
﴿فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ﴾ معينًا للكافرين على دينهم (١). قال مقاتل: وذلك حين دُعي أن يرجع إلى دين آبائه، فذكَّره الله النعمة، ونهاه عن مظاهرتهم على ما كانوا عليه، وأمره بالتحذر منهم بقوله:
٨٧ - ﴿وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ يعني: القرآن ﴿بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ﴾ إلى معرفته وتوحيده (٢). ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ قال ابن عباس: هو مخاطبة لأهل دينه (٣). يعني أن هذا الخطاب وإن كان ظاهره له فالمراد به أهل دينه، أي: لا تظاهروا الكفار ولا توافقوهم (٤)، وكذلك قوله:
٨٨ - ﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ أي: لا تعبد معه غيره (٥). قال ابن عباس: هذا تخويف للمشركين، وأما النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد عصمه الله من أن يتخذ معه إلهًا [آخر. أي: لا تعبد معه غيره. قال ابن عباس:] (٦) يريد: أنه إذا نُهي عن عبادة غير الله، كان ذلك تخويفًا لمن عبد معه غيره. وهذا فائدة النهي عن عبادة غيره بعد أن عُصم عن ذاك، وحكم له بالنبوة في سابق الحكم.
ثم وحَّد نفسه فقال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ (٧) قال
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٠ أ.
(٣) ذكره ابن الجوزي، "زاد المسير" ٦/ ٢٥١، ولم ينسبه.
(٤) وليس في توجيه الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- طعن فيه، بل في ذلك غاية التحذير من الوقوع فيما نُهي عنه، لأنه إذا وجه الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالنهي عن الشرك، وعبادة غير الله تعالى، فغيره من باب أولى، وأنه لا عذر لأحد في ذلك. والله أعلم.
(٥) "تفسير مقاتل" ٧٠ أ.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٧) "تفسير مقاتل" ٧٠ أ.

ابن عباس: يريد: إلا ما أريد به وجهه (١). وهو قول الكلبي؛ قال: كل عمل لغيره فهو هالك، إلا ما كان له (٢).
وقال سفيان: إلا ما أريد به وجه الله من الأعمال (٣). وهو اختيار الفراء، وأنشد قول الشاعر:
استغفر الله ذنبًا لستُ مُحصِيه | ربَّ العباد إليه الوجهُ والعملُ |
فعلى هذا وجهُ الله ما وُجِّه إليه من الأعمال. والمعنى ما ذكره الكلبي.
وقال مقاتل: يقول كل شيء من الحيوان ميت، ثم استثنى نفسه بأنه حي لا يموت؛ فقال: ﴿إِلَّا وَجْهَهُ﴾ يعني: إلا هو (٥).
ونحو هذا روي عن مجاهد (٦)، واختاره الزجاج؛ فقال: ومعنى:
(٢) "تنوير المقباس" ٣٣١.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٢٨.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٤. ولم ينسب البيت. وأنشده سيبويه ١/ ٣٧، ولم ينسبه، وفي الحاشية: البيت من الأبيات الخمسين التي استشهد بها سيبويه، ولا يعرف قائلها. وذكره ابن جرير ٩/ ١٢٧، بعد أن قال: وقال آخرون: معنى ذلك: إلا ما أريد به وجهه، واستشهدوا لتأويلهم ذلك بقول الشاعر، فذكر البيت، ولم ينسبه. وفي الحاشية: وهو شاهد عند النحاة على أن أصله: أستغفر الله من ذنب، ثم أسقط الجار فاتصل المجرور بالفعل فنصب مفعولًا به. وأنشده ابن جني، "الخصائص" ٣/ ٢٤٧، ولم ينسبه.
(٥) "تفسير مقاتل" ٧٠ أ. وهو قول أبي عبيدة "مجاز القرآن" ٢/ ١١٢. وهذا أقرب إلى ظاهر الآية، والله أعلم.
(٦) الذي روي عن مجاهد كما سبق: إلا ما أريد به وجهه.

﴿إِلَّا وَجْهَهُ﴾ إلا إياه (١). وعلى هذا: الوجه، صلةٌ في الكلام. وقال ابن كيسان: إلا ملكه (٢).
والوجه يجوز أن يكون عبارة عن: المُلك؛ لأن الوجه من الوجاهة، والمَلِك مِنْ أوجه الناس، فسمي المَلِك وجهًا. وهذا معنى قول الضحاك في هذه الآية: كل شيء هالك إلا الله، والجنة، والنار، والعرش. والاختيار: القول الأول، وهو الذي يليق بمعنى الآية (٣).
(٢) ذكره البخاري، ولم ينسبه. "الفتح" ٨/ ٥٠٥.
(٣) إن كان المقصود من هذا إنكار صفة الوجه لله -عز وجل- فهذا قول باطل؛ فالوجه من الصفات التي يجب الإيمان بها مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق. "أضواء البيان" للشنقيطي ٦/ ٤٥٧. والقول بأن المراد بالوجه في الآية ما أريد به وجه الله من الأعمال قول صحيح، لا ينافي القول الأول فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد بها وجه الله -عز وجل- من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة، والقول الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية، وهالكة وزائلة إلا ذاته تعالى، فإنه الأول والآخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء. "تفسير ابن كثير" ٦/ ٢٦٢. لكن لا يجوز أن يُفهم من القول الثاني إنكار صفة الوجه؛ وكلام الواحدي يُشعر بذلك، حيث قال الواحدي بعد ذكره مؤيدًا له: وهو الذي يليق بمعنى الآية. وصرح الواحدي بنفي صفة الوجه في تفسير: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: ٢٦، ٢٧] قال: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ أي: ربك الظاهر بأدلته ظهور الإنسان بوجهه. "الوسيط" ٤/ ٢٢١. وفي "البسيط" ذكر القول الذي اقتصر عليه في "الوسيط"، وزاد قولاً آخر؛ وهو: ويبقى ربك، وهو السيد المعظم، والوجه يذكر بمعنى الشيء المعظم، كقولهم: هذا وجه القوم، ووجه التدبير، أي: التدبير المعظم. ولا يجوز أن يكون الوجه هاهنا صلة لقوله: ﴿ذُو﴾ بالرفع وهو من صفة الوجه، ولو كان الوجه صلة لقيل: ذيَ، ليكون صفة لقوله ربك. أهـ
وهذا التعليل الذي ذكره الواحدي وصرف به الآية عن ظاهرها ليس بوجيه فإن =

وقوله: ﴿لَهُ الْحُكْمُ﴾ قال الكلبي: له الحكم في الآخرة (١)، يعني: له الفصل بين الخلائق دون غيره ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾: تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم (٢)، ويقضي بينكم (٣).
(١) "تنوير المقباس" ٣٣١.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٠ أ.
(٣) في نهاية النسخة: (ج)، كتب: تم الجزء السابع من كتاب "البسيط" في التفسير، تصنيف: الإمام: الواحدي، ويتلوه الجزء الثامن، سورة العنكبوت، على يد الفقير إلى رحمة ربه: محمد علي محمد الأنصاري، في رابع ربيع الآخر، سنة سبع وستمائة. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد رسوله وصحبه وسلم تسليما. ا. هـ.