آيات من القرآن الكريم

وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ ۖ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ

آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً»
في
دنياء مما أوتي قارون وآله من الزخرفة، فاصبروا على ما أنتم عليه فالصبر فضيلة عظيمة عند الله «وَلا يُلَقَّاها» أي خصلة الصبر المترتب عليها ثواب الله «إِلَّا الصَّابِرُونَ» ٨٠ صبرا حقيقيا لا لسمعة أو رياء بل صبر محض مبرأ من جميع شهوات الدنيا الخسيسة، فهم الراضون بما قسم الله لهم في هذه الدنيا الزائلة من القليل المتيقنون أن ثواب الله خير. وانظر إلى فعل الله بمن يشاركه في كبريائه ولا يسمع قول أوليائه
قال تعالى «فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ» التي فيها خزائنه «الْأَرْضَ» فابتلعتها معه لأنه لم يسند نعمه إلى منعمها، لذلك لم يمتعه بها إلا قليلا وسيرى وبالها غدا لأنه ظن أن علمه أهله لها فلينجه علمه من هذا الخسف، والخسف الذهاب في الأرض، يقال خسف المكان أي ذهب في الأرض، وخسف القمر زال ضوء. وعين خاسفة إذا عدمت حدقتها قال تعالى «فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ» لا من كان يمشي خلفه ولا غيرهم من جماعته يقدر على حفظها من الخسف الذي حل به أو يحول دونه «وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ» ٨١ لنفسه فيخلصها، ولم يكن له عمل صالح فيكون سببا لإنقاذه، ثم ذكر حال وشأن الفريقين المذكورين أعلاء فقال عز قوله «وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ» اليوم الكائن قبل يومك أي قبل الخسف الذين قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إلخ، يقولون «وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ» يضيق ويوسع على من يشاء، وكلمة وي يقولها النادم على الخطأ الذي وقع منه إظهارا لندمه واعلاما بذلك الخطأ على طريق التعجب «لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا» بما تمنيناه من حالة قارون كما خسف به «وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» ٨٢ بنعم الله ولا ينجون من عذابه، قالوا هذا مظهرين الندم على ما فرط منهم من التمني.
مطلب كلمة ويكأن وقصة قارون:
هذا وقد كتبت وي هنا متصلة بكأن لكثرة الاستعمال وإلا فهي كلمتان وي للتعجب وكأن للتشبيه، والقياس أن تكتب منفصلة بعضها عن بعض لجواز الوقف عليها، وقد كتبت على القياس في قول زيد بن عمرو بن نفيل:

صفحة رقم 399

وي كأن من يكن له نشب يحبب ومن يفتقر يعش عيش ضر
وقال الأخفش: الكاف متصلة بها وهي مع الكاف اسم فعل بمعنى أعجب، والوقف على الكاف منها أي على ويك، وعليه قول عنترة:
ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس ويك عنتر اقدم
وذهب السكاكي إلى أن أصلها ويلك وخفّفت بحذف اللام، فبقيت ويك، وهي للردع والزجر وللبعث على ترك ما لا يرضي. وقال أبو حيان هي كلمة تحزّن وأنشد في التحقيق قوله:
ألا ويك المضرة لا تدوم ولا يبقى على البؤس النعيم
وعلى هذا يكون الكاف في موضع جرّ بالإضافة والعامل في أن بعدها على هذا الوجه والوجه الذي قبله فعل العلم المنصور، أي أي أعلم أن الله بسط إلخ، واعلم أنه لا يفلح إلخ، لأن أن بعدها مفتوحة الهمزة، أو بتقدير اللام أي لأن إلخ، على أنه بيان للسبب الذي قيل لأجله ويك. وحكى ابن قتيبة أن معى ذلك رحمة لك بلغه حمير. وقال الفراء ويك بلغة العرب كقول الرجل ألا ترى إلى صنع الله تعالى؟ وقال أبو زيد وجماعة معه ويكأن حرف واحد بجملته، وهو بمعنى ألم تر، وهذه رواية عن ابن عباس. فعلى من يستعمل هذه الكلمة أن لا يتعدى في معناها ولفظها ما ذكرناه، لأنا لم نبق زيادة لمستزيد.
وخلاصة قصة قارون على ما ذكره ابن عباس وغيره أنه لما نزلت الزكاة على سيدنا موسى بأنها عشر المال صالح قارون على أن يعطيه في كل ألف دينار دينارا، وفي كل ألف درهم درهما وفي كل ألف شاة شاة، وهكذا من كلّ ما عنده، وذلك بأمر الله تعالى لعلمه عز وجل أنه لا يعطي شيئا، وقد جاراه سيدنا موسى عليه السلام على ما أراد لتحق الكلمة عليه، فبعد أن رضي حاسب نفسه، فإذا هي شيء كثير بالنسبة لما عنده، فلم تسمح نفسه بإعطاء شيء، ولما علم أن موسى ليس بتاركه جمع بني إسرائيل وقال لهم إن موسى يريد أخذ أموالكم بعد أن أطعتموه في كل شيء وقد أتاهم الخبيث من جهة المال لعلمه بشدة حرصهم عليه لينال قصده، فقالوا أنت كبيرنا فأمرنا بالذي تراه، قال ائتوني بالباغية فلانة، فجاءوا بها حالا، فجعل لها ألف دينار

صفحة رقم 400

وألف درهم وطستا من ذهب على أن تقول زنى بي موسى، وتعهد لها بأنها إذا قالت ذلك على ملأ الناس لموسى يجعلها كسائر نسائه فطمعت بذلك ورضيت، ثم قال للذين معه إذا تم هذا الأمر على رءوس الأشهاد فإن بني إسرائيل تخرج عليه ويرفضونه وأبقى لكم أنا أفيض عليكم من مالي. وهذا كله من حب نفسه الخبيثة رئاسة والمال حسدا لموسى عليه السلام، وكان نقم عليه قبلا بسبب جعل هرون رئيسا للأحبار على رئاسة المذبح للقرابين، ولم يجعل له شيئا مع أن موسى لم يجعلها أخيه إلا بأمر الله، ولأنه أقسره على إعطاء الزكاة، وهو قد استكثرها وبخل؟؟؟ الله بها واستغل خبثه أملا بأخذ الرئاسة له وحبّا بالدنيا مع أنه لو عاش ما عاش؟؟؟ نوح عليه السلام وأكل الذهب والفضة لما نقذ ما عنده، وهو أكبر رئيس من جهة دنيا لكثرة ما عنده (قال سهيل ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح أبدا، والسعيد من عرف بصره عن أقواله وأفعاله، وفتح له سبيل رؤية منّة الله عليه في جميع الأحوال، والشقي من زين له في عينيه أقواله وأفعاله وأحواله، ولم يفتح له سبيل؟؟؟ منّة الله عليه فافتخر بها وادعاها لنفسه فيهلكه شؤمه كما صار في قارون، ؟؟؟ ثم جمع قارون بني إسرائيل وأتى بهم إلى موسى، وقال له إنهم أتوا لتأمرهم؟؟؟ تنهاهم، فخرج إليهم وقام بعضهم فقال من جملة ما قال من سرق قطعنا يده، من افترى جلدناه ثمانين جلدة، ومن زنى وليست له امرأت جلدناه مئة جلدة، من زنى وله امرأت رجمناه إلى أن يموت، قال قارون نازعا جلباب الحياء لأدب متلبسا بالجرأة والقسوة: وإن كنت أنت يا موسى؟ قال وإن كنت؟؟؟ قال فإن بني إسرائيل وأشار إلى جماعته يزعمون أنك فجرت بفلانة الباغية، ؟؟؟ ادعوها وأخذه الغضب، فجاءت ومثلاث أمامه وهم من بين يديها ومن خلفها؟؟؟ على القول ويمنونها بما تعهد به لها قارون، فقال لها أنشدك بالله الذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل لهم التوراة إلا صدقت فتداركها الله وحفّها لتوفاق وقالت في نفسها إني أحدث توبة لله أحسن مما وعدنيه قارون من المال لعزّ، فتقدمت وقالت بصوت عال لا والله حاشا موسى، ولكن قارون جعل جعلا على قذفه ووعدني أن أقول إنه فجربي، أما وقد خلفتني يا موسى

صفحة رقم 401

فأنت براء طاهر زكي. فخرّ موسى ساجدا لله يبكي ويقول اللهم ان كنت رسولك فاغضب لي، فأوحى الله إليه اني أمرت الأرض أن تطيعك فافعل فيه ما تريد، فقال يا بني إسرائيل من كان مع قارون فليثبت معه ومن كان معي فليعتزل عنه.
ولما عرفوا أن الغضب أخذ مأخذه منه، خافوا وتركوا قارون والتحقوا بموسى ولم يبق مع قارون إلا رجلان، ثم قال يا أرض خنيهم، فأخذتهم إلى أقدامهم ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب، ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق، وهم في كل هذا يبكون ويستغيثون ويناشدون موسى الله والرحم ويتضرعون له وهو لم يلتفت إليهم، ثم قال يا أرض خذيهم فأطبقت عليهم الأرض، فأوحى الله إلى موسى ما أغلظ قلبك يستغيث بك قارون سبعين مرة فلم تغثه، أما وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرّة واحدة لأغثته، ولا أجعل الأرض بعدك طوعا لأحد، ثم أصبح بنو إسرائيل الخبثاء النذلاء سيئي النية غليظي القلوب، كافري النعم، يقولون إنما دعا موسى على قارون ليستبد بأمواله، فسمع موسى فدعا الله فخسف بداره وأمواله كلها. هذا وإن الله تعالى أراد هذا بقارون ورفيقيه ولو لم يرد لوفقهم بالاستغاثة به والتوبة النصوح. وأقول ما أغلظ قلوبهم أجمعوا على عبادة العجل وهم يعلمون أنه من صنع السامريّ وهو خبيث منافق منهم، وأجمعوا على عدم الأخذ بالتوراة حتى رفع فوقهم الجبل وأراد أن يسقطه عليهم وهي رحمة لهم، وأجمعوا على قذف موسى وقد بعث لخلاصهم من الرق، وحينما نجّاهم الله من البحر وأغرق فيه أعداءهم رأوا قوما يعبدون الأصنام فأجمعوا على قولهم لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وأرجلهم لم تجف بعد من ماء البحر الذي خلقه الله معجزة لهم، وأجمعوا على إنكار معجزات كثيرة أظهرها كالشمس في رابعة النهار، ثم هم يجمعون على أن موسى إنما فعل ما فعل بقارون بقصد الاستيلاء على أمواله، قاتلهم الله أنى يؤفكون: قال قتادة خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قرارها إلى يوم القيامة، والله أعلم بصحة ذلك، لأنه مشكل إذا صح ما قاله الفلاسفة في مقدار قطر الأرض الذي سنبينه في الآية

صفحة رقم 402

الأولى من سورة الإسراء الآتية في المعجزة الخامسة والثمانين. وأما الخسف فلا شك فيه ومنكره كافر. هذا أيها العاقل الكامل مصير الدنيا بأهلها، أما الآخرة فاسمع ما يقول الله تعالى فيها «تِلْكَ» التي مرّ وصفها غير مرّة هي «الدَّارُ الْآخِرَةُ» الباقية الدائمة ذات الجنات والنعيم الدائم والصحّة والأمان «نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ» على غيرهم ترفعا وتكبرا «وَلا فَساداً» في هذه الدنيا كقارون وأضرابه بل للذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين يعملون لعاقبتهم «وَالْعاقِبَةُ» المحمودة «لِلْمُتَّقِينَ» ٨٣ الله في الدنيا المتباعدين عن لأحوال المذمومة كالظلم والعسف والخيلاء والتجبر، الذين يأبون الأعمال السيئة وينكبون على الأعمال الصالحة لأنهم علموا أن «مَنْ جاءَ» ربه يوم القيامة «بِالْحَسَنَةِ» الواحدة «فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها» عشر أمثالها إلى سبعمئة، والله يضاعف لمن يشاء «وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ» في دنياهم ولم يقلعوا عنها «إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ٨٤ أي بمثلها فقط، وهذا من لطف الله بعباده جلّت رأفته، فإنه لم يذكر للسيئة جزاء أكثر منها، وقد ذكر للحسنة جزاء بما لا حدّ له فنعم الرب رب العالمين. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة، وان هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وان هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة عاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة. فانظر يا أخي وفقني الله وإياك على عظيم فضل ربك ولطفه، وتأمل هذه الألفاظ لأن قوله (عنده) إشارة إلى الاعتناء بها وقوله (كاملة) للتأكيد وشدّة الاعتناء، وقوله في السيئة التي هم بها ولم يعملها كتبها عنده حسنة كاملة، فأكدها أيضا لأنه إنما تركها خوفا من الله مكافأة بذلك، وان عملها كتبها سيئة واحدة فأكدها لتقليلها ولم يؤكدها بكاملة له الحمد والمنّة هو أهل الثناء والمجد، سبحانه ما أرحمه بعباده وأكرمه على عباده هذا أول الآيات المدنيات قال تعالى «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ»

صفحة رقم 403

أوجب تلاوته عليك وهو الله ربك الذي تكفلك «لَرادُّكَ» كما أخرجك من بيتك «إِلى مَعادٍ» وأيّ معاد لا
يكون مثله لغيرك، قال ابن عباس إلى مكة، وأخرجه البخاري عنه وقال البلقيني معاد الرجل بلده لأنه يعود إليه وأطلق المعاد على مكة لأن العرب تعود إليها في كل سنة، قال الدواني في كتاب العود حدثني عبد الله قال حدثني أبي قال حدثني علي بن الحسين عن أحمد بن موسى عن يحيى بن سلام قال: بلغني أن النبي صلّى الله عليه وسلم حين نزل عليه جبريل. عليه السّلام بالجحفة وهو متوجه من مكة إلى المدينة فقال أتشتاق يا محمد إلى بلدك التي ولدت فيها؟ قال نعم، فأنزل الله (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ) إلخ وهذا وعد من الله إلى نبيّه بإعادته إلى بلده في الدنيا والآية التي قبلها تضمنت له الوعد بالعاقبة الحسنى بالآخرة، صرّح حضرة الرسول لأخيه جبريل بأنه مشتاق إلى وطنه، ولم يمض على مفارقته له ثلاثة أيام، لأن هذه الآية نزلت بعد الخروج من الغار بالمحل المذكور بين مكة والمدينة، وهذه أول بشارة من الله له وأول خير أخبر به بسبب الهجرة الشريفة التي جعلها الله فاتحة لفتح البلاد وإيمان العباد، ونصرة الدين، ولهذا المغزى روي حب الوطن من الإيمان، فكان صلّى الله عليه وسلم يكثر من قوله الوطن الوطن، قال عمر لولا حب الوطن لخرب بلد السوء، أي أن أحدا لا يسكن إلّا بالأحسن، فينشأ منه خرابه، وتترك البلاد الرديئة المناخ والقرى البعيدة عن العمران، وتنقطع فائدة الارتباط ويحرم الناس من خير كثير، إذ قد يوجد فيها ما لا يوجد في المدن الكبرى من خيرات ومعادن، مما يحتاجه البشر، لهذا فإنه جل شأنه غرز في قلوب عناده محبة أوطانهم مهما كانت، وحبب كل محل لأهله بحيث يخيرونه على غيره، ولا يركنون إلا إليه، حتى أن أهل القرى الآن لمّا يأتون إلى المدن لا يطيب لهم النوم بها مع أنها أحسن وألطف من قراهم، وفيها ما لا يوجد عندهم ولا يعرفونه فتراه يصرف جهده لإنجاز عمله ليذهب فينام عند أهله ولو كان الوقت ليلا أو حرا أو بردا، لحكمة أرادها الله، ولهذا فإن كل خلق يحن إلى وطنه الذي ولد فيه، وجعل ذلك طبيعة غريزية في خلقه، فترى الإبل تحن إلى مراحها، والطير إلى وكرها، والوحش إلى كناسها،

صفحة رقم 404

والحيتان لمياهها، والإنسان لوطنه، ولو كان نفعه ورزقه في غيره، فالسعيد من يوطن نفسه في حب الله ولله در القائل:

لكل شيء إذا فارقته عوض وليس لله إن فارقت من عوض
هذا، وهناك أقوال كثيرة في معنى المعاد، منها المقام المحمود لأنه المعاد الدائم لحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم، ومنها أنه الجنة، ومنها أنه بيت المقدس لوقوع الإسراء منه، ومنها أنّه المحشر لتسميته به، وهو لا بد لكل أحد من الحضور فيه، ومنها، ومنها، فقد صرفنا النظر عنها واخترنا ما عليه الجمهور منها قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الذين اضطرّوك للخروج من بلدك قسرا بزعمهم أنك ضللتهم وآلهتهم «رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى» يعني نفسه صلّى الله عليه وسلم «وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ٨٥ يعني هم القائلون له إنك لفي ضلال عما كان يعبده آباؤك، قال تعالى «وَما كُنْتَ تَرْجُوا» يا أكرم الرسل «أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ» من ربك ولا كنت تظنّه ولا تتصور أن نرسل إليك عبدنا جبريل بوحينا دون سائر الناس «إِلَّا رَحْمَةً» عظيمة خصصت إلقاءه إليك «مِنْ رَبِّكَ» تفضلا منه بما قدره إليك في أزله «فَلا تَكُونَنَّ» بعد أن شرفناك بوحينا وأقمناك خليفة في الأرض عنا «ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» ٨٦ بي وبك وبه فتعاونهم على ما يريدون، ولا شك أن حضرة الرسول يعلم به ربه أنه لا يؤازر الكافرين، ومن المحال أن يخطر بباله ذلك، كيف وهو منصرف إلى ربه بكلّيته، وقد عادى أقاربه وقومه من أجله. وان ظاهر هذا الخطاب وان كان منصرفا له صلّى الله عليه وسلم، لكن المراد به غيره، وهذه الآية نزلت على أثر دعاية المشركين له أن يرجع لدين آبائه كي يناصروه ويظاهروه ويعينوه ويملكوه عليهم ولما لم ينجع به ما حاكوه في دار الندوة بأن يقتلوه أو يخرجوه أو يجسوه، وهاجر على أثر هذا كما سيأتي تفصيله في بحث الهجرة آخر سورة العنكبوت في ج ٢، فنزلت هذه الآية بالمحل المار ذكره ردا على ذلك، وفيها إشارة بأن الله تعالى هو ظهيره على قومه الذين أخرجوه، ومؤازرة لنصرته عليهم ورجوعه لبلده، وإذ لم يؤمر بعد بقتالهم أشار إليه بأن أعرض عنهم وعن معاونتهم «وَلا يَصُدُّنَّكَ»

صفحة رقم 405

مكرهم وكيدهم وتخويفهم لك «عَنْ آياتِ اللَّهِ» والعمل بها «بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ» بعد زمن إنزالها، لأن إذ يضاف إليه أسماء الزمان كقولك يومئذ ووقتئذ وساعتئذ «وَادْعُ إِلى» توحيد «رَبِّكَ» وعبادته كافة الناس «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ٨٧ وحاشاه وهو مجتهد بالدعاء إلى توحيده ورفض الشرك وهو معصوم من أن يدعو إلى غير ربه وان المراد تحذير قومه ونهيهم وتذكيرهم بذلك وإلهاب قلوبهم إلى طاعة ربهم، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث وفي عصمة الأنبياء في سورة طه الآية ١٢١ المارة بصورة مفصّلة، فراجعه ترشد إلى ما يحوك في صدرك من هذا والله ولي التوفيق. وهو الهادي إلى أقوم طريق وأعلم أن أصل فعل يصدنّك يصدوننّك، ولذا لم يفتح آخر الفعل مع أنه متصل بنون التوكيد الموجبة لذلك، لأن الضمير للجمع فلو كان للواحد لفتح، وقد حذف من نون الرفع. لدخول لا الناهية عليه، وحذف الواو لالتقاء الساكنين، أي أعرض عنهم، لا يمنعنك يا أكرم الرسل ما تراه من عربدتهم «وَلا تَدْعُ» على أن الخطاب له صلّى الله عليه وسلم، وعلى أن الخطاب لغيره يكتب ولا تدعوا أيها الناس «مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» لأنه هو وحده المنفرد بالإلهية، له الخلق والأمر الواحد القهار «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» ولا رب غيره، فعليكم أيها الناس بالانكباب على عبادته. هذا، وأرى أن الأجود في هذا الخطاب أن يكون عاما لكل البشر، وأنما جاء بلفظ المفرد خطابا لحضرة الرسول تعظيما لشأنه، لأنه هو المبلّغ لأمته كلام ربه ليكون أكثر وقعا في قلوب الناس، والعصمة لا تمنع النهي، وهنا يلزم الوقف على كلمة آخر، لان وصلها بما بعدها يصيّر ما بعدها صفة لها، وفيه من الفساد ما لا يخفى، ولذلك أوجب العلماء قراءة علم التجويد وحذروا من لا يعرفه من أن يخطىء في كلام الله فقال:

والأخذ بالتجويد حتم لازم من لم يجود القرآن آثم
لأن من لازم علم التجويد معرفة الوقف، وأنت خبير كم من وقف بغير محله يغير المعنى، وكم من وصل يفسده، قال صلّى الله عليه وسلم في دعائه (وارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عني) فإذا كان حضرة الرسول يدعو ربه أن يوفّقه لأن يقرأ

صفحة رقم 406
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية