(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)
* * *
بين الله سبحانه وتعالى أن الجهاد سبيل لحياة الأمم، والقعود عن الدفاع سبيل لفنائها، وبذهاب دولتها، وتقطع وحدتها، وفقد لكيانها المجتمع، وأمرها المؤتلف، وأنه لاسبيل لأن تعيد الجماعة قوتها، ودولتها إلا بالجهاد والاستعداد له، ففي الاستعداد للجهاد الحياة، وبالجهاد ترد الحياة، والجهاد في أدق معناه هو تعرض النفس للتلف ليبقى المجموع، فهو إيثار بالنفس، وبذل للمهج والأرواح، وتقدم للبأس من القادرين، بيد أن الجهاد لابد له من عدة وعتاد، وشِكَّة وسلاح؛ ولابد له من أن تكون الكلمة موحدة، والقوى مجتمعة بالتعاون بين الغني والفقير، فإذا كان
الجهاد بذلا للأنفس والمهج في سبيل حياة أعز فلابد فيه من بذل المال؛ فالجهاد بذل للنفس والنفيس معًا، ولذا أردف سبحانه الأمر بالقتال بعد ضرب الأمثال، بالأمر بالبذل والعطاء، فقال عز من قائل:
(مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) القرض: أصل معناه اللغوي: القطع، ومنه المقراض، ثم أطلق على معنى المجاوزة؛ لأنها قطع للمكان؛ ومن ذلك قوله تعالى: (وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ...)، أي تتجاوزهم وتدعهم إلى أحد المكانين، ومنه انقرض القوم أي انقطعوا من الدنيا وتجاوزتهم.
وسمي إسلاف المال وبذله في سبيل الخير قرضًا لأنه يقتطع من المال المدخر، وينتقص منه، والمال نظير النفس فكأنه يقتطع من النفس، ولذلك كان الجواد شجاعًا عادة؛ لأن بذل النفيس كبذل النفس كلاهما ينبع من نفس واحدة فالجود والشجاعة صنوان أو أخوان لَا يولدان إلا من أب واحد، ولا يترعرعان إلا في منبت واحد وبيئة واحدة، والبخل والجبن أخوان منبتهما واحد، ومولدهما واحد؛ فالبخيل جبان في مجرى العادة، وقد دل على ذلك الاستقراء.
والقرض بعد هذا البيان هو إسلاف المال في السبيل الحسن لمعاونة صديق أو سد حاجة معوز أو حماية الدولة أو إغاثة ملهوف على أن يرد مثله من غير وكس ولا شطط؛ وقد يكون من جنسه مالًا بمال، وقد يكون العوض أزكى من المال وأنمى منه، وأنفع وأبقى، وذلك هو الإسلاف في سبيل الخير غير مبتغ جزاء ولاشكورًا إلا من خالق الناس مالك الملك ذي الجلال والإكرام.
والزمخشري يرى إطلاق القرض على بذل المال من غير رجاء لرد البدل في الدنيا إطلاقا مجازيا، كأنه يرى - رحمه الله - أن القرض في حقيقته اللغوية، إسلاف المال على أن يأخذ بدله، لأن ذلك هو الحقيقة التي آل إليها اللفظ بعد انتقاله من معنى القطع المجرد فيكون استعمال القرض في هذا الموضع من قبيل المجاز في نظر الزمخشري، فقد شبه هنا بذل المال في سبيل الخير ورجاء ما عند الله ورضوانه والثواب القيم في الآخرة، والتوفيق والبسط في الرزق في الدنيا؛ شبه هذا بمن يبذل المال ليرد عليه مثله، فعبر باللفظ الدال على المشبه به في معنى المشبه.
وعبارات كثيرين من المفسرين يستفاد منها أن كلمة القرض هنا مستعملة في معناها من غير مجاز؛ لأن معنى القرض ثابت؛ إذ إنه اقتطاع من مدخر المال، ورجاء البدل متحقق ثابت بشكل أوضح ممن يرجو بدل المال في الدنيا؛ لأن ما عند الله خير وأبقى؛ ولأن البركة في الرزق والبسطة فيه قد قدرها الله سبحانه وتعالى لمن يعطي سمحًا جوادًا من غير منٍّ ولا أذى.
والقرض الحسن المذكور في الآية الكريمة، هو القرض الذي يكون منبعثًا من نفس طيبة بالعطاء، قاصدة وجه الخير ورضا الله سبحانه وتعالى، ومتحرية موضع الإنفاق وزمانه، فالقرض الحسن في هذا المقام لابد لتحققه من أن يكون الباعث عليه خيرًا مقصودًا به وجه الله تعالى، فلا ينفق رئاء الناس، ولا ينفق ابتغاء جاه ولا مَلَقًا لذي جاه، كأولئك الذين يتصدقون بالصدقات العظيمة لإرضاء كبير مسيطر، لا يقصد الصدقة لذاتها ولا وجه الله فيها، ولا المعاونة لمستحقيها، وإنما يقصد إرضاء الكبير فقط؛ وإن ذلك هو الشرك الخفي؛ ولقد روى أن النبي - ﷺ - قال: " من تصدق يرائي فقد أشرك " (١).
ولابد لتحقق القرض الحسن أن يتحرى الشخص موضع الحاجة فيسد حاجة المعوزين، وينفق على المحتاجين، يؤثر أشدهم حاجة؛ فالأدنى منه، ما وسع فضل ماله؛ ثم ينفق في المصالح العامة لإقامة مشروعات اجتماعية أو عمرانية، والإنفاق للجهاد في سبيل الله هو المرتبة السامية العليا.
هذه معاني القرض الحسن في ذاتها ولبها؛ وما المراد به هنا؛ أيراد به المعنى العام الشامل، أم يراد به المعنى الخاص الذي يدل عليه ما قبل الآية وما بعدها؟ إن الاتجاهات في هذا ثلاثة:
أولها: القرض الحسن هنا هو المعنى العام له، وهو كل إنفاق في سبيل الخير، سواء أكان الإنفاق لسد حاجات المحتاجين من الآحاد، أم كان للمصالح التي يعم
________
(١) سبق تخريجه من مسند الإمام أحمد رضي الله عنه.
نفعها، ويشمل خيرها، أم كان في الجهاد في سبيل الله، ووجهة هؤلاء في هذا العموم أن كل ذلك يضاعف الله في جزائه، وذلك قرينة العموم، والمقام لَا يمنعه؛ لأنه يدخل فيه الجهاد.
وثانيها: أن القرض الحسن ما ينفق في سبيل المصالح العامة من إنشاء جماعات للبر بكل ضروبه والإنفاق عليها، ومن بذل في سبيل إعداد الأمة إعدادًا حربيا؛ لأن كل ذلك تقوية للوحدة في الأمة، وهو من عدة القلوب، فالتعاون فيه قوة، بل هو عماد القوة.
وثالثها: أن المراد الإنفاق في الجهاد، بدليل توسط الآية بين الآيات الدالة على القتال المحرضة عليه؛ فهي تخص البذل في القتال، وهو في ذاته أقواها أثرًا، والمقام يؤيد إرادته.
وعندي أن السياق حقا يجعل القرض الحسن في هذا المقام متجهًا أولا وبالذات نحو البذل لإعداد العدة وأخذ الأهبة؛ ليتحقق على الوجه الأكمل قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قوَّةٍ...)، ولكن ذلك لَا يمنع الشمول، فإن الله سبحانه وتعالى يأتي بالعبارات السامية المحكمة الشاملة في معناها في مقام يستدعي ذكرها لوجود حال تدخل في العموم، فلما ذكر القتال ذكر معه وجوب البذل عامة كقاعدة شرعية وأصل من أصول الاجتماع الإسلامي الفاضل، ودخل في هذا العموم البذل في القتال على وجه الخصوص وخصوصيته جاءت من السياق القرآني السامي. ولقد حث المولى الكريم عباده المؤمنين على البذل والعطاء لمعاونة المحتاجين، وعلى الإنفاق في مصالح الاجتماع، والإنفاق في الحروب بشكل خاص، وقد جاء النص الكريم متضمنًا بعبارته وإشارته أبلغ ما يدل على التحريض على البذل، والدعوة إليه؛ وإنا نذكر قدرًا مما وصلت إليه مداركنا.
وأول ما يدل على المبالغة في الحث على البذل في الخير التعبير بقوله تعالى (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) فقد تضمن ذلك التعبير الحث على البذل من عدة وجوه:
منها التعبير بالاستفهام، فإنه للتنبيه وبعث الأذهان وحفز العقول على الالتفات، وبمقدار الوعي عند الاستماع تكون الإجابة وبمقدار الحث على الانتباه يكون الطلب.
ومنها: أنه جمع الإشارة والموصول في الاستفهام فقال (مَن ذَا الَّذِي) وفي ذلك بيان لعلو شأن من يبذل، فإنه لَا يستفهم (مَن ذَا الَّذِي) إلا إذا كان المقام ذا شأن وخطر، وكان موضع الاستفهام خطيرًا وعظيمًا وكان المخاطب له شأن جليل إلى درجة أن يشار إليه، ويتحدث عنه، فالإشارة كناية عن أنه يشار إليه في كل أمر جليل، والموصول كناية عن أنه يتحدث عنه عند ذكر كل أمر جليل.
ومن وجوه الحث على البذل في الجملة السامية: أن الله سبحانه وتعالى سماه قرضًا، لأن فيه إشارة إلى أنه سيرد لصاحبه، وأنه ليس مالاً يبذل من غير بدل يعود إليه، بل إن له بدلا أسمى منه، وعوضًا أجل وأعظم، واعتبره سبحانه قرضًا لله تعالى؛ وأي سمو تعلو إليه نفس الباذل عندما يحس بأن المقترض منه هو رب العالمين، الذي يملك كل شيء وهو خالق كل شيء؛ أي كلام يحرض على البذل أبلغ من أن يسمى فعله قرضًا لله المنعم بالوجود، والمالك لكل موجود؛ ثم إن القرض لله تعالى قرض مضمون الوفاء، مؤكد الأداء.
ومن وجوه الحث على البذل في التعبير السامي: أن سماه سبحانه قرضًا حسنًا، فهو حسن في باعثه، وفي عطائه، وفي نتيجته وثمرته.
وقد ذكر سبحانه بدل القرض فقال: (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً).
وهذا هو الأمر الثاني الذي يدل على المبالغة في الحث على البذل والعطاء في سبيل الجهاد والنفع العام، فإذا كانت الجملة السابقة تدل على علو شأن الباذل الذي يعطي وعظم البذل في سبيل الخير والعطاء، وشرف ذلك العمل لأنه عطاء لله العلي القدير مالك كل شيء، إذا كانت الجملة السامية التي سبقت تدل على ذلك، فإن هذه الجملة الكريمة تحرض على العطاء من ناحية العوض الذي يعوض عنه، فإنه ليس بقدره، بل هو أضعافه.
والضِّعْف: مِثْلُ الشيء، وضعفاه أي مثلاه، وقد يراد من الضعف المثلان، وقد جاء في القاموس المحيط ما نصه: (ويقال لك ضعفه يريدون مثليه وثلاثة أمثاله؛ لأنه زيادة غير محصورة) وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني: (الضعف من الألفاظ المتضايفة التي يقتضي وجود أحدهما وجود الآخر كالنصف والزوج، وهو تركب قدرين متساويين، ويختص بالعدد فإذا قيل أضعفت الشيء وضعفته وضاعفته ضممت إليه مثله فصاعدًا، قال بعضهم: ضاعفت أبلغ من ضعفت).
ومن هذا يتبين أن (يضاعف) في الآية الكريمة معناها يرد إلى الباذل المعطي المقرض لله بدلا ما أعطى أمثالا كثيرة، فمعنى أضعافًا: أمثالا كثيرة. ولم يذكر سبحانه وتعالى العدد، وذلك يدل على الكثرة الكاثرة التي لَا حدَّ لها، ولا عدد يحصيها؛ وحسبك أن تعلم أن الذي يوفي بالقرض هو مالك السماوات والأرض.
وإذا علم الباذل أن ذلك جزاء عطائه وإنفاقه، فلابد بالغ أقصى غايات الجود، باذل كل موجود، وليس بذاهب ما يكون في سبيل الخير، ولا ضائع ما يكون في سبيل النفع العام.
وما هذا الجزاء؛ أهو في الدنيا أم في الآخرة؛ لَا شك أن ثمة جزاء في الآخرة وأن جزاءها هو الجزاء الأوفى، والغاية القصوى، والأمل المرجى لكل مؤمن؛ وإن فيها للذين أحسنوا الحسنى وزيادة.
وإنه مع ذلك الجزاء الأوفى يوجد جزاء دنيوي، ومضاعفة لفعل الخير في هذه الحياة تبدو لكل من يفهم معاني الحياة، وإن هذا الجزاء الدنيوي هو العيش العزيز، والحياة الكريمة له ولقومه، ودفع الهلاك عن أمته؛ فإن بذل المال دفاعًا عن الحوزة هو الحياة، وهو أقصى غاية الوجود بعد بذل النفس؛ ولذا اعتبر من لم ينفق قد ألقى بنفسه في الهلكة، كما قال تعالى: (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ...).
وليس بذل المال للجهاد هو وحده الذي يكون فيه الجزاء الدنيوي ودفع الهلاك عن النفس، بل سد حاجة المعوزين وإعطاء المال للسائل والمحروم فيه عزة الأمة؛ لأنه لَا عزة لأمة لَا تدفع المتربة عن آحادها وتذل فقراءها؛ ولئن تململوا بحياتهم لكان التقاطع والتنابز، ومن وراء ذلك الخراب، وأن يكون بأس الأمة بينها شديدًا، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى.
هذا فوق أن البذل في سبيل الله والإنفاق في سبيل الخير والنفع العام والمصالح الإنسانية يلقي في النفس سعادة واطمئنانًا لَا يشعر بهما إلا الأبرار؛ وإن الله يبارك في رزق الذين ينفقون، فوق غنى النفس الذي تمتلئ به النفس؛ وقد قال - ﷺ -: " ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس " (١).
فالبذل والعطاء في سبيل الخير يدفع ضرًا، ويقي من شر، ويحمي الجماعة من الآفات، ويسعد النفس، ويبارك في رزق المعطي، ويكثر قوى الإنتاج في الأمة، فتقوى الأيدي كلها على العمل فيعم الخير، وتكثر الثمرة، ويكون الإنتاج الطيب الذي يعم ولا يخص، فمن أعطى قليلا يأخذ كثيرًا في نفسه وقومه وأهله وعشيرته.
وقد ذكر سبحانه أن الأرزاق كلها بيد الله، فعلى كل امرئ أن يعرف أن الغنى ليس بالعمل فقط، بل بتوفيق الله تعالى وتقديره وهو العزيز العليم؛ ولذا قال تعالى: (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
وهذا هو الطريق الثالث الذي اشتملت عليه الآية الكريمة في الحث على البذل والعطاء في سبيل الخير، فقد بين بهذا سبحانه أنه تعالى القابض الذي يقتر الرزق على من يشاء، ويبسط الرزق لمن يشاء، فعلى الغني أن يستشعر في نفسه أنه كان يجوز أن يخلقه الله فقيرًا لَا يستطيع إعطاء، فعليه أن يشكر النعمة التي أعطاها الله سبحانه وتعالى إياه، وإن شكرها أن يبذلها في سبيل النفع العام، ثم ليعلم أن
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: الرقاق - الغنى غنى النفس (٥٩٦٥)، ومسلم الزكاة (١٧٤١) عن أبي هريرة - رضي الله عنهما.
المآل إليه سبحانه وتعالى؛ ولذا قال تعالى: (وَإِلَيْهِ ترْجَعُونَ) أي إليه وحده ترجعون فيحاسبكم سبحانه وقد جردتم من كل قوة قاهرة، وكل سلطان ظاهر، ولم يكن معكم إلا عمل صالح.
وهنا نشير إلى بعض المباحث اللفظية، وبعض المعاني الاجتماعية: أما المباحث اللفظية فهي معنى القبض والبسط، والسبب في تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: (وَإِلَيْهِ ترْجَعونَ).
القبض معناه: جمع اليد على الشيء، ويقال حينئذ قَبَضتْه اليد، ويقال قبض عنه يده أي جمعها قبل تناوله، فلم يأخذه، وذلك يقال فيه إنه إمساك عنه، ويقال لإمساك اليد عن البذل قبض، ومن ذلك قوله تعالى: (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ...)، أي يمتنعون عن الإنفاق؛ ولذلك أطلق القبض على المنع، والبسط على العطاء؛ قال الأصفهاني في قوله تعالى: (يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ): (أي يسلب تارة، ويعطي تارة أخرى، ويسلب قوما ويعطي قوما، ويجمع مرة ويفرق أخرى).
والبسط معناه النشر والتوسعة، وبسط الرزق التوسعة فيه، والبسطة في الجسم أن يكون مديد القامة بعيد ما بين المنكبين وذلك كناية عن القوة؛ والبسط المد، وقد يطلق ويراد به الصولة والقوة، كما يراد به الإعطاء، ومن الأول قوله تعالى: (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ... -)، ومن الثاني قوله تعالى: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ...).
وتقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: (وَإِليهِ تُرْجَعونَ) للدلالة على كمال سلطان الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، وأنه لَا سلطان لأحد سواه، ولا مرجع إلا إليه؛ فالمعنى: إليه سبحانه وتعالى وحده ولا أحد غيره ترجعون، تعادون بالبعث في الآخرة، وترجعون إليه في الدنيا، فهو وحده فوق عباده يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويقبض ويبسط، ويفرق ويجمع، وكل ذلك بأسباب وضعها، وسنن أحكمها؛ فلا ينصر إلا من يعمل للنصر، ولا يخذل من أخذ الأهبة واستعد
للأ مر، ولا ينصر بعد أخذ الأسباب إلا أهل الحق (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠).
وقد يقول قائل: إن الحكمة الإلهية قد اقتضت أن يكون كل عمل له نتائجه وثمراته، فمن يعمل خيرًا يجد ثمرة عمله، ومن يَجِدُّ يَجِدُ نتائج جده، فالغنى والفقر ثمرتان للعمل والكسل، فمن عمل واتخذ الأسباب وسار فيها نال الثمرة، ومن كَسِل وأهمل ناله الفقر ولا يلومنَّ إلا نفسه، وقد تكرر في القرآن أن الله القابض الباسط، وأنه الرازق، وأنه يرزق من يشاء، فكيف يوفق القارئ بين ذلك السنن الحكيم، وبين ذلك القول الكريم؟
ونقول في الجواب عن ذلك: إن على كل مؤمن أن يعمل، وأن يجد ويجتهد، وعليه فوق ذلك أن يعلم أن الله هو الرازق، وأنه فوق كل شيء، وأنه القابض الباسط، وأنه الرزاق ذو القوة المتين، ولكل موضعه، وإن المستقرئ لشئون الناس وأعمالهم في الحياة ونتائجها ينتهي به الاستقراء إلى أن الرزق لَا يمكن أن يجيء ثمرة للعمل وحده، بل إنه يجيء مع العمل توفيق الله، ومصادفات قدرها العليم الخبير، اللطيف البصير، فاثنان يعملان عملا واحدًا، فيلقيان البذر بعد الحرث، ومع البذر السماد، والأرض طيبة منتجة، والري متحد الزمان في كليهما، ولكن زرع أحدهما قد يبتلى بآفة تستمكن منه فتبيده أو تكاد، ولا تصيب زرع الآخر إلا قليلا، فيكون في سعة والآخر قد قتر الله عليه في الرزق، وقد تكون الثمرات متحدة في النتائج والمقدار، ولكن أحدهما سارع بالبيع، فصادف غلاء، والثاني أخر في البيع فصادف كسادًا، وقد يبيع هذا لتاجر حسن الأداء مليء، والثاني يبيع لآخر مثله، ولكنه قبل الأداء يصاب في تجارته، وهكذا، فاتخاذ الأسباب أمر لابد منه، ولكن وراء الأسباب القدرة القاهرة التي هي فوق كل شيء، وهي قدرة الله تعالى، فاتحاد الأسباب لَا يستدعي اتحاد المصادفات ولا اتحاد الفرص؛ واتحاد الفرص المهنية لَا يوجب اتحاد الثمرات والنتائج، فقد تكون ثمة ملابسات لم تكن في الحسبان، وما كان يستطيع تقديرها إنسان، وإن تقدير الإنسان مهما يكن من قوة هو في دائرة القدرة الإنسانية، وهي محدودة الأفق، محدودة
الغاية، وإن كان له سلطان على الأعمال فليس له سلطان على النتائج والأحوال، ومن هنا كان الواجب على المؤمن أن يعمل ثم يفوض أمره إلى الله، ويقول: (وَأُفَوِّض أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ).
(وَاللَّهُ يَقْبِضُ ويَبْصُطُ وَإِلَيْه تُرْجَعُونَ) وإذا كان الرزق بيد الله فعلى الغني أن يعلم أن ما بيده فيض من الله تعالى القدير؛ وإذا كان فيضًا من الكريم الحليم فعليه أن يشكر لله بإنفاقه في الحلال دون الحرام، وفي إنفاقه على عيال الله، وهم الفقراء الذين اقتضت حكمته تعالى أن يحرمهم مما أعطاه، وفي سبيل النفع العام الذي يقيم دولة إسلامية فاضلة، بها يعتز دين الله، وبها تعلو كلمته، وبها يحق الله الحق ويبطل الباطل، وبها تعتز الفضيلة وتعلو الإنسانية، وعليه أن ينفق مال الله الذي أعطاه في سبيل نصرة دينه وإعلاء كلمته؛ ولقد سمى الله سبحانه وتعالى ذلك كله قرضا حسنا له، وهو سبحانه وتعالى الذي أعطى والذي وهب ورزق؛ سبحانك ربي تعاليت، وإنك كما قلت في كتابك المحكم: (فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)، ولقد قال رسولك الأمين: " الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله " (١).
لقد علم الأتقياء الأبرار في كل العصور أن الأسباب مهما تكن قوية محكمة فإن النتائج بيد الله تعالى، ولأن كل الكون في سلطان الله تعالى، كما قال سبحانه: (... إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٤). ولهذا المعنى بذلوا في نصرة الله تعالى، فهذا أبو بكر في الجهاد يشطر ماله في ذلك، وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه يجهز في زمان العسرة جيش تبوك من ماله إذ كان الناس في عسرة وجدب، حتى يروي ابن هشام أن عثمان رضي الله عنه أنفق ألف دينار غير الإبل والزاد والعدة؛ فقال النبي - ﷺ -: " اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض "!.
________
(١) رواه - أبو يعلى، والبزار عن أنس، والطبراني عن ابن مسعود - رضي الله عنه. [جامع الأحاديث والمراسيل - من الجامع الصغير وزوائده - ج ٤ ص ٣١٢].
وروى زيد بن أسلم أنه لما نزل قوله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) جاء أنصاري اسمه أبو الدحداح فقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله! إن الله يستقرضنا، وهو غني عن القرض؟! قال: " نعم يريد أن يدخلكم الجنة "، قال: فإني إن أقرضت ربي قرضًا يضمن لي ولصبيتي الدحداحة معي الجنة؟ قال: " نعم ". قال: ناولني يدك، فناوله رسول الله - ﷺ - يده، فقال: إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لَا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضًا لله تعالى! قال رسول الله - ﷺ -: " اجعل إحداهما لله تعالى والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك " قال: فأشهدك يا رسول الله إني قد جعلت خيرهما لله تعالى، وهو حائط فيه ستمائة نخلة، قال: إذن يجزيك الله به الجنة " (١).
هذا هو الإيمان حقا وصدقا، وهذا هو شكر النعمة، وهذه هي المعاونة الصادقة، وهذه هي القوة الروحية التي تشع النور على الوجود الإنساني؛ فهل للخلف أن يقتدوا بما كان يفعله السلف؛ وهل آن للمؤمنين أن يفدوا دينهم ودولتهم بأموالهم؛ وهل آن للمسلمين أن يعتبروا بالعبر وقد خلت من قبلهم المثلات، وأن يعلموا حق الله في أموالهم؟
لقد صار الهوى متبعًا، والشح مطاعًا، وتشنعت الفتن، وتحكمت الإحن، وغلبت على المسلمين الشقوة، وضربت عليهم الذلة، حتى إنه ليقتطع من جسم العالم الإسلامي قطعة هي منه بمنزلة الكبد من الجسم، والأعداء يسلطون على المشردين والمقيمين في الوادي المقدس الفقر والجوع، ويحاولون إخراجهم بالجوع والعرى من دينهم، والمسلمون يرون ويسمعون، وهم في غفلة لاهون! ألا فاقرضوا الله قرضًا حسنا يضاعف لكم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* * *
________
(١) " رواه أبو يعلى والطبراني ورجالهما ثقات ورجال أبي يعلى رجال الصحيح ". [مجمع الزوائد - ج ٨ ص ٤٠٤].
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧)
* * *
كانت الآيات السابقة في الحث على القتال دفاعًا عن النفس والحوزة، ورفعا لمنار الحق، وخفضا للباطل، ولتكون كلمة الله هي العليا، ولبيان أن الاستعداد للجهاد ورد الاعتداء يقتضي البذل والعطاء. وفي هذه الآيات يقص سبحانه وتعالى قَصصًا صادقًا في وقائعه، وصادقًا في حكايته للأمم التي تبتلى بالهزيمة كيف يتفرق أمرها وتذهب وحدتها، وكيف تفعل الهزيمة في قلوب الأكثرين منها، وبيان أن الطريق لجمعها قيادة حكيمة رشيدة، ونفر قليل أو فئة قليلة لم تذهب الهزيمة بنخوتها، ولم يضعف اليأس من بأسها وعزمها.
اختار الله سبحانه وتعالى لقصصه الذي جعله عبرة للمعتبرين بني إسرائيل، لأنهم اتصلوا بالعرب، ولأن النبوات المعروفة للعالم في عصر نزول القرآن كانت فيهم، ولأنهم يلتقون مع قريش في إبراهيم أبي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ولأنه تتمثل فيهم الطبائع البشرية في عزتها وانتصارها، وفي هزيمتها وانكسارها وتتمثل فيهم الطبيعة البشرية في لجاجة القول والمغالبة به في حال الضعف والاستخذاء، ونقدهم كل شيء في تلك الحال، وبعدهم عن العمل إلى الخلاف في المقال، وتتمثل فيهم الطبائع البشرية للجماعات المغلوبة عندما يعمل على إنقاذها من لم تنل الهزيمة من قلوبهم، ومن لم يستول الخور على نفوسهم.
قص الله سبحانه وتعالى ذلك القصص، وقد قال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ...). فالمقصود من قصص القرآن العبرة والاعتبار لَا سرد وقائع وإمتاع الناس بسردها وتفصيلها عبرة لأولي الألباب، ولذلك يقصد المولى الكريم إلى موضع العبرة فيجليه، وإلى مكان الاستبصار فيبينه وتلك أقوم السبل، التربية بالتاريخ، والتثقيف بأحوال السابقين.
إن الإنسان ابن الإنسان، فمن يريك صورة للماضي مع العبرة، فهو يريك نفسك مع العظة، والماضي دائمًا نور يضيء للمستقبل، فهو المصباح الذي يحمله من يبتغي الهداية ويرجوها.
وإن في تلك القصة التي ذكرها القرآن الكريم، المنزل من حكيم عليم، عبرة للناس أجمعين، وخصوصًا الأمم التي تبتلى بالهزيمة. وقبل أن نخوض في تفسير مفصل -، نتكلم بكلام مجمل في القصة.
هُزم بنو إسرائيل من بعد موسى هزيمة شديدة سبي فيها نساؤهم وذراريهم وأخرجوا من ديارهم، وكان ذلك قبل مبعث داود عليه السلام، كما يدل على ذلك اشتراك داود عليه السلام في المعركة التي أشارت إليها الآية الكريمة، وقد بعث الله سبحانه وتعالى فيهم نبيا وهم في هذه الهزيمة، ولم يذكر سبحانه مَنْ هذا النبي الكريم، فلا نحاول معرفة من هو، وإن بعث النبي وهم في هذه الهزيمة - وقد أراد سبحانه وتعالى أن يفيقوا من هذه الضربة دليلٌ على أن السبيل لإنقاذ الأمم من كبوتها وإنهاضها يكون بالرجوع إلى الدين؛ لأنه هو الذي يصهر القلوب ويملؤها بقوة الله، فتهون بجوارها قوة الناس، وقد كان الرجوع إلى الدين قبل مبعث محمد - ﷺ - بنبي يرسل، وأما وقد ختمت النبوة بمحمد - ﷺ - فقد أصبح الرجوع إلى الدين بالرجوع إلى كلام الله تعالى الخالد وهو القرآن الكريم؛ لأنه صوت الوحي الدائم إلى يوم القيامة: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
وبعد أن تعمر القلوب بالإيمان ويذهب عنها الخور بقوة اليقين، تتلاقى القلوب فيحاول الفضلاء أن يجمعوا الشمل تحت قيادة موحدة، وتحت إمرة قوية، وسلطان يصرف الأمور، ويدبر الشئون في السلم وفي الحرب؛ وذلك ما اتجهوا إليه: