آيات من القرآن الكريم

فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ

أن يري فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يخافون من تدمير ملكهم على يد مولود من بني إسرائيل، فلم يفده قتل الألوف من الأولاد الأبرياء، وتحقق مراد الله تعالى، فهو النافذ الحكم والسلطان على الإطلاق.
- ٢- إلقاء موسى في اليم بعد ولادته وإرضاعه والبشارة بنبوته
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧ الى ١٤]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِأَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١)
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤)

صفحة رقم 60

الإعراب:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ.. اللام في لِيَكُونَ يسميها البصريون لام العاقبة، أي كان عاقبة التقاطهم العداوة والحزن، وإن لم يكن التقاطهم له لهما. ويسميها الكوفيون لام الصيرورة، أي صار لهم عدوا وحزنا، وإن التقطوه لغيرهما.
قُرَّتُ عَيْنٍ.. إما خبر مبتدأ محذوف، أي هو قرة عين، وإما مبتدأ، وخبره:
لا تَقْتُلُوهُ.
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ الجملة حال من الملتقطين.
إِنْ كادَتْ مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف أي إنها.
بَلَغَ أَشُدَّهُ إما جمع شدّة كنعمة وأنعم، وإما جمع شدّ، نحو قدّ وأقدّ، وإما واحد مفرد، وليس في الأسماء المفردة ما هو على وزن أفعل إلا «أصبغ» و «آجر» و «أيمن» وآنك: وهو الرصاص المذاب الخالص.
البلاغة:
إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ عبر بالجملة الاسمية عن الفعلية: سنرده ونجعله، للاعتناء بالبشارة لأن الجملة الاسمية تفيد الثبوت والاستمرار.
أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها استعارة، شبه ما ألقى في قلبها من الصبر بربط الشيء خشية ضياعه، مستعيرا لفظ الربط للصبر.
لا تَقْتُلُوهُ خاطبت امرأة فرعون زوجها بصيغة الجمع بدل صيغة المفرد «لا تقتله» للتعظيم.
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ توافق الفواصل من المحسنات البديعية.
المفردات اللغوية:
وَأَوْحَيْنا وحي إلهام، مثل وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل ١٦/ ٦٨] أو وحي منام. أَنْ أَرْضِعِيهِ ما أمكنك إخفاؤه. فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ بأن يحسّ به أحد. الْيَمِّ البحر أي النيل. وَلا تَخافِي غرقه. وَلا تَحْزَنِي لفراقه، والخوف: غم لتوقع مكروه في المستقبل، والحزن: غم يحدث بسبب مكروه حصل. إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ عن قريب بحيث تأمنين

صفحة رقم 61

عليه. وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ بشارة بالرسالة والنبوة. فأرضعته ثلاثة أشهر، ولما ألح فرعون في طلب المواليد وأرسل الجواسيس للبحث، وضعته في تابوت مطلي بالقار من الداخل، وألقته في بحر النيل ليلا. فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ الالتقاط: أخذ الشيء فجأة من غير طلب له ولا إرادة. أي التقط أعوان فرعون التابوت صبيحة الليل، ووضعوه بين يديه، ففتحه وأخرج موسى منه.
لِيَكُونَ لَهُمْ في عاقبة الأمر. عَدُوًّا ينقض لهم جذور تدينهم. وَحَزَناً يزيل ملكهم، وحزن: اسم فاعل من حزن كأحزن، وقرئ «حزنا».
وَهامانَ وزير فرعون. خاطِئِينَ آثمين عاصين، من الخطيئة وهي هنا الشرك، مأخوذ من خطئ: تعمد الخطأ. أما أخطأ: فمعناه لم يصب، بغير تعمد. وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ وقد همّ مع أعوانه بقتله. قُرَّتُ عَيْنٍ أي هو قرة عين، أي مصدر فرح وسرور، يقال: قرّت به العين، أي فرحت وسرّت. لا تَقْتُلُوهُ خطاب بلفظ الجمع للتعظيم. عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فإن فيه مخايل اليمن ودلائل النفع. أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أو نتبناه، فإنه أهل له. هُمْ لا يَشْعُرُونَ أي والحال أنهم لا يشعرون بعاقبة أمرهم معه، وأنهم مخطئون في التقاطه وفي طمع النفع منه.
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً أي خاليا من العقل، لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد فرعون عدو بني إسرائيل، مثل قوله تعالى: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ [إبراهيم ١٤/ ٤٣] أي لا عقول فيها. إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أي لتظهر بأنه ابنها. أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها بالصبر، أي سكّناه وثبتناه. لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدقين بوعد الله.
وجوابدل عليه ما قبله.
قُصِّيهِ اقتفي أثره وتتبعي خبره حتى تعلمي مصيره. فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أي أبصرته عن بعد اختلاسا. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ لا يدرون أنها أخته وأنها ترقبه. وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ قبل رده إلى أمه، أي منعناه أن يرتضع من المرضعات، فلم يقبل ثدي واحدة من المراضع المحضرة له. فَقالَتْ أخته. هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ أي يتكفلون أو يضمنون إرضاعه والقيام بشؤونه لأجلكم. وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ لا يقصرون في إرضاعه وتربيته.
كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بلقائه. وَلا تَحْزَنَ حينئذ بفراقه. وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ لتعلم علم مشاهدة أن وعد الله برده إليها صدق. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي ولكن أكثر الناس لا يعلمون بهذا الوعد، ولا بأن هذه أخته وهذه أمه، فمكث عندها إلى أن فطمته، ثم تربى عند فرعون.
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ غاية نموه، وهو مفرد جاء على وزن الجمع، وبلوغ الأشد: من ثلاثين إلى أربعين سنة، فإن العقل يكمل حينئذ. وَاسْتَوى اكتملت أو نضجت قواه الجسدية والعقلية

صفحة رقم 62

ببلوغ أربعين سنة. آتَيْناهُ حُكْماً حكمة أي معرفة أسرار الشريعة. وَعِلْماً فقها في الدين.
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي كما جزيناه نجزي المحسنين لأنفسهم.
التفسير والبيان:
بعد بيان منة الله على بني إسرائيل بإنقاذهم من بأس فرعون في قوله تعالى:
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ابتدأ تعالى بذكر أوائل نعمه عليهم فقال: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ أي وألهمنا أم موسى إرضاعه ما أمكنها إخفاؤه عن العدو، فأرضعته ثلاثة أو أربعة أشهر كما يقال.
فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ، فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي أي فإذا خفت عليه من القتل بسبب سماع أحد من الجيران صوته، فألقيه في بحر النيل، ولكن لا تخافي عليه حينئذ من الغرق ومن الضياع ومن الوقوع في يد بعض جواسيس فرعون الذين يبحثون عن الولدان، وغير ذلك من المخاوف، ولا تحزني لفراقه.
وهكذا طمأنها الحق تعالى عن مخاوفها وهواجسها الجديدة بعد إلقائه في البحر، بإلقاء الأمان والسكينة في قلبها لأن عناية الله ورعايته تحوط بأنبيائه ورسله منذ بدء الحمل وفي عهد الطفولة.
وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل، فاتخذت تابوتا، ومهدت فيه مهدا، فلما كان ذات يوم دخل عليها من تخافه، فذهبت فوضعته في ذلك التابوت، وألقته في النيل، فذهب مع الماء واحتمله على سطحه، حتى مرّ به على دار فرعون، فالتقطه الجواري وذهبن به إلى امرأة فرعون آسية بنت مزاحم، فلما كشفت عنه، أوقع الله محبته في قلبها، فآثرت الإبقاء عليه، ولم تزل تكلم فرعون حتى تركه لها.
إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ أي إنا سنرده عليك لتكوني أنت المرضعة له، وسنجعله نبيا مرسلا إلى أهل مصر والشام.

صفحة رقم 63

وقد جمعت هذه الآية الواحدة بين أمرين ونهيين، وخبرين وبشارتين والأمران: هما أرضعيه وألقيه، والنهيان: هما وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي، والخبران: هما إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ، والبشارتان: في ضمن الخبرين، وهما الرد والجعل من المرسلين.
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً أي فأخذه أهل فرعون، لتكون عاقبة أمره أن يكون عدوا لهم بمجاهدته بمخالفة دينهم، وموقعا لهم في الحزن بإغراقهم وزوال ملكهم.
ولام لِيَكُونَ لام العاقبة، وليست لام التعليل لأنهم لم يريدوا قطعا بالتقاطه ذلك، ولكن الله جعل دمارهم بما صنعت أيديهم، فالتقطوه وربوه، ليكون في نهاية أمره سببا لمأساتهم وتحقق ما توقعوه من زوال ملكهم. قال الرازي: واعلم أن التحقيق ما ذكره صاحب الكشاف وهو أن هذه اللام هي لام التعليل، على سبيل المجاز دون الحقيقة لأن مقصود الشيء وغرضه يؤول إليه أمره، فاستعملوا هذه اللام فيما يؤول إليه الشيء على سبيل التشبيه، فإن اتخاذه عدوا لم يكن سبب التقاطهم له، ولكن شبهت المحبة والتبني بالسبب الذي يؤدي إلى الفعل، ويفعل الفعل لأجله، كاستعارة الأسد للرجل الشجاع.
وسبب ذلك على يد موسى عليه السلام هو ما قاله تعالى:
إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ أي إن هؤلاء كانوا مذنبين مجرمين، فعاقبهم الله بأن ربّى عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم، فهو من الخطيئة أي الإثم، ويصح أن يكون من الخطأ فإنهم كانوا مخطئين في كل شيء، فليس خطؤهم في تربية عدوهم ببدع منهم. قال الحسن البصري: معنى كانُوا خاطِئِينَ ليس من الخطيئة، بل المعنى: وهم لا يشعرون أنه الذي يذهب بملكهم.

صفحة رقم 64

أما جمهور المفسرين فقالوا: معناه كانوا خاطئين فيما كانوا عليه من الكفر والظلم، فعاقبهم الله تعالى بأن ربي عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم، كما ذكرنا.
وأما سبب عدم قتله فهو تشفع امرأة فرعون له، فقال تعالى:
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، لا تَقْتُلُوهُ أي قالت زوجة فرعون له: هو قرة عين لنا أي يكون لنا سلوى، وتقرّ به عيوننا، وتفرح به نفوسنا، فلا تقتلوه، لأن الله تعالى ألقى عليه المحبة، فكان يحبه كل من شاهده عليه السلام، كما قال سبحانه: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ، فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ، وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه ٢٠/ ٣٨- ٣٩].
وكما هو مصدر سرور وسكن وسلوى قد يكون نافعا:
عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي لعله يكون سببا للنفع والخير، لما رأيت فيه من مخايل اليمن وأمارات النجابة، أو نتخذه ولدا ونتبناه، لما يتمتع به من الوسامة والجمال، ولم يكن لها ولد من فرعون، فحقق الله أملها بأن هداها به وأسكنها الجنة بسببه، ولكن لا يشعر فرعون وقومه أن هلاكهم بسببه وعلى يده، وأنه سيظهر على يديه من الحكمة والحجة ومعجزة النبوة ما سيكون سببا في تكذيبهم له، مما يؤدي إلى هلاكهم، فالله تعالى وحده عالم الغيب والشهادة، ينصر رسله، ويؤيد دينه، ويخذل أعداءه، ليكون ذلك عبرة وعظة للمؤمن والكافر.
وإذا كان الفرح غمر قلب آسية امرأة فرعون، فإن الوساوس والهواجس ألمت بقلب أمه، فقال تعالى:

صفحة رقم 65

وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً، إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ، أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها، لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي أصبح فؤاد أم موسى حين ذهب ولدها في البحر فارغا من كل شيء من شواغل الدنيا إلا من موسى، كما أنه طار عقلها، وسيطر عليها الخوف والفزع، حين سمعت بوقوعه في يد فرعون، وكادت من شدة حزنها وأسفها أن تظهر أنه ذهب لها ولد، وتخبر بحالها أنها أمه، لولا أن الله ثبّتها وصبّرها، لتكون من المصدقين الواثقين بوعد الله برده إليها: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.
والخلاصة: لولا تثبيت الله قلبها وتصبيره إياها لكشفت أمرها، وباحت بسرها، وأظهرت أنه ابنها، بحكم العاطفة والشفقة، فألهمها الله أن تتعرف خبره بأخته:
وَقالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّيهِ، فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي وقالت أم موسى لابنتها الكبيرة التي تعي ما يقال لها: تتبعي أثره، وتعرفي خبره، واطلبي شأنه من نواحي البلد، فخرجت لذلك، فهداها الله لمقرّ وجوده في بيت فرعون، وأبصرته عن بعد أو من بعيد، وهم لا يحسون بأنها تتعقبه، وتتعرف حاله، وأنها أخته.
وتتابعه عناية الله ويسوقه القدر إلى إرجاعه لمهد أمه، فقال تعالى:
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ، فَقالَتْ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ، وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ؟ أي ومنعنا موسى أن يرضع ثديا غير ثدي أمه قبل رده إلى أمه وقبل مجيء أخته، لكرامته عند الله وصيانته له أن يرتضع غير ثدي أمه، والتحريم: استعارة للمنع، لأن من حرم عليه الشيء فقد منعه. فقالت أخته لما رأت ارتباكهم واهتمامهم برضاعه: أتريدون أن أدلكم على أهل بيت يتكفلون بشأنه وإرضاعه وتربيته، وهم حافظون له، ناصحون، يعنون بخدمته والمحافظة عليه؟

صفحة رقم 66

قال ابن عباس: فلما قالت ذلك، أخذوها وشكّوا في أمرها، وقالوا لها:
وما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه؟ فقالت لهم: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في سرور الملك، ورجاء منفعته، أي عطائه، فلما قالت لهم ذلك، وخلصت من أذاهم، ذهبوا معها إلى منزلهم، فدخلوا به على أمه، فأعطته ثديها، فالتقمه، ففرحوا بذلك فرحا شديدا، وذهب البشير إلى امرأة الملك، فاستدعت أم موسى، وأحسنت إليها، وأعطتها عطاء جزيلا، وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة، ولكن لكونه وافق ثديها.
ثم سألتها آسية أن تقيم عندها، فترضعه، فأبت عليها وقالت: إن لي بعلا وأولادا، ولا أقدر على المقام عندك، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت، فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك، وأجرت عليها النفقة والصلات والكسا والإحسان الجزيل، فرجعت أم موسى بولدها راضية مرضية قد أبدلها الله بعد خوفها أمنا، في عز وجاه ورزق دارّ «١».
جاء في الحديث: «مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير كمثل أم موسى، ترضع ولدها، وتأخذ أجرها».
فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ، وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي فأرجعناه إلى أمه بعد التقاط آل فرعون له، من أجل أن تقر عينها بابنها وتسرّ بوجوده لديها وسلامته عندها، ولا تحزن عليه بفراقه، ولتتيقن أن وعد الله فيما وعدها من رده إليها حق لا شك فيه حين قال لها: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ، وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فحينئذ تحققت برده إليها أنه كائن رسولا، فعاملته في تربيته ما ينبغي له طبعا وشرعا من كمال الأخلاق.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي ولكن أكثر الناس لا يعلمون حكم الله في

(١) تفسير ابن كثير ٣/ ٣٨٢.

صفحة رقم 67

أفعاله وعواقبها المحمودة في الدنيا والآخرة، فربما كان الأمر كريها إلى النفوس في الظاهر، محمود العاقبة في الحقيقة ونفس الأمر، كما قال تعالى: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [البقرة ٢/ ٢١٦] وقال تعالى: فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء ٤/ ١٩].
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى، آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي ولما اكتملت قواه الجسدية والعقلية آتيناه الحكمة والعلم وفقه الدين وعلم الشريعة، ومثل ذلك الذي فعلنا بموسى وأمه نجزي المحسنين على إحسانهم. وقد رجح الرازي أن المراد بالحكم هنا الحكمة والعلم، لا النبوة «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- قد يطلق الوحي على الإلهام لأن الوحي لا يكون إلا لنبي، وقد أجمع العلماء على أن أم موسى وأم عيسى لم تكن واحدة منهما نبية، وإنما ذلك من قبيل الإلهام، كإلهام النحل اتخاذ البيوت.
وقد ألهم الله أم موسى بعد ولادته أن ترضعه، فإذا خافت عليه من القتل ألقته في البحر، دون خوف عليه من الغرق ولا حزن على فراقه، فإن الله تكفل برده إليها وبجعله من الأنبياء المرسلين إلى أهل مصر.
٢- قد يقصد الإنسان شيئا ويحدث شيء آخر، فإن أهل فرعون التقطوا موسى الصغير ليكون لهم قرّة عين، فكان عاقبة ذلك أن كان لهم عدوا وحزنا، ولله في خلقه شؤون.

(١) تفسير الرازي ٢٤/ ٢٣٢.

صفحة رقم 68

٣- كان إنقاذ موسى من البحر سببا في إسعاد الناس برسالته وإنزال التوراة عليه، وهداية آسية امرأة فرعون إلى الإيمان بالله تعالى، بعد أن أقنعت زوجها فرعون بإبقائه وعدم قتله رجاء أن يكون مصدر نفع لهم أو أن يتبنوه، علما بأنها كانت لا تلد، فاستوهبت موسى من فرعون، فوهبه لها، وكان فرعون لما رأى الرؤيا وقصها على كهنته وعلمائه، قالوا له: إن غلاما من بني إسرائيل يفسد ملكك فأخذ بني إسرائيل بذبح الأطفال، فرأى أنه يقطع نسلهم، فعاد يذبح عاما ويستحيي عاما، فولد هارون في عام الاستحياء (إبقاء الأولاد) وولد موسى في عام الذبح. يروى أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت يعوم في البحر، فأمرت بسوقه إليها وفتحه، فرأت فيه صبيا صغيرا، فرحمته وأحبته، فقالت لفرعون: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ.
٤- لا يشعر الناس بتدبير الله وتخطيطه، وقد تكرر ذلك المعنى في الآيات فقال تعالى: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [٩] أي وهم لا يشعرون أن هلاكهم بسببه، ثم كرر تعالى ذلك في الآية [١١] ثم قال: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
٥- هجمت الوساوس والمخاوف والهواجس على قلب أم موسى، وطار عقلها لوقوع ابنها في يد فرعون عدو الإسرائيليين، وقاربت أن تظهر أمره لولا أن ثبّتها الله وصبّرها وملأ قلبها بالإيمان والاطمئنان والسكينة، لتكون من المصدقين بوعد الله حين قال لها: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ.
٦- كان لأخت موسى الذكية الحصيفة مريم بنت عمران كاسم مريم أم عيسى عليه السلام دور طيب ناجح في إقناع حاشية فرعون وامرأته بمن يقبل ثديها من النساء، لحاجتها إلى عطاء الملك، وطيبها وطيب رائحتها، دون أن يشعروا أنها أخته، لأنها كانت تمشي على ساحل البحر، حتى رأتهم قد أخذوه، فأرشدتهم بلباقة إلى أهل بيت يكفلونه، وهم للملك ناصحون، يحرصون على مسرّته، ويطمعون في عطائه.

صفحة رقم 69

٧- إن تدبير الله الخفي الذي لا يصلح غيره في أي شيء أشد نفاذا وأنجح خطة من تدبير البشر، فقد منع موسى الطفل من الارتضاع من قبل مجيء أمه وأخته، ثم رده إليها، وفاء بوعده لها، وكان قد عطف الله قلب العدو عليه، ولتعلم أن وعد الله حق، أي لتعلم وقوعه، فإنها كانت عالمة بأن رده إليها سيكون.
٨- لم يؤت الله النبوة لأحد غير يحيى وعيسى عليهما السلام قبل بلوغ سن الأربعين الذي تكتمل فيه القوى العقلية والجسمية، وتحقيق هذا في شأن موسى، فإنه لما بلغ أشده، أي غاية نموه، ونضج وبلغ أربعين سنة آتاه الله النبوة والحكمة قبل النبوة والعلم والفقه في الدين، يروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين سنة.
وكما جزى الله موسى على طاعته وصبره على أمر ربه، وجزى أم موسى لما استسلمت لأمر الله، وألقت ولدها في البحر، وصدّقت بوعد الله، فرد ولدها إليها وهي آمنة، ووهب له العقل والحكمة والنبوة، كذلك يجزي كل محسن.
الخلاصة: أن هذا الفصل من قصة موسى عليه السلام بيان لما أنعم الله عليه في صغره من إنجائه من القتل والغرق في النيل، وما أنعم عليه في كبره من إيتائه العلم والحكمة والنبوة والرسالة إلى بني إسرائيل والمصريين، كما قال تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى، إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ، وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي، إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ، فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ.. [طه ٢٠/ ٣٧- ٤٠].

صفحة رقم 70
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية