
وانصرفا. وقوله تعالى: بِأَفْواهِكُمْ تأكيد لبطلان القول، أي أنه لا حقيقة له في الوجود إنما هو قول فقط، وهذا كما تقول أنا أمشي إليك على قدم، فإنما تؤكد بذلك المبرة وهذا كثير، ويَهْدِي معناه يبين، فهو يتعدى بغير حرف جر، وقرأ قتادة «يهدّي» بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال، والسَّبِيلَ هو سبيل الشرع والإيمان، وابن كثير والكسائي وعاصم في رواية حفص يقفون «السبيلا» ويطرحونها في الوصل، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالألف وصلا ووقفا، وقرأ أبو عمرو وحمزة بغير ألف وصلا ووقفا، وهذا كله في غير هذا الموضع، واتفقوا هنا خاصة على طرح الألف وصلا ووقفا لمكان ألف الوصل التي تلقى اللام.
قوله عز وجل:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥ الى ٦]
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦)
أمر الله تعالى في هذه الآية بدعاء الأدعياء إلى آبائهم للصلب فمن جهل ذلك فيه كان مولى وأخا في الدين، فقال الناس زيد بن حارثة وسالم مولى أبي حذيفة إلى غير ذلك.
وذكر الطبري أن أبا بكرة قرأ هذه الآية ثم قال: أنا ممن لا يعرف أبوه فأنا أخوكم في الدين ومولاكم، قال الراوي: ولو علم والله أن أباه حمارا لا نتمى إليه.
قال الفقيه الإمام القاضي: ورجال الحديث يقولون في أبي بكرة نفيع بن الحارث، وأَقْسَطُ معناه أعدل، وقال قتادة: بلغنا أن رسول الله ﷺ قال من ادعى إلى غير أبيه متعمدا حرم الله عليه الجنة، وقوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ الآية رفع للحرج عمن وهم ونسي وأخطأ فجرى على العادة من نسبة زيد إلى محمد وغير ذلك مما يشبهه، وأبقى الجناح في التعمد مع النهي المنصوص، وقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يريد لما مضى من فعلهم في ذلك، ثم هي صفتان لله تعالى تطرد في كل شيء، وقالت فرقة «خطأهم» فيما كان سلف من قولهم ذلك.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا ضعيف لا يتصف ذلك بخطأ إلا بعد النهي وإنما «الخطأ» هنا بمعنى النسيان وما كان مقابل العمد، وحكى الطبري عن قتادة أنه قال: «الخطأ» الذي رفع الله تعالى فيه الجناح أن تعتقد في أحد أنه ابن فلان فتنسبه إليه وهو في الحقيقة ليس بابنه، والعمد هو أن تنسبه إلى فلان وأنت تدري أنه ابن غيره، والخطأ مرفوع عن هذه الأمة عقابه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه». وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أخشى عليكم النسيان. وإنما أخشى

العمد». وقوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ الآية أزال الله تعالى بها أحكاما كانت في صدر الإسلام منها: أن النبي ﷺ كان لا يصلي على ميت عليه دين، فذكر الله تعالى أنه أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فجمع هذا أن المؤمن يلزم أن يحب النبي أكثر من نفسه حسب حديث عمر بن الخطاب، ويلزمه أن يمتثل أوامره أحبت نفسه ذلك أو كرهت، وقال رسول الله ﷺ حين نزلت هذه الآية: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من ترك مالا فلورثته، ومن ترك دينا أو ضياعا، فعلي، أنا وليه، اقرؤوا إن شئتم النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ». وقال بعض العلماء العارفين هو أولى بهم من أنفسهم لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك وهو يدعوهم إلى النجاة.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويؤيد هذا قوله عليه السلام «أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم الفراش». وشرف تعالى أزواج النبي ﷺ بأن جعلهن أمهات المؤمنين في حرمة النكاح وفي المبرة وحجبهن رضي الله عنهن بخلاف الأمهات، قال مسروق قالت امرأة لعائشة رضي الله عنها: يا أمه، فقالت لست لك بأم وإنما أنا أم رجالكم، وفي مصحف أبيّ بن كعب «وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم»، وقرأ ابن عباس «من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم»، وسمع عمر هذه القراءة فأنكرها، فقيل له إنها في مصحف أبيّ فسأله فقررها أبيّ وأغلظ لعمر، وقد قيل في قول لوط عليه السلام: هؤُلاءِ بَناتِي [هود: ٧٨] إنما أراد المؤمنات، أي تزوجوهن، ثم حكم بأن أولي الأرحام أحق مما كانت الشريعة قررته من التوارث بأخوة الإسلام وبالهجرة، فإنه كان بالمدينة توارث في صدر الإسلام بهذين الوجهين اختلفت الرواية في صفته وليس لمعرفته الآن حكم فاختصرته، ورد الله تعالى المواريث على الأنساب الصحيحة، وقوله تعالى: فِي كِتابِ اللَّهِ يحتمل أن يريد القرآن، ويحتمل أن يريد اللوح المحفوظ، وقوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ متعلق ب أَوْلى الثانية، وهذه الأخوة والهجرة التي ذكرنا، وقوله تعالى:
إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا يريد الإحسان في الحياة والصلة والوصية عند الموت، قاله قتادة والحسن وعطاء وابن الحنفية، وهذا كله جائز أن يفعل مع الولي على أقسامه، والقريب الكافر يوصى له بوصية، واختلف العلماء هل يجعل هو وصيا، فجوز بعض ومنع بعض ورد النظر في ذلك إلى السلطان بعض، منهم مالك بن أنس رضي الله عنه، وذهب مجاهد وابن زيد والرماني وغيره إلى أن المعنى إلى أوليائكم من المؤمنين.
قال القاضي أبو محمد: ولفظ الآية يعضد هذا المذهب، وتعميم لفظ الولي أيضا حسن كما قدمناه، إذ ولاية النسب لا تدفع في الكافر، وإنما يدفع أن يلقى إليه بالمودة كولي الإسلام.
والْكِتابِ الذي سطر ذلك فيه يحتمل الوجهين اللذين ذكرنا، ومَسْطُوراً من قولك سطرت الكتاب إذا أثبته إسطارا ومنه قول العجاج «في الصحف الأولى التي كان سطرا»، قال قتادة وفي بعض القراءة «كان ذلك عند الله مكتوبا».
قوله عز وجل: