من قوم صالح وقوم لوط وأجمل هنا في قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ [القصص: ٥٨] الآيات، وأيضا بسط في الجملة هناك حال من جاء بالحسنة وحال من جاء بالسيئة وأوجز سبحانه هنا حيث قال تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ [القصص: ٨٤] فلم يذكر عز وجل من حال الأولين أمنهم من الفزع ومن حال الآخرين كب وجوههم في النار إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمّل.
طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ قد مر ما يتعلق به من الكلام في أشباهه نَتْلُوا عَلَيْكَ أي نقرأ بواسطة جبرائيل عليه السلام فالإسناد مجازي كما في بنى الأمير المدينة والتلاوة في كلامهم على ما قال الراغب تختص باتباع كتب الله تعالى المنزلة تارة بالقراءة وتارة بالارتسام لما فيه من أمر ونهي وترغيب وترهيب أو ما يتوهم فيه ذلك وهو أخص من القراءة، ويجوز أن تكون التلاوة هنا مجازا مرسلا عن التنزيل بعلاقة أن التنزيل لازم لها أو سببها
في الجملة وأن تكون استعارة له لما بينهما من المشابهة فإن كلا منهما طريق للتبليغ فالمعنى ننزل عليك مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ أي من خبرهما العجيب الشأن، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لمفعول نتلو المحذوف أي نتلو شيئا كائنا من نبئهما.
والظاهر أن مِنْ تبعيضية، وجوز بعضهم كونها بيانية وكونها صلة على رأي الأخفش فنبأ مجرور، لفظا (١) مرفوع محلا مفعول نتلو ويوهم كلام بعضهم أن مِنْ هو المفعول كأنه قيل: نتلو بعض نبأ وفيه بحث، وأيا ما كان فلا تجوز في كون النبأ متلوّا لما أنه نوع من اللفظ، وقوله تعالى: بِالْحَقِّ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل نتلو أي نتلو ملتبسين بِالْحَقِّ أو مفعوله أي نتلو شيئا من نبئهما ملتبسا بالحق أو وقع صفة لمصدر نتلو أي نتلو تلاوة ملتبسة بالحق وقوله تعالى: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ متعلق بنتلو واللام للتعليل وتخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الدعوة والبيان لأنهم المنتفعون به، وقد تقدم الكلام في شمول يُؤْمِنُونَ للمؤمنين حالا واستقبالا في السورة السابقة، وقوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ استئناف جار مجرى التفسير للمجمل الموعود وتصديره بحرف التأكيد للاعتناء بتحقيق مضمون ما بعده أي إِنَّ فِرْعَوْنَ تجبر وطغى في أرض مصر وجاوز الحدود المعهودة في الظلم والعدوان وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أي فرقا يشيعونه في كل ما يريده من الشر والفساد أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته أو أصنافا في استخدامه يستعمل كل صنف في عمل من بناء وحرف وحفر وغير ذلك من الأعمال الشاقة ومن لم يعمل ضرب عليه الجزية فيخدمه بأدائها أو فرقا مختلفة قد أغرى بينهم العداوة والبغضاء لئلا تتفق كلمتهم يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ أي يجعلهم ضعفاء مقهورين والمراد بهذه الطائفة بنو إسرائيل وعدهم من أهلها للتغليب أو لأنهم كانوا فيها زمانا طويلا، والجملة إما استئناف نحوي أو بياني في جواب ماذا صنع بعد ذلك وإما حال من فاعل جعل أو من مفعوله، وإما صفة لشيعا والتعبير بالمضارع لحكاية الحال الماضية، وقوله تعالى:
يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ بدل من الجملة قبلها بدل اشتمال أو تفسير أو حال من فاعل يستضعف أو صفة لطائفة أو حال منها لتخصصها بالوصف وكان ذلك منه لما أن كاهنا قال له: يولد في بني إسرائيل مولود يذهب ملكك على يده.
وقال السدي: إنه رأى في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل فسأل علماء قومه فقالوا: يخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك مصر على يده فأخذ يفعل ما يفعل ولا يخفى أنه من الحمق بمكان إذ لو صدق الكاهن أو الرؤيا فما فائدة القتل وإلا فما وجهه، وفي الآية دليل على أن قتل الأولاد لحفظ الملك شريعة فرعونية.
وقرأ أبو حيوة وابن محيصن «يذبح» بفتح الياء وسكون الذال إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أي الراسخين في الإفساد ولذلك اجترأ على مثل تلك العظيمة من قتل من لا جنحة له من ذراري الأنبياء عليهم السلام لتخيل فاسد وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ أي نتفضل عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ على الوجه المذكور بإنجائهم من بأسه، وصيغة المضارع في نريد لحكاية الحال الماضية وأما نمن فمستقبل بالنسبة للإرادة فلا حاجة لتأويله وهو معطوف على قوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا إلخ لتناسبهما في الوقوع في حيز التفسير للنبإ وهذا هو الظاهر.
وجوز أن تكون الجملة حالا من مفعول يستضعف بتقدير مبتدأ أي يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم وقدر المبتدأ ليجوز التصدير بالواو، وجوز أن يكون حالا من الفاعل بتقدير المبتدأ أيضا وخلوها عن العائد عليه وما يقوم مقامه لا يضر لأن الجملة الحالية إذا كانت اسمية يكفي في ربطها الواو وضعف بأنه لا شبهة في استهجان ذلك مع حذف المبتدأ، وتعقب القول بصحة الحالية مطلقا بأن الأصل في الحال المقارنة والمن بعد الاستضعاف بكثير، وأجيب بأن الحال ليس المن بل إرادته وهو مقارنة وتعلقها إنما هو بوقوع المن في الاستقبال فلا يلزم من مقارنتها مقارنته على أن منّ الله تعالى عليهم بالخلاص لما كان في شرف الوقوع جاز إجراؤه مجرى الواقع المقارن للاستضعاف وإذا جعلت الحال مقدرة يرتفع القيل والقال، وجوز بعضهم عطف ذلك على نتلو ونستضعف، وقال الزمخشري: هو غير سديد، ووجه ذلك في الكشف بقوله أما الأول فلما يلزم أن يكون خارجا عن المنبأ به وهو أعظمه وأهمه، وأما الثاني فلأنه إما حال عن ضمير جعل أو عن مفعوله أو صفة لشيعا أو كلام مستأنف وعلى الأولين ظاهر الامتناع وعلى الثالث أظهر إذ لا مدخل لذلك في الجواب عن السؤال الذي يعطيه قوله تعالى: جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً والعطف يقتضي الاشتراك لكن للعطف على يستضعف مساغ على تقدير الوصف والمعنى جعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم ونريد أن نمن عليهم منهم أي على الطائفة من الشيع فأقيم المظهر مقام المضمر الراجع إلى الطائفة وحذف الراجع إلى الشيع للعلم كأنه قيل: يستضعفهم ونريد أن نقويهم كما زعم الزمخشري في الوجه الذي جعله حالا عن مفعول يستضعف والحاصل شيعا موصوفين باستضعاف طائفة وإرادة المن على تلك الطائفة منهم بدفع الضعف.
فإن قلت يدفعه أن العلم بالصفة الثانية لم يكن حاصلا بخلاف الأولى قلنا كذلك لم يكن حاصلا باستضعاف مقيد بحال الإرادة والحق أن الوجهين يضعفان لذلك وإنما أوردناه على الزمخشري لتجويزه الحال انتهى.
وأورد عليه أن للعطف عليه على تقدير كونه حالا مساغا أيضا بعين ما ذكره فلا وجه للتخصيص بالوصفية وأن عدم حصول العلم بالصفة الثانية بعد تسليم اشتراط العلم بالصفة مطلقا غير مسلم فإن سبب العلم بالأولى وهو الوحي أو خبر أهل الكتاب، يجوز أن يكون سببا للعلم بالثانية، وأيضا يجوز أن يخصص جواز حالية ونريد إلخ باحتمال الاستئناف والحالية في يستضعف دون الوصف فلا يكون مشترك الإلزام، وفيه أن احتمال الحالية من المفعول لم يذكره الزمخشري فلذا لم يلتفت صاحب الكشف إلى أن للعطف عليه مساغا وأن اشتراط العلم بالصفة مما صرح به في مواضع من الكشاف والكلام معه وأن العلم بصفة الاستضعاف لكونه مفسرا بالذبح والاستحياء وذلك معلوم بالمشاهدة وليس سبب العلم ما ذكر من الوحي أو خبر أهل الكتاب وفي هذا نظر، والإنصاف أن قوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ إلخ لا يظهر كونه بيانا لنبأ موسى عليه السلام وفرعون معا على شيء من الاحتمالات ظهوره على احتمال العطف على إن فرعون وإدخاله في حيز البيان وإلا فالظاهر من إن فرعون إلخ بدون هذا المعطوف أنه بيان لنبإ فرعون فقط فتأمل وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً مقتدى بهم في الدين والدنيا على ما في البحر، وقال مجاهد دعاة إلى الخير. وقال قتادة ولاة كقوله تعالى: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً [المائدة: ٢٠] وقال الضحاك أنبياء وأيا ما كان ففيه نسبة ما للبعض إلى الكل وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ لجميع ما كان منتظما في سلك ملك فرعون وقومه على أكمل وجه كما يومىء إليه التعريف وذلك بأن لا ينازعهم أحد فيه وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي في أرض مصر، وأصل التمكين أن يجعل الشيء مكانا يتمكن فيه (١) ثم استعير للتسليط وإطلاق الأمر وشاع في ذلك حتى صار حقيقة لغوية فالمعنى نسلطهم
على أرض مصر يتصرفون وينفذ أمرهم فيها كيفما يشاؤون، وظاهر كلام بعضهم أن المراد بالأرض ما يعم مصر والشام مع أن المعهود هو أرض مصر لا غير وكأن ذلك لما أن الشام مقر بني إسرائيل. وقرأ الأعمش ولنمكن بلام كي أي وأردنا ذلك لنمكن أو ولنمكن فعلنا ذلك.
وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما إضافة الجنود إلى ضميرهما إما للتغليب أو لأنه كان لهامان جند مخصوصون به وإن كان وزيرا أو لأن جند السلطان جند الوزير، ونري من الرؤية البصرية على ما هو المناسب للبلاغة، وجوز أن يكون من الرؤية القلبية التي هي بمعنى المعرفة، وعلى الوجهين هو ناصب لمفعولين لمكان الهمزة ففرعون وما عطف عليه مفعوله الأول، وقوله تعالى: مِنْهُمْ أي من أولئك المستضعفين متعلق به، وقوله تعالى: ما كانُوا يَحْذَرُونَ أي يتوقون من ذهاب ملكهم وهلكهم على يد مولود منهم مفعوله الثاني، والرؤية على تقدير كونها بصرية لمقدمات ذلك وعلاماته في الحقيقة لكنها جعلت له مبالغة ومثله مستفيض بينهم حتى يقال رأى موته بعينه وشاهد هلاكه وعليه قول بعض المتأخرين:
أبكاني البين حتى... رأيت غسلي بعيني
وقيل: المراد رؤية وقت ذلك، وليس بذاك، والأمر على تقدير كونها بمعنى المعرفة ظاهر. لأنهم قد عرفوا ذهاب ملكهم وهلاكهم، لما شاهدوه من ظهور أولئك المستضعفين عليهم، وطلوع طلائعه من طرق خذلانهم. وفسر بعضهم الموصول بظهور موسى عليه السلام، وهو خلاف الظاهر المؤيد بالآثار وكأن ذلك منه لخفاء وجه تعلق رؤية فرعون ومن معه بذهاب ملكهم وهلكهم عليه وقد علمت وجهه، وقرأ عبد الله وحمزة والكسائي- ويرى- بالياء مضارع رأى، وفرعون بالرفع على الفاعلية، وكذا ما عطف عليه وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى قيل هي محيانة بنت يصهر بن لاوى، وقيل يوخابذ (١) وقيل يارخا وقيل يارخت، وقيل غير ذلك. والظاهر أن الإيحاء إليها كان بإرسال ملك، ولا ينافي حكاية أبي حيان الإجماع على عدم نبوتها، لما أن الملائكة عليهم السلام قد ترسل إلى غير الأنبياء وتكلمهم، وإلى هذا ذهب قطرب وجماعة وقال مقاتل منهم: إن الملك المرسل إليها هو جبريل عليه السلام. وعن ابن عباس وقتادة أنه كان إلهاما، ولا يأباه قوله تعالى: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ نعم هو أوفق بالأول. وقال قوم: إنه كان رؤيا منام صادقة قص فيها أمره عليه السلام، وأوقع الله تعالى في قلبها اليقين. وحكي عن الجبائي أنها رأت في ذلك رؤيا، فقصتها على من تثق به من علماء بني إسرائيل فعبرها لها. وقيل كان بإخبار نبي في عصرها إياها، والظاهر أن هذا الإيحاء كان بعد الولادة، وفي الأخبار ما يشهد له، فيكون في الكلام جملة محذوفة، وكأن التقدير والله تعالى أعلم: ووضعت موسى أمه في زمن الذبح فلم تدر ما تصنع في أمره وأوحينا إليها أَنْ أَرْضِعِيهِ وقيل: كان قبل الولادة، وأن تفسيرية أو مصدرية، والمراد أن أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه. وقرأ عمر بن عبد الواحد وعمر بن عبد العزيز أن أرضعيه بكسر النون بعد حذف الهمزة على غير قياس لأن القياس فيه نقل حركتها وهي الفتحة إلى النون كما في قراءة ورش.
فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ من جواسيس فرعون ونقبائه الذين يقتلون الأبناء، أو من الجيران ونحوهم أن ينموا عليه فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ أي في البحر. والمراد به النيل، ويسمى مثله بحرا، وإن غلب في غير العذب وَلا تَخافِي عليه ضيعة أو شدة من عدم رضاعه في سن الرضاع وَلا تَحْزَنِي من مفارقتك إياه إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ عن قريب
بحيث تأمنين عليه ويومىء إلى القرب السياق، وقيل التعبير باسم الفاعل لأنه حقيقة في الحال ويعتبر لذلك في قوله سبحانه: وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ولا يضر تفاوت القربين، والجملة تعليل للنهي عن الخوف والحزن، وإيثار الجملة الاسمية وتصديرها بحرف التحقيق للاعتناء بتحقيق مضمونها أي إنا فاعلون ردّه، وجعله من المرسلين لا محالة، واستفصح الأصمعي امرأة من العرب أنشدت شعرا فقالت: أبعد قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى الآية فصاحة وقد جمع بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. والفاء في قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ فصيحة والتقدير ففعلت ما أمرت به من إرضاعه وإلقائه في اليم لما خافت عليه، وحذف ما حذف تعويلا على دلالة الحال وإيذانا بكمال سرعة الامتثال.
روي أنها لما ضربها الطلق دعت قابلة من الموكلات بحبالى بني إسرائيل فعالجتها، فلما وقع موسى عليه السلام على الأرض هالها نور بين عينيه وارتعش كل مفصل منها ودخل حبه قلبها بحيث منعها من السعاية فقالت لأمه:
احفظيه، فلما خرجت جاء عيون فرعون فلفته في خرقة وألقته في تنور مسجور لم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها، فطلبوا فلم يجدوا شيئا فخرجوا وهي لا تدري مكانه فسمعت بكاءه من التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله تعالى النار عليه بردا وسلاما فأخذته، فلما ألح فرعون في طلب الولدان واجتهد العيون في تفحصها أوحى الله تعالى إليها ما أوحى، وأرضعته ثلاثة أشهر، أو أربعة، أو ثمانية على اختلاف الروايات، فلما خافت عليه عمدت إلى بردي فصنعت منه تابوتا أي صندوقا فطلته بالقار من داخله. وعن السدي أنها دعت نجارا، فصنع لها تابوتا، وجعلت مفتاحه من داخل، ووضعت موسى عليه السلام فيه وألقته في النيل بين أحجار عند بيت فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدنه فأدخلنه إليها وظنن أن فيه مالا، فلما فتحنه رأته آسية ووقعت عليه رحمتها فأحبته، وأراد فرعون قتله فلم تزل تكلمه حتى تركه لها
. وروي عن ابن عباس وغيره أنه كان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها وكانت من أكرم الناس إليه، وكان بها برص شديد أعيا الأطباء، وكان قد ذكر له أنها لا تبرأ إلا من قبل البحر يؤخذ منه شبه الإنس يوم كذا من شهر كذا حين تشرق الشمس فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون في مجلس له على شفير النيل ومعه امرأته آسية وأقبلت بنته في جواريها حتى جلست على شاطىء النيل فإذا بتابوت تضربه الأمواج فتعلق بشجرة فقال فرعون ائتوني به فابتدروا بالسفن فأحضروه بين يديه فعالجوا فتحه فلم يقدروا عليه وقصدوا كسره فأعياهم فنظرت آسية فكشف لها عن نور في جوفه لم يره غيرها فعالجته ففتحته فإذا صبي صغير فيه وله نور بين عينيه وهو يمص إبهامه لبنا فألقى الله تعالى محبته عليه السلام في قلبها وقلوب القوم وعمدت بنت فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرأت من ساعتها.
وقيل: لما نظرت إلى وجهه برأت فقالت الغواة من قوم فرعون إنا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه رمي في البحر خوفا منك فاقتله فهمّ أن يقتله فاستوهبته آسية فتركه كما سيأتي إن شاء الله تعالى والأخبار في هذه القصة كثيرة، وقد قدمنا منها ما قدمنا، وآل فرعون أتباعه وقولهم: إن الآل لا يستعمل إلا فيما فيه شرف مبني على الغالب أو الشرف فيه أعم من الشرف الحقيقي والصوري ومعنى التقاطهم إياه عليه السلام أخذهم إياه عليه السلام أخذ اللقطة أي أخذ اعتناء به وصيانة له عن الضياع لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً فيه استعارة تهكمية ضرورة أنه لم يدعهم للالتقاط أن يكون لهم عدوا وحزنا وإنما دعاهم شيء آخر كالتبني ونفعه إياهم إذا كبر.
وفي تحقيق ذلك أقوال الأول أن يشبه كونه عدوّا وحزنا بالعلة الغائية كالتبني والنفع تشبيها مضمرا في النفس ولم يصرح بغير المشبه ويدل على ذلك بذكر ما يخص المشبه به وهو لام التعليل فيكون هناك استعارة مكنية أصلية
في المجرور واللام على حقيقتها، الثاني أن يشبه أولا ترتب غير العلة الغائية بترتب العلة الغائية أي يعتبر التشبيه بين الترتبين الكليين ليسري في جزئياتهما فيتحقق تبعا تشبيه ترتب كونه عدوا وحزنا أعني الترتب المخصوص على الالتقاط بترتب التبني ونحوه مما هو علة غائية- أعني الترتب المخصوص أيضا عليه- ثم يستعمل في المشبه اللام الموضوعة للدلالة على ترتب العلة الغائية الذي هو المشبه به فتكون الاستعارة أولا في العلية والعرضية وتبعا في اللام فصار حكم اللام حكم الأسد حيث استعيرت لما يشبه العلة كما استعير الأسد لما يشبه الأسد بيد أن الاستعارة هاهنا مكنية تبعية، الثالث ما أفاده كلام الخطيب الدمشقي في التلخيص والإيضاح وهو أن يقدر التشبيه أولا لكونه عدوا وحزنا بالعلة الغائية ثم يسري ذلك التشبيه إلى تشبيه ترتبه بترتب العلة الغائية فتستعار اللام الموضوعة لترتب العلة الغائية لترتب كونه عدوا وحزنا من غير استعارة في المجرور وهذا التشبيه كتشبيه الربيع بالقادر المختار ثم إسناد الإنبات إليه وهو مفاد كلام الكشاف، واختار ذلك العلامة عبد الحكيم، فقال: وهو الحق عندي لأن اللام لما كان معناها محتاجا إلى ذكر المجرور كان اللائق أن تكون الاستعارة والتشبيه فيها تابعا لتشبيه المجرور لا تابعا لتشبيه معنى كلي بمعنى كلي معنى الحرف من جزئياته كما ذهب إليه السكاكي وتبعه العلامة التفتازاني انتهى فتأمل.
واستشكل أصل تعليل الالتقاط بأن الالتقاط الوجدان من غير قصد والتعليل يقتضي حقيقة القصد وهو توهم لأن الوجدان من غير قصد لا ينافي قصد أخذ ما وجد لغرض وقد علمت أن المعنى هنا فأخذه أخذ اللقطة أي أخذ اعتناء به آل فرعون ليكون إلخ، والتعليل فيه إنما هو للأخذ ولا إشكال فيه.
وقال بعضهم: يحتمل تعلق اللام بمقدر أي قدرنا الالتقاط ليكون إلخ، وعليه لا تجوز في الكلام إلا عند من يقول: إن أفعال الله تعالى لا تعلل وهو أمر غير ما نحن فيه، ولا يخفى أن كلام الله سبحانه أجل وأعلى من أن يعتبر فيه مثل هذا الاحتمال، وفي جعله عليه السلام نفس الحزن ما لا يخفى من المبالغة وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وابن سعدان- حزنا- بضم الحاء وسكون الزاي، وقراءة الجمهور بفتحتين لغة قريش إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ في كل ما يأتون وما يذرون أو من شأنهم الخطأ فليس ببدع منهم ان قتلوا ألوفا لأجله ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون،
روي أنه ذبح في طلبه عليه السلام تسعون ألف وليد.
وخاطِئِينَ على هذا من الخطأ في الرأي، ويجوز أن يكون من خطىء بمعنى أذنب، وفي الأساس يقال: خطىء خطأ إذا تعمد الذنب، والمعنى وكانوا مذنبين فعاقبهم الله تعالى بأن ربي عدوهم على أيديهم، والجملة على الأول اعتراض بين المتعاطفين لتأكيد خطئهم المفهوم من قوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً فإنه كما سمعت استعارة تهكمية على الثاني، اعتراض لتأكيد ذنبهم المفهوم من حاصل الكلام، وقيل: يتعين عليه أن تكون اعتراضا لبيان الموجب لما ابتلوا به ويحتمل على هذا أن تكون استئنافا بيانيا إن أريد بما ابتلوا به كونه عدوا وحزنا وهو لا ينافي الاعتراض عندهم، وقرىء خاطين بغير همز فاحتمل أن يكون أصله الهمز وحذفت وهو الظاهر، وقيل: هو من خطا يخطو أي خاطين الصواب إلى ضده فهو مجاز.
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف الصديق عليه السلام وعلى هذا لم تكن من بني إسرائيل، وقيل: كانت منهم من سبط موسى عليه السلام، وحكى السهيلي أنها كانت عمته عليه السلام وهو قول غريب، والمشهور القول الأول. والجملة عطف على جملة فالتقطه آل فرعون أي وقالت امرأة فرعون له حين أخرجته من التابوت.
قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ أي هو قرة عين كائنة لي ولك على أن قرة خبر مبتدأ محذوف، والظرف في موضع الصفة له ويبعد كما في البحر أن يكون مبتدأ خبره جملة قوله تعالى: لا تَقْتُلُوهُ وقالت ذلك لما ألقى الله تعالى من محبته في قلبها أو لما كشف لها فرأته من النور بين عينيه أو لما شاهدته من برء بنت فرعون من البرص بريقه أو بمجرد النظر إلى وجهه، ولتفخيم شأن القرة عدلت عن لنا إلى لي ولك وكأنها لما تعلم من مزيد حب فرعون إياها وأن مصلحتها أهم عنده من مصلحة نفسه قدمت نفسها عليه فيكون ذلك أبلغ في ترغيبه بترك قتله، فلا يقال إن الأظهر في الترغيب بذلك العكس وقد يستأنس لكون مصلحتها أهم عنده من مصلحة نفسه ما أخرج النسائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها حين قالت له ذلك قال لك لا لي ولو قال لي كما هو لك لهداه الله تعالى كما هداها، وهذا أمر فرضي فلا ينافي ما ورد من أنه عليه اللعنة طبع كافرا، والخطاب في لا تقتلوه قيل: لفرعون وإسناد الفعل إليه مجازي لأنه الآمر والجمع للتعظيم، وكونه لا يوجد في كلام العرب الموثوق بهم إلا في ضمير المتكلم كفعلنا مما تفرد به الرضي وقلده فيه من قلده وهو لا أصل له رواية ودراية قال أبو علي الفارسي في فقه اللغة من سنن العرب مخاطبة الواحد بلفظ الجمع فيقال للرجل العظيم انظروا في أمري، وهكذا في سر الأدب وخصائص ابن جني وهو مجاز بليغ وفي القرآن الكريم منه ما التزام تأويله سفه، وقيل: هو لفرعون وأعوانه الحاضرين ورجح بما روي أن غواة قومه قالوا وقت إخراجه هذا هو الصبي الذي كنا نحذر منه فأذن لنا في قتله.
وقيل: هو له ولمن يخشى منه القتل وإن لم يحضر على التغليب، واختار بعضهم كونه للمأمورين بقتل الصبيان كأنها بعد أن خاطبت فرعون وأخبرته بما يستعطفه على موسى عليه السلام أمنت منه بادرة أمن جديد بقتله فالتفتت إلى خطاب المأمورين قبل فنهتهم عن قتله معللة ذلك بقوله تعالى المحكي عنها:
عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وهو أوفق باختلاف الأسلوب حيث فصلت أولا في قولها: لي ولك وأفردت ضمير خطاب فرعون ثم خاطبت وجمعت الضمير في لا تقتلوه ثم تركت التفصيل في عَسى أَنْ يَنْفَعَنا إلخ ولم تأت به على طرز قرة عين لي ولك بأن تقول: عسى أن ينفعني وينفعك مثلا فتأمل. ورجاء نفعه لما رأت فيه من مخايل البركة ودلائل النجابة:
في المهد ينطق عن سعادة جده | أثر النجابة ساطع البرهان |
وقالت فرقة: فارغا من الصبر وقال ابن زيد: فارغا من وعد الله تعالى ووحيه سبحانه إليها تناست ذلك من الهم. وقال أبو عبيدة: فارغا من الهم إذ لم يغرق وسمعت أن فرعون عطف عليه وتبناه كما يقال فلان فارغ البال وقال بعضهم:
فارغا من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد عدوه فرعون كقوله تعالى: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ [إبراهيم: ٤٣] أي خلاء لا عقول فيها واعترض على القولين بأن الكلام عليهما لا يلائم ما بعده وفيه نظر، وقرأ أحمد بن موسى عن أبي عمرو- فواد- بالواو وقرأ- مؤسى- بهمزة بدل الواو، وقرأ فضالة بن عبيد والحسن ويزيد ابن قطيب وأبو زرعة بن عمرو بن جرير- فزعا- بالزاي والعين المهملة من الفزع وهو الخوف والقلق، وابن عباس قرعا بالقاف وكسر الراء وإسكانها من قرع رأسه إذا انحسر شعره كأنه خلا من كل شيء إلا من ذكر موسى عليه السلام، وقيل: قرعا بالسكون مصدر أي قرع قرعا من القارعة وهو الهم العظيم، وقرأ بعض الصحابة فزغا (١) بفاء مكسورة وزاي ساكنة وغين معجمة ومعناه ذاهبا هدرا والمراد هالكا من شدة الهم كأنه قتيل لا قود ولا دية فيه، ومنه قول طليحة الأسدي في أخيه حبال:
فإن يك قبلي قد أصيبت نفوسهم | فلن يذهبوا فزغا بقتل حبال |
كلثوم. والتعبير عنها بأخوته دون أن يقال لبنتها للتصريح بمدار المحبة الموجبة للامتثال بالأمر قُصِّيهِ أي اتبعي أثره وتتبعي خبره، والظاهر أن هذا القول وقع منها بعد أن أصبح فؤادها فارغا فإن كانت لم تعرف مكانه إذ ذاك فظاهر وإن
كانت قد عرفته فتتبع الخبر ليعرف هل قتلوه أم لا ولينكشف ما هو عليه من الحال فَبَصُرَتْ بِهِ أي أبصرته والفاء فصيحة أي فقصت أثره فبصرت، وقرأ قتادة- فبصرت- بفتح الصاد وعيسى بكسرها عَنْ جُنُبٍ أي عن بعد، وقيل: أي عن شوق إليه حكاه أبو عمرو بن العلاء وقال هي لغة جذام يقولون جنبت إليك أي اشتقت، وقال الكرماني جنب صفة لموصوف محذوف أي عن مكان جنب أي بعيد وكأنه من الأضداد فإنه يكون بمعنى القريب أيضا كالجار الجنب، وقيل: أي عن جانب لأنها كانت تمشي على الشط، وقيل: النظر عن جنب أن تنظر إلى الشيء كأنك لا تريده.
وقرأ قتادة والحسن وزيد بن علي رضي الله تعالى عنه، والأعرج عن جنب بفتح الجيم وسكون النون وعن قتادة أنه قرأ بفتحهما أيضا، وعن الحسن أنه قرىء بضم الجيم وإسكان النون، وقرأ النعمان بن سالم- عن جانب- والكل على ما قيل: بمعنى واحد، وفي البحر الجنب والجانب والجنابة والجناب بمعنى وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنها تقصه وتتعرف حاله أو أنها أخته وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ أي منعناه ذلك فالتحريم مجاز عن المنع فإن من حرم عليه شيء فقد منعه ولا يصح إرادة التحريم الشرعي لأن الصبي ليس من أهل التكليف ولا دليل على الخصوصية، والمراضع جمع مرضع بضم الميم وكسر الضاد وهي المرأة التي ترضع، وترك التاء إما لاختصاصه بالنساء أو لأنه بمعنى شخص مرضع أو جمع مرضع بفتح الميم على أنه مصدر ميمي بمعنى الرضاع وجمع لتعدد مراته أو اسم مكان أي موضع الرضاع وهو الثدي مِنْ قَبْلُ أي من قبل قصها أو إبصارها أو وروده على من هو عنده، أو من قبل ذلك أي من أول أمره وظاهر صنيع أبي حيان اختياره فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ أي هل تريدون أن أدلكم عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ أي يضمنونه ويقومون بتربيته لأجلكم، والفاء فصيحة أي فدخلت عليهم فقالت، وقولها: على أهل بيت دون امرأة إشارة إلى أن المراد امرأة من أهل الشرف تليق بخدمة الملوك وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ لا يقصرون في خدمته وتربيته، وروي أن هامان لما سمع هذا منها قال إنها لتعرفه وأهله فخذوها حتى تخبر بحاله فقالت إنما أردت وهم للملك ناصحون فخلصت بذلك من الشر الذي يجوز لمثله الكذب وأحسنت وليس ببدع لأنها من بيت النبوة فحقيق بها ذلك، واحتمال الضمير لأمرين مما لا تختص به اللغة العربية بل يكون في جميع اللغات على أن الفراعنة من بقايا العمالقة وكانوا يتكلمون بالعربية فلعلها كلمت بلسانهم ويسمى هذا الأسلوب من الكلام الموجه.
فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ الفاء فصيحة أي فقبلوا ذلك منها ودلتهم على أمه وكلموها في إرضاعه فقبلت فرددناه إليها أو يقدر نحو ذلك،
وروي أن أخته لما قالت ما قالت أمرها فرعون بأن تأتي بمن يكفله فأتت بأمه وموسى عليه السلام على يد فرعون يبكي وهو يعلله فدفعه إليها فلما وجد ريحها استأنس والتقم ثديها فقال: من أنت منه؟ فقد أبى كل ثدي إلا ثديك فقالت إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني فقرره في يدها فرجعت به إلى بيتها من يومها وأمر أن يجرى عليها النفقة وليس أخذها ذلك من أخذ الأجرة على إرضاعها إياه
ولو سلّم فلا نسلم أنه كان حراما فيما تدين وكانت النفقة على ما في البحر دينارا في كل يوم كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بوصول ولدها إليها وَلا تَحْزَنَ لفراقه وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ أي جميع ما وعده سبحانه من رده وجعله من المرسلين حَقٌّ لا خلف فيه بمشاهدة بعضه وقياس بعضه عليه وإلا فعلمها بحقية ذلك بالوحي حاصل قبل.
واستدل أبو حيان بالآية على ضعف قول من ذهب إلى أن الإيحاء كان إلهاما أو مناما لأن ذلك يبعد أن يقال فيه وعد، وفيه نظر وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي لا يعرفون وعده تعالى ولا حقيته أو لا يجزمون بما وعدهم جل وعلا لتجويزهم تخلفه وهو سبحانه لا يخلف الميعاد، وقيل: لا يعلمون أن الغرض الأصلي من الرد عليها علمها بذلك وما
سواه من قرة عينها وذهاب حزنها تبع، وفيه أن الذي يفيده الكلام إنما هو كون كل من قرة العين والعلم كالغرض أو غرضا مستقلا، وأما تبعية غير العلم له لا سيما مع تقدم الغير فلا، وكون المفيد لذلك حذف حرف العلة من الأول لا يخفى حاله، وفي قوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ [البقرة: ٢٤٣، وغيرها] إلخ قيل: تعريض بما فرط من أمه حين سمعت بوقوعه في يد فرعون من الخوف والحيرة وأنت تعلم أن ما عراها كان من مقتضيات الجبلة البشرية وهو يجامع العلم بعدم وقوع ما يخاف منه، ونفي العلم في مثل ذلك إنما يكون بضرب من التأويل كما لا يخفى. ثم إن الاستدراك على ما اختاره مما وقع بعد العلم، وجوز أن يكون من نفس العلم وذلك إذا كان المعنى لا يعلمون أن الغرض الأصلي من الرد عليها علمها بحقية وعد الله تعالى فتأمل.
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي المبلغ الذي لا يزيد عليه نشوءه، وقوله تعالى: وَاسْتَوى أي كمل وتم تأكيد وتفسير لما قبله كذا قيل: واختلف في زمان بلوغ الأشد والاستواء فأخرج ابن أبي الدنيا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال الأشد ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين والاستواء ما بين الثلاثين إلى الأربعين فإذا زاد على الأربعين أخذ في النقصان، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال: الأشد ثلاث وثلاثون سنة والاستواء أربعون سنة، وهي رواية عن ابن عباس أيضا وروي نحوه عن قتادة وقال الزجاج مرة بلوغ الأشد من نحو سبع عشرة سنة إلى الأربعين وأخرى هو ما بين الثلاثين إلى الأربعين واختاره بعضهم هنا وعلل بأن ذلك لموافقته لقوله تعالى: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف: ١٥] لأنه يشعر بأنه منته إلى الأربعين وهي سن الوقوف فينبغي أن يكون مبدؤه مبدأه ولا يخلو عن شيء والحق أن بلوغ الأشد في الأصل هو الانتهاء إلى حد القوة وذلك وقت انتهاء النمو وغايته وهذا مما يختلف باختلاف الأقاليم والإعصار والأحوال ولذا وقع له تفاسير في كتب اللغة والتفسير، ولعل الأولى على ما قيل: أن يقال إن بلوغ الأشد عبارة عن بلوغ القدر الذي يتقوى فيه بدنه وقواه الجسمانية وينتهي فيه نموه المعتد به والاستواء اعتدال عقله وكماله ولا ينبغي تعيين وقت لذلك في حق موسى عليه السلام إلا بخبر يعول عليه لما سمعت من أن ذاك مما يختلف باختلاف الأقاليم والإعصار والأحوال نعم اشتهر أن ذلك في الأغلب يكون في سن أربعين وعليه قول الشاعر:
إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن | له دون ما يهوى حياء ولا ستر |
فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى | وإن جر أسباب الحياة له العمر |
الترتيب، وكون ما فعل بموسى وأمه عليهما السلام جزاء على العمل باعتبار التغليب. وقد يقال: إن أصل النبوة وإن لم تكن جزاء على العمل إلا أن بعض مراتبها، وهو ما فيه مزيد قرب من الله تعالى يكون باعتبار مزيد القرب جزاء عليه ويرجع ذلك إلى أن مزيد القرب هو الجزاء وتفاوت الأنبياء عليهم السلام في القرب منه تعالى مما لا ينبغي أن يشك فيه، ورجح ما تقدم بكونه أوفق بقوله تعالى: وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ واستلزامه حصول النبوة لكل محسن ليس بشيء أصلا، ومن ذهب إلى أن هذا الإيتاء كان قبل الهجرة قال: يجوز أن يكون المعنى آتيناه رياسة بين قومه بني إسرائيل بأن جعلناه ممتازا فيما بينهم، يرجعون إليه في مهامهم، ويمتثلونه إذا أمرهم بشيء أو نهاهم عنه، وعلما ينتفع به وينفع به غيره، وذلك إما بمحض الإلهام، أو بتوفيقه لاستنباط دقائق وأسرار مما نقل إليه من كلمات آبائه الأنبياء عليهم السلام من بني إسرائيل ولا بدع في أن يكون عليه السلام عالما بما كان عليه آباؤه الأنبياء منهم وبما كانوا يتدينون به من الشرائع بواسطة الإلهام أو بسماع ما يفيده العلم من الأخبار، ولعل هذا أولى مما نقله في الكشاف. وفي الكلام على أواخر سورة البقرة ما تنفعك مراجعته فليراجع.
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ قال ابن عباس على ما في البحر: هي منف عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها أي في وقت لا يعتاد دخولها، أو لا يتوقعونه فيه، وكان على ما روي عن الحبر وقت القائلة، وفي رواية أخرى عنه بين العشاء والعتمة وذلك أن فرعون ركب يوما وسار إلى تلك المدينة فعلم موسى عليه السلام بركوبه فلحق ودخل المدينة في ذلك الوقت. وقال ابن إسحاق: هي مصر، كان موسى عليه السلام قد بدت منه مجاهرة لفرعون وقومه بما يكرهون، فاختفى وغاب، فدخلها متنكرا. وقال ابن زيد: كان فرعون قد أخرجه منها فغاب سنين فنسي فجاء ودخلها وأهلها في غفلة بنسيانهم له، وبعد عهدهم به. وقيل: دخل في يوم عيد وهم مشغولون بلهوهم. وقيل: خرج من قصر فرعون ودخل مصر وقت القيلولة أو بين العشاءين، وقيل: المدينة عين شمس، وقيل: قرية على فرسخين من مصر يقال لها: حابين.
وقيل: هي الإسكندرية، والأشهر أنها مصر، ولعله هو الأظهر والمتبادر أن- على حين- متعلق بدخل، وعليه فالظاهر أن على بمعنى في مثلها في قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [البقرة: ١٠٢] على قول.
وقال أبو البقاء: هو في موضع الحال من المدينة، ويجوز أن يكون في موضع الحال من الفاعل أي مختلسا اهـ ولعل الذي دعاه إلى العدول عن المتبادر احتياجه إلى جعل على بمعنى في وخفاء نكتة التعبير بها دونها أو الاكتفاء بالظرف وحده عليه والأمر ظاهر لمن له أدنى تأمل وقيل: إن الداعي إلى ذلك أن دخول المدينة في حين غفلة من أهلها ليس نصا في دخولها غافلا أهلها كما في وجه الحالية من المدينة ولا في دخولها مختلسا كما في وجه الحالية من الضمير فإن وقت الغفلة كوقت القائلة وما بين العشاءين قد لا يغفل فيه وفيه بحث.
ومِنْ أَهْلِها في موضع الصفة لغفلة وما في النظم الكريم أبلغ من غفلة أهلها بالإضافة لما في التنوين من إفادة التفخيم، ولعله عدل عن ذلك إلى ما ذكر لهذا فتدبر، وقرأ أبو طالب القارئ- على حين- بفتح النون ووجه بأنه فتح لمجاورة الغين كما كسر في بعض القراءات الدال في الحمد لله لمجاورة اللام أو بأنه أجرى المصدر مجرى الفعل كأنه قيل: على حين غفل أهلها فبنى حين كما يبني إذا أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض نحو قوله:
على حين عاتبت المشيب على الصبا وهو كما ترى فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ أي يتحاربان والجملة صفة لرجلين. وقال ابن عطية: في موضع الحال وهو مبني على مذهب سيبويه من جواز مجيء الحال من النكرة من غير شرط، وقرأ نعيم بن ميسرة يقتلان
بإدغام التاء في التاء ونقل فتحتها إلى القاف، وقوله تعالى: هذا مِنْ شِيعَتِهِ أي ممن شايعه وتابعه في أمره ونهيه أو في الدين على ما قاله جماعة وهم بنو إسرائيل قال في الإتقان: هو السامري وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ من مخالفيه فيما يريد أو في الدين على ما قاله الجماعة وهم القبط واسمه كما في الإتقان أيضا قانون صفة بعد صفة لرجلين والإشارة بهذا واقعة على طريق الحكاية لما وقع وقت الوجدان كأن الرائي لهما يقوله لا في المحكي لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم.
وقال المبرد: العرب تشير بهذا إلى الغائب قال جرير:
هذا ابن عمي في دمشق خليفة | لو شئت ساقكم إليّ قطينا |
وقال أبو حيان: الوكز الضرب باليد مجموعة أصابعها كعقد ثلاثة وسبعين وعلى القولين يكون عليه السلام قد ضربه باليد وأخرج ابن المنذر وجماعة عن قتادة أنه عليه السلام ضربه بعصاه فكأنه يفسر الوكز بالدفع أو الطعن وذلك من جملة معانيه كما في القاموس ولعله أراد بعصاه عصا كانت له فإن عصاه المشهورة أعطاه إياها شعيب عليه السلام بعد هذه الحادثة كما هو مشهور، وفي كتب التفاسير مسطور.
وقرأ عبد الله فلكزه باللام وعنه فنكزه بالنون واللكز على ما في القاموس الوكز والوجء في الصدر والحنك والنكز على ما فيه أيضا الضرب والدفع، وقيل: الوكز والنكز واللكز الدفع بأطراف الأصابع، وقيل: الوكز على القلب واللكز على اللحى. روي أنه لما اشتد التناكر قال القبطي لموسى عليه السلام: لقد هممت أنه أحمله يعني الحطب عليك فاشتد غضب موسى عليه السلام، وكان قد أوتي قوة فوكزه فَقَضى عَلَيْهِ أي فقتله موسى وأصله أنهى حياته أي جعلها منتهية متقضية وهو بهذا المعنى يتعدى بعلى كما في الأساس فلا حاجة إلى تأويله بأوقع القضاء عليه، وقد يتعدى الفعل بإلى لتضمينه معنى الإيحاء كما في قوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ [الحجر: ٦٦] وعود ضمير الفاعل في قضى على موسى هو الظاهر، وقيل: هو عائد على الله تعالى أي فقضى الله سبحانه عليه بالموت فقضى بمعنى حكم، وقيل: يحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من وكزه أي فقضى الوكز عليه أي أنهى حياته قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي من تزيينه.
وقيل: من جنس عمله والأول أوفق بقوله تعالى: إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة على أن مبين صفة ثانية لعدو، وقيل: ظاهر العداوة والإضلال، ووجه بأنه صفة لعدو الملاحظ معه وصف الإضلال أو بأنه متنازع فيه لعدو صفحة رقم 263
ومضل كل يطلبه صفة له وأيا ما كان فمبين من أبان اللازم قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بوكز ترتب عليه القتل فَاغْفِرْ لِي ذنبي وإنما قال عليه السلام ما قال لأنه فعل ما لم يؤذن له به وليس من سنن آبائه الأنبياء عليهم السلام في مثل هذه الحادثة التي شاهدها وقد أفضى إلى قتل نفس لم يشرع في شريعة من الشرائع قتلها، ولا يشكل ذلك على القول بأن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الكبائر بعد النبوة وقبلها لأن أصل الوكز من الصغائر، وما وقع من القتل كان خطأ كما قاله كعب وغيره، والخطأ وإن كان لا يخلو عن الإثم، ولذا شرعت فيه الكفارة إلا أنه صغيرة أيضا بل قيل: لا يشكل أيضا على القول بعصمتهم عن الكبائر والصغائر مطلقا لجواز أن يكون عليه السلام قد رأى أن في الوكز دفع ظالم عن مظلوم ففعله غير قاصد به القتل، وإنما وقع مترتبا عليه لا عن قصد وكون الخطأ لا يخلو عن إثم في شرائع الأنبياء المتقدمين عليهم السلام كما في شريعة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم غير معلوم وكذا مشروعية الكفارة فيه وكأنه عليه السلام بعد أن وقع منه ما وقع تأمل فظهر له إمكان الدفع بغير الوكز وأنه لم يتثبت في رأيه لما اعتراه من الغضب فعلم أنه فعل خلاف الأولى بالنسبة إلى أمثاله فقال ما قال على عادة المقربين في استعظامهم خلاف الأولى، ثم إن هذا الفعل وقع منه عليه السلام قبل النبوة كما هو ظاهر قوله تعالى حكاية عنه في سورة الشعراء:
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: ٢١] وبذلك قال النقاش وغيره وروي عن كعب أنه عليه السلام كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة ومن فسر الاستواء ببلوغ أربعين سنة وجعل ما ذكر بعد بلوغ الأشد والاستواء وإيتاء الحكم والعلم بالمعنى الذي لا يقتضي النبوة يلزمه أن يقول كان عليه السلام إذ ذاك ابن أربعين سنة أو ما فوقها بقليل.
وزعم بعضهم أنه عليه السلام أراد بقوله: ظَلَمْتُ نَفْسِي إني عرضتها للتلف بقتل هذا الكافر إذ لو عرف فرعون ذلك لقتلني به وأراد بقوله: فَاغْفِرْ لِي فاستر عليّ ذلك، وجعله من عمل الشيطان لما فيه من الوقوع في الوسوسة وترقب المحذور، ولا يخفى ما فيه، ويأبى عنه قوله تعالى:
فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وترتيب غفر على ما قبله بالفاء يشعر بأن المراد غفر له لاستغفاره وجملة إِنَّهُ إلخ كالتعليل للعلية أي إنه تعالى هو المبالغ في مغفرة ذنوب عباده ورحمتهم، ولذا كان استغفاره سببا للمغفرة له وتوسيط قال بين كلاميه عليه السلام لما بينهما من المخالفة من حيث إن الثاني مناجاة ودعاء بخلاف الأول، وأما توسيط قال في قوله تعالى: قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فوجهه ظاهر، والباء في بما للقسم، وما مصدرية وجواب القسم محذوف أي أقسم بإنعامك عليّ لأمتنعن عن مثل هذا الفعل.
وقيل: لأتوبن، وقوله تعالى: فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ عطف على الجواب، ولعل المراد بإنعامه تعالى عليه حفظه إياه من شر فرعون ورده إلى أمه وتمييزه على سائر بني إسرائيل ونحو ذلك.
وقيل المراد به مغفرته له وهو غير بعيد، ومعرفته عليه السلام أنه سبحانه غفر له إذا كان هذا القول قبل النبوة بإلهام أو رؤيا، والظهير المعين، والمجرمين جمع مجرم والمراد به من أوقع غيره في الجرم أو من أدت معاونته إلى جرم كالإسرائيلي الذي خاصمه القبطي فأدت معاونته إلى جرم في نظر موسى عليه السلام فيكون في المجرمين مجاز في النسبة للإسناد إلى السبب، وجوز أن يراد بذلك الكفار وعنى بهم من استغاثه ونحوه بناء على أنه لم يكن أسلم، وقيل:
أراد بالمجرمين فرعون وقومه، والمعنى أقسم بإنعامك عليّ لأتوبن فلن أكون معينا للكفار بأن أصحبهم وأكثر سوادهم، وقد كان عليه السلام يصحب فرعون ويركب بركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى ابن فرعون ولا يخفى أن ما تقدم
أنسب بالمقام، وجوز أن تكون الباء للقسم الاستعطافي على أنها متعلقة بفعل دعاء محذوف، وجملة فلن أكون إلخ متفرعة عليه، والفاء واقعة في جواب الدعاء أو الشرط المقدر أي بحق إنعامك عليّ اعصمني فلم أكون إلخ أو إن عصمتني فلن أكون إلخ والقسم الاستعطافي ما أكد به جملة طلبية نحو قولك بالله تعالى زرني وغير الاستعطافي ما أكد به جملة خبرية نحو والله تعالى لأقومن، وإلى هذا ذهب ابن الحاجب، وقيل: القسم الاستعطافي ما كان المقسم به مشعرا بعطف وحنو نحو بكرمك الشامل أنعم عليّ وهو صادق على ما هنا، وغير الاستعطافي ما كان المقسم به أعم من ذلك، وعلى القولين هما قسمان من مطلق القسم، وظاهر كلام الزمخشري أن المتبادر من القسم ما يؤكد به الكلام الخبري وينعقد منه يمين فما يكون المراد به الاستعطاف قسيم له وجعل بعضهم إطلاق القسم على الاستعطافي تجوزا، ويبعد إرادة الاستعطاف هنا ما
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن موسى عليه السلام لم يستثن أي لم يقل إن شاء الله تعالى فابتلى به
أي بالكون ظهيرا للمجرمين مرة أخرى وهو ما في قوله تعالى: فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ إلخ لأن الاستثناء لا يناسب الاستعطاف لكون النفي معلقا بعصمة الله عز وجل، وجوز أن تكون الباء سببية متعلقة بفعل مقدر يعطف عليه لن أكون إلخ وما موصولة، والمعنى بسبب الذي أنعمته عليّ من القوة أشكرك فلن أستعملها إلا في مظاهرة أوليائك ولا أدع قبطيا يغلب إسرائيليا وهو إلزام لنفسه بنصرة أوليائه عز وجل كالنذر وليس هناك قسم بوجه خلافا لمن توهم ذلك ولا يخفى أن هذا وإن لم يبعده الأثر لا يخلو عن بعد نظر إلى السباق، و (لن) على جميع الأوجه المذكورة للنفي وفي البحر قيل: إنها للدعاء (١) وحكى ابن هشام رده بأن فعل الدعاء لا يسند إلى المتكلم بل إلى المخاطب أو الغائب نحو يا رب لاعذبت فلانا، ويجوز لا عذب الله تعالى عمرا ثم قال ويرده قوله:
ثم لا زلت لكم خالدا خلود الجبال، ولا يخفى عليك أن كونها للدعاء على الوجه الأخير في الآية غير ظاهر وعلى الوجه الأول لا يخلو عن خفاء فلعل من جعلها للدعاء حمل بما أنعمت عليّ على الاستعطاف وعلق الجار والمجرور بنحو اعصمني وجعل الفاء تفسيرية ولن أكون إلخ تفسيرا لذلك المحذوف كما قيل: في قوله تعالى:
فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا [الأنبياء: ٨٤] فليتدبر، واحتج أهل العلم بهذه الآية على المنع من معونة الظلمة وخدمتهم.
أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبيد الله بن الوليد الرصافي أنه سأل عطاء بن أبي رباح عن أخ له كاتب فقال له: إن أخي ليس له من أمور السلطان شيء إلا أنه يكتب له بقلم ما يدخل وما يخرج فإن ترك قلمه صار عليه دين واحتاج وإن أخذ به كان له فيه غنى قال: لمن يكتب؟ قال: لخالد بن عبد الله القسري قال: ألم تسمع إلى ما قال العبد الصالح رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ فلا يهتم أخوك بشيء وليرم بقلمه فإن الله تعالى سيأتيه برزق، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حنظلة جابر بن حنظلة الضبي الكاتب قال: قال رجل لعامر يا أبا عمرو إني رجل كاتب أكتب ما يدخل وما يخرج آخذ رزقا أستغني به أنا وعيالي قال: فلعلك تكتب في دم يسفك قال: لا. قال: فلعلك تكتب في مال يؤخذ قال: لا. قال: فلعلك تكتب في دار تهدم قال: لا. قال: أسمعت بما قال موسى عليه السلام رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ قال: أبلغت إليّ يا أبا عمرو والله عز وجل لا أخط لهم بقلم أبدا قال والله تعالى لا يدعك الله سبحانه بغير رزق أبدا. وقد كان السلف يجتنبون كل الاجتناب عن خدمتهم، أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سلمة بن نبيط قال بعث عبد الرحمن بن مسلم إلى الضحاك فقال: