تعدد القلب والظهار والتبني
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٤ الى ٥]
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥)
الإعراب:
وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي.. أزواج: جمع زوج، والزوج ينطلق على الذكر والأنثى، يقال: هما زوجان، وقد يقال للمرأة: زوجة، واللغة الفصحى بغير تاء، وهي لغة القرآن، قال تعالى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة ٢/ ٣٥] وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء ٢١/ ٩٠].
واللَّائِي: فيه ثلاث قراءات، بإثبات الياء، وبحذفها، وبجعل الهمزة بين بين تسهيلا بعد حذف الياء.
وتُظاهِرُونَ: يقرأ بتخفيف الظاء وتشديدها، وأصلها: يتظاهرون.
وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ الْحَقَّ منصوب على أنه مفعول به ل يَقُولُ أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي يقول القول الحق.
وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ فِيما: إما مجرور بالعطف على فِيما في قوله: فِيما أَخْطَأْتُمْ وإما مرفوع بالابتداء، أي ولكن ما تعمدت قلوبكم يؤاخذكم به.
البلاغة:
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ تنكير رجل للاستغراق والشمول، وحرف الجر: لتأكيد
الاستغراق، وذكر الجوف فِي جَوْفِهِ لزيادة تصوير الإنكار.
أَخْطَأْتُمْ تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ جَعَلَ خلق، وهذا رد على من زعم من الكفار أن له قلبين يعقل بكل منهما أفضل من عقل محمد صلّى الله عليه وسلّم. تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ الظهار: أن يقول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، أو كظهر أحد محارمه، أي أنت في التحريم علي كتحريم الأم ونحوها من المحارم. أُمَّهاتِكُمْ أي كالأمهات في التحريم، فقد كان الظهار في الجاهلية طلاقا، أما في الإسلام فتجب فيه الكفارة قبل الجماع. وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ جمع دعيّ:
وهو الذي تدّعى بنوته، فيدعى لغير أبيه ابنا له، وكان له أحكام الابن في الجاهلية وصدر الإسلام، وفي الواقع هو ابن غيره. أَبْناءَكُمْ أي أبناء في الحقيقة. والمراد: ما جمع تعالى الزوجية والأمومة في امرأة، ولا الدعوة والنبوة في رجل، فكما لم يجعل الله قلبين في جوف لأدائه إلى تناقض: (وهو أن يكون كل منهما أصلا لكل القوى وغير أصل) لم يجعل الزوجة والدّعي اللذين لا ولادة بينهما وبينه أما ولا ابنا اللذين بينهما وبينه ولادة.
ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ ذلِكُمْ إشارة إلى كلّ ما ذكر، وقَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ أي مجرد قول في الظاهر، لا حقيقة له في الواقع. وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ أي يقول ما له حقيقة مطابقة للواقع. وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ سبيل الحق. والمراد: نفي وجود القلبين، ونفي الأمومة والبنوة عن المظاهر منها والمتبنى.
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أي لكن انسبوهم إليهم. هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ تعليل لما سبق، وأَقْسَطُ أفعل تفضيل، قصد به الزيادة مطلقا، أي أعدل، والمراد: البالغ في الصدق.
سبب النزول: نزول الآية (٤) :
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ:
أخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال: قام النبي صلّى الله عليه وسلّم يوما يصلي، فخطر خطرة، فقال المنافقون الذي يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين، قلبا معكم وقلبا معه، فأنزل الله: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة: قالوا: كان رجل يدعى ذا القلبين. قيل: إنه أبو معمر، وقيل: إنه جميل بن أسد الفهري.
وكانت الزوجة المظاهر منها كالأم، ودعيّ الرجل: ابنه.
وأخرج ابن جرير عن الحسن البصري مثل الذي أخرجه ابن أبي حاتم، وزاد:
وكان يقول: لي نفس تأمرني ونفس تنهاني. وأخرج عن مجاهد قال: نزلت في رجل من بني فهر قال: إن في جوفي لقلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي أنها نزلت في رجل من قريش من بني جمح يقال له: جميل بن معمر الفهري، وكان رجلا لبيبا حافظا لما سمع، فقالت قريش: ما حفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان، وكان يقول: إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد صلّى الله عليه وسلّم فلما كان يوم بدر، وهزم المشركون وفيهم يومئذ جميل بن معمر، تلقاه أبو يوسف وهو معلّق إحدى نعليه بيده، والأخرى في رجله، فقال له: يا أبا معمر، ما حال الناس؟ قال: انهزموا، قال: فما بالك إحدى نعليك في يدك، والأخرى في رجلك؟ قال: ما شعرت إلا أنهما في رجلي، وعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده «١».
نزول الآية:
وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ:
نزلت في زيد بن حارثة، كان عند الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فأعتقه وتبناه قبل الوحي، فلما تزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش، وكانت تحت زيد بن حارثة، قالت اليهود والمنافقون: تزوج محمد صلّى الله عليه وسلّم امرأة ابنه، وهو ينهى الناس عنها، فأنزل الله تعالى هذه الآية «٢».
(٢) المرجع والمكان السابق.
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، حتى نزلت في القرآن: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ، هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنت زيد بن حارثة بن شراحيل.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى بتقواه وطاعته والخوف منه، ونهى عن طاعة الكفار والخوف منهم، نفى تعدد القلب عند الإنسان، وأبطل الظهار والتبني، فإذا كان لا يجتمع في قلب إنسان الخوف من الله والخوف من غيره، فليس للإنسان قلبان حتى يطيع بأحدهما ويعصي بالآخر، ولا تجتمع الزوجية والأمومة في امرأة، ولا البنوة الحقيقية والتبني في رجل، فجمع في الآيات بين أمر معروف حسي، وبين أمرين معنويين.
التفسير والبيان:
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ أي إن الذات الإنسانية ووحدة التركيب العضوي واحدة في كل إنسان، وما خلق الله لأي أحد قلبين، فليس لأي رجل قلبان في صدره، وإنما هو قلب واحد لأن القلب محل التوجيه والإرادة والعزم، فإذا كان الإنسان مؤمنا بالله ورسوله، فلن يكون كافرا أو منافقا، أي أنه لا يجتمع في قلب واحد اعتقادان، ولا يجتمع اتجاهان متضادان، يأمر أحدهما أو ينهى بنقيض ما يطلبه الآخر.
والآية كما بان في سبيل النزول رد على ما كانت العرب تزعم أن اللبيب الأريب له قلبان، فقيل لأبي معمر أو لجميل بن معمر الفهري أو لجميل بن أسد الفهري: ذو القلبين. والظاهر أنه أبو معمر الفهري جميل بن معمر الذي اشتهر بين أهل مكة بذي القلبين لقوة حفظه.
والقلب: المضغة الصنوبرية في داخل التجويف الصدري، وهو محل الخطرات والوساوس، ومكان الكفر والإيمان، وموضع الإصرار والإنابة، ومحل الانزعاج والطمأنينة. والجعل: الخلق. وفائدة ذكر الجوف كفائدة ذكر الصدر في قوله: الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج ٢٢/ ٤٦] ليحصل للسامع زيادة التصور، والإسراع في الإنكار.
وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ أي وما جعل الزوجات المظاهر منهن كالأمهات في الحرمة، بأن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فذلك كذب موجب العقوبة، كما قال تعالى: ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ، وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً.. [المجادلة ٥٨/ ٢].
وكان حكم الظهار في الجاهلية طلاقا يفيد التحريم المؤبد، فجعل الإسلام الحرمة مؤقتة، تزول بالكفارة (تحرير رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا قبل الجماع) كما جاء في أوائل سورة المجادلة، لتحريم ما أحل الله تعالى.
وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ أي وما جعل الله المدّعى بنوتهم بالتبني أبناء في الحقيقة، فهم أبناء آبائهم الحقيقيين، والتبني حرام، وهذا أيضا إبطال لما كان عليه العرب في الجاهلية وصدر الإسلام من جعل الابن بالتبني كالابن النسبي.
وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد إعتاق زيد بن حارثة مولاه قد تبناه قبل النبوة، فكان يقال له زيد بن محمد، وتبنى الخطّاب عامر بن أبي ربيعة، وأبو حذيفة سالما، وكثير من العرب تبنى ولد غيره.
والخلاصة: أجمع أهل التفسير على أن هذه الآية نزلت في زيد بن حارثة.
وقد أبطل الله هذا الإلحاق الوهمي وهذا النسب المزعوم بهذه الآية، وبقوله
تعالى بعدئذ في هذه السورة: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ.. [٤٠].
وهذا هو المقصود بالنفي، قدّم الله له نفي أمر حسي معروف وهو ازدواج القلب في الإنسان، ثم أردفه بنفي أمرين معنويين هما اجتماع الزوجية مع الظهار، والتبني مع النسب، فالثلاثة باطلة لا حقيقة لها، لذا قال تعالى مؤكدا النفي:
ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ أي ذلكم المذكور كله في الجمل الثلاث من ادعاء وجود قلبين في صدر واحد، واجتماع الزوجية مع الظهار، والتبني مع النسب هو مجرد قول باللسان، لا صلة له بالحقيقة، فلا تصبح الزوجة بالظهار أما، ولا المتبني ابنا. وزيادة قوله تعالى: بِأَفْواهِكُمْ للتنبيه على أنه قول صادر من الأفواه فقط، من غير أن يكون له حقيقة في الواقع، كما أن زيادة فِي جَوْفِهِ لتأكيد الإنكار وزيادة تصويره للنفوس.
وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أي والله هو الذي يقرر الصدق والعدل، ويقول الواقع، ويرشد إلى السبيل الأقوم الصحيح والطريق المستقيم، فدعوا قولكم، وخذوا بقوله عز وجل. ثم فصل تعالى هذا الحق المقصود أصالة بالآية فقال:
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي انسبوا أولئك الذين تبنيتموهم وألحقتم نسبهم بكم إلى آبائهم الحقيقيين، فذلك أعدل في حكم الله وشرعه، وأصوب من نسبة الابن لغير أبيه. فقوله أَقْسَطُ أفعل التفضيل، وهو ليس على بابه، أي لا يراد به المفاضلة بين اثنين، بل قصد به الزيادة مطلقا، ويجوز أن يكون على بابه على سبيل التهكم بهم.
فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ أي فإن جهل آباء هؤلاء الأدعياء، فهم إخوانكم في الدين إن كانوا قد أسلموا، وهم مواليكم في الدين
أيضا أي أنصاركم، إن كانوا عتقاء محرّرين، فينادى الواحد منهم: يا أخي أو يا مولاي، لذا قيل لسالم بعد نزول الآية: مولى حذيفة.
جاء في الحديث الذي رواه أحمد والشيخان عن أبي ذر: «ليس من رجل ادعى لغير أبيه، وهو يعلمه، إلا كفر»
قال ابن كثير: هذا تشبيه وتهديد ووعيد أكيد في التبري من النسب المعلوم.
وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ، وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أي لا إثم عليكم بنسبة بعضهم إلى غير أبيه خطأ قبل النهي، أو بعده نسيانا أو سبق لسان، أو بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع، فإن الله قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه، كما قال تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [البقرة ٢/ ٢٨٦]
وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله عز وجل: قد فعلت».
وفي صحيح البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر»
وفي الحديث الآخر الذي رواه ابن ماجه عن أبي ذر: «إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
لا إثم في الخطأ، ولكن الإثم على من تعمد الباطل، فنسب الابن أو البنت إلى غير الأب المعروف، فتلك معصية موجبة للعقاب. ولا إثم ولا تحريم فيما غلب عليه اسم التبني كالمقداد بن عمرو، فإنه غلب عليه نسب التبني، فيقال له: المقداد بن الأسود، والأسود: هو الأسود بن عبد يغوث، كان قد تبناه في الجاهلية، فلما نزلت الآية، قال المقداد: أنا ابن عمرو، ومع ذلك بقي الإطلاق عليه.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه قال في الآية: «لو دعوت رجلا لغير أبيه، وأنت ترى أنه أبوه، لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمدت وقصدت دعاءه لغير أبيه».
وأخرج الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إن الله تعالى بعث محمدا
صلّى الله عليه وسلّم بالحق، وأنزل معه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده. ثم قال: قد كنا نقرأ: «ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم» وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم عليه السلام، فإنما أنا عبد الله، فقولوا: عبده ورسوله»
وربما قال معمر: «كما أطرت النصارى ابن مريم».
وروى أحمد في حديث آخر: «ثلاث في الناس كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم».
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي وكان الله وما يزال ساترا لذنب المخطئ، والمتعمد إذا تاب، رحيما بهما فلا يعاقبهما، فمن رحمته أنه رفع الإثم عن المخطئ، وقبل توبة المسيء عمدا.
قصة زيد بن حارثة في السيرة والسنة النبوية:
أخرج الشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنت زيد بن حارثة بن شراحيل.
وقد سبي من قبيلته «كلب» وهو صغير.
وكان من أمره
ما رواه ابن مردويه عن ابن عباس أنه كان في أخواله بني معن من بني ثعل من طيّ، فأصيب في نهب من طيّ، فقدم به سوق عكاظ، وانطلق حكيم بن حزام بن خويلد إلى عكاظ يتسوق بها، فأوصته عمته خديجة أن يبتاع لها غلاما ظريفا إن قدر عليه، فلما قدم وجد زيدا يباع فيها، فأعجبه ظرفه، فابتاعه، فقدم به عليها، وقال لها: إني قد ابتعت لك غلاما ظريفا عربيا، فإن أعجبك فخذيه، وإلا فدعيه، فإنه قد أعجبني، فلما رأته خديجة أعجبها، فأخذته.
فتزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو عندها، فأعجب النبي صلّى الله عليه وسلّم ظرفه، فاستوهبه منها، فقالت: أهبه لك، فإن أردت عتقه، فالولاء لي، فأبى عليها عليه الصلاة والسلام، فوهبته له، إن شاء أعتق، وإن شاء أمسك.
قال: فشب عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم إنه خرج في إبل لأبي طالب بأرض الشام، فمرّ بأرض قومه، فعرفه عمه، فقام إليه، فقال: من أنت يا غلام؟ قال: غلام من أهل مكة، قال: من أنفسهم؟ قال: لا، قال: فحرّ أنت أم مملوك؟ قال:
بل مملوك، قال: لمن؟ قال: لمحمد بن عبد المطلب، فقال له: أعربي أنت أم عجمي؟ قال: عربي، قال: ممن أصلك؟ قال: من كلب، قال: من أي كلب؟ قال: من بني عبد ودّ، قال: ويحك، ابن من أنت؟ قال: ابن حارثة بن شراحيل. قال: وأين أصبت؟ قال: في أخوالي، قال: ومن أخوالك؟ قال: طي، قال: ما اسم أمك؟ قال: سعدى، فالتزمه، وقال:
ابن حارثة.
ودعا أباه، فقال: يا حارثة، هذا ابنك، فأتاه حارثة، فلما نظر إليه عرفه، قال: كيف صنع مولاك إليك؟ قال: يؤثرني على أهله وولده، فركب معه أبوه وعمه وأخوه حتى قدموا مكة، فلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له حارثة:
يا محمد، أنتم أهل حرم الله وجيرانه وعند بيته، تفكّون العاني، وتطعمون الأسير، ابني عندك، فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه، فإنك ابن سيد قومك، وإنا سنرفع إليك في الفداء ما أحببت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أعطيكم خيرا من ذلك، قالوا: وما هو؟ قال: أخيّره، فإن اختاركم فخذوه بغير فداء، وإن اختارني فكفوا عنه.
فقالوا: جزاك الله خيرا، فقد أحسنت. فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
«يا زيد، أتعرف هؤلاء» ؟ قال: نعم. هذا أبي وعمي وأخي، فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«فهم من قد عرفتهم، فإن اخترتهم، فاذهب معهم، وإن اخترتني فأنا من تعلم». فقال زيد: ما أنا بمختار عليك أحدا أبدا، أنت معي بمكان الوالد والعم، قال: أبوه وعمه: أيا زيد، أتختار العبودية؟ قال: ما أنا بمفارق هذا الرجل، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرصه عليه، قال: «اشهدوا أنه حر، وأنه ابني يرثني وأرثه»، فطابت نفس أبيه وعمه، لما رأوا من كرامة زيد عليه صلّى الله عليه وسلّم، فلم يزل في الجاهلية يدعى زيد بن محمد حتى نزل القرآن: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فدعي زيد بن حارثة.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- أعلم الله عز وجل أنه لا أحد بقلبين، وإنما هو قلب واحد، فإما فيه إيمان وإما فيه كفر، ولا يجتمع في القلب الكفر والإيمان، والهدى والضلال، والإنابة والإصرار.
وفي هذا رد على بعض أهل مكة الذين كانوا يقولون: إن لي في جوفي قلبين، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وهو ردّ أيضا على المنافقين الذين هم على درجة من النفاق، متوسطة بين الإيمان والكفر إذ ليس هناك إلا قلب واحد فيه إيمان أو كفر.
٢- أبطل الله تعالى في هذه الآية حكم الظهار الجاهلي، وهو قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فتصبح محرمة على التأبيد، أما في الإسلام فالحرمة مؤقتة تنتهي بالكفارة.
٣- التبني حرام في الإسلام لأنه يصادم الحقيقة، والأولى والأعدل أن ينسب الرجل إلى أبيه نسبا، ويحرم على الإنسان أن يتعمد دعوة الولد لغير
أبيه، على النحو الذي كان في الجاهلية. فإن لم يكن كذلك، كما يقول الكبير للصغير تلطفا أو تحننا وشفقة: يا ابني أو يا بنيّ، فالظاهر عدم الحرمة، لكن أفتى بعض العلماء بكراهته سدا لباب التشبه بالكفار.
٤- نسبة الإنسان إلى أبيه من التبني خطأ، بأن يسبق اللسان إليه من غير قصد، لا إثم ولا مؤاخذة فيها، لقوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ، وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ.
كذلك لا إثم في نسبة شخص كان في الأصل منسوبا إلى أبيه بالتبني، وجرى الإطلاق على سبيل الشهرة، كالحال في المقداد بن عمرو، فإنه غلب عليه نسب التبني، فلا يكاد يعرف إلا بالمقداد بن الأسود فإن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبنّاه في الجاهلية وعرف به، فلما نزلت الآية، قال المقداد: أنا ابن عمرو ومع ذلك فبقي الإطلاق عليه، ولم يحكم أحد بعصيان من ناداه بذلك، وكذلك سالم مولى أبي حذيفة، كان يدعى لأبي حذيفة، وغير هؤلاء.
وذلك بخلاف الحال في زيد بن حارثة فإنه لا يجوز أن يقال فيه:
زيد بن محمد إذ لم يشتهر به بعد التحريم والنهي، فإن قاله أحد متعمدا عصى لقوله تعالى: وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ.
٥- وكما يحرم التبني، يحرم انتساب الشخص إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، بل هو من الكبائر إذا كان على النحو الجاهلي، فقد كان الرجل منهم ينتسب إلى غير أبيه وعشيرته، وجاء في السنة الوعيد الشديد عليه،
أخرج الشيخان وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ادّعى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام».
وأخرج الشيخان أيضا: «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا»
وأخرجا أيضا عن أبي ذرّ أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ليس من رجل ادّعى لغير أبيه، وهو يعلمه، إلا كفر».
والكفر: إذا اعتقد إباحة ذلك، فإن لم يعتقد إباحته، فمعنى كفره: أنه أشبه فعله فعل الكفار أهل الجاهلية، أو أنه كافر نعمة الله والإسلام عليه.
٦- هناك فرق بين التبني المنهي عنه والاستلحاق الذي أباحه الإسلام، فالتبني: هو ادعاء الولد مع القطع بأنه ليس ابنه، وأما الاستلحاق الشرعي:
فهو أن يعلم المستلحق أن المستلحق ابنه أو يظن ذلك ظنا قويا، بسبب وجود زواج سابق غير معلن. فإن كان من زنى فلا يجوز الاستلحاق.
٧- يباح أن يقال في دعاء من لم يعرف أبوه: يا أخي أو يا مولاي إذا قصد الأخوة في الدين والولاية فيه، وكان المدعو تقيا. فإن كان فاسقا فلا يدعى بذلك، ويكون حراما لأننا نهينا عن تعظيم الفاسق.
٨- دل قوله تعالى: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ على أنه ينبغي أن يكون قول الإنسان إما عن حقيقة يقرها العقل السليم أو عن شرع ثابت، فمن تزوج بامرأة فولدت لستة أشهر ولدا، وكانت الزوجة سابقا زوجة شخص آخر يحتمل أن يكون الولد منه، فإنا نلحقه بالزوج الثاني لقيام الفراش أي رابطة الزوجية.
٩- قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يدل على أنه سبحانه يغفر الذنوب للمستغفر، ويرحم المذنب التائب.