دبر الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم في أمر أزواجه ونفي الخواطر الرديئة بأن يظن أن ذاك هو الذي تقتضيه الحكمة وأنه دليل على كمال المحبوبية، ولا يتوهم خلافه فإن بعض الملحدين طعنوا كالنصارى في كثرة تزوجه عليه الصلاة والسلام وكونه في أمر النساء على حال لم يبح لأمته من حل جمع ما فوق الأربع وعدم التقيد بالقسم لهن مثلا وزعموا أن في ذلك دليلا على غلبة القوة الشهوية فيه عليه الصلاة والسلام وذلك مناف لتقدس النفس الذي هو من شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فجزموا والعياذ بالله تعالى بنفي نبوته وأن ما فعله صلّى الله عليه وسلم لم يكن منه تعالى بل ليس ذلك إلا منه عليه الصلاة والسلام ولا يخفى أن قائلي ذلك على كفرهم جهلة بمراتب الكمال صم عن سماع آثاره عليه الصلاة والسلام ومن سبر الأخبار علم أنه صلّى الله عليه وسلم أكمل الأنبياء على الإطلاق لغاية كمال بشريته وملكيته وآثار الكمال الأول تزوج ما فوق الأربع والطواف عليهن كلهن في الليلة الواحدة وآثار الكمال الثاني أنه عليه الصلاة والسلام كثيرا ما كان يبيت ويصبح لا يأكل ولا يشرب وهو على غاية من القوة وعدم الاكتراث بترك ذلك وليس لأحد من الأنبياء عليهم السّلام اجتماع هذين الكمالين حسب اجتماعهما فيه عليه الصلاة والسلام ولتكثره النساء حكمة دينية جليلة أيضا وهي نشر أحكام شرعية لا تكاد تعلم إلا بواسطتهن مع تشييد أمر نبوته فإن النساء لا يكدن يحفظن سرا وهن أعلم الناس بخفايا أزواجهن فلو وقف نساؤه عليه الصلاة والسلام على أمر خفي منه يخل بمنصب النبوة لأظهرنه، وكيف يتصور إخفاؤه بينهن مع كثرتهن. وكل سر جاوز الاثنين شاع.
وفي عدم إيجاب القسم عليه عليه الصلاة والسلام تأكيد لذلك كما لا يخفى على المنصف وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً مبالغا في العلم فيعلم كل ما يبدي ويخفي حَلِيماً مبالغا في الحلم فلا يعجل سبحانه بمقابلة من يفعل خلاف ما يحب حسبما يقتضيه فعله من عتاب أو عقاب أو فيصفح عما يغلب على القلب من الميول ونحوها، هذا وفي البحر اتفقت الروايات على أنه عليه الصلاة والسلام كان يعدل بين أزواجه المطهرات في القسمة حتى مات ولم
يستعمل شيئا مما أبيح له ضبطا لنفسه وأخذا بالأفضل غير ما جرى لسودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب أنه قال لم يعلم أن رسول الله أرجأ منهن شيئا ولا عزله بعد ما خيرن فاخترنه.
وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عائشة أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ فقيل لها: ما كنت تقولين؟ قالت: كنت أقول له إن كان ذاك إلى فإني لا أريد أن أوثر عليك أحدا فتأمله مع حكاية الاتفاق السابق والله تعالى الموفق.
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ بالياء لأن تأنيث الجمع غير حقيقي وقد وقع بفصل أيضا، والمراد بالنساء الجنس الشامل للواحدة ولم يؤت بمفرد لأنه لا مفرد له من لفظه والمرأة شاملة للجارية وليست بمرادة، واختصاص النساء بالحرائر بحكم العرف، وقرأ البصريان بالتاء الفوقية، وسهل وأبو حاتم يخير فيهما، وأيا كان ما كان فالمراد يحرم عليك نكاح النساء مِنْ بَعْدُ قيل أي من بعد التسع اللاتي في عصمتك اليوم، أخرج ابن سعد عن عكرمة قال: لما خير رسول الله صلّى الله عليه وسلم أزواجه اخترنه فأنزل الله تعالى لا يحل لك النساء من بعد هؤلاء التسع اللاتي اخترنك أي لقد حرم عليك تزويج غيرهن، وأخرج أبو داود في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال لما خيرهن فاخترن الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم قصره عليهن فقال سبحانه لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في الآية حبسه الله تعالى عليهن كما حبسهن عليه عليه الصلاة والسلام، وقدر بعضهم المضاف إليه المحذوف اختيارا أي من بعد اختيارهن الله تعالى ورسوله.
وقال الإمام: هو أولى وكأن ذلك لكونه أدل على أن التحريم كان كرامة لهن وشكرا على حسن صنيعهن.
وجوز آخر أن يكون التقدير من بعد اليوم وماله تحريم من عدا اللاتي اخترنه عليه الصلاة والسلام.
وحكي في البحر عن ابن عباس وقتادة قال: لما خيرن فاخترن الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم جازاهن أن حظر عليه النساء غيرهن وتبديلهن ونسخ سبحانه بذلك ما أباحه له قبل من التوسعة في جميع النساء، وحكي أيضا عن مجاهد وابن جبير أن المعنى من بعد إباحة النساء على العموم، وقيل التقدير من بعد التسع على معنى أن هذا العدد مع قطع النظر عن خصوصية المعدود نصابه صلّى الله عليه وسلم من الأزواج كما أن الأربع نصاب أمته منهن فالمعنى لا يحل لك الزيادة على التسع وَلا أَنْ تَبَدَّلَ أصله تتبدل فخفف بحذف إحدى التاءين أي ولا يحل لك أن تستبدل بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ بأن تطلق واحدة منهن وتنكح بدلها أخرى، ففي الآية حكمان حرمة الزيادة وحرمة الاستبدال، وظاهره أنه يحل له عليه الصلاة والسلام نكاح امرأة أخرى على تقدير أن تموت واحدة من التسع، وإذا كان المراد من الآية تحريم من عدا اللاتي اخترنه عليه الصلاة والسلام أفادت الآية أنه لو ماتت واحدة منهن لم يحل له نكاح أخرى، وكلام ابن عباس السابق ظاهر في ذلك جدا، وكأن قوله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ إلخ عليه لدفع توهم أن المحرم ليس إلا أن يرعهن صلّى الله عليه وسلم بواحدة من الضرائر.
وفي رواية أخرى عن عكرمة أن المعنى لا يحل لك النساء من بعد هؤلاء اللاتي سمي الله تعالى لك في قوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية فلا يحل له صلّى الله عليه وسلم ما وراء الأجناس الأربعة كالأعرابيات والغرائب ويحل له منها ما شاء، وأخرج عبد بن حميد والترمذي وحسنه وغيرهما عن ابن عباس ما هو ظاهر في ذلك حيث قال في الخبر وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ إلى قوله سبحانه: خالِصَةً لَكَ وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير وابن المنذر والضياء في المختارة
وغيرهم عن زياد قال: قلت لأبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أرأيت لو أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام متن أما يحل له أن يتزوج قال: وما يمنعه من ذلك قلت: قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ فقال: إنما أحل له ضربا من النساء ووصف له صفة فقال سبحانه يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إلخ ثم قال تبارك وتعالى لا يحل لك النساء من بعد هذه الصفة، وعلى هذا القول قال الطيبي: يكون قوله سبحانه: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ إلخ تأكيدا لما قبله من تحريم غير ما نص عليه من الأجناس الأربعة وكأن ضمير بهن للأجناس المذكورة في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية والمعنى لا يحل لك أن تترك هذه الأجناس وتعدل عنها إلى أجناس غيرها، وقال شيخ الإسلام أبو السعود عليه الرحمة بعد ما حكي القول المذكور يأباه قوله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ إلخ فإن معنى إحلال الأجناس المذكورة إحلال نكاحهن فيكون التبدل بهن إحلال نكاح غيرهن بدل إحلال نكاحهن وذلك إنما يتصور بالنسخ الذي هو ليس من الوظائف البشرية انتهى فتأمل ولا تغفل، وقيل وَلا أَنْ تَبَدَّلَ من البدل الذي كان في الجاهلية كان يقول الرجل للرجل بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي فينزل كل واحد منهما عن امرأته لآخر، وروي نحوه عن ابن زيد وأنكر هذا القول الطبري وغيره في معنى الآية وقالوا ما فعلت العرب ذاك قط، وما
روي من حديث عيينة بن حصن أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم حين دخل عليه بغير استئذان وعنده عائشة: من هذه الحميراء؟ فقال: عائشة فقال عيينة: يا رسول الله إن شئت نزلت لك عن سيدة نساء العرب جمالا ونسبا
فليس بتبديل ولا أراد ذلك وإنما احتقر عائشة رضي الله تعالى عنها لأنها كانت إذ ذاك صبية، ومن مزيد لتأكيد الاستغراق فيشمل النهي تبدل الكل والبعض: وقوله تعالى: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ في موضع الحال فاعل تبدل والتقدير مفروضا إعجابك بهن، وحاصله ولا تبدل بهن من أزواج على كل حال، وظاهر كلام بعضهم أنه لا يجوز أن يكون حالا من مفعوله أعني أزواجا وعلل ذلك بتوغله في التنكير وتعقب بأنه مخالف لكلام النحاة فإنهم جوزوا الحال من النكرة إذا وقعت منفية لأنها تستغرق حينئذ فيزول إبهامها كما صرح به الرضي.
وقيل إن التنكير مانع من الحالية هاهنا لأن الحال تقاس بالصفة والواو مانعة من الوصفية فتمنع من الحالية ومنع لزوم القياس مع أن الزمخشري وغيره جوزوا دخول الواو على الصفة لتأكيد لصوقها، وقيل في عدم جواز ذلك إن ذا الحال إذا كان نكرة يجب تقديمها ولم تقدم هاهنا. وتعقب بأن ذلك غير مسلم في الجملة المقرونة بالواو لكونه بصورة العاطف. واستظهر صاحب الكشف الجواز وذكر أن المعنى في الحالين لا يتفاوت كثير تفاوت لأنه إذا تقيد الفعل لزم تقيد متعلقاته وإنما الاختلاف في الأصالة والتبعية، وضمير حسنهن للأزواج والمراد بهن من يفرضن بدلا من أزواجه اللاتي في عصمته عليه الصلاة والسلام فتسميتهن أزواجا باعتبار ما يعرض مالا وهذا بناء على أن باء البدل في بهن داخلة على المتروك دون المأخوذ فلو اعتبرت داخلة على المأخوذ كان الضمير للنساء لا للأزواج، وممن أعجبه صلّى الله عليه وسلم حسنهن على ما قيل أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب بعد وفاته رضي الله تعالى عنه، وفي قوله سبحانه: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ على ما نقل عن ابن عطية دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها وفي الأخبار أدلة على ذلك وتفصيل الأقوال فيه في كتب الفروع. واختلف في أن الآية الدالة على عدم حل النساء له صلّى الله عليه وسلم هل هي محكمة أم لا. فعن أبي بن كعب وجماعة منهم الحسن وابن سيرين واختاره الطبري واستظهره أبو حيان أنها محكمة وعن علي كرّم الله تعالى وجهه وابن عباس وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما والضحاك عليه الرحمة أنها منسوخ وروي ذلك عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
أخرج أبو داود في ناسخه والترمذي وصححه والنسائي والحاكم وصححه أيضا وابن المنذر وغيرهم عنها
قالت: لم يمت رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أحل الله تعالى له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم لقوله سبحانه:
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وهذا ظاهر في أن الناسخ قوله تعالى: تُرْجِي إلخ وهو مبني على أن المعنى تطلق من تشاء وتمسك من تشاء، ووجه النسخ به على هذا التفسير أنه يدل بعمومه على أنه أبيح له صلّى الله عليه وسلم الطلاق والإمساك لكل من يريد فيدل على أن له تطليق منكوحاته ونكاح من يريد من غيرهن إذ ليس المراد بالإمساك إمساك من سبق نكاحه فقد لعموم من تشاء وقوله سبحانه: تُؤْوِي ليس مقيدا بمنهن كذا قال الخفاجي: وفي القلب منه شيء ولا بدّ على القول بأن النسخ بذلك من القول بتأخر نزوله عن نزول الآية المنسوخة إذ لا يمكن النسخ مع التقدم وهو ظاهر ولا يعكر التقدم في المصحف لأن ترتيبه ليس على حسب النزول وقال بعضهم: إن الناسخ السنة ويغلب على الظن أنها كانت فعله عليه الصلاة والسلام.
أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن شداد أنه قال: في قوله تعالى:
وَلا أَنْ تَبَدَّلَ إلخ ذلك لو طلقهن لم يحل له أن يستبدل وقد كان ينكح بعد ما نزلت هذه الآية ما شاء ونزلت وتحته تسع نسوة ثم تزوج بعد أم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية بنت الحارث رضي الله تعالى عنهما، والظاهر على القول بأن الآية نزلت كرامة للمختارات وتطييبا لخواطرهن وشكرا لحسن صنيعهن عدم النسخ والله تعالى أعلم، وقوله: إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ استثناء من النساء متصل بناء على أصل اللغة لتناوله عليه الحرائر والإماء ومنقطع بناء على العرف لاختصاصه فيه بالحرائر ولا أن تبدل بهن من أزواج كالصريح فيه.
وقال ابن عطية: إن ما إن كانت موصولة واقعة على الجنس فهو استثناء من الجنس مختار فيه الرفع على البدل من النساء ويجوز النصب على الاستثناء وإن كانت مصدرية فهي في موضع نصب لأنه استثناء من غير الجنس الأول انتهى، وليس بجيد لأنه قال والتقدير إلا ملك اليمين وملك بمعنى مملوك فإذا كان بمعنى مملوك لم يصح الجزم بأنه ليس من الجنس وأيضا لا يتحتم النصب وإن فرضنا أنه من غير الجنس حقيقة بل أهل الحجاز ينصبون وبنو تميم يبدلون وأيا ما كان فالظاهر حل المملوكة له صلّى الله عليه وسلم سواء كانت مما أفاء الله تعالى عليه أم لا وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً أي راقبا أو مراقبا والمراد كان حافظا ومطلعا على كل شيء فاحذروا تجاوز حدوده سبحانه وتخطي حلاله إلى حرامه عزّ وجلّ.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ شروع في بيان بعض الحقوق على الناس المتعلقة به صلّى الله عليه وسلم وهو عند نسائه، والحقوق المتعلقة بهن رضي الله تعالى عنهن ومناسبة ذلك لما تقدم ظاهرة، والآية عند الأكثرين نزلت يوم تزوج عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش.
أخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أنس قال: لما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت أخبرت النبي صلّى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الآية
والنهي للتحريم، وقوله سبحانه: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ بتقدير باء المصاحبة استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا حال كونكم مصحوبين بالإذن.
وجوز أبو حيان كونه بتقدير باء السببية فيكون الاستثناء من أعم الأسباب أي لا تدخلوها بسبب من الأسباب إلا
بسبب الإذن، وذهب الزمخشري إلى أنه استثناء من أعم الأوقات أي لا تدخلوها في وقت من الأوقات إلا وقت أن يؤذن لكم. وأورد عليه أبو حيان أن الوقوع موقع الظرف مختص بالمصدر الصريح دون المؤول فلا يقال أتيتك أن يصيح الديك وإنما يقال أتيتك صياح الديك، ولا يخفى أن القول بالاختصاص أحد قولين للنحاة في المسألة نعم إنه الأشهر والزمخشري إمام في العربية لا يعترض عليه بمثل هذه المخالفة.
وزعم بعضهم أن الوقت مقدر في نظم الكلام فيكون محذوفا حذف حرف الجر وأن هذا ليس من باب وقوع المصدر موقع الظرف.
وأجاز بعض الأجلة كون ذلك استثناء من أعم الأحوال بلا تقدير الباء بل باعتبار أن المصدر مؤول باسم المفعول أي لا تدخلوها إلا مأذونا لكم والمصدر المسبوك قد يؤول بمعنى المفعول كما قيل في قوله تعالى: ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى [يونس: ٣٧] إن المعنى ما كان هذا القرآن مفتري فمن قال كون المصدر بمعنى المفعول غير معروف في المؤول لم يصب، وقيل فيما ذكر مخالفة لقول النحاة المصدر المسبوك معرفة دائما كما صرح به في المغني.
وتعقبه الخفاجي بأن الحق أنه سطحي وأنه قد يكون نكرة وذكر قوله تعالى: ما كانَ إلخ، وقوله سبحانه:
إِلى طَعامٍ متعلق بيؤذن وعدي بإلى مع أنه يتعدى بفي فيقال أذن له في كذا لتضمينه معنى الدعاء للإشعار بأنه لا ينبغي أن يدخلوا على طعام بغير دعوة وإن تحقق الإذن الصريح في دخول البيت فإن كل إذن ليس بدعوة، وقيل يجوز أن يكون قد تنازع فيه الفعلان تَدْخُلُوا ويُؤْذَنَ وهو مما لا بأس به، وقوله تعالى:
غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أي غير منتظرين نضجه وبلوغه تقول أنى الطعام يأني أنى كقلى يقلي قلى إذا نضج وبلغ قاله الزجاج، وقال مكي: إناه ظرف زمان مقلوب آن التي بمعنى الحين فقلبت النون قبل الألف وغيرت الهمزة إلى الكسرة أي غير ناظرين آنه أي حينه والمراد حين إدراكه ونضجه أو حين أكله حال من فاعل تدخلوا وهو حال مفرغ من أعم الأحوال كما سمعت في أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ وإذا جعل ذلك حالا فهي حال مترادفة فكأنه قيل: لا تدخلوا في حال من الأحوال إلا مصحوبين بالإذن غير ناظرين، والظاهر أنها حال مقدرة ويحتمل أن تكون مقارنة، والزمخشري بعد أن جعل ما تقدم نصبا على الظرفية جعل هذا حالا أيضا لكنه قال بعد وقع الاستثناء على الوقت والحال معا كأنه قيل لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن ولا تدخلوها إلا غير ناظرين.
وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز على مذهب الجمهور من أنه لا يقع بعد إلا في الاستثناء إلا المستثنى أو المستثنى منه أو صفة المستثنى منه ثم قال وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال أجاز ما ذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا فيجوز ما قاله الزمخشري عليه ولا يخفى على المتأمل في كلام الزمخشري أنه بعيد بمراحل عن جعل الآية الكريمة كالمثال المذكور لأنه على التأخير والتقديم وكلامه آب عن اعتبار ذلك في الآية نعم لو اقتصر على جعل غَيْرَ ناظِرِينَ حالا من ضمير تَدْخُلُوا لأمكن أن يقال: إن مراده لا تدخلوا غير ناظرين إلا أن يؤذن لكم ويكون المعنى أن دخولهم غير ناظرين إناه مشروط بالإذن وأما دخولهم ناظرين فممنوع مطلقا بطريق الأولى ثم قدم المستثنى وأخر الحال. وتعقبه بعضهم بأن فيه استثناء شيئين وهما الظرف والحال بأداة واحدة وقد قال ابن مالك في التسهيل: لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان وظاهره عدم جواز ذلك سواء كان الاستثناء مفرغا أم لا وسواء كان الشيئان مما يعمل فيهما العامل المتقدم أم لا فلا يجوز قام القوم إلا زيدا عمرا ولا ما قام القوم إلا زيدا عمرا أو إلا زيد عمرو ولا ما قام إلا خالد بكر ولا ما أعطيت أحدا شيئا إلا عمرا دانقا ولا ما أعطيت إلا عمرا دانقا ولا ما أخذ أحد شيئا إلا زيد
درهما ولا ما أخذ أحد إلا زيد درهما، والكلام في هذه المسألة وما يصح من هذه التراكيب وما لا يصح وإذا صح فعلى أي وجه يصح طويل عريض والذي أميل إليه تقييد إطلاقهم لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان بما إذا كان الشيئان لا يعمل فيهما العامل السابق قبل الاستثناء فلا يجوز ما قام إلا زيد إلا بكر مثلا إذ لا يكون للفعل فاعلان دون عطف ولا ما ضربت إلا زيدا عمرا مثلا إذ لا يكون لضرب مفعولان دون عطف أيضا، وأرى جواز نحو ما أعطيت أحدا شيئا إلا عمرا دانقا ونحو ما ضرب إلا زيد عمرا من غير حاجة إلى التزام إبدال اسمين من اسمين نظير قوله:
ولما قرعنا النبع بالنبع بعضه... ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
في الأول وإضمار فعل ناصب لعمرو دل عليه المذكور في الثاني، وما ذكره ابن مالك في الاحتجاج على الشبه بالعطف حيث قال: كما لا يقدر بعد حرف العطف معطوفان كذلك لا يقدر بعد حرف الاستثناء مستثنيان لا يتم علينا فإنا نقول في العطف بالجواز في مثل ما ضرب زيد عمرا وبكر خالدا قطعا فنحو ما أعطيت أحدا شيئا إلا زيدا دانقا كذلك، وقوله: إن الاستثناء في حكم جملة مستأنفة لأن معنى جاء القوم إلا زيدا جاء القوم ما منهم زيد وهو على ما قيل يقتضي أن لا يعمل ما قبل إلا فيما بعدها في مثل ما ذكر لأنها بمثابة ما وليس ذلك من الصور المستثناة ليس بشيء كما لا يخفى، وما في أمالي الكافية من أنه لا بدّ في المستثنى المفرغ من تقدير عام فلو استعمل بعد إلا شيئان فأما أن لا يقدر عام أصلا وهو يخالف حكم الباب أو يقدر عامان وهو يؤدي إلى أمر خارج عن القياس من غير ثبت ولو جاز في الاثنين جاز فيما فوقهما وهو ظاهر البطلان أو يقدر لأحدهما دون الآخر وهو يؤدي إلى اللبس فيما قصد.
تعقبه الحديثي بأن لقائل أن يختار الثالث ويقول: العام لا يقدر إلا للذي يلي إلا منهما لأنه المستثنى المفرغ ظاهرا فلا يحصل اللبس أصلا، وأبو حيان قدر في الآية محذوفا وجعل غَيْرَ ناظِرِينَ حالا من الضمير فيه والتقدير ادخلوا غير ناظرين وهو الذي يقتضيه كلام ابن مالك حيث أوجب في نحو ما ضرب إلا زيد عمرا جعل عمرا مفعولا لمحذوف دل عليه المذكور، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا وقعت جوابا لسؤال نشأ من الجملة الأولى كأنه لما قيل ما ضرب إلا زيد سأل سائل من ضرب؟ فقيل: ضرب عمرا، وذكر العلامة تقي الدين السبكي عليه الرحمة في رسالته المسماة بالحلم والأناة في إعراب غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وفيها يقول الصلاح الصفدي:
يا طالب النحو في زمان... أطول ظلا من القناة
وما تحلى منه بعقد... عليك بالحلم والأناة
إن الظاهر أن الزمخشري ما قال ذلك إلا تفسير معنى والمستثنى في الحقيقة هو المصدر المتعلق به الظرف والحال فكأنه قيل: لا تدخلوا إلا دخولا مصحوبا بكذا ثم قال: ولست أقول بتقدير مصدر هو عامل فيهما فإن العمل للفعل المفرغ وإنما أردت شرح المعنى، ومثل هذا الإعراب هو الذي نختاره في قوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [آل عمران: ١٩] أي إلا اختلافا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم فمن بعد ما جاءهم وبغيا ليسا مستثنيين بل وقع عليهما المستثنى وهو الاختلاف كما تقول ما قمت إلا يوم الجمعة ضاحكا أمام الأمير في دارة فكلها يعلم فيها الفعل المفرغ من جهة الصناعة وهي من جهة المعنى كالشيء الواحد لأنها بمجموعها بعض من المصدر الذي تضمنه الفعل المنفي وهذا أحسن من أن يقدر اختلفوا بغيا بينهم لأنه حينئذ لا يفيد الحصر وعلى ما قلناه يفيد الحصر فيه كما أفاده في قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ فهو حصر في شيئين لكن بالطريق الذي قلناه لا أنه استثناء شيئين بل استثناء شيء صادق على شيئين، ويمكن حمل كلام الزمخشري على ذلك فقوله: وقع الاستثناء على الوقت والحال معا صحيح، إن المستثنى أعم لأن الأعم يقع على الأخص والواقع على
الواقع واقع فتخلص عما ورد عليه من قول النحاة لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان انتهى فتدبره، وجوز أن يكون غَيْرَ ناظِرِينَ حالا من المجرور في لَكُمْ ولم يذكره الزمخشري، وفي الكشف لو جعل حالا من ذلك لأفاد ما ذكره من حيث إنه نهى عن الدخول في جميع الأوقات إلا وقت وجود الإذن المقيد، وقال العلامة تقي الدين لم يجعل حالا من ذلك وإن كان جائزا من جهة الصناعة لأنه يصير حالا مقدرة ولأنهم لا يصيرون منهيين عن الانتظار بل يكون ذلك قيدا في الإذن وليس المعنى على ذلك بل على أنهم نهوا أن يدخلوا إلا بإذن ونهوا إذا دخلوا أن يكونوا غير ناظرين إناه فلذلك امتنع من جهة المعنى أن يكون العامل فيه يُؤْذَنَ وأن يكون حالا من مفعوله اهـ.
ولعله أبعد نظرا مما في الكشف، وقرأ ابن أبي عبلة «غير» بالكسر على أنه صفة لطعام فيكون جاريا على غير من هو له، ومذهب البصريين في ذلك وجوب إبراز الضمير بأن يقال هنا غير ناظر أنتم أو غير ناظرين أنتم ولا بأس بحذفه عند الكوفيين إذا لم يقع لبس كما هنا والتخريج المذكور عليه، وقد أمال حمزة والكسائي «إناه» بناء على أنه مصدر أني الطعام إذا أدرك، وقرأ الأعمش «إناءة» بمدة بعد النون وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا استدراك من النهي عن الدخول بغير إذن فيه دلالة على أن المراد بالإذن إلى الطعام الدعوة إليه فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا أي فإذا أكلتم الطعام فتفرقوا ولا تلبثوا، والفاء للتعقيب بلا مهلة للدلالة على أنه ينبغي أن يكون دخولهم بعد الإذن والدعوة على وجه يعقبه الشروع في الأكل بلا فصل، والآية على ما ذهب إليه الجل من المفسرين خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام النبي صلّى الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه مخصوصة بهم وبأمثالهم ممن يفعل مثل فعلهم في المستقبل فالنهي مخصوص بمن دخل بغير دعوة وجلس منتظرا للطعام من غير حاجة فلا تفيد النهي عن الدخول بأذن لغير طعام ولا عن الجلوس واللبث بعد الطعام لمهم آخر، ولو اعتبر الخطاب عاما لكان الدخول واللبث المذكوران منهيا عنهما ولا قائل به، ويؤيد ما ذكر ما أخرجه عبد بن حميد عن الربيع عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كانوا يتحينون فيدخلون بيت النبي صلّى الله عليه وسلم فيجلسون فيتحدثون ليدرك الطعام فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية وكذا ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سليمان بن أرقم قال نزلت في الثقلاء ومن هنا قيل إنها آية الثقلاء، وتقدم لك القول بجواز كون إِلى طَعامٍ قد تنازع فيه الفعلان تَدْخُلُوا ويُؤْذَنَ والأمر عليه ظاهر.
وقال العلامة ابن كمال: الظاهر أن الخطاب عام لغير المحارم وخصوص السبب لا يصلح مخصصا على ما تقرر في الأصول، نعم يكون وجها لتقييد الإذن بقوله تعالى إِلى طَعامٍ فيندفع وهم اعتبار مفهومه انتهى وفيه بحث فتأمل والمشهور في سبب النزول ما ذكرناه أول الكلام في الآية عن الإمام أحمد والشيخين وغيرهم فلا تغفل.
وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي لحديث بعضكم بعضا أو لحديث أهل البيت بالتسمع له فاللام تعليلية أو اللام المقوية ومُسْتَأْنِسِينَ مجرور معطوف على ناظِرِينَ ولا زائدة، يجوز أن يكون منصوبا معطوفا على غَيْرَ كقوله تعالى: وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: ٧] وجوز أن يكون حالا مقدرة أو مقارنة من فاعل فعل حذف مع فاعله وذلك معطوف على المذكور والتقدير ولا تدخلوها أو لا تمكثوا مستأنسين لحديث إِنَّ ذلِكُمْ أي اللبث الدال عليه الكلام أو الاستئناس أو المذكور من الاستئناس والنظر أو الدخول على غير الوجه المذكور، والأول أقوى ملاءمة للسياق والسباق كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ لأنه يكون مانعا له عليه الصلاة والسلام عن قضاء بعض أوطاره مع ما فيه من تضييق المنزل عليه صلّى الله عليه وسلم وعلى أهله فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أي من إخراجكم بأن يقول لكم اخرجوا أو من منعكم عما يؤذيه على ما قيل فالكلام على تقدير المضاف لقوله تعالى:
وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ فإنه يدل على أن المستحيا منه معنى من المعاني لاذواتهم ليتوارد النفي
والإثبات على شيء واحد كما يقتضيه نظام الكلام فلو كان المراد الاستحياء من ذواتهم لقال سبحانه والله لا يستحيي منكم فالمراد بالحق إخراجهم أو المنع عن ذلك، ووضع الحق موضعه لتعظيم جانبه وحاصل الكلام أنه تعالى لم يترك الحق وأمركم بالخروج، والتعبير بعدم الاستحياء للمشاكلة، وجوز أن يكون الكلام على الاستعارة أو المجاز المرسل، واعتبار تقدير المضاف مما ذهب إليه الزمخشري وكثير وهو الذي ينبغي أن يعول عليه، وفي الكشف فإن قلت:
الاستحياء من زيد للإخراج مثلا هو الحقيقة والاستحياء من استخراجه توسع بجعل ما نشأ منه الفعل كالصلة وكلتا العبارتين صحيحة يصح إيقاع إحداهما موقع الأخرى، قلت: أريد أنه لا بدّ من ملاحظة معنى الإخراج فإما أن يقدر الإخراج ويوقع عليه فيكثر الإضمار ولا يطابق اللفظ نفيا وإثباتا، وإما أن يقدر المضاف فيقل ويطابق، ومع وجود المرجح وفقد المانع لا وجه للعدول فلا بدّ مما ذكر.
وقال العلامة ابن كمال: إن قوله تعالى: فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ تعليل المحذوف دل عليه السياق أي ولا يخرجكم فيستحيي منكم ولذلك صدر بأداة التعليل ولو كان المعنى يستحيي من إخراجكم لكان حقه أن يصدر بالواو، وفيه أن الكلام بعد تسليم ما ذكر على تقدير المضاف. وزعم بعضهم أن الأصل فيستحيي منكم من الحق والله لا يستحيي منكم من الحق والمراد بالحق إخراجهم على أن ذلك من الاحتباك وكلا حرفي الجر ليس بمعنى واحد بل الأول للابتداء والثاني للتعليل، وقال: إن الحمل على ذلك هو الأنسب للإعجاز التنزيلي والاختصار القرآني ولا يخفى ما فيه.
وقرأت فرقة كما في البحر «فيستحي» بكسر الحاء مضارع استحى وهي لغة بني تميم والمحذوف إما عين الكلمة فوزنه يستفل أو لامها فوزنه يستفع، وفي الكشاف قرىء «لا يستحي» بياء واحدة وأظن أن القراءة بياء واحدة في الفعل في الموضعين، هذا والظاهر حرمة اللبث على المدعو إلى طعام بعد أن يطعم إذا كان في ذلك أذى لرب البيت وليس ما ذكر مختصا بما إذا كان اللبث في بيت النبي عليه الصلاة والسلام، ومن هنا كان الثقيل مذموما عند الناس قبيح الفعل عند الأكياس.
وعن ابن عباس وعائشة رضي الله تعالى عنهما حسبك في الثقلاء أن الله عزّ وجلّ لم يحتملهم وعندي كالثقيل المذكور من يدعى في وقت معين مع جماعة فيتأخر عن ذلك الوقت من غير عذر كثير شرعي بل لمحض أن ينتظر ويظهر بين الحاضرين مزيد جلالته وأن صاحب البيت لا يسعه تقديم الطعام للحاضرين قبل حضوره مخافة منه أو احتراما له أو لنحو ذلك فيتأذى لذلك الحاضرون أو صاحب البيت، وقد رأينا من هذا الصنف كثيرا نسأل الله تعالى العافية إن فضله سبحانه كان كبيرا وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ الضمير لنساء النبي صلّى الله عليه وسلم المدلول عليهن بذكر بيوته عليه الصلاة والسلام أي وإذا طلبتم منهن مَتاعاً أي شيئا يتمتح به من الماعون وغيره فَسْئَلُوهُنَ
فاطلبوا منهن ذلك مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي ستر.
أخرج البخاري وابن جرير وابن مردويه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله تعالى آية الحجاب وكان رضي الله تعالى عنه حريصا على حجابهن وما ذاك إلا حبا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم.
أخرج ابن جرير عن عائشة أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام كن يخرجن بالليل إذ برزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول للنبي صلّى الله عليه وسلم: احجب نساءك فلم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعل فخرجت سودة بنت زمعة رضي الله تعالى عنها ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر رضي الله
تعالى عنه بصوته الأعلى قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب فأنزل الله تعالى الحجاب وذلك أحد موافقات عمر رضي الله تعالى عنه وهي مشهورة، وعد الشيعة ما وقع منه رضي الله تعالى عنه في خبر ابن جرير من المثالب قالوا: لما فيه من سوء الأدب وتخجيل سودة حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وإيذائها بذلك.
وأجاب أهل السنّة بعد تسليم صحة الخبر أنه رضي الله تعالى عنه رأى أن لا بأس بذلك لما غلب على ظنه من ترتب الخير العظيم عليه، ورسوله الله صلّى الله عليه وسلم وإن كان أعلم منه وأغير لم يفعل ذلك انتظارا للوحي وهو اللائق بكمال شأنه مع ربه عزّ وجلّ.
وأخرج البخاري في الأدب والنسائي من حديث عائشة أنها كانت تأكل معه عليه الصلاة والسلام (١) وكان يأكل معهما بعض أصحابه فأصابت يد رجل يدها فكره النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك فنزلت
، ولا يبعد أن يكون مجموع ما ذكر سببا للنزول، ونزل الحجاب على ما أخرج ابن سعد عن أنس سنة خمس من الهجرة.
وأخرج عن صالح بن كيسان أن ذلك في ذي القعدة منها ذلِكُمْ الظاهر أنه إشارة إلى السؤال من وراء حجاب، وقيل: هو إشارة إلى ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع من وراء حجاب أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ أي أكثر تطهيرا من الخواطر الشيطانية التي تخطر للرجال في أمر النساء وللنساء في أمر الرجال فإن الرؤية سبب التعلق والفتنة، وفي بعض الآثار النظر سهم مسموم من سهام إبليس، وقال الشاعر:
والمرء ما دام ذا عين يقلبها | في أعين العين موقوف على الخطر |
يسر مقلته ما ساء مهجته | لا مرحبا بانتفاع جاء بالضرر |
وحكى الزمخشري أن بعض الفتيان قتل جارية له يحبها مخافة أن تقع في يد غيره بعد موته. وظاهر النهي أن العقد غير صحيح، وعموم الأزواج ظاهر في أنه لا فرق في ذلك بين المدخول بها وغيرها كالمستعيذة والتي رأى بكشحها بياضا فقال لها عليه الصلاة والسلام قبل الدخول «الحقي بأهلك» وهو الذي نص عليه الإمام الشافعي وصححه في الروضة. وصحح إمام الحرمين والرافعي في الصغير أن التحريم للمدخول بها فقط لما روي أن الأشعث بن قيس الكندي نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله تعالى عنه فهم عمر برجمه فأخبر أنها لم يكن مدخولا بها فكف من غير نكير. وروي أيضا أن قتيلة بنت قيس أخت الأشعث المذكور تزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت وكانت قد زوجها أخوها قبل من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقبل أن يدخل بها حملها معه إلى حضرموت وتوفي عنها عليه الصلاة
وفي مجمع البيان للطبرسي أن مجاهدا روى عن عائشة أنها كانت تأكل مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حسيا في قعب فمر عمر فدعاه عليه الصلاة والسلام فأكل فأصابت أصبعه أصبع عائشة فقال: لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزلت آية الحجاب
اهـ منه.
والسلام فبلغ ذلك أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقال: هممت أن أحرق عليها بيتها فقال له عمر: ما هي من أمهات المؤمنين ما دخل بها صلّى الله عليه وسلم ولا ضرب عليها الحجاب.
وقيل: لم يحتج عليه بذلك بل احتج بأنها ارتدت حين ارتد أخوها فلم تكن من أمهات المؤمنين بارتدادها وكذا هو ظاهر في أنه لا فرق في ذلك بين المختارة منهن الدنيا كفاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي في رواية ابن إسحاق والمختارة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم كنسائه عليه الصلاة والسلام التسع اللاتي توفي عنهن.
وللعلماء في حل مختارة الدنيا للأزواج طريقان، أحدهما طرد الخلاف، والثاني القطع بالحل واختاره الإمام والغزالي عليهما الرحمة، وكأن من قال بحل غير المدخول بها وبحل المختارة المذكورة حمل الأزواج على من كن في عصمته يوم نزول الآية وعلى من يشبههن ولسن إلا المدخولات بهن اللاتي اخترنه عليه الصلاة والسلام، وإذا حمل ذلك وأريد بقوله تعالى: مِنْ بَعْدِهِ من بعد فراقه يلزم حرمة نكاح من طلقها صلّى الله عليه وسلم من تلك الأزواج على المؤمنين وهو كذلك، ومن هنا اختلف القائلون بانحصار طلاقه صلّى الله عليه وسلم بالثلاث فقال بعضهم: تحل له عليه الصلاة والسلام من طلقها ثلاثا من غير محلل، وقال آخرون، لا تحل له أبدا، وظاهر التعبير بالأزواج عدم شمول الحكم لأمة فارقها صلّى الله عليه وسلم بعد وطئها.
وفي المسألة أوجه ثالثها أنها تحرم إن فارقها بالموت كمارية رضي الله تعالى عنها ولا تحرم إن باعها أو وهبا في الحياة.
وحرمة نكاح أزواجه عليه الصلاة والسلام من بعده من خصوصياته صلّى الله عليه وسلم، وسمعت عن بعض جهلة المتصوفة أنهم يحرمون نكاح زوجة الشيخ من بعده على المريد وهو جهل ما عليه مزيد إِنَّ ذلِكُمْ إشارة إلى ما ذكر من إيذائه عليه الصلاة والسلام ونكاح أزواجه من بعده، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر والفساد كانَ عِنْدَ اللَّهِ في حكمه عزّ وجلّ عَظِيماً أي أمرا عظيما وخطبا هائلا لا يقادر قدره، وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلّى الله عليه وسلم وإيجاب حرمته حيا وميتا ما لا يخفى.
ولذلك بالغ عزّ وجلّ في الوعيد حيث قال سبحانه: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً مما لا خير فيه على ألسنتكم كأن تتحدثوا بنكاحهن أَوْ تُخْفُوهُ في صدوركم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً كامل العلم فيجازيكم بما صدر عنكم من المعاصي البادية والخافية لا محالة، وهذا دليل الجواب والأصل إن تبدوا شيئا أو تخفوه يجازكم به فإن الله إلخ.
وقيل هو الجواب على معنى فأخبركم أن الله إلخ، وفي تعميم شَيْءٍ في الموضعين مع البرهان على المقصود من ثبوت علمه تعالى بما يتعلق بزوجاته صلّى الله عليه وسلم مزيد تهويل وتشديد ومبالغة الوعيد، وسبب نزول الآية على ما قيل: إنه لما نزلت آية الحجاب قال رجل: أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب لئن مات محمد صلّى الله عليه وسلم لنتزوجن نساءه، وفي بعض الروايات تزوجت عائشة أو أم سلمة.
وأخرج جويبر عن ابن عباس أن رجلا أتى بعض أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم فكلمها وهو ابن عمها فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا فقال: يا رسول الله إنها ابنة عمي والله ما قلت لها منكرا ولا قالت لي قال النبي صلّى الله عليه وسلم: قد عرفت ذلك أنه ليس أحد أغير من الله تعالى وأنه ليس أحد أغير مني فمضى ثم قال عنفني من كلام ابنة