
أولا، ورجاء عصمتها ثانيا، فإن مريم في لغتهم العابدة، وإظهارا لعزمها على الوفاء بوعدها ثالثا أي: إنها وإن لم تكن خليقة بالسدانة فأرجو أن تكون من العابدات المطيعات. وقد أهمل صاحب المنجد الإشارة إلى ذلك في كتابة «المنجد».
الفوائد:
تنقسم الحال إلى مبينة أو مؤسسة، وهي التي لا يستفاد معناها من دون ذكرها، كجاء علي راكبا إذ لا يستفاد معنى الركوب إلا بذكر راكبا.
ومؤكدة وهي التي يستفاد معناها من دون ذكرها، وهي إما مؤكدة لعاملها لفظا ومعنى نحو «وأرسلناك للناس رسولا» و «فتبسم ضاحكا» وإما مؤكدة لصاحبها نحو «لآمن من في الأرض كلهم جميعا» فجميعا حال من فاعل آمن، وهو «من» الموصولة، مؤكدة لها، وإما مؤكدة لمضمون جملة قبلها معقودة من اسمين معرفتين جامدين نحو: «هو الحق بينا»، وقول الشاعر:
أنا ابن دارة معروفا بها نسبي | وهل بدارة يا للناس من عار |
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٧]
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧) صفحة رقم 499

اللغة:
(كَفَّلَها) بتشديد الفاء أي ضمنه إياها وضمها إليه وجعلها كافلا لها وضامنا لمصالحها. ويؤيد هذا المعنى قراءة «وأكفلها» بوصفه زوج خالتها وذلك عن طريق الاقتراع.
(الْمِحْرابَ) والمحرب آلة الحرب، وهذا هو القياس الصّرفي.
ولكن المحراب له معان مستقلة ليست داخلة في القياس الاشتقاقي، فمن معانيه صدر البيت وأكرم مواضعه، وصدر المجلس، ومأوى الأسد، ومحراب المسجد. ويرى علماء اللغة أن محراب المسجد سمي بذلك لأن المتعبد فيه يحارب الشيطان، ولذلك يقال: لكل محل من محال العبادة محراب، والباحث يحار ويدهش في أمر هذه اللغة الشريفة كيف تطورت؟ ما هي تفاعلات الزمن التي أسهمت في هذا التطور؟ إن المتتبع لموادها اللغوية يعجب كيف تهيأ لها هذا التطور الحركي الذي يحتاج إلى ما لا يحصى من الزمن، فالحاء والراء حرفان يدلان في الأصل على الحر والحرق، ولو تتبعنا جميع الجذور الأخرى لرأينا أنّ كل كلمة تبتدئ بهما تدل على معنى يكاد يكون منتزعا من هذا المعنى، أو متفرعا عنه.
فلنستعرض الآن مادة الحرب، إنها احتراق بكل معنى لاهب، والحرب بفتحتين الهلاك، وهو مقتفيات الحرق ومستلزماته، قال أبو تمام:
لما رأى الحرب رأي العين توفلس | والحرب مشتقة المعنى من الحرب |

فهو حارد وحردان، وهي عاميه فصيحة. وهكذا إلى آخر المادة حيث تنتهي إلى هذا التقرير العجيب.
الإعراب:
(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) الفاء عاطفة وتقبل فعل ماض والهاء مفعول به وربها فاعل والجار والمجرور متعلقان بتقبلها وحسن صفة (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) الواو عاطفة وأنبتها فعل وفاعل مستتر ومفعول به ونباتا مفعول مطلق وحسنا صفة (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) الواو عاطفة وكفل فعل ماض والهاء مفعول به أول وزكريا مفعول به ثان، أي جعل زكريا كافلا لها وضامنا لمصالحها وفي قراءة تخفيف الفاء يكون زكريا هو الفاعل. وقد نسجت أساطير حول هذه الكفالة، يرجع فيها إلى المطولات (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) كلما ظرف زمان تقدم إعرابه مرارا وهو متعلق بوجد لأنه جواب الشرط. وجملة دخل عليها في محل جر بإضافة الظرف إليها والمحراب مفعول به على السعة أو منصوب بنزع الخافض (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعندها ظرف متعلق بوجد ورزقا مفعول به وجملة الشرط استئنافية (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) الجملة مستأنفة، وهذا أصلح ما قيل فيها رغم الاختلاف الشديد الذي لا طائل تحته. وقال فعل ماض والفاعل هو ويا حرف نداء ومريم منادى مفرد علم مبني على الضم وأنى اسم استفهام بمعنى كيف، كأنه سؤال عن الكيفية، أي: كيف تهيأ لك وصول هذا الرزق إليك؟ قال الكميت:
أنى ومن أين آبك الطرب | من حيث لا صبوة ولا طرب |