آيات من القرآن الكريم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ

١- فريق ذكروا ما أصابهم، فعرفوا أنه كان بتقصير من بعضهم، وذكروا وعد الله بنصرهم، فاستغفروا لذنوبهم وآمنهم ربهم.
٢- وفريق أذهلهم الخوف، حتى شغلوا عن كل ما سواه، إذ لم يثقوا بوعد الله ولم يؤمنوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وأما سبب انهزام المؤمنين يوم أحد فكان بتأثير الشيطان وإغوائه ووسوسته، وبما اقترفوا من ذنوب سابقة، فإنه ذكرهم خطايا سلفت منهم، فكرهوا الثبوت لئلا يقتلوا، ولكن الله بفضله ورحمته عفا عنهم ولم يعاجلهم بالعقوبة. قال القرطبي: ونظير هذه الآية توبة الله على آدم عليه السلام،
وقوله عليه الصلاة والسلام: «فحجّ آدم موسى»
أي غلبه بالحجة وذلك أن موسى عليه السلام أراد توبيخ آدم ولومه في إخراج نفسه وذرّيته من الجنة، بسبب أكله من الشجرة فقال له آدم: «أفتلومني على أمر قدّره الله تعالى عليّ قبل أن أخلق بأربعين سنة، تاب عليّ منه، ومن تاب عليه، فلا ذنب له، ومن لا ذنب له، لا يتوجّه عليه لوم». وكذلك من عفا الله عنه. وإنما كان هذا لإخباره تعالى بذلك، وخبره صدق. وغيرهما من المذنبين التائبين يرجون رحمته ويخافون عذابه، فهم على وجل وخوف ألا تقبل توبتهم، وإن قبلت فالخوف أغلب عليهم، إذ لا علم لهم بذلك «١».
تحذير المؤمنين من أقوال المنافقين وترغيبهم في الجهاد وبيان فضله
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٦ الى ١٥٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)

(١) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٤٥

صفحة رقم 133

الإعراب:
إِذا ضَرَبُوا أتى بالفعل الماضي بعد إذا التي هي للاستقبال لأن إذا بمنزلة إن، و (إن) تنقل الفعل الماضي إلى معنى المستقبل.
لِيَجْعَلَ لام العاقبة، ومعناه: لتصير عاقبتهم إلى أن يجعل الله جهاد المؤمنين وإصابة الغنيمة أو الفوز بالشهادة حسرة في قلوبهم، مثل آية: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص ٢٨/ ٨].
وَلَئِنْ مُتُّمْ يقرأ ميم مُتُّمْ بالضم والكسر، وهما لغتان. واللام في لَئِنْ: عوض عن القسم. وإنما لم تدخل نون التوكيد مع اللام على فعل تُحْشَرُونَ الذي هو جواب القسم مثل: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ [الإسراء ١٧/ ٨٦] لأنه فصل بين اللام والفعل بالجار والمجرور.
لَمَغْفِرَةٌ مبتدأ، وخبره: خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.
البلاغة:
إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ استعارة، شبّه المسافر برا بالضارب السابح في البحر.
المفردات اللغوية:
كَالَّذِينَ كَفَرُوا هم المنافقون بزعامة عبد الله بن أبي وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ أي في شأنهم، والأخوة تشمل أخوة النسب والدين والمودة إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ سافروا في الأرض للتجارة والكسب.

صفحة رقم 134

أَوْ كانُوا غُزًّى أي مقاتلين في الحرب، واحدهم غاز لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ القول في عاقبة أمرهم حَسْرَةً ندامة في قلوبهم. وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ فلا يمنع الموت قعود.
المناسبة:
حذر الله تعالى في الآية السابقة من وسوسة الشياطين التي أدت إلى الهزيمة يوم أحد، وحذر هنا من وسواس المنافقين أعوان الشياطين.
التفسير والبيان:
ينهى الله تعالى عباده المؤمنين ويحذرهم من مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد الذي وضح بقولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار والحروب: لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم.
يا أيها المؤمنون لا تكونوا كأولئك المنافقين الذين قالوا في شأن إخوانهم حين سافروا في البلاد للتجارة فماتوا، أو كانوا غزاة محاربين فقتلوا: لو كانوا باقين عندنا ما ماتوا وما قتلوا.
لأن هذا جهل في الدين وضلال في الإيمان لأن الحياة والموت بيد الله، كما قال: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا [آل عمران ٣/ ١٤٥].
والقضاء والقدر لا يجعلان الإنسان مجبورا على أفعاله لأن القضاء: معناه تعلق العلم الإلهي بالشيء، والعلم انكشاف وإحاطة بالشيء لا يقتضي الإلزام والقدر: وقوع الشيء بحسب العلم، وعلم الله لا يكون إلا مطابقا للواقع، وإلا كان جهلا. والإنسان مختار في أعماله، لكنه ناقص القدرة والإرادة والعلم، وله حدود لا يتعداها، فقد يعزم على شيء أو يختار عملا، ولكنه لا يحيط علما بأسباب الموت. ومتى وقع الشيء علم أن وقوعه لا بد منه، وإذا كان الإنسان مؤمنا بمعونة الله وتأييده وأنه يوفقه إلى ما يجهل من أسباب سعادته، يكون مع أخذه بالأسباب أنشط في العمل وأبعد عن العثرات والفشل.

صفحة رقم 135

لا تكونوا كالذين كفروا الذين قالوا فيمن ماتوا أو قتلوا ما قالوا، ليكون عاقبة ذلك القول حسرة في قلوبهم على من فقدوا، تزيدهم ضعفا، وتورثهم ندما، فإذا كنتم مثلهم أصابكم من الحسرة مثل ما يصيبهم، وتضعفون عن القتال كضعفهم.
فالله خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتاهم وقتلاهم. ثم رد الله تعالى عليهم بقوله: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ أي بيده الخلق والإيجاد، وإليه يرجع الأمر والإعدام، ولا يحيى أحد ولا يموت أحد إلا بمشيئته وقدره، ولا يزاد في عمر أحد، ولا ينقص منه شيء إلا بقضائه وقدره.
والله بما تعلمون بصير، أي علمه وبصره نافذ في جميع خلقه، لا يخفى عليه شيء من أمورهم ظاهرها وباطنها، يعلم بما تكنّه النفوس وما تعتقده، وإن لم تعبر عنه. وفي هذا ترغيب للمؤمنين وتهديد للكافرين.
والقتل في سبيل الله والموت أيضا وسيلة إلى نيل رحمة الله وعفوه ورضوانه، وذلك خير من البقاء في الدنيا وجميع حطامها الفاني الذي يجمعونه.
فما أجدر المؤمن أن يؤثر مغفرة الله التي تمحو الذنوب، ورحمته التي ترفع الدرجات على حظوظ الدنيا الفانية، فما هو خالد باق خير مما هو مؤقت فان.
ثم حث سبحانه وتعالى على العمل في سبيل الله لأن المال إليه، فأخبر بأن كل من مات أو قتل، فمصيره ومرجعه إلى الله عز وجل، فيجزيه بعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فبأي سبب كان هلاككم فإلى الله مرجعكم، وتحشرون، أي تجمعون إليه لا إلى غيره.
وهذا حث على العمل وبث لروح التضحية والجهاد من أجل العقيدة ورفع لواء الإسلام والدفاع عن الأوطان، ووعد قاطع بأن من يقتل في سبيل الله فهو حي يرزق عند ربه، وله عند الناس أطيب الذكر والثناء الجميل.

صفحة رقم 136

فقه الحياة أو الأحكام:
يحرص القرآن الكريم على بروز الشخصية الذاتية للمسلمين، وعلى تعهدهم بالرعاية والعناية، وإيجاد الموقف المتميز لهم أمام خصوم الدعوة الإسلامية، لذا حذرهم ونهاهم من أن يقولوا مثل قول المنافقين الذين قالوا لإخوانهم في النفاق أو في النسب في السرايا التي بعثها النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بئر معونة.
فالحياة والموت بيد الله، والله واسع العلم نافذ البصر بأعمال الناس وخفاياهم، فمن الخطأ القول بأن الشخص لو كان في منزله أو بلده ما مات ولا قتل لأن القعود عن الجهاد لا يحفظ الحياة، وكذا التعرض لقتال الأعداء لا يسلب الحياة ولا يعجل بالموت.
لا تكونوا مثلهم، ليجعل الله ذلك القول حسرة في قلوبهم لأنه ظهر نفاقهم. والله يقدر أن يحيي من يخرج إلى القتال، ويميت من أقام في أهله، فذلك تهديد للمؤمنين حتى لا يتشبهوا بالكفار في أقوالهم وأفعالهم.
ثم أخبر الله تعالى أن القتل في سبيل الله والموت فيه خير من جميع الدنيا، ثم وعظ المؤمنين بقوله: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ أي لا تفرّوا من القتال ومما أمركم به، بل فرّوا من عقابه وأليم عذابه، فإن مردّكم إليه، لا يملك لكم أحد ضرّا ولا نفعا غيره.
والخلاصة: إن الآيات تضمنت تحذيرا أو تهديدا للمؤمنين، ووعدا، وحثا على العمل والجهاد. أما التحذير فهو من مشابهة الكافرين بأقوالهم وأفعالهم، وأما الوعد فهو أن ما ينتظره المؤمن المقاتل في سبيل الله من مغفرة الذنوب ورحمة الله التي ترفع الدرجة خير له من الدنيا وما فيها من لذات وشهوات.
وأما الحث على العمل في سبيل الله وبث روح التضحية والجهاد فهو مفهوم

صفحة رقم 137
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية