آيات من القرآن الكريم

ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ۚ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَٰكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ

لاستطلاع أحوال النبي والمسلمين مع استبعادنا لذلك نظرا لحالة العداء الشديدة القائمة بين النبي والمسلمين من جهة وبين أهل مكة أو زعمائها المشركين من جهة ثانية. ولقد كان ما ذكرته الرواية الثانية في السنة التاسعة من الهجرة وبعد فتح مكة بعام «١» فليس لذكره محل في مطلع سورة يرجح أنه نزل في وقت مبكر من العهد المدني.
والذي يتبادر لنا أن الآيات إمّا أن تكون نزلت في مناسبة مراجعة فريق آخر من الكفار والمنافقين في صدد التساهل في بعض الشؤون، وإما أن تكون مقدمة للآيات التالية التي فيها حملة على بعض التقاليد الجاهلية الراسخة وأمر بإلغائها على سبيل التثبيت والتشجيع والتنبيه على وجوب تنفيذ وحي الله وأمره وعدم المبالاة باعتراض الكفار والمنافقين. وهذا ما نرجحه.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٤ الى ٥]
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥)
. (١) تظاهرون: هنا من الظهار وهو قول الزوج لزوجته أنت حرام عليّ كظهر أمي بقصد تحريم وطئها على نفسه.
(٢) أدعياءكم: كناية عن الأبناء بالتبني.
في هاتين الآيتين:
١- نفي تقريري بأن الله لم يجعل قلبين في جوف أي إنسان. ولم يجعل زوجة الرجل أمّه بمجرد استعماله صيغة الظهار. ولم يجعل دعي الرجل ابنا له

(١) انظر طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٧٧- ٧٨، وابن هشام ج ٤ ص ١٩٤- ١٩٧.

صفحة رقم 348

بمجرد تبّنيه. وبأن هذا ليس من الحقّ والصدق في شيء. وهو مردود على أصحابه. وبأن الله يقرر الحق والصدق ويهدي إلى سبيلهما.
٢- وأمر بتسمية الأبناء بالتبني باسم آبائهم الحقيقيين ونسبتهم إليهم. فهو الأقسط عند الله والمتفق مع الحقّ والحقيقة. فإذا لم يعرف آباؤهم فهم إخوان متبنيهم في الدين ومواليهم وكفى.
٣- وتنبيه على أن الله غفور رحيم لا يؤاخذ المسلمين فيما أخطأوا به من غير علم وعمد. وإنما يؤاخذهم بما يصدر منهم من أخطاء عن عمد وعلم.
تعليق على الآية ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ... إلخ والآية التالية لها
روى المفسرون أن الفقرة الأولى من الآية الأولى نزلت لتكذيب شخص اسمه دهية أو أبو معمر على اختلاف الرواية كان يزعم أن له قلبين في جوفه. كما رووا أنها نزلت تكذيبا للمنافقين الذين كانوا يقولون إن للنبي قلبين قلبا معنا وقلبا معهم. أو تكذيبا لرجل كان يقول إن لي قلبين أعقل بكل منهما أفضل من عقل محمد.
رواية قول المنافقين رواها الترمذي عن ابن عباس بسند حسن ونصها: «قيل لابن عباس أرأيت قول الله تعالى ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ما عنى بذلك. قال قام رسول الله ﷺ يوما يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه ألا ترى أن له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم فأنزل الله الآية» «١».
ولقد روى البغوي عن الزهري ومقاتل أن الجملة مثل ضربه الله للمظاهر من امرأته وللمتبني لولد غيره، ومعناها أنه كما لا يكون للرجل قلبان فإن زوجة

(١) التاج، ج ٤ ص ١٨٣، وخطر خطرة بمعنى سها سهوا ما.

صفحة رقم 349

المظاهر لا تكون أمه، ووالد المبتنى لا يكون أباه الحقيقي. لأنه لا يكون للإنسان أمّان ولا والدان. وهذا يفيد أن حديث ابن عباس لم يثبت عند الزهري ومقاتل.
ونحن نميل إلى الأخذ بهذا لأننا نراه الأوجه في توضيح مدى الجملة.
ولقد اكتفى السياق هنا في صدد الظهار بالتسفيه وتقرير النفي. ثم بيّن الحكم فيه في سورة المجادلة. في حين أن الحكم في التبني قد بيّن هنا. حيث يلهم هذا أن الظرف الذي نزلت فيه الآيات لم يكن يقتضي غير ذلك.
وننبه على أن في سورة المجادلة ما قد يلهم أنها نزلت قبل هذه الآيات على ما سوف نشرحه في تفسيرها. وإذا كان ما نستلهمه في محله فيكون تسفيه الظهار هنا تدعيما لتسفيه تقاليد التبني وتقريرا لكونها سخيفة مثل تقليد الظهار. وقد روى الطبري عن مجاهد ما يؤيد ذلك حيث روى أن هذا قال إن الآية قد نزلت في قضية زيد بن حارثة متبنّى النبي ﷺ التي ورد ذكرها في آيات أخرى في هذه السورة.
ولقد انطوى في الآية الثانية تلقينات جليلة مستمرة المدى في توطيد الأخوة الدينية بدون اعتبار لأي فارق طبقي. ثم في تقرير كون مسؤولية المرء عن أخطائه إنما تكون فيما يقع منه من ذلك عن علم وعمد وهو ما تكرر تقريره في مواضع عديدة في القرآن ونبهنا عليه.
وجملة وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) وإن كانت جاءت في معرض تدعيم ما سفهته ونفته الآية من دعاو وتقاليد فإنها شاملة مستمرة الفيض والإشعاع في صدد تقرير كون الله إنما يأمر دائما بما هو حق وإنما يهدي بما يأمر إلى سبيل الحقّ والخير. وداعمة لوجوب التزام حدود أوامر الله تعالى ونواهيه والإيمان بأنها تهدف دائما إلى ما فيه الحق والخير.
تقليد الظهار في الجاهلية
وظهار الزوجات الذي أشير إليه في الآيات عادة جاهلية لتحريم الزوج على نفسه وطء زوجته مع إبقائها في عصمته. حيث يقول لها أنت عليّ كظهر أمي.

صفحة رقم 350

وكان الأزواج يعمدون إلى ذلك إذا كرهوا زوجاتهم أو كنّ ولودات بنات فقط أو أرادوا مكايدتهن أو ابتزاز أموالهن وحملهن على التنازل عن مهورهن وحقوقهن أو استبقائهن حاضنات لأولادهن، وكانوا كذلك يتفادون تطليقهن أنفة من أن يتزوجن غيرهم. وهذا التقليد يشبه من ناحية ما تقليد الإيلاء الذي ورد ذكره وحكمه في آيات سورة البقرة [٢٢٥- ٢٢٦] وفي هذا التقليد كما في ذلك ظلم وبغي فلذلك سفّهه القرآن هنا وقرر حكما في صدده في سورة المجادلة.
تقليد التبني في الجاهلية ومداه
والتبنّي هو اتخاذ رجل ما طفلا أو صبيا غريبا ابنا له. وكان هذا من تقاليد العرب في الجاهلية. وكان يجري بشيء من المراسم حيث يعلن المتبني في ملأ من الناس تبني الطفل أو الصبي فيصبح في مقام ابنه من صلبه في كل الواجبات والحقوق فيرث كل منهما الآخر ويحرم على كل منهما ما يحرم بين الأب والابن من أنكحة. فلا يصح للمتبنّى أن يتزوج إحدى بنات متبنّيه ولا أخواته ولا عماته ولا خالاته ولا يصح للمتبنّى أن يتزوج بنات متبنّيه ولا أخواته ولا عماته ولا خالاته ولا أرملته ولا مطلقته. وقد كان للنبي ﷺ ابن على هذه الطريقة وهو زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي. وكان مملوكا لزوجته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنهما فاستوهبه منها وأعتقه. وجاء أبوه فخيره بين البقاء عنده أو الالتحاق بأبيه فاختار البقاء فأعلن أبوه براءته منه فأعلن النبي تبنّيه له. وكان ذلك قبل نبوّته.
وصار يدعى زيد بن محمد. وظل الأمر على ذلك إلى أن نزلت هذه الآيات فصار يدعى زيد بن حارثة «١».
ولقد ظلّ النبي ﷺ يحبّه ويرعاه وقد عهد إليه بقيادة سرايا عديدة أكثر من أي

(١) انظر تفسير الآيات في الخازن والبغوي والطبرسي وأسد الغابة ج ٢ ص ٢٢٤- ٢٢٥، وفي فصل التفسير من صحيح البخاري حديث عن ابن عمر جاء فيه: (ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ. وانظر التاج ج ٤ ص ١٨٣.

صفحة رقم 351

صحابي آخر «١». ولما استشهد في مؤتة كان ابنه أسامة محل رعاية النبي ومحبته وعطفه. ولقد روى ابن هشام أن النبي ﷺ لما عيّن أسامة قائدا لجيش أراد أن يسيره إلى مؤتة لأخذ ثأر أبيه وجيشه، قال الناس أمر غلاما حدثا على جلّة المهاجرين والأنصار وكان النبي وجعا فخرج فخطب في الناس فقال: «انفذوا بعث أسامة. فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله. وإنه لخليق بالإمارة وإن كان أبوه لخليقا بها» «٢». ولقد روى البلاذري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما أنشأ ديوان العطاء جعل أسامة في جملة أصحاب الأربعة آلاف وجعل ابنه عبد الله في جملة أصحاب الثلاثة آلاف فاعترض عبد الله قائلا إني شهدت ما لم يشهد أسامة فقال له أبوه: زدته عليك لأنه كان أحبّ إلى رسول الله منك وكان أبوه أحبّ إلى رسول الله من أبيك «٣».
ولقد أورد الطبري في سياق الآية حديثا لم يذكر راويه رواه البغوي بطرقه عن سعد وأبي بكرة أنهما سمعا رسول الله ﷺ يقول: «من ادعى إلى غير أبيه متعمدا حرّم الله عليه الجنّة». ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الإنذار النبوي هو في صدد الدعوى الجدية التي تناقض ما سنّه الله وأبطله. أما أن يقول رجل لآخر أصغر منه يا بني أو يقول رجل لآخر أكبر منه يا أبي من قبيل التحبّب والتكريم فليس من هذا الباب. ولقد أورد ابن كثير في هذا المقام والمعنى حديثا رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أنس أنّ النبيّ ﷺ قال له يا بني. وهذا من هذا الباب.
هذا، ولقد جرت عادة الناس ومن جملتهم المسلمون على تبنّي بعض الأيتام فينشئونهم في كنفهم ويعتنون بهم ويعاملونهم كأبنائهم وقد يكون هذا جائزا بل ومأجورا إذا لم يتجاوز الأمر نطاق البرّ والتربية والتنشئة والعناية. أما إذا تجاوز إلى الدعوة الجدية بالبنوّة والأبوّة وما يترتب عليهما من حقوق ومعاملات تحلّ ما حرّم الله وتحرّم ما أحلّ وتمنح وتسمح ما لم يمنحه الله ويسمح به، وتمنع ما لم يمنعه

(١) تصفّح الجزء الثالث من طبقات ابن سعد.
(٢) ابن هشام ج ٤ ص ٣٢٩. [.....]
(٣) ص ٤٥٦.

صفحة رقم 352
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية