
وجلس على الأرض فقال: أشهد إنك لا تبغى علوا فى الأرض ولا فسادا فأسلم».
أخرجه ابن مردويه.
(وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي والعاقبة المحمودة، وهى الجنة لمن اتقى عذاب الله يعمل الطاعات، وترك المحرمات، ولم يكن كفرعون فى الاستكبار على الله، بعد امتثال أوامره، والارتداع عن زواجره، ولا كقارون فى إرادة الفساد فى الأرض.
ثم بين ما يكون فى تلك الدار من جزاء على الأعمال فقال:
(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي من جاء الله يوم القيامة بحسنة فله خير منها، فهو يضاعفها له أضعافا مضاعفة تفضلا منه ورحمة.
(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ومن أتى بسيئة فلا يجزى عليها إلا مثلها، وهذا منه سبحانه رحمة وعدل.
ونحو الآية قوله: «وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٨٥ الى ٨٨]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)

تفسير المفردات
فرض عليك: أي أوجب عليك، ومعاد الرجل: بلده، لأنه يتصرف فى البلاد ثم يعود إليه، ظهيرا: أي معينا، هالك: أي معدوم، وجهه: أي ذاته، الحكم:
أي القضاء النافذ.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص موسى وقومه مع قارون، وبين بغى قارون واستطالته عليهم ثم هلاكه، ونصرة أهل الحق عليه أردف هذا قصص محمد ﷺ وأصحابه مع قومه، وإيذائهم إياه، وإخراجهم له من مسقط رأسه، ثم إعزازه إياه بالإعادة إلى مكة، وفتحه إياها منصورا ظافرا.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي إن الذي أوجب عليك العمل بأحكام القرآن وفرائضه- لرادّك إلى محل عظيم القدر اعتدته وألفته، وهو مكة، والمراد بذلك عوده إليها يوم الفتح، وقد كان للعود إليها شأن عظيم، لاستيلاء رسول الله عليها عنوة، وقهره أهلها، وإظهار عز الإسلام، وإذلال المشركين.
وهذا وعد من الله لرسوله ﷺ وهو بمكة فى أذى وغلبة من أهلها أنه يهاجر منها ويعيده إليها ظاهرا ظافرا.
روى مقاتل «أنه عليه الصلاة والسلام خرج من الغار (حين الهجرة) وسار فى غير الطريق مخافة الطلب، فلما أمن رجع إلى الطريق، ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة، واشتاق إليها، وذكر مولده ومولد أبيه، فنزل جبريل عليه السلام وقال له: أنشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم، فقال جبريل: فإن الله يقول: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ).

وهذه إحدى معجزاته ﷺ لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر.
ولما قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك لفى ضلال مبين) نزل قوله تعالى:
(قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي قل لمن خالفك وكذّبك من قومك المشركين ومن تبعهم: ربى أعلم بالمهتدي منى ومنكم، وستعلمون من تكون له عاقبة الدار، ومن تكون له الغلبة والنصرة فى الدنيا والآخرة.
ثم ذكّره سبحانه نعمه، ونهاه عن معاونة المشركين ومظاهرتهم فقال:
(وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي وما كنت أيها الرسول ترجو أن ينزل عليك القرآن، فتعلم أخبار الماضين من قبلك، وما سيحدث من بعدك وما فيه من تشريع، فيه سعادة البشر فى معاشهم ومعادهم وآداب هى منتهى ما تسمو إليه نفوسهم وتطمح إليها عقولهم ثم تتلو ذلك على قومك، ولكن ربك رحمك فأنزله عليك.
ثم بين ما يجب أن يعمله كفاء هذه النعم المتظاهرة فقال:
(فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) أي فاحمد ربك على ما أنعم به عليك بإنزاله الكتاب إليك ولا تكونن عونا لمن كفروا به ولكن فارقهم ونابذهم.
ثم شدد عزمه وقواه بألا يأبه بمخالفتهم فقال:
(وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) أي ولا تبال بهم ولا تهتم بمخالفتهم لك وصدهم الناس عن طريقتك، فإن الله معك ومؤيدك ومظهر ما أرسلك به على سائر الأديان.
ثم أمره أن يصدع بالدعوة ولا يألو جهدا فى تبليغ الرسالة فقال:
(وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي وبلغ رسالة ربك إلى من أرسلك إليهم واعبده وحده لا شريك له.

(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي ولا تتركن الدعاء إلى ربك وتبليغ المشركين رسالتك، فتكون ممن فعل فعل المشركين بمعصيته ومخالفة أمره.
ثم فسر هذا وبينه بقوله:
(وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) أي ولا تعبد أيها الرسول مع الله الذي له عبادة كل شىء- معبودا آخر سواه.
ثم علل هذا بقوله:
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لأنه لا معبود تصلح له العبادة إلا الله، ونحو الآية قوله:
«رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا».
ثم بين صفاته فقال:
١- (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي هو الدائم الباقي الحي القيوم الذي لا يموت إذا ماتت الخلائق، كما قال: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» وقد ثبت فى الصحيح عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها لبيد: «ألا كل شىء ما خلا الله باطل».
٢- (لَهُ الْحُكْمُ) أي له الملك والتصرف والقضاء النافذ فى الخلق.
٣- (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم معادكم، فيجزيكم بأعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وصل ربنا على محمد وآله.

خلاصة ما تحويه السورة الكريمة من الأغراض
(١) استعلاء فرعون وإفساده فى الأرض.
(٢) استضعافه بنى إسرائيل وقتله أبناءهم واستبقاؤه نساءهم.
(٣) منته تعالى على بنى إسرائيل بإنقاذهم من بأس فرعون وجعلهم أئمة فى أمر الدين والدنيا ووراثتهم أرض الشام.
(٤) إغراق فرعون وجنوده.
(٥) إلقاء موسى فى اليمّ، والتقاط آل فرعون له، ثم رده إلى أمه.
(٦) قتل موسى للقبطى، ثم هربه إلى أرض مدين، وتزوجه ببنت كاهنها، وبقاؤه بها عشر سنين.
(٧) عودة موسى إلى مصر، ومناجاته ربه.
(٨) معجزات موسى من العصا واليد البيضاء.
(٩) طلبه من ربه أن يرسل معه أخاه هرون ليكون له وزيرا وإجابته إلى ذلك.
(١٠) تبليغه رسالة ربه إلى فرعون، وتكذيب فرعون له، واستكباره فى الأرض بغير الحق.
(١١) إثبات نبوة محمد ﷺ بإخباره عن قصص الماضين، دون أن يكون حاضرا معهم، ولا أن يتعلم ذلك من معلم.
(١٢) إنكار قريش لنبوته، بعد أن جاءهم بالحق من ربهم، وقولهم: إن ما جاء به سحر مفترى.
(١٣) إيمان أهل الكتاب بالقرآن وإعطاؤهم أجرهم مرتين.
(١٤) إثبات أن الهداية بيد الله، لا بيد رسوله، فلا يمكنه أن يهدى من يحب.
(١٥) معاذير قريش فى عدم إيمانهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، ثم دحضها.
(١٦) بيان أن الله لا يعذب أمة إلا إذا أرسل إليهم رسولا، حتى لا يكون لهم حجة على الله.

(١٧) نداء المشركين على رءوس الأشهاد، وأمرهم بإحضار شركائهم ونداؤهم، ليسألهم عما أجابوا به الرسل، فلم يستطيعوا لذلك ردا.
(١٨) بيان أن اختيار الرسل لله، لا للمشركين، فهو الذي يصطفى من يشاء لرسالته.
(١٩) التذكير بنعمته على عباده باختلاف الليل والنهار.
(٢٠) شهادة الأنبياء على أممهم.
(٢١) ذكر قارون وبغيه فى الأرض، ثم خسف الأرض به.
(٢٢) بيان أن ثواب الآخرة لا يكون إلا لمن لا يريد العلو فى الأرض ولا الفساد فيها.
(٢٣) مضاعفة الله للحسنات، وجزاء السيئة بمثلها.
(٢٤) الإنباء بالغيب عن نصر الله لرسوله، وفتحه لمكة.
(٢٥) بيان أن كل ما فى الوجود فهو هالك، إلا الله تبارك وتعالى.

سورة العنكبوت
هى مكية إلا من أولها إلى قوله: «وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ» فمدنية، نزلت بعد سورة الروم، آيها تسع وستون.
ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه:
(١) إنه ذكر فى السورة السالفة استعلاء فرعون وجبروته، وجعله أهلها شيعا، وافتتح هذه السورة بذكر المؤمنين الذين فتنهم المشركون، وعذبوهم على الإيمان، دون ما عذب به فرعون بنى إسرائيل تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم، وحثا لهم على الصبر، كما قال: «وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ».
(٢) ذكر فى السورة السابقة نجاة موسى من فرعون وهربه منه ثم عوده إلى مصر رسولا نبيا، ثم ظفره من بعد بغرق فرعون وقومه ونصره عليهم نصرا مؤزّرا، وذكر هنا نجاة نوح عليه السلام وأصحاب السفينة وإغراق من كذبه من قومه.
(٣) نعى هناك على عبدة الأصنام والأوثان، وذكر أنه يفضحهم يوم القيامة على رءوس الأشهاد- وهنا نعى عليهم أيضا وبيّن أنهم فى ضعفهم كضعف بيت العنكبوت.
(٤) هناك قص قصص قارون وفرعون، وهنا ذكرهما أيضا، وبين عاقبة أعمالهما.
(٥) ذكر هناك فى الخاتمة الإشارة إلى هجرة النبي ﷺ فى قوله:
«إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ»، وفى خاتمة هذه أشار إلى هجرة المؤمنين بقوله: «يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ»