
﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (٥١) ﴾.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ (١)، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَة، عَنْ أَبِيهِ (٢) عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ أَنَّهَا كَانَتْ تُعَيِّر (٣) النِّسَاءَ اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: أَلَا تَسْتَحِي الْمَرْأَةُ أَنْ تَعْرِضَ نَفْسَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾، قَالَتْ: إِنِّي أرَى رَبَّك إلا يُسَارع فِي هَوَاكَ (٤).
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ﴿تُرْجِي﴾ أَيْ: تُؤَخِّرُ ﴿مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ﴾ أَيْ: مِنَ الْوَاهِبَاتِ [أَنْفُسِهِنَّ] (٥) ﴿وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ أَيْ: مَنْ شِئْتَ قَبِلْتَهَا، ومَنْ شِئْتَ رَدَدْتَهَا، ومَنْ رَدَدْتَهَا فَأَنْتَ فِيهَا أَيْضًا بِالْخِيَارِ بعد ذلك، إن
(٢) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(٣) في ف: "تغير من النساء" وفي أ: "تغير النساء".
(٤) المسند (٦/١٥٨).
(٥) زيادة من ت.

شِئْتَ عُدْتَ فِيهَا فَآوَيْتَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾. قَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ فِي قَوْلِهِ: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ : كُنْ نِسَاءً وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بِبَعْضِهِنَّ وَأَرْجَأَ بِعَضَهُنَّ لَمْ يُنْكحن بَعْدَهُ، مِنْهُنَّ أُمُّ شَرِيكٍ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ أَيْ: مِنْ أَزْوَاجِكَ، لَا حَرَجَ عَلَيْكَ أَنْ تَتْرُكَ القَسْم لَهُنَّ، فَتُقَدِّمْ مَنْ شِئْتَ، وَتُؤَخِّرْ مَنْ شِئْتَ، وَتُجَامِعْ مَنْ شِئْتَ، وَتَتْرُكْ مَنْ شِئْتَ.
هَكَذَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي رَزين، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرُهُمْ، وَمَعَ هَذَا كَانَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، يَقْسِمُ لَهُنَّ؛ وَلِهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْقَسْمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
وَقَالَ (١) الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ -أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ، عَنْ مُعَاذة (٢) عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَأْذِنُ فِي يَوْمِ الْمَرْأَةِ مِنَّا بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾، فَقُلْتُ لَهَا: مَا كُنْتِ تَقُولِينَ؟ فَقَالَتْ: كُنْتُ أَقُولُ: إِنْ كَانَ ذَاكَ إليَّ فَإِنِّي لَا أُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أُؤْثِرَ عَلَيْكَ أَحَدًا (٣).
فَهَذَا الْحَدِيثُ عَنْهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ (٤) ذَلِكَ عَدَمُ وُجُوبِ الْقَسْمِ، وَحَدِيثُهَا الْأَوَّلُ يَقْتَضِي أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَاهِبَاتِ، وَمِنْ هَاهُنَا اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الْوَاهِبَاتِ وَفِي النِّسَاءِ اللَّاتِي عِنْدَهُ، أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِنَّ إِنْ شَاءَ قَسَمَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْسِمْ. وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ حَسَنٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ﴾ أَيْ: إِذَا عَلِمْنَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَ عَنْكَ (٥) الحَرَج فِي الْقَسْمِ، فَإِنْ شِئْتَ قَسَمْتَ، وَإِنْ شِئْتَ لَمْ تَقْسِمْ، لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فِي أَيِّ ذَلِكَ فَعَلْتَ، ثُمَّ مَعَ هَذَا أَنْتَ تَقْسِمُ لَهُنَّ اخْتِيَارًا مِنْكَ لَا أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، فَرِحْنَ بِذَلِكَ وَاسْتَبْشَرْنَ بِهِ وَحَمَلْنَ جَمِيلَكَ فِي ذَلِكَ، وَاعْتَرَفْنَ بِمِنَّتِكَ (٦) عَلَيْهِنَّ فِي قَسْمِكَ لَهُنَّ وَتَسْوِيَتِكَ بَيْنَهُنَّ وَإِنْصَافِكَ لَهُنَّ وَعَدْلِكَ فِيهِنَّ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ أَيْ: مِنَ الْمَيْلِ إِلَى بَعْضِهِنَّ دُونَ بَعْضٍ، مِمَّا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ، كَمَا قَالَ (٧) الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلابة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ، ثُمَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ هَذَا فِعْلِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أملك".
(٢) في أ: "معاذ".
(٣) صحيح البخاري برقم (٤٧٨٩).
(٤) في أ: "في".
(٥) في أ: "عليك".
(٦) في أ: "بأمانتك".
(٧) في ت: "كما روى".