
المنَاسَبَة: لا تزالل الآيات الكريمة تتناول سرد أحداث غزوة أُحد وما فيها من العظات والعبر، فهي تتحدث عن أسباب الهزيمة وموقف المنافقين الفاضح في تلك الغزوةن وتآمرهم على الدعوة الإِسلامية. بتثبيط عزائم المؤمنين.
اللغَة: ﴿سُلْطَاناً﴾ حجة وبررهاناً وأصله القوة وومنه قيل لللوالي سلطان ﴿مثوى﴾ المثوى: المكان الذي يكون مقر الإِنسان ومأواه من قولهم ثوى بالمكان إِذا أقام فيه ﴿تَحُسُّونَهُمْ﴾ تقتلونهم قال الزجاج: الحسُّ الإِستئصال بالقتل وأصله الضرب على مكان الحس قال الشاعر:
حسناهم بالسيف حساً فأصبحت بقيتهم قد شردوا وتبدّدوا
﴿تُصْعِدُونَ﴾ الإِصعاد: الذهاب والإِبعاد في الأرض، والفرق بينه وبين الصعود أن الإِصعاد يكون في مستوى من الأرض، والصعود يكون في ارتفاع ﴿لاَ تَلْوُونَ﴾ أي لا تلتفتون إلى أحد كما يفعل المنهزم وأصله من ليّ العنق للإِلتفات ﴿أُخْرَاكُمْ﴾ آخركم ﴿أَثَابَكُمْ﴾ جازاكم ﴿أَمَنَةً﴾ أمناً واطمئناناً ﴿يغشى﴾ يستر ويغطي ﴿وَلِيُمَحِّصَ﴾ التمحيص: التنقية وتخليص الشيء مما فيه من عيب ﴿استزلهم﴾ أوقعهم في الزلّة وهي الخطيئة ﴿غُزًّى﴾ جمع غازٍ وهو الخارج في سبيل الله.

سَبَبُ النّزول: لما رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلى المدينة وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أُحد، قال ناس من أصحابه:
من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ | إلى قوله مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ يعني الرماة الذين فعلوا ما فعلوا يوم أُحد. |
«إِليَّ صفحة رقم 215

عبادَ الله، إِليَّ عباد الله، أنا رسول الله، من يكرُّ فله الجنة» وأنتم تمعنون في الفرار ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ﴾ أي جازاكم على صنيعكم غماً بسبب غمكم للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومخالفتكم أمره ﴿لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ﴾ أي لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة ﴿وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ﴾ أي من الهزيمة، والغرض بيان الحكمة من الغم، وهو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم وما أصابهم وذلك من رحمته تعالى بهم ﴿والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي يعلم المخلص من غيره ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً﴾ وهذا امتنانٌ منه تعالى عليهم أي ثم أرسل عليكم بعد ذلك الغم الشديد النعاس للسكينة والطمأنينة ولتأمنوا على أنفسكم من عدوكم فالخائف لا ينام، روى البخاري عن أنس أن أبا طلحة قال: «غشينا النعاسُ ونحن في مصافنا يوم أحد، قال فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه» ثم ذكر سبحانه أن تلك الأمنة لم تكن عامة بل كانت لأهل الإِخلاص، وبقى أهل النفاق في خوف وفزع فقال ﴿يغشى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ﴾ أي يغشى النوم فريقاً منكم وهم المؤمنون المخلصون ﴿وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ أي وجماعة أخرى حملتهم أنفسهم على الهزيمة فلا رغبة لهم إِلاَّ نجاتها وهم المنافقون، وكان السبب في ذلك توعد المشركين بالرجوع إِلى القتال، فقعد المؤمنون متهيئين للحرب فأنزل الله عليهم الأمنة فناموا، وأما المنافقون الذين أزعجهم الخوف بأن يرجع الكفار عليهم فقد طار النوم من أعينهم من الفزع والجزع ﴿يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية﴾ أي يظنون بالله السيئة مثل ظنِّ أهل الجاهلية، قال ابن كثير: وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة، وأن الإِسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك، إِذا حصل أمر من الأمور الفظيعة، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة ﴿يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ﴾ أي ليس لنا من الأمر شيء، ولو كان لنا اختيار ما خرجنا لقتال ﴿قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ﴾ أي قل محمد لأولئك المنافقين الأمر كله بيد الله يصرّفه كيف شاء ﴿يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ﴾ أي يبطنون في أنفسهم ما لا يظهرون ذلك ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ أي لو كان الاختيار لنا لم نخرج فلم نُقتل ولكن أكرهنا على الخروج، وهذا تفسير لما يبطنونه قال الزبير: أُرسل علينا النوم الذي وإِنّي لأسمع قول «معتّب بن قشير» والنعاس يغشاني يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ﴿قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ﴾ أي قل لهم يا محمد لو لم تخرجوا من بيوتكم وفيكم من قدّر الله عليه القتل لخرج أولئك إِلى مصارعهم، فَقَدرُ الله لا مناص منه ولا مفر ﴿وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ أي ليختبر ما في قلوبكم من الإِخلاص والنفاق ﴿وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ أي ولينقّي ما في قلوبكم ويطهّره فعل بكم ذلك ﴿والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ أي عالم بالسرائر مطّلع على الضمائر وما فيها خير أو شر، ثم ذكر سبحانه الذين انهزموا يوم أُحد فقال ﴿إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ﴾ أي انهزموا منكم من المعركة {يَوْمَ التقى
صفحة رقم 216
الجمعان} أي جمع المسلمين وجمع المشركين ﴿إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ﴾ أي إِنما أزلهم الشيطان بوسوسته وأوقعهم في الخطيئة ببعض ما عملوا من الذنوب وهو مخالفة أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ﴾ أي تجاوز عن عقوبتهم وصفح عنهم ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ أي واسع المغفرة حليم لا يعجل العقوبة لمن عصاه، ثم نه سبحانه عن الاقتداء بالمنافقين في أقوالهم وأفعالهم فقال ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ﴾ أي لا تكونوا كالمنافقين ﴿وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض﴾ أي وقالوا لإِخوانهم من أهل النفاق إذا خرجوا في الأسفار والحروب ﴿أَوْ كَانُواْ غُزًّى﴾ أو خرجوا غازين في سبيل الله ﴿لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ﴾ أي لو أقاموا عندنا ولم يخرجوا لما ماتوا ولا قتلوا، قال تعالى ردّاً عليهم ﴿لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أي قالوا ذلك ليصير ذلك الاعتقاد الفاسد حسرة في نفوسهم ﴿والله يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ ردٌّ على قولهم واعتقادهم أي هو سبحانه المحيي المميت فلا يمنع الموت قعود ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي مطلع على أعمال العباد فيجازيهم عليها ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي استشهدتم في الحرب والجهاد ﴿أَوْ مُتُّمْ﴾ أي جاءكم الموت وأنتم قاصعدون قتالهم ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ أي ذلك خير من البقاء في الدنيا وجمع حطامها الفاني ﴿وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ﴾ أي وسواء متم على فراشكم أو قتلتم في ساحة الحرب فإِن مرجعكم إِلى الله فيجازيكم بأعمالكم، فآثروا ما يقربكم إلى الله ويوجب لكم رضاه من الجهاد في سبيل الله والعمل بطاعته، ولله در القائل حيث يقول:
فإِن تكن الأبدان للموت أُنشئت | فقتل امرئٍ بالسيف في الله أفضل |
٢ - بين لفظ ﴿آمنوا﴾ و ﴿كَفَرُواْ﴾ في الآية طباق وكذلك بين ﴿يُخْفُونَ﴾ و ﴿يُبْدُونَ﴾ وبين ﴿فَاتَكُمْ﴾ و ﴿أَصَابَكُمْ﴾ وهو من المحسنات البديعية.
٣ - ﴿وَبِئْسَ مثوى الظالمين﴾ لم يقل وبئس مثواهم بل وضع الظاهر مكان الضمير للتغليظ وللإِشعار بأنهم ظالمون لوضعهم الشيء في غير موضعه والمخصوص بالذم محذوف أي بئس مثوى الظالمين النار أفاده أبو السعود.
٤ - ﴿ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين﴾ التنكير للتفخيم وقوله ﴿عَلَى المؤمنين﴾ دون عيلهم فيه الإِظهار ف موضع الإِضمار للتشريف والإِشعار بعلة الحكم.
٥ - ﴿يَظُنُّونَ بالله... ظَنَّ﴾ بينهما جناس الاشتقاق وكذلك في ﴿فَتَوَكَّلْ... المتوكلين﴾ [آل عمران: ١٥٩].
٦ - ﴿إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض﴾ فيه استعارة تشبيهاً للمسافر في البر بالسابح الضارب في البحر. لأنه يضرب بأطرافه في غمرة الماء شقاً لها واستعانة على قطعها كذا في تلخيص البيان. صفحة رقم 217

فَائِدَة: من الذين ثبتوا في المعركة بأُحد الأسد المقدام «أنس بن النضر» عن أنس بن مالك، فلما هزم المسلمون وأشاع المنافقون أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد قتل قال: اللهم إِني أعتذر إِليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين - وأبرأ إِليك مما فعل هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم بسيفه فلقيه «سعد بن معاذ» فقال: أين يا سعد؟ والله إِني لأجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فقُتل ومثَّل به المشركون فلم يعرفه أحد إلا أخته عرفته من بنانه ورؤي وبه بضع وثمانون من طعنةٍ وضربةٍ ورميةٍ بسهم.
فَائِدَة: روى ابن كثير عن ابن مسعود قال: إِن النساء كنَّ يوم أُحد خلف المسمين يُجهزن على جَرَحى المشركين، فلو حلفتُ يومئذٍ رجوت أن أبرّ أنه ليس أحد منا يريد الدنيا حتى أنزل الله ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة﴾ فلما خالف أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعصوا ما أُمروا به أُفرد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في تسعة عاشرهم فلما أرهقوه قال: رحم الله رجلاً ردّهم عنا فلم يزل يقول ذلك حتى قتل سبعة منهم، فنظروا فإِذا حمزة قد بقر بطنه وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطيع أن تأكلها، وحزن عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حزناً شديداً، وصلى عليه يومئذٍ سبعين صلاة.