اللغَة: ﴿شِيَعاً﴾ فِرقاً وأصنافاً ﴿يَسْتَحْيِي﴾ يتركه حيّاً ولا يقتله ﴿نَّمُنَّ﴾ نتفضل وننعم ﴿اليم﴾ البحر ﴿فَارِغاً﴾ خالياً ﴿المراضع﴾ جمع مُرضِع، وأما المرضعة فجمعها مرضعات وهي التي ترضع الطفل اللبن ﴿عَن جُنُبٍ﴾ عن بعد ومنه الأجنبي للبعيد غير القريب ﴿وَكَزَهُ﴾ الوكز: الضرب بجُمْع الكف أي بكفه مجموعةً قال أهل اللغة: الوكزُ واللكز كلاهما بمعنى واحد وهو الضرب بجمع
صفحة رقم 389الكفّ على الصدر، وقيل: الوكز في الصدر، واللكزُ في الظهر، وجمع الكف: الكف المقوضةُ الأصابع ﴿ظَهِيراً﴾ عوناً ﴿يَسْتَصْرِخُهُ﴾ يستغيثه والاستصراخ الاستغاثة وهو من الصراخ لأن المستغيث يصرخ ويرفع صوته طلباً للغوث قال الشاعر:
كنا إذا ما أتانا صارخ فرعٌ | كان الصراخ له قرع الظنابيب |
التفسِير: ﴿طسم﴾ الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن الكريم، والإِشارة إلى أن هذا الكتاب المعجز في فصاحته وبيانه مركبٌ من أمثال هذه الحروف الهجائية ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين﴾ أي هذه آيات القرآن الواضح الجلي، الظاهر في إعجازه، الواضح في تشريعه وأحكامه ﴿نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ بالحق﴾ أي نقرأ عليك يا محمد بواسطةالروح الأمين من الأخبار الهامة عن موسى وفرعون من الحق الذي لا يأتيه الباطل، والصدق الذي لا ريب فيه ولا كذب ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي لقومٍيصدقون بالقرآن فينتفعون.. ثم بدأ بذكر قصة فرعون الطاغية فقال ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض﴾ أي استكبر وتجبَّر، وجاوز الحد في الطغيان في أرض مصر ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً﴾ أيجعل أهلها فرقاً وأصنافاً في استخدامه وطاعته ﴿يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ﴾ أي يستعبد ويستذل فريقاً منهم وهم بنوا إسرائيل فيسومهم سوء العذاب ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾ أي يقتّل أبناءهم الذكور ويترك الإِناث على قيد الحياة لخدمته وخدمة الأقباط قال المفسرون: سبب تقتيله الذكور أن فرعون رأى في منامه أن ناراً عظيمةً أقبلت من بيت المقدس وجاءت إلى أرض مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل، فسأل عن ذلك المنجمين والكهنة، فقالوا له: إن مولوداً يولد في بني إسرائيل، يذهب ملكك على يديه، ويكون هلاكك بسببه فأمر أن يقتل كل ذكر من أولاد بني إسرائيل ﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين﴾ أي من الراسخين في الفساد، المتجبرين في الأرض، ولذلك ادعى الربوبية وأمعن في القتل وإذلال العباد ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض﴾ أي ونريد برحمتنا أن نتفضل وننعم على المستضعفين من بني إسرائيل فننجيهم من بأس فرعون وطغيانه ﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ أي ونجعلهم أئمة يقتدى بهم في الخير بعد أن كانوا أذلاء مسخرين قال ابن عباس: ﴿أَئِمَّةً﴾ قادة في الخير، وقال قتادة: ولاةً وملوكاً ﴿وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين﴾ أي ونجعل هؤلاء الضعفاء وارثين لملك فرعون وقومه، يرثون ملكهم ويسكنون مساكنهم بعد أن كان القبط أسياد مصر وأعزتها ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض﴾ أي ونملكهم بلاد مصر والشام يتصرفون فيها كيف يشاءون قال البيضاوي: أصل التمكين أن تجعل للشيء مكاناً يتمكن فيه ثم استعيد للتسليط وإطلاق الأمر ﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ﴾ أي ونري فرعون الطاغية، ووزيره «هامان» والأقباط من أولئك المستضعفين ما كانوا يخافونه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولودٍ من بني إسرائيل {وَأَوْحَيْنَآ صفحة رقم 390
إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ} أي قذفنا في قلبها بواسطة الإِلهام قال ابن عباس: هو وحيُ إلهام وقال مقاتل: أخبرها جبريل بذلك قال القرطبي: فعلى قول مقاتل هو وحيُ إعلام لا إلهام، وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية، وإنما إرسال الملك إليها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى كما في الحديث المشهور، وكذلك تكليم الملائكة للناس من غير نبوة، وقد سلَّمت على «عمران بن حصين» فلم يكن نبياً ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم﴾ أي فإذا خفت عليه من فرعون فاجعليه في صندوق وألقيه في البحر - بحر النيل - ﴿وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني﴾ أي لا تخافي عليه الهلاك ولا تحزني لفراقه ﴿إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين﴾ أي فإنا سنرده إليك ونجعله رسولاً نرسله إلى هذا الطاغية لننجّي بني إسرائيل على يديه ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ أي فأخذه وأصابه أعوان فرعون لتكون عاقبة الأمر أن يصبح لهم عدواً ومصدر حزن وبلاءٍ وهلاك قال القرطبي: اللام في «ليكون» لا العاقبة ولام الصيرورة، لأنهم إنما أخذوه ليكون لهم قرة عين، فكان عاقبة ذلك أن صال لهم عدواً وحزناً، فذكر الحال بالمآل كما قال الشاعر:
وللمنايا تُربِّي كلُّ مرضعةٍ | ودورُنا لخراب الدهر نبْنيها |
لأنها كانت تمشي على ساحل البحر حتى وصل الصندوق إلى بيت فرعون وهي ترقبه مستخفيةً عنهم ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع مِن قَبْلُ﴾ أي ومنعنا موسى أن يقبل ثدي اي مرضعة من المرضعات اللاتي أحضروهن لإِرضاعه من قبل مجيء أُمه قال المفسرون: بقي أياماً كلما أُتي بمرضع لم يقبل ثديها، فأهمهم ذلك واشتد عليهم الأمر فخرجوا به يبحثون له عن مرضعة خارج القصر فرأوا أخته ﴿فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ﴾ أي هل أدلكم على مرضعة له تكفله وترعاه؟ ﴿وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ أي لا يقصرون في إرضاعه وتربيته قال السدي: فدلتهم على أم موسى فانطلقت إليها بأمرهم فجاءت بها، والصبي على يد فرعون يعلله شفقة عليه وهو يبكي يطلب الرضاع، فدفعه إليها فلما وجد ريح أُمه قبل ثديها، فقال فرعون: من أنت منه فقد أبى كل هديٍ إلا ثديك؟ فقالت: إني امرأة طيبة الريح، طيبة اللبن، لا أكاد أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها، فرجعت إلى بيتها من يومها ولم يبق أحدٌ من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالهدايا والجواهر فذلك قوله تعالى ﴿فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ﴾ أي أعدناه إليها تحقيقاً للوعد كي تسعد وتهنأ بلقائه ولا تحزن على فراقه ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ أي ولتتحقق من صدق وعد الله برده عليها وحفظه من شر فرعون ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي ولكن أَكثر الناس يرتابون ويشكون في وعد الله القاطع ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واستوى﴾ أي ولما بلغ كمال الرشد، ونهاية القوة، وتمام العقل والاعتدال قال مجاهد: هو سنُّ الأربعين ﴿آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ أي أعطيناه الفهم والعلم والتفقه في الدين مع النبُوَّة ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين﴾ أي مثل هذا الجزاء الكريم نجازي المحسنين على إحسانهم ﴿وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا﴾ أي دخل مصر وقت الظهيرة والناس يخلدون للراحة عند القيلولة ﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ أي فوجد شخصين يتقاتلان: أحدهما من بني إسرائيل من جماعة موسى، والآخر قبطي من جماعة فرعون ﴿فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذي مِنْ عَدُوِّهِ﴾ أي فاستنجد الإِسرائيلي بموسى وطلب غوثه ليدفع عنه شر القبطي ﴿فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ﴾ أي ضربه موسى بجمع كفه فقتله، قال القرطبي: فعل موسى ذلك وهو لا يريد قتله إنما قصد دفعه فكانت فيه نفسه وكانت القاضية ﴿قَالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان﴾ أي هذا من إغواء الشيطان فهو الذي هيَّج غضبي حتى ضربت هذا ﴿إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ﴾ أي إن الشيطان عدوٌ لابن آدم على فعله ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي﴾ أي إني ظلمت نفسي بقتل النفس فاعف عني ولا تؤاخذني بخطيئتي ﴿فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم﴾ أي إنه تعالى المبالغ في المغفرة للعباد، الواسع الرحمة لهم ﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ﴾ أي بسبب إنعامك عليَّ بالقوة وبحق ما أكرمتني به من الجاه والعز، فلن أكون عوناً لأحد من المجرمين، وهذه معاهدة عاهد
صفحة رقم 392
موسى ربه عليها وقيل: هو قسم وهو ضعيف ﴿فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ﴾ أي فأصبح موسى في المدينة التي قتل فيها القبطي خائفاً على نفسه يتوقع وينتظر المكروه، ويخاف أن يؤخذ بجريرته ﴿فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ﴾ أي فإذا صاحبه الإِسرائيلي الذي خلَّصه بالأمس يقاتل قبطياً آخر فلما رأى موسى أخذ يصيح به مستغيثاً لينصره من عدوه ﴿قَالَ لَهُ موسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ﴾ أي قال موسى للإِسرائيلي: إنك لبيَّنُ الغواية والضلال، فإني وقعت بالأمس فيما وقعت فيه من قتل رجلٍ بسببك وتريد أن توقعني اليوم في ورطةٍ أخرى؟ ﴿فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا﴾ أي فحين أراد موسى أن يبطش بذلك القبطي الذي هو عدوٌ له وللإِسرائيلي ﴿قَالَ ياموسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس﴾ أي قال القبطي: أتريد قتلي كما قتلت غيري بالأمس؟ ﴿إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض﴾ أي ما تريد يا موسى إلا أن تكون من الجبابرة المفسدين في الأرض ﴿وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين﴾ أي وما تريد أن تكون من الذين يصلحون بين الناس.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات من وجوه البيان والبديع ما يلي:
١ - الإِشارة بالبعيد عن القريب لبعد مرتبته في الكمال ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين﴾.
٢ - حكاية الحالة الماضية ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ﴾ لاستحضار تلك الصورة في الذهن.
٣ - إيثارالجملة الإِسمية على الفعلية ﴿إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين﴾ ولم يقل سنرده ونجعله رسولاً وذلك للاعتناء بالبشارة لأن الجملة الإِسمية تفيد الثبوت والإِستمرار.
٤ - الاستعارة ﴿لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا﴾ شبه ما قذف الله في قلبها من الصبر بربط الشيء المنفلت خشية الضياع واستعار لفظ الربط للصبر.
٥ - صيغة التعظيم ﴿لاَ تَقْتُلُوهُ﴾ تخاطب فرعون ولم تقل لا تقتله تعظيماً له.
٦ - صيغة المبالغة ﴿جَبَّار، غَوِيٌّ، مُّبِينٌ﴾ لأن فعال وفعيل من صيغ المبالغة.
٧ - الطباق المعنوي ﴿جَبَّاراً.. وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين﴾ لأن الجبار المفسد المخرّب، المكثر للقتل وسفك الدماء ففيه طباق في المعنى.
٨ - الاستعطاف ﴿رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ﴾.
٩ - توافق الفواصل في كثير من الآيات مثل ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون﴾ ﴿وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ وهو من المحسنات البديعية.
لطيفَة: «حكى العلاَّمة القرطبي عن الأصمعي أنه قال سمعت جارية أعرابية تنشد:
أستغفر الله لذنبي كله | قتلتُ إنساناً بغير حلِّه |
مثل الغزال ناعماً في دله | انتصف الليل ولم أُصلِّه |
إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} فقد جمع في آية واحدة بين أمرين، ونهيين، وخبرين وبشارتين».
صفحة رقم 394