آيات من القرآن الكريم

فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ

الأنبياء يشبون بالشهر شباب الصبي من غيرهم بسنة بحكمة ربانية، فسكت فرعون وملؤه، ولم يردوا عليها. واعلم ان هذا التفسير الذي جرينا عليه أولى من جعل وهم لا يشعرون حالا من آل فرعون، وجعل جملة إن فرعون وهامان اعتراضية، وأنسب بالمقام، وأوفق للسياق، واشيع للمعنى، قالوا وكانت آسية من خيار الناس ومن بنات الأنبياء، ترحم المساكين وتتصدق عليهم، والقى الله محبته في قلب فرعون ايضا فحقق الله فيه ظن آسية لما رأت فيه من مخايل البركة ودلائل النجابة، وقيل في المعنى:

في المهد ينطق عن سعادة جده أثر النحابة ساطع البرهان
وحقق الله ظن فرعون وقومه أيضا قال:
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجي عليه اجتهاده
قال تعالى «وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً» من الصبر ناسيا ما نفث فيه من الإلهام الإلهي خاليا من كل شيء، ملآن بذكر موسى إذ بلغها أنه وقع بين يدي عدوه، وانتهكها الندم على ما فعلت بيدها، حتى أسلمته لعدوه وأنساها عظم بلاء الفقد ما كان عهد إليها من قبل الله بحفظه، وبلغ بها الحال إلى «إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ» تصرح للناس علنا أنه ابنها لما دهمها من الضجر وأنه هو ابن ثلاثة أشهر وإسرائيلي ومن أرض مصر، وأنها صنعت ما صنعت من شدة وجلها عليه «لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها» فثبتناه بإلقاء الصبر الجميل فيه، وربط القلب تقويته بايقاع الصبر فيه «لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ١٠ بوعدنا المصدقين فيه. قال يوسف بن الحسين أمرت أم موسى بشيئين، ونهيت عن شيئين، وبشرت بشارتين، فلم ينفعها الكل حتى تولى الله حياطتها، فربط على قلبها وفي هذه الآية من البلاغة ما لا يخفى
«وَقالَتْ لِأُخْتِهِ» مريم بنت عمران «قُصِّيهِ» تتبعي أثره بدقة واعلمي خبره بسر وأخبريني حاله فذهبت إلى ديار فرعون «فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ» بعد بحيث كأنها لم تنظر إليه، ولا يهمها شأنه، وصارت تنظره اختلاسا، بطرف عينها بحيث تري الغير أنها غير عابئة به وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ١١» أنها أخته أو أنها تنظر إليه، ولما أراد الله انجاز

صفحة رقم 356

وعده برده إلى أمه، منعه من أن يقبل ثدي المراضع اللاتي أحضرن لإرضاعه قال تعالى «وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ» مجيء أخته، ولما رأت أخته أن أمره أهمهم لكثرة ما أحضرن له من المرضعات وهو ينقلب من يد زوجة فرعون إلى يد ابنته فيقبلانه ويضمّانه إلى صدرهما، تسربت بين المرضعات وتقدست «فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ» ١٢ بالتربية والغذاء والنظافة والإخلاص فيوضعونه ويضمّونه كما تريدون، وهذا الطلب على طريق العرض بلين ورفق وتؤدة، قالوا من هي؟
قالت أرشدكم إلى امرأة قتل ولدها وأحب شيء لها أن ترضع ولدا، قالوا وكان هامان يسمع قولها، فقال إنها عرفته فلتدلني على أهله لأنها قالت وهم له ناصحون، فأمسكوها، قالت اني أردت أنهم ناصحون للملك لا له، وقد قلت هذا رغبة في سرور الملك، لأني رأيت زوجته وبنته قد أهمهما أمره فيتداولانه ويضمّانه على صدرهما، وأن الملك قد أخذه وضمه إلى صدره، وهو يبكي. وهذا أيضا من أسباب حفظ الله تعالى له إذ أنطقها بما أسكتهم: ثم قالت لهم بعنف وشده غضب اعلموا أنا متصلون بالملك يسوءنا ما يسوءه ويسرنا ما يسره، وأرادت أن تذهب من بينهم حنقا لما سمعت من قول هامان، فتمسكوا بها وقالوا لها من هي هذه المرأة؟ قالت هي أمي، قالوا هل لها ولد؟ قالت نعم قالوا ما اسمه قالت هارون ولد في السنة الماضية التي لا يقتل فيها الأولاد، قالوا الآن صدقت، فأتينا؟؟؟ بها فانطلقت مسرعة وأخبرت أمها الخبر كله، وجاءت بها فأعطوها الولد، فالنقم ثديها حالا إذ عرفها أنها أمه من ريحها، فقالوا لها ولم امتصّ ثديك توأ؟؟؟ مع انا أكثرنا عليه المراضع فلم يأخذ ثدي أحد منهم؟ قالت إني امرأة طيبة اللبن والرائحه لم أوت بصبي لم يقبل ثدي مرضعة إلا وقبل ثديي، وان شئتم فجربوا، فأعطوه لها واشترطوا كل يوم دينارا.
مطلب في الرضاع والحكم الشرعي فيه ومعنى الأشد:
وقد جاء في الخبر عن سيد البشر ليس للصبي خير من لبن أمه أو ترضعه امرأة صالحة كريمة الأصل فإن لبن المرأة الحمقاء يسري (في الولد) واثر حمقها يظهر يوما

صفحة رقم 357

(أي فيه) وجاء في حديث آخر الرضاع يغير الطباع، وقالوا العادة جارية بأن من رضع امرأة فالغالب عليه أخلاقها من خير أو شر (الحكم الشرعي) جواز الإرضاع لحاجة ولغير حاجة، وجواز أخذ الأجرة عليه عدا الأم فلا يجوز أخذ الأجرة على إرضاع ولدها في شريعتنا، ولا تجبر على إرضاع ابنها إلا إذا كان لا يقبل ثدي غيرها، ولعله كان في شريعتهم جائزا وهو من قبيل اختلاف الشرائع في الفروع، وإذا كان لم يجز عندهم أيضا فيكون أخذها الأجرة من قبيل التقية حرصا على إمساك ولدها، ولئلا يعرفوها أنها أمه، وبقيت ترضعه إلى الفطام، وتردد عليه إلى بلوغه المراهقة، هذا فعل الله أيها الناس بحفظ عباده وإنجاز وعده لهم، فتأملوا رحمكم الله كانت تريد أن تراه وتعطي ما يريدونه منها فأخذته بالأجر، وكانت هي أحق بإعطاء الأجر، ألا له الخلق والأمر. قال:

وإذا العناية لاحظتك عيونها ثم؟؟؟ فالمخاوف كلهن أمان
قال تعالى «فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها» فرحا به «وَلا تَحْزَنَ» على فراقه ولا يدوم أسفها عليه «وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» إنجازه لا يبدل ولا يغيّر «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ١٣ ذلك فيرتابون فيه أو يشكون فيحرمون من إنجازه لعدم تعلقهم بالله تعلقا خالصا، لأن منهم الجاحد والمنكر ومنهم المتردد، وكلهم خاسرون هالكون والناجحون هم المخلصون الموقنون. وفي هذه الآية تعريض لأم موسى بسبب ما فرط منها من الجزع، مع أن الله تعالى أمتها عليه، قال تعالى «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ» وهو ثلاثون سنة «وَاسْتَوى» كمل عقله واعتدل رأيه، وبلغ سن الأربعين «آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً» نبوة وسلطانا وفقها ومعرفة في الدين والدنيا «وَكَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الحسن «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» ١٤ من سائر الناس كما جازينا أم موسى إذ قبلت أمرنا وألقت ولدها في البحر، فرددناه عليها وجعلناه رسولا خليلا. وفي الآية تنبيه على أن أم موسى كموسى كانت محسنة في بداية أمرها، فجزاها الله هذا الجزاء وجعلها أمّا لنبيه وما ذكرنا من معنى الأشد هو الصحيح المعول عليه، وهو حتما دون الأربعين، قال تعالى (إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ

صفحة رقم 358

سَنَةً
الآية ١٥ من سورة الأحقاف في ج ٢، وهذه الآية تدل على أن الأشد دون الأربعين دلالة صريحة، ولهذا قال هنا استوى والاستواء ما بين الثلاثين إلى كمال الأربعين وبه يظهر معدن الإنسان، وهو سن الكمال الذي يطبع المرء على ما كان عليه فيه من صلاح أو غيره غالبا، قال:

إذا المرء جاز الأربعين ولم يكن له دون ما يهواه جاه ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى وان جر أسباب الحياة له العمر
وقال الآخر:
وماذا يبتغي الشعراء مني وقد جاوزت من الأربعين
ثم شرع الله يقص علينا ما وقع من موسى وهو عند فرعون قبل ذهابه إلى مدين وتشرفه بالرسالة بدليل العطف بالواو، لأنها لا تفيد ترتيبا ولا تعقيبا، أو أن الواو في قوله تعالى «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ» واو الاستيناف عن ذكر قصة أخرى تتعلق بموسى بعد أن ختم قصته أمه، والمراد بالمدينة المدينة التي فيها قصر فرعون غربي النيل بمسافة اثني عشر ميلا من مدينة فسطاط مصر المعروفة بمصر القديمة، وهي أول بلدة أنشئت بمصر بعد الطوفان واتخذت قصرا لملوك مصر قديما، ولعلها التي يسمونها الآن (بالاقصر) قالوا وكان فرعون وملؤه لا يريدون أن يخرج منها لانه صار ينتقدهم فيؤنبهم وينكر عليهم عبادتهم، فتمكن يوما من الخروج من قصره في وقت لا يظن الناس فيه خروجه وفي زمن خلوّ من اجتماع الناس، يدل عليه قوله تعالى «عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها» أي في وقت لا يتوقعون دخوله فيها ولا يعتاد الخروج فيه لانه وقت الاستراحة، قيل كان وقت القيلولة او ما بين المغرب والعشاء «فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ» وقريء يقتلان بإدغام التاء بمثلها «هذا مِنْ شِيعَتِهِ» من اتباع موسى وأنصاره قيل هو السامري، لان ما أظهره في الآية دليل على انه هو «وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ» من القبط وهو طباخ الملك واسمه ثاثون على ما قيل، وسبب المنازعة ان القبطي كلّف الإسرائيلي حمل حطب لمطبخ الملك، فأبى على خلاف العادة، لأن الاسرائيلي لا يمتنع من خدمة القبطي، لأنهم كالعبيد يأتمرون بأمرهم فيما يكلفونهم به نساء

صفحة رقم 359

ورجالا، إلا أنهم عزّوا بوجود موسى عند فرعون والتفاف زوجته وابنته عليه، وصاروا يناوثون القبط أحيانا ويعارضونهم فيما يأمرونهم به وينهونهم عنه، لا سيما وان الذليل إذا رأى نفسه تعزز لا يطاق كما هو مشاهد في غير المسترقين فكيف بمن صار الرق له ديدنا؟ ولهذا فإن مثل هذه المخالفات صارت تجري منهم على غير المعتاد، وبما أن خصمه طباخ الملك والحطب لمطبخه اغتاظ القبطي وهاجمه بالضرب، ولما رأى موسى أن القبطي هو المعتدي ضربه بجميع يده ليردعه عن ضرب الإسرائيلي، ولا يعلم أن ضربته هذه تقضي لموته لأن الأنبياء معصومون من الكبائر قبل النبوة وبعدها، قال تعالى حاكيا حالهما «فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ» أماته خطأ، والقتل خطأ صغيرة لا كبيرة، والوكز عادة لا يؤدي للموت لأنه ضربه بجميع يده أو دفعه برؤوس أصابعه، ولا مظنة فيها للقتلى والقتل بغير آلة مفضية له لا يعدّ جناية مقصودة بالمعنى المراد فيها لا سيما إذا عرت عن النية، ولكن لما رأى وكزته قضت على حياته ولم يكن يتصور حصول الموت بها ندم عليه السلام قالوا ثم جر جثته ودفنها بالرمل و «قالَ هذا» الذي وقع «مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» الذي غايته استذلال البشر وإيقاعه في الخطايا «إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» ١٥ مظهر العداء والضلال إلى الإنسان، ثم رفع يديه «قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي» بما فعلت قال هذا على سبيل الاتضاع والاعتراف بالتقصير، لأن الأنبياء يعدون ما يقع منهم كبيرا مهما كان بالنسبة لقامهم، وفعله هذا كان قبل النبوة بكثير يدل عليه قوله تعالى (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) الآية ١٩ من سورة الشعراء المارة «فَاغْفِرْ لِي» ما وقع مني واستره علي ولا تؤاخذني به لئلا يطلع فرعون فينتقم مني «فَغَفَرَ لَهُ» وأجاب دعاءه جزاء اعترافه ووصم نفسه بالظلم «إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» ١٦ كثير الرحمة بأوليائه الأبرار وقد ستره الله عليه فلم يشاهده أحد عند الضرب ولا عند الدفن «قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ» بالستر والمغفرة، وأقلت عثرتي وقبلت توبتي «فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً» معاونا ونصيرا أبدا «لِلْمُجْرِمِينَ» ١٧ الذين يوقعون غيرهم

صفحة رقم 360

بالإجرام، الذين تؤدي معاونتهم إلى إيقاع الجرم، ويجرونهم إلى الخطأ والهفوات.
واعلم انه عليه السلام انما عرف أن الله تعالى غفر له ولم يتنبأ بعد فبإلهام من الله قذف في روعه الشريف، وكان عمره إذ ذاك اثنتي عشرة سنة ومن كان في هذا السن لا يعاقب كما مر لك في الآية ١٩ من الشعراء، والمادة ٤٠ من قانون الجزاء تنص على هذا، وما قيل انه برؤيا رآها يستبعدها العطف بالفاء، ولمّا لم يستثنى ابتلاء الله ثانيا، قال تعالى «فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ» التي قتل فيها القبطي «خائِفاً يَتَرَقَّبُ» حلول المكروه من أولياء المقتول أو من فرعون، ويترصد الأخبار ليعرف هل وقف أحد على فعلته هذه أم لا، لأنه أمن من الجزاء المعنوي بمغفرة الله وبقي الجزاء الحسيّ وقد أشغل فكره ذلك، إذ صار يتوقع القبض عليه ويترقب المكروه في نفسه «فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ» يستغيث به عن بعد من قبطي آخر معه «قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ» أيها الاسرائيلي «لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» ١٨ مظهر الغواية خال عن الرشد، إنّك قاتلت رجلا بالأمس فاستغثت بي عليه فقتلته بسببك، والآن تقاتل غيره؟
فقال إنه تعدى على أيضا مثل ذلك، وبما أنه عليه السلام يعلم كثرة تعدي القبط على الاسرائيليين فقد أخذته الغيرة وساقته الحمية على الاسرائيليين لأنهم من دمه، فظهر عليه الغضب السائق للانتقام «فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما» في الأصل وهو القبطي «قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ» كأنه توهم من قوله للإسرائيلي انك لغوي مبين أنه هو الذي قتل القبطي المار ذكره الذي لم يعرف قاتله لأنهم لما فقدوه تحروا عليه فوجدوه قد دسّ بالرمل، فأخذوه ولم يعرفوا قاتله. وهذا التفسير موافق لظاهر الآية وسياقها ولقوله تعالى «إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ» الجبار هو الذي يفعل الفعلة لا يخاف عقباها «وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ» ١٩ فيها بأن تدفع بالتي هي أحسن، لأنه يبعد على الاسرائيلي الذي انتصر له أولا وآخرا أن يقول في حق موسى هذا القول وهو وغيره، عرف أن ما حصل لهم من العزة والمكانة إلا بسبب وجوده، ويجدر بالقبطي

صفحة رقم 361

أن يقول ذلك القول لأنه عرف من فحوى المخاطبة بين موسى والاسرائيلي والاستغاثة به عليه ان قتل القبطي وقع منه، وكلاهما يعلم أن ما حصل للاسرائلين من المهابة هو لأجل موسى لأنه تربى في بيت الملك، ويعلمون أن الملك وزوجته وبنته يحبونه حبا جما، فقال ما قال بحقه، هذا، وأن أكثر المفسرين مشوا على أن القائل هو الاسرائيلي لأنه توهم إرادة البطش بدون القبطي، لأنه سماه غويا فقال ما قال بحق موسى وفشى أمره بين الناس بأنه هو القاتل، ولذلك قالوا انه، السامري، فيكون جزاء موسى منه افتضاح أمره ووصمه بالجبارية وعدم الإصلاح فيصدق عليه قول القائل:

ومن يفعل المعروف في غير أهله يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
أو المثل المشهور (يجازى جزاء سنمار) ويصدق الخبر الوارد: أبت النفس الخبيثة ان تخرج من الدنيا حتى تسيء لمن أحسن إليها، والخبر الذي نقله الغزالي رحمه الله: اتق شر من أحسنت إليه. وارى التفسير الأول اولى والله اعلم.
قالوا وكان اهل المقتول الأول راجعوا فرعون بقضية قتيلهم، إذ وجدوه ولم يعلموا قاتله، فقال حققوا واخبروني، وقد صادف ان حضروا هذه الحادثة الأخيرة وما قاله موسى وما رد عليه به على التفسيرين المارين فتعرفوا ان القاتل هو موسى، فذهبوا واخبروه هذا ما قصه الله علينا في كتابه العظيم من القتل والمقتول والقاتل اما الموجود في التوراة الموجودة الآن هو ان الرجلين الأولين كما قص القرآن اما الآخران فكلاهما من بني إسرائيل ووجه العداوة ان هذا الذي أراد أن يبطش به موسى كان ظالما لمن استصرخه، فيكون بظلمه عدوا له وعاصيا لله تعالى، والعاصي لله عدو لموسى، وفيها أيضا ما هو صريح في أن الظالم هو قاتل ذلك، يعني موسى عليه السلام راجع الاصحاح الثامن من الخروج ص ١١ و ١٥، ومن المعلوم أن ما يكون في التوراة مخالفا للقرآن لا يلتفت إليه، وكذلك فيما يخالف السنة، وذلك بسبب التبديل والتغيير الذي طرأ عليها والنسخ، وفيما عدا ذلك من أخبار بني إسرائيل وغيرها فلا بأس بأن يستأنس بها لبعض الأمور، ولا يجب التصديق بها، ولا ينبغي تكذيبها، لأن التوراة بالنسبة للعصر الحاضر هو

صفحة رقم 362
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية