آيات من القرآن الكريم

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ

العاجز، وإن مضت الأربعة بانت بتطليقة من غير مطالبة المرأة إيقاع الزوج أو الحكم، وقالت الشافعية: لا إيلاء إلا فى أكثر من «الأربعة أشهر» فلو قال: والله لا أقربك «الأربعة أشهر» لا يكون إيلاء شرعا عندهم ولا يترتب حكمه عليه بل هو يمين كسائر الأيمان، إن حنث كفر، وإن برّ فلا شيء عليه، وللمولي التلبث في هذه المدّة فلا يطالب بفيء ولا طلاق، فإن فاء في اليمين بالحنث فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ للمولي إثم حنثه إذا كفر كما في الجديد، أو ما توخى بالإيلاء من ضرار المرأة ونحوه بالفيئة التي هي كالتوبة وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لطلاقه عَلِيمٌ بنيته، وإذا مضت المدّة ولم يفئ ولم يطلق طولب بأحد الأمرين، فإن أبى عنهما طلق عليه الحاكم وأريد كون مدته أكثر من أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بأن- الفاء- في الآية للتعقيب فتدل على أن حكم الإيلاء من الفيئة والطلاق يترتب عليه بعد مضي أربعة أشهر، فلا يكون الإيلاء في هذه المدة إيلاء شرعا لانتفاء حكمه- وبذلك اعترضوا على الحنفية- واعترضوا عليهم أيضا بأنه لو لم يحتج إلى الطلاق بعد مضي المدّة لزم وقوع الطلاق من غير موقع، وإن النص يشير إلى أنه مسموع، فلو بانت من غير طلاق لا يكون هاهنا شيء مسموع، وأجيب عن الأول بأن- الفاء- للتعقيب في الذكر، وعن الثاني بأن المسموع ما يقارن ذلك الترك من المقاولة والمجادلة وحديث النفس به كما يسمع وسوسة الشيطان عليهم بما استمرّوا عليه من الظلم أو الإيلاء الذي صار طلاقا بائنا بالمضي، وهذا أنسب بقوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ حيث اكتفى بمجرّد العزم بخلاف ما قالته الشافعية من أنه يحتاج إلى الطلاق بعد مضي المدة فإنه يحتاج إلى التقدير، وبعده
لا يحتاج إلى عَزَمُوا أو يحتاج إلى جعل «عزم الطلاق» كناية عنه، فما قيل: من أن الآية بصريحها مع الشافعي ليس في محله، وقد ذهب إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة وكثير من الإمامية،
وأخرج عبد بن حميد عن علي كرّم الله تعالى وجهه قال: الإيلاء إيلاءان إيلاء في الغضب، وإيلاء في الرضا، فأمّا الإيلاء في الغضب فإذا مضت أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فقد بانت منه، وأمّا ما كان في الرضا فلا يؤاخذ به.
وأخرج عبد الرزاق عن سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنهما قال: أتى رجل عليا كرم الله تعالى وجهه فقال: إني حلفت أن لا آتي امرأتي سنتين فقال: ما أراك إلا قد آليت، قال إنما حلفت من أجل أنها ترضع ولدي، قال فلا إذا.
وروي عن إبراهيم «ما أعلم الإيلاء إلا في الغضب لقوله سبحانه وتعالى فَإِنْ فاؤُ وإنما الفيء من الغضب» وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، واستدل بعموم الآية على صحة الإيلاء من الكافر، وبأي يمين كان، ومن غير المدخول بها والصغيرة والخصي. وأن العبد تضرب له «الأربعة أشهر» كالحر، واستدل بتخصيص هذا الحكم بالمولي على أنّ من ترك الوطء «ضرارا» بلا يمين لا يلزمه شيء، وما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت وهي تعظ خالد بن سعيد المخزومي وقد بلغها أنه هجر امرأته: إياك يا خالد وطول الهجر، فإنك قد سمعت ما جعل الله تعالى للمولي من الأجل محمول على إرادة العطف والتحذير من التشبه بالإيلاء.

صفحة رقم 523

وَالْمُطَلَّقاتُ أي ذوات الأقراء من الحرائر المدخول بهنّ لما قد بين في الآيات والأخبار أن لا عدّة على غير المدخول بها وأن عدّة من لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل بالأشهر ووضع الحمل، وأن عدة الأمة قرءان أو شهران- فأل- ليست للاستغراق لأنه هاهنا متعذر لما بين، فتحمل على الجنس كما في- لا أتزوج النساء- ويراد منه ما ذكر بقرينة الحكم، وهذا مذهب ساداتنا الحنفية لأن الكلام المستقل الغير الموصول عندهم ناسخ للعام، والنسخ إنما يصح إذا ثبت عموم الحكم السابق- ولا عموم هاهنا- وقال الشافعية: إن الْمُطَلَّقاتُ عام وقد خص البعض بكلام

صفحة رقم 525

مستقل غير موصول، واعترضه الإمام بأنّ التخصيص إنما يحسن إذا كان الباقي تحت العام أكثر، وهاهنا ليس كذلك وليس بشيء لأنه مما لا شاهد له فإنّ المذكور في كتب الأصول أن العام يجوز تخصيصه إلى أن يبقى تحته ما يستحق به معنى الجمع لئلا يلزم إبطال الصيغة فليفهم.
يَتَرَبَّصْنَ أي ينتظرن، وهو خبر قصد منه الأمر على سبيل الكناية فلا يحتاج في وقوعه خبرا لمبتدأ إلى التأويل على رأي من لم يجوّز وقوع الإنشاء خبرا من غير تأويل، وقيل: إنّ الجملة الاسمية خبرية بمعنى الأمر، أي ليتربصن الْمُطَلَّقاتُ ولا يخفى أنه لا يحتاج إليه، وتغيير العبارة للتأكيد بدلالته على التحقيق لأن الأصل في الخبر الصدق والكذب احتمال عقلي، والإشعار بأنه مما يجب أن يسارع إلى امتثاله حيث أقيم اللفظ الدال على الوقوع مقام الدال على الطلب، وفي ذكره متأخرا عن المبتدأ فضل تأكيد لما فيه من إفادة التقوى على أحد الطريقين المنقولين عن الشيخ عبد القاهر والسكاكي وقيد- التربص- هنا بقوله سبحانه وتعالى: بِأَنْفُسِهِنَّ وتركه في قوله تعالى: تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لتحريض النساء على- التربص- لأن- الباء- للتعدية فيكون المأمور به أن يقمعن أنفسهن ويحملنها على الانتظار، وفيه إشعار بكونهنّ مائلات إلى الرجال وذلك مما يستنكفن منه، فإذا سمعن هذا تربصن وهذا بخلاف الآية السابقة فإن المأمور فيها- بالتربص- الأزواج وهم وإن كانوا طامحين إلى النساء لكن ليس لهم استنكاف منه، فذكر- الأنفس- فيها لا يفيد تحريضهم على التربص ثَلاثَةَ قُرُوءٍ نصب على الظرف لكونه عبارة عن المدّة، والمفعول به محذوف لأن- التربص- متعدّ قال تعالى: وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ [التوبة: ٥٢] أي يتربصن التزوج، وفي حذفه إشعار بأنهنّ يتركن التزوّج في هذه المدّة بحيث لا يتلفظن به، وجوّز أن يكون على المفعولية بتقدير مضاف أي يَتَرَبَّصْنَ مضيها- والقروء- جمع قرء- بالفتح والضم- والأول أفصح وهو يطلق للحيض، لما
أخرج النسائي وأبو داود والدارقطني «أن فاطمة ابنة أبي حبيش قالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا، دعي الصلاة أيام أقرائك»
ويطلق للطهر الفاصل بين الحيضتين كما في ظاهر قول الأعشى:

أفي كل عام أنت جاشم غزوة تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالا وفي الحي رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا
أي أطهارهن لأنها وقت الاستمتاع ولا جماع في الحيض في الجاهلية أيضا وأصله الانتقال من الطهر إلى الحيض لاستلزامه كل واحد منهما، والدليل على ذلك كما قال الراغب: إن الطاهر التي لم تر الدم لا يقال لها ذات قرء والحائض التي استمر لها الدم لا يقال لها ذلك أيضا، والمراد بالقرء في الآية عند الشافعي الانتقال من الطهر إلى الحيض في قول قوي له، أو الطهر المنتقل منه كما في المشهور وهو المروي عن عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت وخلق كثير لا الحيض، واستدلوا على ذلك بمعقول ومنقول أما الأول فهو أن المقصود من العدة براءة الرحم من ماء الزوج السابق والمعرف لبراءة الرحم هو الانتقال إلى الحيض لأنه يدل على انفتاح فم الرحم فلا يكون فيه العلوق لأنه يوجب انسداد فم الرحم عادة دون الحيض فإن الانتقال من الحيض إلى الطهر يدل على انسداد فم الرحم وهو مظنة العلوق فإذا جاء بعده الحيض علم عدم انسداده. «وأما الثاني» فقوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: ١] واللام للتأقيت والتخصيص بالوقت فيفيد أن مدخوله وقت لما قبله كما في قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الأنبياء: ٤٧] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: ٧٨] فيفيد أن العدة وقت الطلاق والطلاق في الحيض غير مشروع لما
أخرج الشيخان أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما طلق زوجته وهي حائض فذكر عمر لرسول

صفحة رقم 526

الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتغيظ ثم قال: «مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء»
وهو أحد الأدلة أيضا على أن العدة بالاطهار، وذهب ساداتنا الحنفية إلى أن المراد بالقرء الحيض وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن وعكرمة وعمرو بن دينار وجم غفير وكون الانتقال من الطهر إلى الحيض هو المعرف للبراءة إذا سلم معارض بأن سيلان الدم هو السبب للبراءة المقصودة ولا نسلم أن اعتبار المعرف أولى من اعتبار السبب وليس هذا من المكابرة في شيء على أن المهم في مثل هذه المباحث الأدلة النقلية، وفيما ذكروه منها بحث لأن لام التوقيت لا تقتضي أن يكون مدخولها ظرفا لما قبلها ففي الرضي أن اللام في نحو جئتك لغرة كذا هي المفيدة للاختصاص الذي هو أصلها، والاختصاص هاهنا على ثلاثة أضرب: أما أن يختص الفعل بالزمان بوقوعه فيه نحو كتبته لغرة كذا. أو يختص به لوقوعه بعده نحو لليلة خلت أو اختص به لوقوعه قبله نحو لليلة بقيت، فمع الإطلاق يكون الاختصاص لوقوعه فيه ومع قرينة نحو خلت يكون لوقوعه بعده ومع قرينة نحو بقيت لوقوعه قبله انتهى. وفيما نحن فيه قرينة تدل على كونه قبله لأن التطليق يكون قبل العدة لا مقارنا لها، ويؤيده قراءة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قبل عدتهن ففي الصحاح القبل والقبل نقيض الدبر والدبر، ووقع السهم بقبل الهدف وبدبره- وقدّ قميصه من قبل ودبر- أي من مقدمه ومؤخره، ويقال: أنزل بقبل هذا الجبل- أي بسفحه- فمعنى في قبل عدتهنّ في مقدم عدتهنّ وأمامها- كما يقتضيه ظاهر الأمثلة- وما ذكره من أن قبل الشيء أوله يرجع إلى هذا أيضا، على تسليم عدم الرجوع يرجع المقدّم الأول بالتبادر وكثرة الاستعمال والتأييد يحصل بذلك المقدار، والحديث الذي أخرجه الشيخان مسلم لكن جعله دليلا على أن- العدّة- هي الأطهار غير مسلم لأنه موقوف على جعل الإشارة للحالة التي هي الطهر، ولا يقوم عليه دليل فإن- اللام- في
«يطلق لها النساء»
كاللام في لِعِدَّتِهِنَّ يجوز أن تكون بمعنى- في- وأن تكون بمعنى- قبل- فيجوز أن يكون المشار إليه الحيض، وأنث اسم الإشارة مراعاة للخبر كالضمير إذا وقع بين مرجع مذكر وخبر مؤنث فإنّ الأولى على ما عليه الأكثر مراعاة الخبر إذ ما مضى فات، والمعنى فتلك الحيض العدّة التي أمر الله تعالى أن يطلق قبلها النساء- لا أن يطلق فيها النساء- كما فهمه ابن عمر وأوقع الطلاق فيه، وقول الخطابي: الأقراء التي تعتدّ بها المطلقة الاطهار لأنه ذكر فتلك العدّة بعد الطهر مجاب عنه بأن ذكره بعد الطهر لا يقتضي أن يكون مشارا إليه لجواز أن يكون ذكر الطهر للإشارة إلى أنّ الحيض المحفوف بالطهر يكون عدة، وحينئذ لا يحتاج ذكر الطهر الثاني إلى نكتة وهي أنه إذا راجعها في الطهر الأوّل بالجماع لم يكن طلاقها فيه للسنة فيحتاج للطهر الثاني ليصح فيه إيقاع الطلاق السني، وأن لا تكون الرجعة لغرض الطلاق فقط، وأن يكون كالتوبة عن المعصية باستبدال حاله، وأن يطول مقامه معها فلعله يجامعها فيذهب ما في نفسها من سبب الطلاق فيمسكها هذا ما يرجع إلى الدفع، وأما الاستدلال على أن «القرء» الحيض فهو ما
أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة والدارقطني عن عائشة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدّتها حيضتان»
فصرح بأن عدة الأمة حيضتان، ومعلوم أن الفرق بين الحرّة والأمة باعتبار مقدار العدّة لا في جنسها فيلتحق قوله تعالى: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ للإجمال الكائن بالاشتراك بيانا به وكونه لا يقاوم ما أخرجه الشيخان في قصة ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لضعفه لأن فيه مظاهرا ولم يعرف له سواه لا يخلو عن بحث، أما أولا فلما علمت أن ذلك الحديث ليس بنص في المدعى، وأما ثانيا فلأن تعليل تضعيف مظاهر غير ظاهر، فإن ابن عدي أخرج له حديثا آخر ووثقه ابن حبان، وقال الحاكم: ومظاهر شيخ من أهل البصرة ولم يذكره أحد من متقدمي مشايخنا بجرح فإذا إن لم يكن الحديث صحيحا كان حسنا، ومما يصحح الحديث عمل العلماء على وفقه قال الترمذي عقيب روايته: حديث غريب والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم

صفحة رقم 527

وغيرهم، وفي الدارقطني قال القاسم وسالم: وعمل به المسلمون، وقال مالك: شهرة الحديث تغني عن سنده كذا في الفتح، ومن أصحابنا من استدل بأنه لو كان المراد من القرء الطهر لزم إبطال موجب الخاص أعني لفظ ثلاثة فإنه حينئذ تكون العدة طهرين، وبعض الثالث في الطلاق المشهور ولا يخفى أنه كأمثاله في هذا المقام ناشىء من قلة التدبر فيما قاله الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فلهذا اعترضوا به عليه لأنه إنما جعل القرء الانتقال من الطهر إلى الحيض، أو الطهر المنتقل منه لا الطهر الفاصل بين الدمين، والانتقال المذكور، أو الطهر المنتقل منه تام على أن كون الثلاثة اسما لعدد كامل غير مسلم، والتحقيق فيه أنه إذا شرع في الثالث ساغ الإطلاق ألا تراهم يقولون هو ابن ثلاث سنين وإن لم تكمل الثالثة، وذلك لأن الزائد جعل فردا مجازا ثم أطلق على المجموع اسم العدد الكامل، ومن الشافعية من جعل القرء اسما للحيض الذي يحتوشه دمان وجعل إطلاقه على بعض الطهر وكله كإطلاق الماء والعسل، قالوا والاشتقاق مرشد إلى معنى الضم والاجتماع، وهذا الطهر يحصل فيه اجتماع الدم في الرحم وبعضه وكله في الدلالة على ذلك على السواء- وأطالوا الكلام في ذلك- والإمامية وافقوهم فيه واستدلوا عليه برواياتهم عن الأئمة والرواية عن علي كرم الله تعالى وجهه في هذا الباب مختلفة، وبالجملة كلام الشافعية في هذا المقام قوي كما لا يخفى على من أحاط بأطراف كلامهم واستقرأ ما قالوه وتأمل ما دفعوا به أدلة مخالفيهم وفي الكشف بعض الكشف وما في الكشاف غير شاف لبغيتنا وهذا المقدار يكفي أنموذجا.
هذا وكان القياس ذكر القرء بصيغة القلة التي هي الإقراء ولكنهم يتوسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من البناءين مكان الآخر ولعل النكتة المرجحة لاختياره هاهنا أن المراد بالمطلقات هاهنا جميع المطلقات ذوات الأقراء الحرائر وجميعها متجاوز فوق العشرة فهي مستعملة مقام جمع الكثرة ولكل واحدة منها ثلاثة أقراء فيحصل في الأقراء الكثرة فحسن أن يستعمل جمع الكثرة في تمييز الثلاثة تنبيها على ذلك وهذا كما استعمل أنفسهن مكان نفوسهن للإشارة إلى أن الطلاق ينبغي أن يقع على القلة وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قال ابن عمر:
الحمل والحيض أي لا يحل لها إن كانت حاملا أن تكتم حملها ولا إن كانت حائضا أن تكتم حيضها فتقول وهي حائض: قد طهرت وكن يفعلن الأول لئلا ينتظر لأجل طلاقها أن تضع ولئلا يشفق الرجل على الولد فيترك تسريحها والثاني
استعجالا لمضي العدة وإبطالا لحق الرجعة وهذا القول هو المروي عن الصادق
والحسن ومجاهد وغيرهم والقول- بأن الحيض غير مخلوق في الرحم بل هو خارج عنه- فلا يصح حمل ما على عمومها بل يتعين حملها على الولد وهو المروي عن ابن عباس وقتادة مدفوع بأن ذات الدم وإن كان غير مخلوق في الرحم لكن الاتصاف بكونه حيضا إنما يحصل له فيه وما قيل: إن الكلام في المطلقات ذوات الأقراء فلا يحتمل خلق الولد في أرحامهن فيجب حمل ما على الحيض كما حكي عن عكرمة فمدفوع أيضا بأن تخصيص العام وتقييده بدليل خارجي لا يقتضي اعتبار ذلك التخصيص أو التقييد في الراجع، واستدل بالآية على أنّ قولهما يقبل فيما خلق الله تعالى في أرحامهن إذ لولا قبول ذلك لما كان فائدة في تحريم كتمانهن، قال ابن الفرس: وعندي أن الآية عامة في جميع ما يتعلق بالفرج من بكارة وثيوبة وعيب. لأنّ كل ذلك مما خلق الله تعالى في أرحامهن فيجب أن يصدقن فيه، وفيه تأمل إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ شرط لقوله تعالى: لا يَحِلُّ لكن ليس الغرض منه التقييد حتى لو لم يؤمن كالكتابيات- حل لهنّ الكتمان- بل بيان منافاة الكتمان للإيمان وتهويل شأنه في قلوبهنّ، وهذه طريقة متعارفة يقال: إن كنت مؤمنا فلا تؤذ أباك، وقيل: إنه شرط جزاؤه محذوف- أي فلا يكتمن- وقوله سبحانه: لا يَحِلُّ علة له أقيم مقامه، وتقدير الكلام «إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر لا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن لأنه لا يحل لهن» وفيه «أن لا يكتمن

صفحة رقم 528

المقدّر» إن كان نهيا يلزم تعليل الشيء بنفسه، وإن كان نفيا يكون مفاد الكلام تعليق عدم وقوع الكتمان في المستقبل بأيمانهم في الزمان الماضي وهو كما ترى وَبُعُولَتُهُنَّ أي أزواج المطلقات جمع- بعل- كعم وعمومة، وفحل وفحولة- والهاء- زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة، والأمثلة سماعية لا قياسية، لا يقال: كعب وكعوبة، قاله الزجاج «وفي القاموس» - البعل- الزوج، والأنثى- بعل وبعلة- والرب والسيد والمالك والنخلة التي لا تسقى أو تسقى بماء المطر «وقال الراغب» - البعل- النخل الشارب بعروقه، عبر به عن الزوج لإقامته على الزوجة للمعنى المخصوص، وقيل:
باعلها جامعها، وبعل الرجل إذا دهش فأقام كأنه النخل الذي لا يبرح، ففي اختيار لفظ- البعولة- إشارة إلى أنّ أصل الرجعة بالمجامعة، وجوّز أن يكون- البعولة- مصدرا نعت به من قولك: بعل حسن البعولة- أي العشرة مع الزوجة- أو أقيم مقام المضاف المحذوف، أي وأهل بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ إلى النكاح والرجعة إليهن، وهذا إذا كان الطلاق رجعيا للآية بعدها، فالضمير- بعد اعتبار القيد- أخص من المرجوع إليه، ولا امتناع فيه كما إذا كرّر الظاهر، وقيل: بعولة المطلقات أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ وخصص بالرجعي، وأَحَقُّ هاهنا بمعنى- حقيق- عبر عنه بصيغة التفضيل للمبالغة، كأنه قيل: للبعولة حق الرجعة، أي حق محبوب عند الله تعالى بخلاف الطلاق فإنه مبغوض، ولذا
ورد للتنفير عنه «أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق»
وإنما لم يبق على معناه من المشاركة والزيادة إذ لا حق للزوجة في الرجعة كما لا يخفى. وقرأ أبيّ «بردّتهن» فِي ذلِكَ أي زمان- التربص- وهو متعلق ب أَحَقُّ أو بِرَدِّهِنَّ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً أي إن أراد البعولة بالرجعة إِصْلاحاً لما بينهم وبينهن، ولم يريدوا الإضرار بتطويل العدّة عليهنّ مثلا، وليس المراد من التعليق اشتراط جواز الرجعة بإرادة الإصلاح حتى لو لم يكن قصده ذلك لا تجوز للإجماع على جوازها مطلقا، بل المراد تحريضهم على قصد الإصلاح حيث جعل كأنه منوط به ينتفي بانتفائه وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ فيه صنعة الاحتباك، ولا يخفى لطفه فيما بين الزوج والزوجة حيث حذف في الأول بقرينة الثاني، وفي الثاني بقرينة الأول، كأنه قيل: ولهنّ عليهم مثل الذي لهم عليهنّ، والمراد- بالمماثلة- المماثلة في الوجوب- لا في جنس الفعل- فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل لها مثل ذلك، ولكن يقابله بما يليق بالرجال،
أخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «ألا إنّ لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأمّا حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون، ألا وحقهنّ عليكم أن تحسنوا إليهنّ في كسوتهنّ وطعامهن»
وأخرج وكيع وجماعة عن أنس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين المرأة لي، لأن الله تعالى يقول: وَلَهُنَّ» الآية، وجعلوا مما يجب لهنّ عدم العجلة إذا جامع حتى تقضي حاجتها.
والمجرور الأخير متعلق بما تعلق به الخبر، وقيل: صفة ل مِثْلُ وهي لا تتعرف بالإضافة وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ زيادة في الحق لأنّ حقوقهم في أنفسهن، فقد ورد أنّ النكاح كالرق أو شرف فضيلة لأنهم قوام عليهن وحرّاس لهن، يشاركوهنّ في غرض الزواج من التلذذ وانتظام مصالح المعاش، ويخصون بشرف يحصل لهم لأجل الرعاية والإنفاق عليهن- والدرجة- في الأصل- المرقاة- ويقال فيها: دَرَجَةٌ كهمزة «قال الراغب» الدرجة- نحو المنزلة لكن تقال إذا اعتبرت بالصعود دون الامتداد على البسيط- كدرجة السطح والسلم- ويعبر بها عن المنزلة الرفيعة، ومنه الآية فهي على التوجيهين مجاز «وفي الكشف» أن أصل التركيب لمعنى الأناة والتقارب على مهل من- درج الصبي إذا حبا- وكذلك الشيخ والمفيد لتقارب خطوهما- والدرجة- التي يرتقي عليها لأن الصعود ليس في السهولة كالانحدار والمشي على مستو، فلا بدّ من تدرّج- والدرج- المواضع التي يمر عليها السيل شيئا فشيئا، ومنه التدرّج في الأمور، والاستدراج من الله، والدركة هي الدرجة بعينها لكن في الانحدار- والرجال- جمع رجل، وأصل الباب القوّة والغلبة

صفحة رقم 529

وأتى بالمظهر بدل المضمر للتنويه بذكر- الرجولية- التي بها ظهرت المزية لِلرِّجالِ على النساء وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب لا يعجزه الانتقام ممن خالف الأحكام حَكِيمٌ عالم بعواقب الأمور والمصالح التي شرع ما شرع لها، والجملة تذييل للترهيب والترغيب.
الطَّلاقُ مَرَّتانِ إشارة إلى الطلاق المفهوم من قوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ وهو الرجعي وهو بمعنى التطليق الذي هو فعل الرجل- كالسلام بمعنى التسليم- لأنه الموصوف بالوحدة والتعدّد دون ما هو وصف المرأة، ويؤيد ذلك ذكر ما هو من فعل الرجل أيضا بقوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أي بالرجعة وحسن المعاشرة أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أي إطلاق مصاحب له من جبر الخاطر وأداء الحقوق، وذلك إما بأن لا يراجعها حتى تبين، أو يطلقها الثالثة- وهو المأثور-
فقد أخرج أبو داود وجماعة عن أبي رزين الأسدي أنّ رجلا قال: يا رسول الله- صلى الله تعالى عليه وسلم- إني أسمع الله تعالى يقول الطَّلاقُ مَرَّتانِ فأين الثالثة؟ فقال: «التسريح بإحسان هو الثالثة»
وهذا يدل على أن معنى مَرَّتانِ اثنتان، ويؤيد العهد- كالفاء- في الشق الأوّل فإنّ ظاهرها التعقيب بلا مهلة، وحكم الشيء يعقبه بلا فصل، وهذا هو الذي حمل عليه الشافعية الآية، ولعله أليق بالنظم حيث قد انجرّ ذكر اليمين إلى ذكر الإيلاء الذي هو طلاق، ثم انجرّ ذلك إلى ذكر حكم الْمُطَلَّقاتُ من العدة والرجعة، ثم انجر ذلك إلى ذكر أحكام الطلاق المعقب للرجعة، ثم انجرّ ذلك إلى بيان الخلع والطلاق الثلاثة- وأوفق بسبب النزول- فقد أخرج مالك والشافعي والترمذي رضي الله تعالى عنهما وغيرهم. عن عروة قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان ذلك له وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا ما شارفت انقضاء عدّتها ارتجعها ثم طلقها ثم قال: والله لا آويك إليّ ولا تخلين أبدا، فأنزل الله تعالى الآية، والذي دعاهم إلى ذلك قولهم إن جمع الطلقات الثلاث غير محرّم وأنه لا سنة في التفريق كما في تحفتهم، واستدلوا عليه بأن- عويمرا العجلاني- لما لاعن امرأته طلقها ثلاثا قبل أن يخبره صلى الله تعالى عليه وسلم بحرمتها عليه- رواه الشيخان- فلو حرم لنهاه عنه لأنه أوقعه معتقدا بقاء الزوجية، ومع اعتقادها يحرم الجمع عند المخالف، ومع الحرمة يجب الإنكار على العالم وتعليم الجاهل، ولم يوجدا فدل على أنه لا حرمة وبأنه قد فعله جمع من الصحابة وأفتى به آخرون، وقال ساداتنا الحنفية: إن الجمع بين التطليقتين والثلاث بدعة، وإنما السنة التفريق لما
روي في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له: «إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة»
فإنه لم يرد صلى الله تعالى عليه وسلم من السنة أنه يستعقب الثواب لكونه أمرا مباحا في نفسه لا مندوبا بل كونه من الطريقة المسلوكة في الدين- أعني ما لا يستوجب عقابا- وقد حصره عليه الصلاة والسلام على التفريق فعلم أن ما عداه من الجمع، والطلاق في الحيض بدعة- أي موجب لاستحقاق العقاب- وبهذا يندفع ما قيل: إن الحديث إنما يدل على أن جمع الطلقتين أو الطلقات في طهر واحد ليس سنة، وأمّا أنه بدعة فلا لثبوت الواسطة عند المخالف، ووجه الدفع ظاهر كما لا يخفى «وفي الهداية» وقال الشافعي، كل الطلاق مباح لأنه تصرف مشروع- حتى يستفاد به الحكم- المشروعية لا تجامع الحظر بخلاف الطلاق في الحيض لأن المحرّم تطويل العدّة عليها- لا الطلاق- ولنا أن الأصل في الطلاق هو الحظر لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية والدنيوية والإباحة للحاجة إلى الخلاص، ولا حاجة إلى الجمع بين الثلاث، وهي في المفرق على- الاطهار- ثابتة نظرا إلى دليلها، والحاجة في نفسها باقية فأمكن تصوير الدليل عليها، والمشروعية في ذاته من حيث إنه إزالة الرق لا ينافي الحظر لمعنى في غيره- وهو ما ذكرناه- انتهى. ومنه يعلم أن المخالف معمم- لا مقسم- وإذا قلنا إنه مقسم بناء على ما في كتب بعض مذهبه فغاية ما أثبت

صفحة رقم 530

أن الجمع خلاف الأولى من التفريق على الأقراء أو الأشهر، وقد علمت أن تقسيم أبي القاسم صلى الله تعالى عليه وسلم غير تقسيمه، وأجيب عما في خبر عويمر بأنها وقاعة حال- فلعلها من المستثنيات- لما أن مقام اللعان ضيق فيغتفر فيه مثل ذلك ويعذر فيه الغيور وأعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما وحملوا الآية على أن المراد التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق لما أن وظيفة الشارع بيان الأمور الشرعية واللام ليست نصا في العهد بل الظاهر منها الجنس وأيضا تقييد الطلاق بالرجعي يدع ذكر الرجعة بقوله سبحانه: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ تكرارا إلا أن يقال المطلوب هاهنا الحكم المردد بين الإمساك والتسريح، وأيضا لا يعلم على ذلك الوجه حكم الطلاق الواحد إلا بدلالة النص، وهذا الوجه مع كونه أبعد عن توهم التكرار ودلالته على حكم الطلاق الواحد بالعبارة يفيد حكما زائدا وهو التفريق، ودلالة الآية حينئذ على ما ذهبوا إليه ظاهرة إذا كان معنى مرتين مجرد التنكير يردون التثنية على حد ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: ٤] أي كرة بعد كرة لا كرتين ثنتين إلا أنه يلزم عليه إخراج التثنية عن معناها الظاهر، وكذا إخراج- الفاء- أيضا وجعل ما بعدها حكما مبتدأ وتخييرا مطلقا عقيب تعليمهم كيفية التطليق وليس مرتبا على الأول ضرورة أن التفريق المطلق لا يترتب عليه أحد الأمرين لأنه إذا كان بالثلاث لا يجوز بعده الإمساك ولا التسريح وتحمل- الفاء- حينئذ على الترتيب الذكري- أي إذا علمتم كيفية الطلاق فاعلموا أن حكمه الإمساك أو التسريح- فالامساك في الرجعي والتسريح في غيره، وإذا كان معنى- مرتين- التفريق مع التثنية كما قال به المحققون- بناء على أنه حقيقة في الثاني ظاهر في الأول إذ لا يقال لمن دفع إلى آخر درهمين مرة واحدة أنه أعطاه مرتين حتى يفرق بينهما وكذا لمن طلق زوجته ثنتين دفعة أنه طلق مرتين- اندفع حديث ارتكاب خلاف الظاهر في التثنية كما هو ظاهر، وفيما بعدها أيضا لصحة الترتب ويكون عدم جواز الجمع بين التطليقتين مستفادا من مَرَّتانِ الدالة على التفريق والتثنية، وعدم الجمع بين الثالثة مستفادا من قوله سبحانه: أَوْ تَسْرِيحٌ حيث رتب على ما قبله بالفاء قيل: إنه مستفاد من دلالة النص هذا ثم من أوجب التفريق ذهب إلى أنه لو طلق غير مفرق وقع طلاقه وكان عاصيا وخالف في ذلك الإمامية وبعض من أهل السنة- كالشيخ أحمد بن تيمية ومن اتبعه- قالوا: لو طلق ثلاثا بلفظ واحد لا تعد له أربعا بالإجماع وكذا لو رمى بسبع حصيات دفعة واحدة لم يجزه إجماعا، ومثل ذلك ما لو حلف ليصلين على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ألف مرة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم على النبي صلّى الله عليه وسلّم ألف مرة فإنه لا يكون بارا ما لم يأت بآحاد الألف، وتمسكا بما أخرجه مسلم. وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه.
وذهب بعضهم إلى أن مثل ذلك ما لو طلق في مجلس واحد ثلاث مرات فإنه لا يقع إلا واحدة أيضا لما
أخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «طلق ركانة امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا قال: في مجلس واحد؟ قال: نعم قال:
فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت فراجعها»

والذي عليه أهل الحق اليوم خلاف ذلك كله.
والجواب عن الاحتجاج بالآية أنها كما علمت ليست نصا في المقصود، وأما الحديث فقد أجاب عنه جماعة قال السبكي: وأحسن الأجوبة أنه فيمن يعرف اللفظ فكانوا أولا يصدقون في إرادة التأكيد لديانتهم فلما كثرت الأخلاط فيهم اقتضت المصلحة عدم تصديقهم وإيقاع الثلاث، واعترضه العلامة ابن حجر قائلا: إنه عجيب فإن

صفحة رقم 531

صريح مذهبنا تصديق مريد التأكيد بشرطه وإن بلغ في الفسق ما بلغ، ثم نقل عن بعض المحققين أن أحسنها أنهم كانوا يعتادونه طلقة ثم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه استعجلوا وصاروا يوقعونه ثلاثا فعاملهم بقضيته وأوقع الثلاث عليهم، فهو إخبار عن اختلاف عادة الناس لا عن تغيير حكم في مسألة، واعترض عليه بعدم مطابقته للظاهر المتبادر من كلام عمر لا سيما مع قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الثلاث إلخ، فهو تأويل بعيد لا جواب حسن فضلا عن كونه أحسن، ثم قال: والأحسن عندي أن يجاب بأن عمر رضي الله تعالى عنه لما استشار الناس علم فيه ناسخا لما وقع قبل فعمل بقضيته وذلك الناسخ إما خبر بلغه أو إجماع وهو لا يكون إلا عن نص، ومن ثمّ أطبق علماء الأمة عليه، وأخبار ابن عباس لبيان أن الناسخ إنما عرف بعد مضي مدة من وفاته صلّى الله عليه وسلّم انتهى، وأنا أقول الطلاق الثلاث في كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يحتمل أن يكون بلفظ واحد، وحينئذ يكون الاستدلال به على المدعى ظاهرا، ويؤيد هذا الاحتمال ظاهرا ما أخرجه أبو داود عنه إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق ثلاثا بفم واحدة فهي واحدة وحينئذ يجاب بالنسخ، ويحتمل أن يكون بألفاظ ثلاثة في مجلس واحد مثل أنت طالق أنت طالق أنت طالق، ويحمل ما أخرجه أبو داود على هذا بأن يكون ثلاثا متعلقا- يقال- لا صفة لمصدر محذوف أي طلاقا ثلاثا ولا تمييز للابهام الذي في الجملة قبله، وبفم واحدة معناه متتابعا وحينئذ يوافق الخبر بظاهره أهل القول الأخير، ويجاب عنه بأن هذا في الطلاق قبل الدخول فإنه كذلك لا يقع إلا واحدة كما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لأن البينونة وقعت بالتطليقة الأولى فصادفتها الثانية وهي مبانة، ويدل على ذلك ما أخرجه أبو داود والبيهقي عن طاوس أن رجلا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر فلما رأى الناس قد تتايعوا (١) فيها قال: أجيزوهن عليهم، وهذه مسألة اجتهادية كانت على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يرو في الصحيح أنها رفعت إليه فقال فيها شيئا، ولعلها كانت تقع في المواضع النائية في آخر أمره صلّى الله عليه وسلّم فيجتهد فيها من أوتي علما فيجعلها واحدة، وليس في كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تصريح بأن الجاعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بل في قوله جعلوها واحدة إشارة إلى ما قلنا، وعمر رضي الله تعالى عنه بعد مضي أيام من خلافته ظهر له بالاجتهاد أن الأولى القول بوقوع الثلاث لكنه خلاف مذهبنا، وهو مذهب كثير من الصحابة حتى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد أخرج مالك والشافعي وأبو داود والبيهقي عن معاوية بن أبي عياش أنه كان جالسا مع عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن أبي إياس ابن البكير فقال إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فماذا تريان؟ فقال ابن الزبير: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة فاسألهما فذهب فسألهما فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة فقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: الواحدة تبينها والثلاثة تحرمها حتى تنكح زوجا غيره، وقال ابن عباس مثل ذلك، وإن حملت الثلاث في هذا الخبر على ما كان بلفظ واحد لئلا يخالف مذهب الإمام فإن عنده إذا طلق الرجل امرأته الغير المدخول بها ثلاثا بلفظ واحد وقعن عليها
لأن الواقع مصدر محذوف لأن معناه طلاقا بائنا فلم

(١) قوله: تتايع الناس هو بتاءين فوقيتين بعدهما ألف ومثناة تحتية بعدها عين مهملة وهو الوقوع في الشر من غير تماسك ولا توقف. وفي أصل المؤلف بتاء بعدها باء وهو تصحيف تدبر اهـ إدارة الطباعة المنيرية.

صفحة رقم 532

يكن أنت طالق إيقاعا على حدة فيقعن جملة كان هذا الخبر معارضا لما رواه مسلم مؤيدا للنسخ كالخبر الذي
أخرجه الطبراني والبيهقي عن سويد بن غفلة قال: كانت عائشة الخثعمية عند الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما فقال لها: قتل علي كرم الله وجهه قالت: لتهنك الخلافة قال: يقتل عليّ وتظهرين الشماتة اذهبي فأنت طالق ثلاثا قال:
فتلفعت بثيابها وقعدت حتى قضت عدتها فبعث إليها ببقية بقيت لها من صداقها وعشرة آلاف صدقة فلما جاءها الرسول قالت: متاع قليل من حبيب مفارق فلما بلغه قولها بكى ثم قال: لولا أني سمعت جدي- أو حدثني- أبي أنه سمع جدي يقول أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند الأقراء أو ثلاثا مبهمة لم تحل به حتى تنكح زوجا غيره لراجعتها،
وما
أخرجه ابن ماجة عن الشعبي قال: قلت لفاطمة بنت قيس حدثيني عن طلاقك قالت: طلقني زوجي ثلاثا وهو خارج إلى اليمن فأجاز ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم،
وأما حديث ركانة فقد روي على أنحاء، والذي صح ما
أخرجه الشافعي وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم والبيهقي «أن ركانة طلق امرأته البتة فأخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك وقال: والله ما أردت إلا واحدة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: والله ما أردت إلّا واحدة؟
فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة قال: هو ما أردت فردها عليه»

وهذا لا يصلح دليلا لتلك الدعوى لأن الطلاق فيه كناية ونية العدد فيها معتبرة، وقد يستدل به على صحة وقوع الثلاث بلفظ واحد لأنه دل على أنه لو أراد ما زاد على الواحدة وقع وإلا لم يكن للاستخلاف فائدة والقياس على شهادات اللعان. ورمي الجمرات قياس في غير محله، ألا ترى أنه لا يمكن الاكتفاء ببعض ذلك بوجه ويمكن الاكتفاء ببعض وحدات الثلاث في الطلاق وتحصل به البينونة بانقضاء العدة ويتم الغرض إجماعا، ولعظم أمر اللعان لم يكتف فيه إلا بالإتيان بالشهادات واحدة واحدة مؤكدات بالأيمان مقرونة، خامستها باللعن في جانب الرجل لو كان كاذبا وفي جانبها بالغضب لو كان صادقا فلعل الرجوع أو الإقرار يقع في البين فيحصل الستر أو يقام الحد ويكفر الذنب، وأيضا الشهادات الأربع من الرجل منزلة منزلة الشهود الأربعة المطلوبة في رمي المحصنات مع زيادة كما يشير إليه قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ [النور: ٤] مع قوله سبحانه بعده: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ [النور: ٦] إلخ فكما أن- شهادة الشهود- متعددة لا يكفي فيها اللفظ الواحد كذلك المنزل منزلتها، ورمي الجمرات وتسبيعها أمر تعبدي وسره خفي فيحتاط له ويتبع المأثور فيه حذو القذة بالقذة، وباب الطلاق ليس كهذين البابين على أن من الاحتياط فيه أن نوقعه ثلاثا بلفظ واحد، ومجلس واحد، ولا نلغي فيه لفظ الثلاث التي لم يقصد بها إلا إيقاعه على أتم وجه وأكمله، وما ذكر في مسألة الحلف على أن لا يصلين ألف مرة من أنه لا يبر ما لم يأت بآحاد الألف فأمر اقتضاه القصد والعرف، وذلك وراء ما نحن فيه كما لا يخفى، ولهذا ورد عن أهل البيت ما يؤيد مذهب أهل السنة
فقد أخرج البيهقي عن بسام الصيرفي قال: سمعت جعفر بن محمد يقول من طلق امرأته ثلاثا بجهالة أو علم فقد برئت،
وعن مسلمة بن جعفر الأحمس، قال: قلت لجعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما يزعمون أن من طلق ثلاثا بجهالة رد إلى السنة يجعلونه واحدة يروونها عنكم؟ قال: معاذ الله ما هذا من قولنا من طلق ثلاثا فهو كما قال،
وقد سمعت ما رويناه عن الحسن: وما أخذ به الإمامية يروونه عن علي كرم الله تعالى وجهه مما لا ثبت له والأمر على خلافه، وقد افتراه على علي كرم الله تعالى وجهه شيخ بالكوفة وقد أقر بالافتراء لدى الأعمش رحمه الله تعالى فليحفظ ما تلوناه فإني لا أظنك تجده مسطورا في كتاب.
وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا في مقابلة الطلاق مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ أي من الصدقات فإن ذلك مناف للإحسان ومثلها في الحكم سائر أموالهن إلا أن التخصيص إما لرعاية العادة أو للتنبيه على أن عدم حل الأخذ مما عدا ذلك من

صفحة رقم 533

باب الأولى، والجار والمجرور يحتمل أن يكون متعلقا بما عنده أو حالا من شَيْئاً لأنه لو أخر عنه كان صفة له، والتنوين للتحقير، والخطاب مع الحكام، وإسناد الأخذ والإيتاء إليهم لأنهم الآمرون بهما عند الترافع، وقيل: إنه خطاب للأزواج، ويرد عليه أن فيه تشويشا للنظم الكريم لأن قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَخافا أي الزوجان كلاهما أو أحدهما أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ بترك إقامة مواجب الزوجية غير منتظم معه لأن المعبر عنه في الخطاب الأزواج فقط، وفي الغيبة الأزواج والزوجات ولا يمكن حمله على الالتفات إذ من شرطه أن يكون المعبر عنه في الطريقين واحدا، وأين هذا الشرط نعم لهذا القيل وجه صحة لكنها لا تسمن ولا تغني، وهو أن الاستثناء لما كان بعد مضي جملة الخطاب من أعم الأحوال أو الأوقات أو المفعول له على أن يكون المعنى بسبب من الأسباب إلا بسبب الخوف جاز تغيير الكلام من الخطاب إلى الغيبة لنكتة وهي أن لا يخاطب مؤمن بالخوف من عدم إقامة حدود الله، وقرىء «تخافا» و «تقيما» بتاء الخطاب وعليها يهون الأمر فإن في ذلك حينئذ تغليب المخاطبين على الزوجات الغائبات، والتعبير بالتثنية باعتبار الفريقين، وقرأ حمزة ويعقوب «يخافا» على البناء للمفعول وإبدال أَنْ بصلته من- ألف الضمير- بدل اشتمال كقولك: خيف زيد تركه حُدُودَ اللَّهِ ويعضده قراءة عبد الله إلا أن تخافوا وقال ابن عطية: عدي «خاف» إلى مفعولين «أحدهما» أسند إليه الفعل «والآخر» بتقدير حرف جر محذوف فموضع أَنْ جرّ بالجار المقدر، أو نصب على اختلاف الرأيين وردّه في البحر بأنه لم يذكره النحويون حين عدوا ما يتعدى إلى اثنين، وأصل «أحدهما» بحرف الجرّ، وفي قراءة أبيّ «إلا أن يظنا» وهو يؤيد تفسير- الظن بالخوف- فَإِنْ خِفْتُمْ خطاب للحكام لا غير لئلا يلزم تغيير الأسلوب قبل مضي الجملة أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ التي حدّها لهم.
فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي الزوجين، وهذا قائم مقام الجواب أي فمروهما فإنه لا جناح فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ نفسها واختلعت لا على الزوج في أخذه ولا عليها في إعطائه إياه،
أخرج ابن جرير عن عكرمة أنه سئل هل كان للخلع أصل؟ قال: كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: إن أوّل خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبي امرأة ثابت بن قيس «أنها أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها قال زوجها: يا رسول الله إني أعطيتها أفضل مالي حديقة لي فإن ردت عليّ حديقتي قال: ما تقولين؟ قالت: نعم وإن شاء زدته قال: ففرق بينهما»
وفي رواية البخاري- أن المرأة اسمها جميلة وأنها بنت عبد الله المنافق- وهو الذي رجحه الحفاظ وكون اسمها زينب جاء من طريق الدارقطني قال الحافظ ابن حجر: فلعل لها اسمين أو أحدهما لقب وإلا فجميلة أصح، وقد وقع في حديث آخر أخرجه مالك والشافعي وأبو داود أن اسم امرأة ثابت حبيبة بنت سهل، قال الحافظ: والذي يظهر أنهما قضيتان وقعتا له في امرأتين لشهرة الحديثين وصحة الطريقين واختلاف السياقين تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارة إلى ما حد من الأحكام من قوله سبحانه: الطَّلاقُ مَرَّتانِ إلى هنا فالجملة فذلكة لذلك أوردت لترتيب النهي عليها فَلا تَعْتَدُوها بالمخالفة والرفض وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ تذييل للمبالغة في التهديد والواو للاعتراض وفي إيقاع الظاهر موقع المضمر ما لا يخفى من إدخال الروعة وتربية المهابة، وظاهر الآية يدل على أن الخلع لا يجوز من غير كراهة وشقاق لأن نفي الحل الذي هو حكم العقد في جميع الأحوال إلا حال الشقاق يدل على فساد العقد وعدم جوازه ظاهرا إلا أن يدل الدليل على خلاف الظاهر، وعلى أنه لا يجوز أن يكون بجميع ما ساق الزوج إليها فضلا عن الزائد لأن- في مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ تبعيضية فيكون مفاد الاستثناء حل أخذ شيء مما آتيتموهن حين الخوف، وأما كلمة ما في قوله سبحانه: فِيمَا افْتَدَتْ فليست ظاهرة في العموم حتى ينافي ظهور الآية في

صفحة رقم 534

الحكم المذكور بل فاء التفسير في فَإِنْ خِفْتُمْ يدل ظاهرا على أنه بيان للحكم المفهوم بطريق المخالفة عن الاستثناء، وفائدته التنصيص على الحكم ونفي الجناح في هذا العقد فإن ثبوت الحل المستفاد من الاستثناء قد يجامع الجناح بأن يكون مع الكراهة، نعم تحتمل العموم فلا تكون نصا في عدم جواز الخلع بجميع ما يساق، ولهذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: اخلعها ولو بقرطها، ويؤيد الأول ما
أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ثوبان قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة» وقال: «المختلعات هن المنافقات»
ويؤيد الثاني ما
روي من بعض الطرق أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لجميلة «أتردّين عليه حديقته؟ فقالت: أردها وأزيد عليها فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: أما الزائد فلا»
وهذا وإن دل على نفي الزيادة دون جميع المهر إلا أنه يستفاد منه أن فيما افتدت به ليس على عمومه فيكون المراد به ما يستفاد من الاستثناء وهو البعض، وأكثر الفقهاء على أن الخلع بلا شقاق وبجميع ما ساق مكروه لكنه نافذ لأن أركان العقد من الإيجاب والقبول وأهلية العاقدين مع التراضي متحقق والنهي لأمر مقارن كالبيع وقت النداء وهو لا ينافي الجواز، وعلى أنه يصح بلفظ المفادات لأنه تعالى سمي الاختلاع افتداء، واختلف في أنه إذا جرى بغير لفظ الطلاق فسخ أو طلاق، ومن جعله فسخا احتج بقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فإن تعقيبه للخلع بعد ذكر الطلقتين يقتضي أن يكون طلقة رابعة لو كان الخلع طلاقا، والأظهر أنه طلاق وإليه ذهب أصحابنا وهو قول للشافعية لأنه فرقة باختيار الزوج فهو كالطلاق بالعوض فحينئذ يكون فَإِنْ طَلَّقَها متعلقا بقوله سبحانه الطَّلاقُ مَرَّتانِ تفسيرا لقوله تعالى: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ لا متعلقا بآية الخلع ليلزم المحذور، ويكون ذكر الخلع اعتراضا لبيان أن الطلاق يقع مجانا تارة وبعوض أخرى، والمعنى فإن طلقها بعد الثنتين أو بعد الطلاق الموصوف بما تقدم.
فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد ذلك التطليق حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ أي تتزوّج زوجا غيره، ويجامعها فلا يكفي مجرد العقد كما ذهب إليه ابن المسيب وخطؤه لأن العقد فهم من زوجا، والجماع من تنكح، وبتقدير عدم الفهم، وحمل النكاح على العقد تكون الآية مطلقة إلا أن السنة قيدتها
فقد أخرج الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلّا مثل هدبة الثوب فتبسم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك»
وعن عكرمة أن هذه الآية نزلت في هذه المرأة واسمها عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك وكان نزل فيها فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فيجامعها فإن طلقها بعد ما جامعها فلا جناح عليهما أن يتراجعا، وفي ذلك دلالة على أن الناكح الثاني لا بد أن يكون زوجا فلو كانت أمة وطلقت البتة ثم وطئها سيدها لا تحل للأول. وعلى أنه لو اشتراها الزوج من سيدها أو وهبها سيدها له بعد أن بت طلاقها لم يحل له وطؤها في الصورتين بملك اليمين حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ وعلى أنّ الولي ليس شرطا في النكاح لأنه أضاف العقد إليها، والحكمة في هذا الحكم ردع الزوج عن التسرع إلى الطلاق لأنه إذا علم أنه إذا بت الطلاق لا تحل له حتى يجامعها رجل آخر.
ولعله عدوه ارتدع عن أن يطلقها البتة لأنه وإن كان جائزا شرعا لكن تنفر عنه الطباع وتأباه غيرة الرجال، والنكاح بشرط التحليل فاسد عند مالك وأحمد والثوري والظاهرية وكثيرين، واستدلوا على ذلك بما
أخرجه ابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي عن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا أخبركم بالتيس

صفحة رقم 535

المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له»
وأخرج عبد الرزاق عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رحمتهما، والبيهقي عن سليمان بن يسار أن عثمان رضي الله تعالى عنه رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحللها لزوجها ففرق بينهما، وقال: لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة، وعندنا هو مكروه. والحديث لا يدل على عدم صحة النكاح لما أن المنع عن العقد لا يدل على فساده، وفي تسمية ذلك محللا ما يقتضي الصحة لأنها سبب الحل، وحمل بعضهم الحديث على من اتخذه تكسبا أو على ما إذا شرط التحليل في صلب العقد لا على من أضمر ذلك في نفسه فإنه ليس بتلك المرتبة بل قيل: إن فاعل ذلك مأجور فَإِنْ طَلَّقَها الزوج الثاني فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي على الزوج الأول والمرأة أَنْ يَتَراجَعا أن يرجع كل منهما إلى صاحبه بالزواج بعد مضي العدة إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية التي حدها الله تعالى وشرعها وتفسير الظن بالعلم هاهنا قيل: غير صحيح لفظا ومعنى، أما معنى فلأنه لا يعلم ما في المستقبل يقينا في الأكثر، وأما لفظا فلأن أن المصدرية للتوقع وهو ينافي العلم، ورد بأن المستقبل قد يعلم ويتيقين في بعض الأمور وهو يكفي للصحة، وبأن سيبويه أجاز- وهو شيخ العربية- ما علمت إلا أن يقوم زيد والمخالف له فيه أبو علي الفارسي، ولا يخفى أن الاعتراض الأول فيما نحن فيه مما لا يجدي نفعا لأن المستقبل وإن كان قد يعلم في بعض الأمور إلا أن ما هنا ليس كذلك وليس المراجعة مربوطة بالعلم بل الظن يكفي فيها وَتِلْكَ إشارة إلى الأحكام المذكورة إلى هنا حُدُودَ اللَّهِ أي أحكامه المعينة المحمية من التعرض لها بالتغيير والمخالفة يُبَيِّنُها بهذا البيان اللائق، أو سيُبَيِّنُها بناء على أن بعضها يلحقه زيادة كشف في الكتاب والسنة، والجملة خبر على رأي من يجوّزه في مثل ذلك، أو حال من حُدُودَ اللَّهِ والعامل معنى الإشارة، وقرىء «نبينها» بالنون على الالتفات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي يفهمون ويعملون بمقتضى العلم فهو للتحريض على العمل- كما قيل- أو لأنهم المنتفعون بالبيان، أو لأن ما سيلحق بعض الحدود منه لا يعقله إلا الراسخون، أو ليخرج غير المكلفين وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي آخر عدتهم فهو مجاز من قبيل استعمال الكل في الجزء إن قلنا: إن الأجل حقيقة في جميع المدة- كما يفهمه كلام الصحاح- وهو الدائر في كلام الفقهاء، ونقل الأزهري عن الليث يدل على أنه حقيقة في الجزء الأخير، وكلا الاستعمالين ثابت في الكتاب الكريم، فإن كان من باب الاشتراك فذاك وإلا فالتجوّز من الكل إلى الجزء الأخير أقوى من العكس- والبلوغ- في الأصل الوصول وقد يقال لدنو منه- وهو المراد في الآية- وهو إمّا من مجاز المشارفة أو الاستعارة تشبيها للمتقارب الوقوع بالواقع ليصح أن يرتب عليه.
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ إذ لا إمساك بعد انقضاء الأجل لأنها حينئذ غير زوجة له ولا في عدّته فلا سبيل له عليها- والإمساك- مجاز عن المراجعة لأنها سببه- والتسريح- بمعنى الإطلاق وهو مجاز عن الترك، والمعنى فراجعوهن من غير «ضرار» أو خلوهن حتى تنقضي عدّتهن من غير تطويل، وهذا إعادة للحكم في صورة بلوغهنّ أجلهنّ اعتناء لشأنه ومبالغة في إيحاب المحافظة عليه، ومن الناس من حمل- الإمساك بالمعروف- على عقد النكاح وتجديده مع حسن المعاشرة- والتسريح بالمعروف- على ترك العضل عن التزوّج بآخر، وحينئذ لا حاجة إلى القول بالمجاز في «بلغن» ولا يخفى بعده عن سبب النزول، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي أنّ رجلا من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق زوجته حتى إذا انقضت عدّتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها ثم طلقها ففعل ذلك بها حتى مضت لها تسعة أشهر يضارها فأنزل الله تعالى هذه الآية وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً تأكيد للأمر- بالإمساك بالمعروف- وتوضيح لمعناه وهو أدل منه على الدوام والثبات وأصرح في الزجر عما كانوا يتعاطونه، وضِراراً

صفحة رقم 536

نصب على العلية أو الحالية أي لا ترجعوهن للمضارة أو مضارين، ومتعلق النهي القيد- واللام- في قوله تعالى:
لِتَعْتَدُوا متعلق ب ضِراراً أي لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء، واعترض بأن- الضرار- ظلم- والاعتداء- مثله فيؤول إلى وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ظلما لتظلموا وهو كما ترى، وأجيب بأنّ المراد- بالضرار- تطويل المدة- وباعتداء- الإلجاء، فكأنه قيل: لا تمسكوهنّ بالتطويل لتلجئوهنّ إلى الاختلاع والظلم قد يقصد ليؤدّي إلى ظلم آخر، والمشهور أن هذا الوجه متعين على الوجه الأول في ضِراراً ولا يجوز عليه أن يكون هذا علة لما كان هو له إذ المفعول له لا يتعدّد إلا بالعطف، أو على البدل- وهو غير ممكن لاختلاف الإعراب- ويجوز أن يكون كذلك على الوجه الثاني، وجوّز تعلقه بالفعل مطلقا إذا جعلت- اللام- للعاقبة، ولا ضرر في تعدّي الفعل إلى علة وعاقبة لاختلافهما وإن كانت- اللام- حقيقة فيهما على رأي- وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ المذكور وما فيه من البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر والفساد فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بتعريضها للعذاب، أو بأن فوت على نفسه منافع الدين من الثواب الحاصل على حسن المعاشرة، ومنافع الدنيا من عدم رغبة النساء به بعد لاشتهاره بهذا الفعل القبيح وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ المنطوية على الأحكام المذكورة في أمر النساء أو جميع آياته وهذه داخلة فيها هُزُواً مهزوءا بها بأن تعرضوا عنها، وتتهاونوا في المحافظة عليها لقلة اكتراثكم بالنساء وعدم مبالاتكم بهن، وهذا نهي أريد به الأمر بضده، أي جدّوا في الأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها. وأخرج ابن أبي عمرة وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: كان الرجل يطلق ثم يقول: لعبت ويعتق، ثم يقول: لعبت، فنزلت،
وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ثلاث هزلهنّ جد: النكاح والطلاق والرجعة»
وعن أبي الدرداء «ثلاث اللاعب فيها كالجاد، النكاح، والطلاق والعتاق» وعن عمر رضي الله تعالى عنه «أربع مقفلات. النذر والطلاق والعتق والنكاح» وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي قابلوها بالشكر والقيام بحقوقها- والنعمة- إما عامة فعطف.
وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ عليها من عطف الخاص على العام، وإمّا أن تخص بالإسلام ونبوّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وخصا بالذكر ليناسب ما سبقه، وليدل على أن ما كانوا عليه من الإمساك إضرارا من سنن الجاهلية المخالفة، كأنه لما قيل: جدّوا في العمل بالآيات على طريق الكناية أكد ذلك بأنه شكر النعمة فقوموا بحقه، ويكون العطف تأكيدا على تأكيد لأن الإسلام ونبوّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يشملان إنزال الكتاب والسنة- وهو قريب من عطف التفسير- ولا بأس أن يسمى عطف التقرير، قيل: ولو عمم النعمة لم يحسن موقعه هذا الحسن، ولا يخفى أنه في حيز المنع، والظرف الأوّل متعلق بمحذوف وقع حالا من نعمة أو صفة لها على رأي من يجوّز حذف الموصول مع بعض الصلة، ويجوز أن يتعلق بنفسها إن أريد بها الإنعام لأنها اسم مصدر كنبات من أنبت ولا يقدح في عمله- تاء التأنيث- لأنه مبني عليها كما في قوله:

فلولا رجاء النصر منك وهيبة عقابك قد كانوا لنا كالموارد
والظرف الثاني متعلق بما عنده وأتى به تنبيها للمأمورين وتشريفا لهم، وما موصولة حذف عائدها من الصلة، ومَنْ في قوله تعالى: مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ بيانية، والمراد بهما القرآن الجامع للعنوانين، أو القرآن والسنة، والإفراد بالذكر بعد الاندراج في المذكور إظهارا للفضل وإيماء إلى أن الشرف وصل إلى غاية لا يمكن معها الاندراج، وذاك من قبيل:
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
يَعِظُكُمْ بِهِ أي بما أنزل حال من فاعل أَنْزَلَ أو من مفعوله، أو منهما معا، وجوّز أن يكون ما

صفحة رقم 537

مبتدأ وهذه الجملة خبره ومِنَ الْكِتابِ حال من العائد المحذوف، وقيل: الجملة معترضة للترغيب والتعليل.
وَاتَّقُوا اللَّهَ في أوامره والقيام بحقوقه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فلا يخفى عليه شيء مما تأتون وما تذرون فليحذر من جزائه وعقابه، أو أن عَلِيمٌ بكل شيء فلا يأمر إلا بما فيه الحكمة والمصلحة فلا تخالفوه، وفي هذا العطف ما يؤكد الأوامر والأحكام السابقة، وليس هذا من التأكيد المقتضي للفصل، لأنه ليس إعادة لمفهوم المؤكد ولا متحدا معه.
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي انقضت عدتهن كما يدل عليه السياق. فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ أي لا تمنعوهن ذلك، وأصل العضل الحبس والتضييق، ومنه عضلت الدجاجة بالتشديد إذا نشبت بيضتها ولم تخرج، والفعل مثلث العين، واختلف في الخطاب فقيل- واختاره الإمام- إنه للأزواج المطلقين حيث كانوا يعضلون مطلقاتهم بعد مضي العدة ولا يدعونهن يتزوجن ظلما وقسرا لحمية الجاهلية، وقد يكون ذلك بأن يدس إلى من يخبطهن ما يخيفه أو ينسب إليهن ما ينفر الرجل من الرغبة فيهن، وعليه يحمل الأزواج على من يردن أن يتزوجنه، والعرب كثيرا ما تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه، وقيل- واختاره القاضي- إنه للأولياء، فقد أخرج البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داود وخلق كثير من طرق شتى عن معقل بن يسار قال: كانت لي أخت فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة، ولم يراجعها حتى انقضت العدة فهويها وهوته ثم خطبها مع الخطاب فقلت له: يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها، والله لا ترجع إليك أبدا وكان رجلا لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم الله تعالى حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله تعالى هذه الآية، قال: ففي نزلت فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه، وفي لفظ فلما سمعها معقل قال: سمعا لربي وطاعة ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك، وعليه يحمل الأزواج على الذين كانوا أزواجا وخطاب التطليق حينئذ إما أن يتوجه لما توجه له هذا الخطاب ويكون نسبة التطليق للأولياء باعتبار التسبب كما ينبئ عنه التصدي للعضل، وإما أن يبقى على ظاهره للأزواج المطلقين ويتحمل تشتيت الضمائر اتكالا على ظهور المعنى، وقيل- واختاره الزمخشري- إنه لجميع الناس فيتناول عضل الأزواج والأولياء جميعا، ويسلم من انتشار ضميري الخطاب والتفريق بين الاسنادين مع المطابقة لسبب النزول، وفيه تهويل أمر العضل بأن من حق الأولياء أن لا يحوموا حوله وحق الناس كافة أن ينصروا المظلوم، وجعل بعضهم الخطابات السابقة كذلك، وذكر أن المباشرة لتوقفها على الشروط العقلية والشرعية توزعت بحسبها كما إذا قيل لجماعة معدودة أو غير محصورة. أدوا الزكاة وزوجوا الأكفاء وامنعوا الظلمة كان الكل مخاطبين والتوزع على ما مر، هذا وليس في الآية على أي وجه حملت دليل على أنه ليس للمرأة أن تزوج نفسها كما وهم ونهي الأولياء عن العضل ليس لتوقف صحة النكاح على رضاهم بل لدفع الضرر عنهن لأنهن وإن قدرن على تزويج أنفسهن شرعا لكنهن يحترزن عن ذلك مخافة اللوم والقطيعة أو مخافة البطش بهن، وفي إسناد النكاح إليهن إيماء إلى عدم التوقف وإلا لزم المجاز وهو خلاف الظاهر، وجوز في أن ينكحن وجهان: الأول أنه بدل اشتمال من الضمير المنصوب قبله. والثاني أن يكون على إسقاط الخافض والمحل إما نصب أو جر على اختلاف الرأيين إِذا تَراضَوْا ظرف- لا تعضلوا- والتذكير باعتبار التغليب والتقييد به لأن المعتاد لا لتجويز المنع قبل تمام التراضي، وقيل ظرف لأن ينكحن. وقوله تعالى: بَيْنَهُمْ ظرف للتراضي مفيد لرسوخه واستحكامه بِالْمَعْرُوفِ أي بما لا يكون مستنكرا شرعا ومروءة، والباء إما متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل تَراضَوْا أو نعتا لمصدر محذوف أي تراضيا كائنا بِالْمَعْرُوفِ وإما بتراضوا أو بينكحن، وفي التقييد بذلك إشعار بأن المنع من التزوج بغير كفء أو بما دون مهر

صفحة رقم 538

المثل ليس من باب العضل ذلِكَ إشارة إلى ما فصل والخطاب للجمع على تأويل القبيل أو لكل واحد واحد أو أن الكاف تدل على خطاب قطع فيه النظر عن المخاطب وحدة وتذكيرا وغيرهما.
والمقصود الدلالة على حضور المشار إليه عند من خوطب للفرق بين الحاضر والمنقضي الغائب أو للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ليطابق ما في سورة الطلاق، وفيه إيذان بأن المشار إليه أمر لا يكاد يتصوره كل أحد بل لا بد لتصور ذلك من مؤيد من عند الله تعالى: يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ خصه بالذكر لأنه المسارع إلى الامتثال إجلالا لله تعالى وخوفا من عقابه، ومِنْكُمْ إما متعلق- بكان- على رأي من يرى ذلك وإما بمحذوف وقع حالا من فاعل يُؤْمِنُ ذلِكُمْ أي الاتعاظ به والعمل بمقتضاه أَزْكى لَكُمْ أي أعظم بركة ونفعا وَأَطْهَرُ أي أكثر تطهيرا من دنس الآثام، وحذف لكم اكتفاء بما في سابقه، وقيل: إن المراد أطهر لكم ولهم لما يخشى على الزوجين من الريبة بسبب العلاقة بينهما وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فيه من المصلحة وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك فلا رأي إلا الاتباع، ويحتمل تعميم المفعول في الموضعين، ويدخل فيه المذكور دخولا أوليا وفائدة الجملة الحث على الامتثال.
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ أمر أخرج مخرج الخبر مبالغة ومعناه الندب أو الوجوب إن خص بما إذا لم يرتضع الصبي إلا من أمه أو لم يوجد له ظئر أو عجز الوالد عن الاستئجار والتعبير عنهن بالعنوان المذكور لاستعطافهن نحو أولادهن والحكم عام للمطلقات وغيرهن كما يقتضيه الظاهر، وخصه بعضهم بالوالدات المطلقات وهو المروي عن مجاهد وابن جبير وزيد بن أسلم، واحتج عليه بأمرين: الأول أن الله تعالى ذكر هذه الآية عقيب آيات الطلاق فكانت من تتمتها وإنما أتمها بذلك لأنه إذا حصلت الفرقة ربما يحصل التعادي والتباغض وهو يحمل المرأة غالبا على إيذاء الولد نكاية بالمطلق وإيذاء له وربما رغبت في التزوج بآخر وهو كثيرا ما يستدعي إهمال أمر الطفل وعدم مراعاته فلا جرم أمرهن على أبلغ وجه برعاية جانبه والاهتمام بشأنه، والثاني أن إيجاب الرزق والكسوة فيما بعد للمرضعات يقتضي التخصيص إذ لو كانت الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بسبب الزوجية لا الرضاع، وقال الواحدي:
الأولى أن يخص بالوالدات حال بقاء النكاح لأن المطلقة لا تستحق الكسوة وإنما تستحق الأجرة ولا يخفى أن الحمل على العموم أولى ولا يفوت الغرض من التعقيب وإيجاب الرزق والكسوة للمرضعات لا يقتضي التخصيص لأنه باعتبار البعض على أن على ما قيل: ليس في الآية ما يدل على أنه للرضاع ومن قال: إنه له جعل ذلك أجرة لهن إلا أنه لم يعبر بها وعبر بمصرفها الغالب حثا على إعطائها نفسها لذلك أو إعطاء ما تصرف لأجله فتدبر حَوْلَيْنِ أي عامين والتركيب يدور على الانقلاب وهو منصوب على الظرفية وكامِلَيْنِ صفته، ووصف بذلك تأكيدا لبيان أن التقدير تحقيقي لا تقريبي مبني على المسامحة المعتادة لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ بيان للمتوجه عليه الحكم، والجار في مثله خبر لمحذوف أي ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة وجوز أن يكون متعلقا- بيرضعن- فإن الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة للأم والأم ترضع له وكون الرضاع واجبا على الأب لا ينافي أمرهن لأنه للندب أو لأنه يجب عليهن أيضا في الصور السابقة. واستدل بالآية على أن أقصى مدة الإرضاع حولان ولا يعتد به بعدهما فلا يعطى حكمه وأنه يجوز أن ينقص عنهما، وقرىء «أن يتم» بالرفع واختلف في توجيهه فقيل: حملت أن المصدرية على ما أختها في الإهمال كما حملت أختها عليها في الإعمال في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كما تكونوا يولى عليكم»
على رأي، وقيل: ان يتموا بضمير الجمع باعتبار معنى من وسقطت الواو في اللفظ لالتقاء الساكنين فتبعها الرسم وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ أي الوالد فإن الولد يولد له وينسب إليه ولم يعبر به مع أنه أخصر وأظهر للدلالة على علة الوجوب بما فيه من معنى الانتساب

صفحة رقم 539

المشيرة إليه اللام وتسمى هذه الإشارة إدماجا عند أهل البديع وإشارة النص عندنا، وقيل: عبر بذلك لأن الوالد قد لا تلزمه النفقة وإنما تلزم المولود له كما إذا كانت تحته أمة فأتت بولد فإن نفقته على مالك الأم لأنه المولود له دون الوالد، وفيه بعد لأن المولود له لا يتناول الوالد والسيد تناولا واحدا وحكم العبيد دخيل في البين رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ أي إيصال ذلك إليهن أي الوالدات أجرة لهن، واستئجار الأم جائز عند الشافعي وعندنا لا يجوز ما دامت في النكاح أو العدة بِالْمَعْرُوفِ أي بلا إسراف ولا تقتير أو حسب ما يراه الحاكم ويفي به وسعه. لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها تعليل لإيجاب المؤن بالمعروف أو تفسير للمعروف ولهذا فصل وهو نص على أنه تعالى لا يكلف العبد بما لا يطيقه ولا ينفي الجواز والإمكان الذاتي فلا ينتهض حجة للمعتزلة، ونصب وُسْعَها على أنه مفعول ثان- لتكلف- وقرىء ولا تكلف بفتح- التاء- ولا نكلف- بالنون.
لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ تفصيل لما يفهم من سابقه وتقريب له إلى الفهم وهو الداعي للفصل، والمضارة مفاعلة من الضرر، والمفاعلة إما مقصودة والمفعول محذوف أي تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به وتطلب ما ليس بعدل من الرزق والكسوة وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد وأن تقول بعد أن ألفها الصبي أطلب له ظئرا مثلا ولا يضار مولود له امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها، أو يأخذ الصبي منها وهي تريد إرضاعه أو يكرهها على الإرضاع وإما غير مقصودة والمعنى لا يضر واحد منهما الآخر بسبب الولد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب لا تضار بالرفع فتكون الجملة بمنزلة بدل الاشتمال مما قبلها، وقرأ الحسن تضار بالكسر وأصله تضارر مكسور الراء مبنيا للفاعل وجوز فتحها مبنيا للمفعول، ويبين ذلك أنه قرىء- ولا تضارر، ولا تضارر- بالجزم وفتح الراء الأولى وكسرها، وعلى تقدير البناء للمفعول يكون المراد لا نهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج وأن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد، والباء على كل تقدير سببية ولك أن تجعل فاعل بمعنى فعل والباء سيف خطيب، ويكون المعنى لا تضر والدة ولدها بأن تسيء غذاءه وتعهده وتفرط فيما ينبغي له وتدفعه إلى الأب بعد ما ألفها ولا يضر الوالد ولده بأن ينزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حقه، وقرأ أبو جعفر- لا تضار- بالسكون مع التشديد على نية الوقف، وعن الأعرج- لا تضار- بالسكون والتخفيف، وهو من ضار يضير ونوى الوقف كما نواه الأول، وإلا لكان القياس حذف الألف، وعن كاتب عمر رضي الله تعالى عنه- لا تضرر- والتعبير بالولد في الموضعين، وإضافته إليها تارة وإليه أخرى للاستعطاف، والإشارة إلى ما هو كالعلة في النهي ولذا أقام المظهر مقام المضمر، ومن غريب التفسير ما
رواه الإمامية عن السيدين الصادق والباقر رضي الله تعالى عنهما أن المعنى- لا تضار- والدة بترك جماعها خوف الحمل لأجل ولدها الرضيع- ولا يضار- مولود له بمنعه عن الجماع كذلك لأجل ولده،
وحينئذ تتعين الباء للسببية، ويجب أن يكون الفعلان مبنيين للمفعول ولا يظهر وجه لطيف للتعبير بالولد في الموضعين، وتخرج الآية عما يقتضيه السياق، وبعيد عن الباقر، والصادق الإقدام على ما زعمه هذا الراوي الكاذب وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ عطف على قوله تعالى: «وعلى المولود له» إلخ وما بينهما تعليل أو تفسير معترض والمراد بالوارث وارث الولد فإنه يجب عليه مثل ما وجب على الأب من الرزق والكسوة بالمعروف إن لم يكن للولد مال وهو التفسير المأثور عن عمر وابن عباس وقتادة ومجاهد وعطاء وإبراهيم والشعبي وعبد الله بن عتبة وخلق كثير، ويؤيده أن أل كالعوض من المضاف إليه الضمير ورجوع الضمير لأقرب مذكور وهو الأكثر في الاستعمال، وخص الإمام أبو حنيفة هذا الوارث بمن كان ذا رحم محرم من الصبي، وبه قال حماد ويؤيده قراءة ابن مسعود، وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك، وقيل: عصباته وبه قال أبو زيد، ويروى عن عمر رضي الله تعالى

صفحة رقم 540

عنه ما يؤيده، وقال الشافعي: المراد وارث الأب وهو الصبي أي مؤن الصبي من ماله إذا مات الأب، واعترض أن هذا الحمل يأباه أن لا يخص كون المئونة في ماله إذا مات الأب بل إذا كان له مال لم يجب على الأب أجرة الإرضاع بل يجب عليه النفقة على الصبي وأجرة الإرضاع من مال الصبي بحكم الولاية وفيه نظر، وقيل: المراد الباقي من الأبوين، وقد جاء الوارث بمعنى الباقي كما في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارث مني»
قيل: وهذا يوافق مذهب الشافعي إذ لا نفقة عنده فيما عدا الولاد ولا يخفى ما في ذلك من البحث لأن- من- إن كانت للبيان لزم التكرار أو الركاكة أو ارتكاب خلاف الظاهر، وإن كانت للابتداء كان المعنى الباقي غير الأبوين وهو يجوز أن يكون من العصبات أو ذوي الأرحام الذين ليست قرابتهم قرابة الولاد وكون ذلك موافقا لمذهب الشافعي إنما يتأتى إذا تعين كون الباقي ذوي قرابة الولاد وليس في اللفظ ما يفيده كما لا يخفى فَإِنْ أَرادا أي الوالدان فِصالًا أي فطاما للولد قبل الحولين وهو المروي عن مجاهد وقتادة وأهل البيت، وقيل: قبلهما أو بعدهما وهو مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلى الأول يكون هذا تفصيلا لفائدة لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ وبيانا لحكم إرادة عدم الإتمام، والتنكير للإيذان بأنه- فصال- غير معتاد، وعلى الثاني توسعة في الزيادة والتقليل في مدة الرضاعة بعد التحديد والتنكير للتعميم، ويجوز على القولين أن يكون للإشارة إلى عظمه نظرا للصبي لما فيه من مفارقة المألوف عَنْ تَراضٍ متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن وإن كان كونا خاصا أي صادرا عَنْ تَراضٍ وجوز أن يتعلق بأراد مِنْهُما أي الوالدين لا من أحدهما فقط لاحتمال إقدامه على ما يضر الولد بأن تمل الأم أو يبخل الأب وَتَشاوُرٍ في شأن الولد وتفحص أحواله وهو مأخوذ من الشور وهو اجتناء العسل وكذا- المشاورة والمشورة والمشورة- والمراد من ذلك استخراج الرأي وتنكيره للتفخيم.
فَلا جُناحَ عَلَيْهِما في ذلك وإنما اعتبر رضا المرأة مع أن ولي الولد هو الأب وصلاحه منوط بنظره مراعاة لصلاح الطفل لأن الوالدة لكمال شفقتها على الصبي ربما ترى ما فيه المصلحة له وَإِنْ أَرَدْتُمْ خطاب للآباء هزا لهم للامتثال على تقدير عدم الاتفاق على عدم الفطام أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ بحذف المفعول الأول استغناء عنه أي- تسترضعوا المراضع أولادكم- من أرضعت المرأة طفلا واسترضعتها إياه كقولك أنجح الله تعالى حاجتي واستنجحتها إياه، وقد صرح الإمام الكرماني بأن الاستفعال قد جاء لطلب المزيد كالاستنجاء لطلب الانجاء والاستعتاب لطلب الاعتاب وصرح به غيره أيضا فلا حاجة إلى القول بأنه من رضع بمعنى أرضع ولم يجعل من الأول أول الأمر لعدم وجوده في كلامهم فإنه بمعزل عن التحقيق، وقيل: إن استرضع إنما يتعدى إلى الثاني بحرف الجر يقال استرضعت المرأة للصبي والمراد أن تَسْتَرْضِعُوا المراضع «لأولادكم» فحذف الجار كما في قوله تعالى: وَإِذا كالُوهُمْ [المطففين: ٣] أي كالوا لهم فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي في ذلك، واستدل بالإطلاق على أن للزوج أن- يسترضع للولد ويمنع الزوجة من الإرضاع- وهو مذهب الشافعية، وعندنا أن الام أحق برضاع ولدها وأنه ليس للأب أن يسترضع غيرها إذا رضيت أن ترضعه لقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ وبه يخصص هذا الإطلاق وإلى ذلك يشير كلام ابن شهاب إِذا سَلَّمْتُمْ إلى المراضع ما آتَيْتُمْ أي ضمنتم والتزمتم أو أردتم إتيانه لئلا يلزم تحصيل الحاصل، وقرأ ابن كثير أتيتم من أتى إليه إحسانا إذا فعله، وشيبان عن عاصم «أوتيتم» أي ما آتاكم الله تعالى وأقدركم عليه من الأجرة بِالْمَعْرُوفِ متعلق بسلمتم أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعا وجوز أن يتعلق بآتيتم وأن يكون حالا من فاعله أو فاعل الفعل الذي قبله، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله وليس التسليم شرطا لرفع الإثم بل هو الأولى والأصلح للطفل فشبه ما هو من شرائط الأولية بما هو من شرائط الصحة للاعتناء به فاستعير له عبارته، وقيل:

صفحة رقم 541

لا حاجة إلى هذا لأن نفي الإثم بتسليم الأجرة مطلقا غير مقيد بتقديمها عليه يعني لا جناح عليكم في الاسترضاع لو لم تأثموا بالتعدي في الأجرة وتظلموا الأجير، وفيه تأمل لأن الإثم إذا لم يسلم بعد إنما هو بالتعدي، والاسترضاع كان قبل خاليا عما يوجب الإثم وَاتَّقُوا اللَّهَ في شأن مراعاة الأحكام وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا تخفى عليه أعمالكم فيجازيكم عليها، وفي إظهار الاسم الجليل تربية للمهابة، وفي الآية من التهديد ما لا يخفى وَالَّذِينَ مبتدأ.
يُتَوَفَّوْنَ أي تقبض أرواحهم فإن التوفي هو القبض يقال: توفيت مالي من فلان واستوفيته منه أي قبضته وأخذته. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه فيما رواه أبو عبد الرحمن السلمي عنه والمفضل عن عاصم يُتَوَفَّوْنَ بفتح- الياء- أي يستوفون آجالهم فعلى هذا يقال للميت متوفى بمعنى مستوف لحياته، واستشكل بما حكي أن أبا الأسود كان خلف جنازة فقال له رجل من المتوفي؟ بكسر الفاء فقال: الله تعالى وكأن هذا أحد الأسباب لعلي كرم الله تعالى وجهه على أن أمره بوضع كتاب النحو، وأجاب السكاكي بأن سبب التخطئة أن السائل كان ممن لم يعرف وجه صحته فلم يصلح للخطاب به مِنْكُمْ في محل نصب على الحال من مرفوع يُتَوَفَّوْنَ ومن- تحتمل التبعيض وبيان الجنس والخطاب لكافة الناس بتلوين الخطاب وَيَذَرُونَ أي يتركون ويستعمل منه الأمر ولا يستعمل اسم الفاعل ولا اسم المفعول وجاء الماضي على شذوذ أَزْواجاً أي نساء لهم.
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ خبر عن الذين والرابط محذوف أي لهم أو بعدهم، ورجح الأول بقلة الإضمار وبما في اللام من الإيماء إلى أن العدة حق المتوفى، وقيل: خبر لمحذوف أي أزواجهم يتربصن، والجملة خبر الذين وبعض البصريين قدر مضافا في صدر الكلام أي أزواج الذين وهن نساؤهم، وفيه أنه لا يبقى- ليذرون أزواجا- فائدة جديدة يعتد بها، ويروى عن سيبويه- إن الذين- مبتدأ والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم حكم الذين إلخ، وحينئذ يكون جملة- يتربصن- بيانا لذلك الحكم وفيه كثرة الحذف، وذهب بعض المحققين إلى أن الَّذِينَ مبتدأ ويَتَرَبَّصْنَ خبره والرابط حاصل بمجرد عود الضمير إلى الأزواج لأن المعنى يتربص الأزواج اللاتي تركوهن، وقد أجاز الأخفش والكسائي مثل ذلك ولولا أن الجمهور على منعه لكان من الحسن بمكان أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً لعل ذلك العدد لسر تفرد الله تعالى بعلمه أو علمه من شاء من عباده، والقول- بأنه لعل المقتضي لذلك أن الجنين في غالب الأمر يتحرك لثلاثة أشهر إن كان ذكرا ولأربعة إن كان أنثى فاعتبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشرة استظهارا إذ ربما تضعف حركته في المبادي فلا يحس بها مع ما فيه من المنافاة
للحديث الصحيح «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله تعالى ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح»
لأن ظاهره أن نفخ الروح بعد هذه المدة مطلقا- لا يروي الغليل ولا يشفي العليل، وتأنيث العشر قيل: لأن التمييز المحذوف هو الليالي وإلى ذلك ذهب ربيعة ويحيى ابن سعيد، وقيل: بل هو باعتبار الليالي لأنها غرر الشهور ولذلك لا يستعملون التذكير في مثله ذهابا إلى الأيام حتى أنهم يقولون- كما حكى الفراء- صمنا عشرا من شهر رمضان مع أن الصوم إنما يكون في الأيام ويشهد له قوله تعالى:
إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً [ط: ١٠٣] ثم إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً [طه: ١٠٤] وذكر أبو حيان أن قاعدة تذكير العدد وتأنيثه إنما هي إذا ذكر المعدود، وأما عند حذفه فيجوز لأمران مطلقا ولعله أولى مما قيل، واستدل بالآية على وجوب العدة على المتوفى عنها سواء كان مدخولا بها أو لا، وذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى أنه لا عدة للثانية وهو محجوج بعموم اللفظ كما ترى، وشملت الآية المسلمة والكتابية وذات الأقراء والمستحاضة والآيسة والصغيرة والحرة والأمة-

صفحة رقم 542

كما قاله الأصم- والحامل وغيرها لكن القياس اقتضى تنصيف المدة للأمة والإجماع خص الحامل عنه لقوله تعالى:
وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: ٤]
وعن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس أنها تعتد بأقصى الأجلين احتياطا
وهو لا ينافي الإجماع بل فيه عمل بمقتضى الآيتين، واستدل بعضهم بها على أن العدة من الموت حيث علقت عليه فلو لم يبلغها موت الزوج إلا بعد مضي العدة حكم بانقضائها وهو الذي ذهب إليه الأكثرون والشافعي في أحد قوليه، ويؤيده أنّ الصغيرة التي لا علم لها يكفي في انقضاء عدّتها هذه المدّة، وقيل: إنها ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تنقضي عدّتها بهذه الأيام لما روي «امرأته المفقود امرأته حتى يأتيها تبين موته أو طلاقه» فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي انقضت عدتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها القادرون عليهن، وقيل: الخطاب للأولياء، وقيل: لجميع المسلمين فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مما حرم عليهنّ في العدّة، وفي التقييد إشارة إلى علة النهي بِالْمَعْرُوفِ أي بالوجه الذي يعرفه الشرع ولا ينكره، وقيد به للإيذان بأنه لو فعلن خلاف ذلك فعليهم أن يكفوهنّ، فإن قصروا أثموا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فلا تعملوا خلاف ما أمرتم به «والظاهر» أنّ المخاطب في سابقه. وجوّز أن يكون خطابا للقادرين من الأولياء والأزواج فيكون فيه تغليبان- الخطاب على الغيبة- والذكور على الإناث- وفيه تهديد للطائفتين، ويحتمل أن يكون وعدا ووعيدا لهما وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الرجال المبتغون للزواج.
فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ بأن يقول أحدكم- كما روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- إني أريد التزوج، وإني لأحب امرأة من أمرها وأمرها، وإن من شأني النساء، ولوددت أن الله تعالى كتب لي امرأة صالحة، أو يذكر للمرأة فضله وشرفه،
فقد روي «أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دخل على أم سلمة وقد كانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها فلم يزل يذكر لها منزلته من الله تعالى وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها وكان ذلك تعريضا لها»
والتعريض في الأصل إمالة الكلام عن نهجه إلى عرض منه وجانب، واستعمل في أن تذكر شيئا مقصودا في الجملة بلفظه الحقيقي أو المجازي أو الكنائي ليدل بذلك الشيء على شيء آخر لم يذكر في الكلام مثل أن تذكر المجيء للتسليم بلفظه ليدل على التقاضي وطلب العطاء، وهو غير الكناية لأنها أن تذكر معنى مقصودا بلفظ آخر يوضع له لكن استعمل في الموضوع- لا على وجه القصد- بل لينتقل منه إلى الشيء المقصود، فطويل النجاد مستعمل في معناه لكن لا يكون المقصود بالإثبات بل لينتقل منه إلى طول القامة، وقرّر بعض المحققين أن بينهما عموما من وجه، فمثل قول المحتاج: جئتك لأسلم عليك كناية وتعريض، ومثل- زيد طول النجاد- كناية لا تعريض، ومثل قولك: في عرض من يؤذيك وليس المخاطب- آذيتني فستعرف- تعريض بتهديد المؤذي لا كناية «والمشهور» تسمية التعريض تلويحا لأنه يلوح منه ما تريده، وعدوا جعل السكاكي له اسما للكناية البعيدة لكثرة الوسائط مثل- كثير الرماد- للمضياف اصطلاحا جديدا «وفي الكشف» وقد يتفق عارض يجعل الكناية في حكم المصرح به كما في الاستواء على العرش وبسط اليد، ويجعل الالتفات في التعريض نحو المعرض به كما في قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ [البقرة: ٤١] فلا ينتهض نقضا على الأصل «والخطبة» - بكسر الخاء- قيل: الذكر الذي يستدعى به إلى عقد النكاح أخذا من الخطاب، وهو توجيه الكلام للإفهام- وبضمها- الوعظ المتسق على ضرب من التأليف، وقيل: إنهما اسم الحالة غير أنّ- المضمومة- خصت بالموعظة- والمكسورة- بطلب المرأة والتماس نكاحها- وأل- في النِّساءِ للعهد، والمعهودات هي الأزواج المذكورة في قوله تعالى: وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ولا يمكن حملها على الاستغراق لأنّ من النساء من يحرم التعريض بخطبتهن في العدّة- كالرجعيات والبائنات- في قول، والأظهر عند الشافعي رضي الله تعالى عنه جوازه في

صفحة رقم 543

لِعِدَّتِهِنَّ قياسا على معتدات الوفاة لا يقال: كان ينبغي أن تقدم هذه الآية على قوله تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ لأنّ ما فيها من أحكام النساء قبل البلوغ إلى الأجل لأنا نقول: لا نسلم ذلك، بل هي من أحكام الرجال بالنسبة إليهن، فكان المناسب أن يذكر بعد الفراغ من أحكامهنّ قبل البلوغ من الأجل وبعده، واستدل الكيا بالآية على نفي الحدّ بالتعريض في القذف لأنه تعالى جعل حكمه مخالفا لحكم التصريح، وأيد بما
روي «من عرض عرضنا، ومن مشي على الكلا ألقيناه في النهر»
واستدل بها على جواز نكاح الحامل من الزنا إذ لا عدة لها، ولا يخفى ما فيه أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أي أسررتم في قلوبكم من نكاحهنّ بعد مضي عدتهنّ ولم تصرحوا بذلك لهنّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولا تصبرون على السكوت عنهن وعن إظهار الرغبة فيهنّ، فلهذا رخص لكم ما رخص، وفيه نوع ما من التوبيخ.
وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا استدراك عن محذوف دل عليه سَتَذْكُرُونَهُنَّ أي فاذكروهن وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ نكاحا بل اكتفوا بما رخص لكم، وجواز أن يكون استدراكا عن لا جُناحَ فإنه في معنى- عرّضوا بخطبتهنّ- أو أكنوا في أنفسكم وَلكِنْ إلخ، وحمله على الاستدراك على ما عنده- ليس بشيء- وإرادة النكاح من- السر- بواسطة إرادة الوطء منه إذ قد تعارف إطلاقه عليه لأنه يسر، ومنه قول امرئ القيس:

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وأن لا يحسن- السر- أمثالي
وإرادة العقد من ذلك لما بينهما من السببية والمسببية، ولم يجعل من أول الأمر عبارة عن العقد لأنه لا مناسبة بينهما في الظاهر، والمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن- السر. هنا الجماع، وتوهم الرخصة حينئذ في المحظور الذي هو التصريح- بالنكاح- مما لا يكاد يخطر ببال، وعن سعيد بن جبير ومجاهد وروي عن الحبر أيضا أنه العهد على الامتناع عن التزوج بالغير- وهو على هذه الأوجه نصب على المفعولية- وجوّز انتصابه على الظرفية، أي لا تُواعِدُوهُنَّ في السر، على أن المراد بذلك المواعدة بما يستهجن.
إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وهو التعريض الذي عرف تجويزه، والمستثنى منه ما يدل عليه النهي أي لا تُواعِدُوهُنَّ نكاحا مواعدة ما إِلَّا مواعدة معروفة أو إِلَّا مواعدة بقول معروف، أو لا تقولوا في وعد الجماع أو طلب الامتناع عن الغير إِلَّا قولكم قَوْلًا مَعْرُوفاً والاستثناء في جميع ذلك متصل، وفي الكلام على الوجه الأوّل تصريح بما فهم من وَلا جُناحَ على وجه يؤكد ذلك الرفع وهو نوع من الطرد- والعكس حسن- وعلى الأخيرين تأسيس لمعنى ربما يعلم بطريق المقايسة إذ حملوا التعريض- فيهما على- التعريض- بالوعد لها أو الطلب منها، وهو غير- التعريض- السابق لأنه بنفس «الخطبة» وإذا أريد الوجه الرابع وهو الأخير من الأوجه السابقة احتمل الاستثناء الاتصال والانقطاع، والانقطاع في المعنى أظهر على معنى لا تُواعِدُوهُنَّ بالمستهجن وَلكِنْ واعدوهن بقول معروف لا يستحيا منه في المجاهرة من حسن المعاشرة والثبات إن وقع النكاح، وبعض قال بذلك إلا أنه جعل الاستثناء من سِرًّا وضعف بأنه يؤدّي إلى كون التعريض موعودا، وجعله من قبيل «إلا من ظلم» يأبى أن يكون استثناء منه بل من أصل الحكم.
وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ أي لا تقصدوا قصدا جازما عقد عُقْدَةَ النِّكاحِ وفي النهي عن مقدمة الشيء نهي عن الشيء على وجه أبلغ، وصح تعلق النهي به لأنه من الأفعال الباطنة الداخلة تحت الاختيار ولذا يثاب على النية، والمراد به العزم المقارن لأن من قال: لا تعزم على السفر في صفر مثلا لم يفهم منه النهي عن عزم فيه متأخر

صفحة رقم 544

الفعل إلى ربيع، وذلك لأن القصد الجازم حقه المقارنة وتقدير المضاف لصحة التعلق لأنه لا يكون إلا على الفعل، والعقدة- ليست به لأنها موضع العقد وهو ما يعقد عليه ولم يقدره بعضهم، وجعل الإضافة بيانية فالعقدة حينئذ نفس النكاح وهو فعل، ويحتمل أن يكون الكلام من باب حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء: ٢٣] وعلى كل تقدير هي مفعول به، وجوز أن تكون مفعولا مطلقا على أن معنى- لا تعزموا- لا تعقدوا فهو على حد- قعدت جلوسا- وأن الإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله، وقيل: المعنى لا تقطعوا ولا تبرموا عقدة النكاح فيكون النهي عن نفس الفعل لا عن قصده كما في الأول، وبهذا ينحط عنه، ومن الناس من حمل العزم على القطع ضد الوصل وجعل المعنى لا تقطعوا عقدة نكاح الزوج المتوفى بعقد نكاح آخر ولا حاجة حينئذ إلى تقدير مضاف أصلا، وفيه بحث أما أولا فلأن مجيء العزم بمعنى القطع ضد الوصل في اللغة محل تردد، وقول الزمخشري: حقيقة العزم القطع بدليل
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل» وروي «لم يبيت»
ليس بنص في ذلك بل لا يكاد يصح حمله إذ الدليل لا يساعده إذ لا خفاء في أن المراد بعزم الصوم ليس قطعه بمعنى الفك بل الجزم وقطع التردد، وأما ثانيا فلأنه لا معنى للنهي عن قطع عقدة نكاح الزوج الأول حتى ينهى عنه إذ لا تنقطع عقدة نكاح المتوفى بعقد نكاح آخر لأن الثاني لغو، ومن هنا قيل: إن المراد لا تفكوا عقدة نكاحكم ولا تقطعوها، ونفي القطع عبارة عن نفي التحصيل فإن تحصيل الثمرة من الشجرة بالقطع، وهذا كما ترى مما لا ينبغي أن يحمل عليه كلام الله تعالى العزيز حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ أي ينتهي ما كتب وفرض من العدة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من العزم على ما لا يجوز أو من ذوات الصدور التي من جملتها ذلك فَاحْذَرُوهُ ولا تعزموا عليه أو- احذروه- بالإجتناب عن العزم ابتداء أو إقلاعا عنه بعد تحققه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر لمن يقلع عن عزمه أو ذنبه خشية منه حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة فلا يتوهم من تأخيرها أن ما نهي عنه لا يستتبع المؤاخذة وإعادة العامل اعتناء بشأن الحكم، ولا يخفى ما في الجملة مما يدل على سعة رحمته تبارك اسمه لا جُناحَ عَلَيْكُمْ لا تبعة من مهر وهو الظاهر، وقيل: من وزر لأنه لا بدعة في الطلاق قبل المسيس ولو كان في الحيض، وقيل: كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرا ما ينهي عن الطلاق فظن أن فيه جناحا فنفى ذلك إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أي غير ماسين لهن أو مدة عدم المس وهو كناية عن الجماع، وقرأ حمزة والكسائي- «تماسوهن» - والأعمش من- «قبل أن تمسوهن» - وعبد الله من قبل- «أن تجامعوهن» - أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً أي حتى تَفْرِضُوا أو إلا أن تَفْرِضُوا على ما في شروح الكتاب، وفَرِيضَةً فعيلة بمعنى مفعول نصب على المفعول به، والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية فصار بمعنى المهر فلا تجوز، وجوز أن يكون نصبا على المصدرية، وليس بالجيد والمعنى أنه لا تبعة على المطلق بمطالبة المهر أصلا إذا كان الطلاق قبل المسيس على كل حال إلا في حال الفرض فإن عليه حينئذ نصف المسمى كما سيصرح به، وفي حال عدم تسميته عليه المتعة لا نصف مهر المثل، وأما إذا كان بعد المساس فعليه في صورة التسمية تمام المسمى، وفي صورة عدمها تمام مهر المثل، هذه أربع صور للمطلقة نفت الآية بمنطوقها الوجوب في بعضها، واقتضى مفهومها الوجوب في الجملة في البعض الآخر، قيل: وهاهنا إشكال قوي، وهو أن ما بعد أو التي بمعنى حتى التي بمعنى إلى نهاية للمعطوف عليه فقولك لألزمنك أن تقضيني حقي معناه أن اللزوم ينتهي إلى الإعطاء فعلى قياسه يكون فرض الفريضة نهاية عدم المساس لا عدم الجناح، وليس المعنى عليه، وأجيب بأن ما بعدها عطف على الفعل وهو مرتبط بما قبله فهو معنى مقيد به فكأنه قيل: أنتم ما لم تمسوهن بغير جناح وتبعة إلا إذا- فرضت الفريضة- فيكون الجناح لأن المقيد في المعنى ينتهي برفع قيده فتأمل، ومن الناس من جعل كلمة- أو- عاطفة لمدخولها على ما قبلها من الفعل المجزوم، ولم حينئذ لنفي أحد الأمرين لا بعينه، وهو نكرة في سياق النفي فيفيد العموم أي ما لم يكن منكم

صفحة رقم 545

مسيس، ولا فرض على حد وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان: ٢٤] واعترضه القطب بأنه يوهم تقدير حرف النفي فيصير ما لم تمسوهن وما لم تفرضوا فيكون الشرط حينئذ أحد النفيين لا نفي أحد الأمرين فيلزم أن لا يجب المهر إذا عدم المسيس ووجد الفرض أو عدم الفرض ووجد المسيس، ولا يخفى أنه غير وارد، ولا حاجة إلى القول بأن أو بمعنى الواو كما في قوله تعالى: أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: ١٤٧] على رأي وَمَتِّعُوهُنَّ أي ملكوهن ما يتمتعن به وذلك الشيء يسمى متعة وهو عطف على ما هو جزاء في المعنى كأنه قيل: إن طلقتم النساء فلا جناح ومتعوهن، وعطف الطلبي على الخبري على ما في الكشف لأن الجزاء جامع جعلهما كالمفردين أي الحكم هذا وذاك، أو لأن المعنى فلا جناح وواجب هذا، أو فلا تعزموا ذلك ومتعوهن، وجوز أن يكون عطفا على الجملة الخبرية عطف القصة على القصة وأن يكون اعتراضا بالواو واردا لبيان ما يجب للمطلقات المذكورات على أزواجهن بعد
التطليق، والعطف على محذوف ينسحب عليه الكلام أي فطلقوهن ومتعوهن يأباه الذوق السليم إذ لا معنى لقولنا إذا طلقتم النساء فطلقوهن إلا أن يكون المقصود المعطوف، والحكمة في إعطاء المتعة جبر إيحاش الطلاق، والظاهر فيها عدم التقدير لقوله تعالى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ أي على كل منهما مقدار ما يطيقه ويليق به كائنا ما كان، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما متعة الطلاق أعلاها الخادم ودون ذلك الورق ودون ذلك الكسوة، وعن ابن عمر أدنى ما يكون من المتعة ثلاثون درهما، وقال الإمام أبو حنيفة: هي درع وخمار وملحفة على حسب الحال إلا أن يقل مهر مثلها من ذلك فلها الأقل من نصف مهر المثل، ومن المتعة ولا ينتقص من خمسة دراهم، والموسع من يكون ذا سعة وغنى من أوسع الرجل إذا كثر ماله واتسعت حاله، وَعَلَى الْمُقْتِرِ من يكون ضيق الحال من- أقتر- إذا افتقر وقلّ ما في يده وأصل الباب الإقلال، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مبينة لمقدار حال المتعة بالنظر إلى حال المطلق- إيسارا وإقتارا- والجمهور على أنها في موضع الحال من فاعل مَتِّعُوهُنَّ، والرابط محذوف أي منكم، ومن جعل الألف واللام عوضا عن المضاف إليه أي على موسعكم إلخ استغنى عن القول بالحذف.
وقرأ أبو جعفر وأهل الكوفة إلا أبا بكر وابن ذكوان قَدَرُهُ بفتح الدال، والباقون بإسكانها وهما لغتان فيه، وقيل:- القدر- بالتسكين الطاقة وبالتحريك المقدار، وقرئ قَدَرُهُ بالنصب ووجه بأنه مفعول على المعنى لأن معنى مَتِّعُوهُنَّ إلخ ليؤد كل منكم- قدر- وسعه قال أبو البقاء: وأجود من هذا أن يكون التقدير فأوجبوا على الموسع قَدَرُهُ مَتاعاً اسم مصدر أجري مجراه أي تمتيعا بِالْمَعْرُوفِ أي متلبسا بالوجه الذي يستحسن وهو في محل الصفة- لمتاعا- وحَقًّا أي ثابتا صفة ثانية له يجوز أن يكون مصدرا مؤكدا أي حق ذلك حقا عَلَى الْمُحْسِنِينَ متعلق بالناصب للمصدر أو به أو بمحذوف وقع صفة، والمراد بالمحسنين من شأنهم الإحسان أو الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال أو إلى المطلقات بالتمتيع وإنما سموا بذلك اعتبارا للمشارفة ترغيبا وتحريضا.
وقال الإمام مالك: المحسنون المتطوعون وبذلك استدل على استحباب المتعة وجعله قرينة صارفة للأمر إلى الندب وعندنا هي واجبة للمطلقات في الآية مستحبة لسائر المطلقات، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه في أحد قوليه هي واجبة لكل زوجة مطلقة إذا كان الفراق من قبل الزوج إلا التي سمى لها وطلقت قبل الدخول، ولما لم يساعده مفهوم الآية ولم يعتبر العموم في قوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ لأنه يحمل المطلق على المقيد قال بالقياس، وجعله مقدما على المفهوم لأنه من الحجج القطعية دونه، وأجيب عما قاله مالك بمنع قصر

صفحة رقم 546

المحسن على المتطوع بل هو أعم ومنه ومن القائم بالواجبات فلا ينافي الوجوب فلا يكون صارفا للأمر عنه مع ما انضم إليه من لفظ حقا وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً بيان لحكم التي سمي لها مهر وطلقت قبل المسيس، وجملة وَقَدْ إلخ إما حال من فاعل طَلَّقْتُمُوهُنَّ أو من مفعوله ونفس الفرض من المبني للفاعل أو للمفعول وإن لم يقارن حالة التطليق لكن اتصاف المطلق بالفارضية فيما سبق مما لا ريب في مقارنته لها، وكذا الحال في اتصاف المطلقة بكونها مفروضا فيما سبق فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ أي فلهن نصف ما قدرتم وسميتم لهن من المهر، أو فالواجب عليكم ذلك وهذا صريح في أن المنفي في الصورة السابقة إنما هو تبعة المهر، وقرىء- فنصف- بالنصب على معنى فأدّوا نصف ولعل تأخير حكم التسمية مع أنها الأصل في العقد والأكثر في الوقوع من باب التدرج في الأحكام، وذكر الأشق فالأشق، والقول بأن ذلك لما
أن الآية الكريمة نزلت في أنصاري تزوج امرأة من بني حنيفة وكانت مفوضة فطلقها قبل الدخول بها فتخاصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له عليه الصلاة والسلام: «أمتعتها؟ قال: لم يكن عندي شيء قال: متعها بقلنسوتك»
مما لا أراه شيئا على أن في هذا الخبر مقالا حتى قال الحافظ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي فلهن نصف المفروض معينا في كل حال إلا حال عفوهن أي المطلقات المذكورات فإنه يسقط ذلك حينئذ بعد وجوبه والصيغة في حذ ذاتها تحتمل التذكير والتأنيث، والفرق بالاعتبار فإن الواو في الأولى ضمير والنون علامة الرفع وفي الثانية لام الفعل والنون ضمير والفعل مبني ولذلك لم تؤثر فيه إِنْ هنا مع أنها ناصبة لا مخففة بدليل عطف المنصوب عليه من قوله تعالى: «أو يعفو» وقرأ الحسن بسكون الواو فهو على حد.
أبى الله أن أسمو بأم ولا أب الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ
وهو الزوج المالك لعقد النكاح وحله وهو التفسير المأثور عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والبيهقي بسند حسن عن ابن عمر مرفوعا- وبه قال جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم- ومعنى عفوه تركه تكرما ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه كملا على ما هو المعتاد أو إعطاؤه تمام المهر المفروض قبل بعد الطلاق كما فسره بذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وتسمية ذلك عفوا من باب المشاكلة وقد يفسر بالزيادة والفضل كما في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: ٢١٩] وقول زهير:

حزما وبرا للإله وشيمة تعفو على خلق المسيء المفسد
فمرجع الاستثناء حينئذ إلى منع الزيادة في المستثنى منه كما أنه في الصورة الأولى إلى منع النقصان فيه أي فلهن هذا المقدار بلا زيادة ولا نقصان في جميع الأحوال إلا في حال عفوهن فإنه لا يكون إذ ذاك لهن القدر المذكور بل ينتفي أو ينحط، أو في حال عفو الزوج فإنه وقتئذ تكون لهن الزيادة هذا على تقدير الأول في فَنِصْفُ غير ملاحظ فيه الوجوب، وأما على التقدير الثاني فلا بد من القطع بكون الاستثناء منقطعا لأن في صورة عفو الزوج لا يتصور الوجوب عليه كذا قيل فليتدبر، وذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في إحدى الروايات عنه وعائشة وطاوس ومجاهد وعطاء والحسن وعلقمة والزهري والشافعي رضي الله تعالى عنه في قوله القديم إلى- أن الذي بيده عقدة النكاح- هو الولي الذي لا تنكح المرأة إلا بإذنه فإن له العفو عن المهر إذا كانت المنكوحة صغيرة في رأي البعض ومطلقا في رأي الآخرين وإن أبت، والمعول عليه هو المأثور وهو الأنسب بقوله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى فإن إسقاط حق الغير ليس في شيء من التقوى وهذا خطاب للرجال والنساء جميعا، وغلب المذكر لشرفه وكذا فيما بعد- واللام- للتعدية، ومن قواعدهم التي قلّ من يضبطها أن أفعل التفضيل وكذا فعل التعجب يتعدى

صفحة رقم 547

بالحرف الذي يتعدى به فعله كأزهد فيه من كذا وإن كان من متعد في الأصل فإن كان الفعل يفهم علما أو جهلا تعدى- بالباء- كأعلم بالفقه وأجهل بالنحو، وإن كان لا يفهم ذلك تعدى باللام كأنت أضرب لعمرو إلا في باب الحب والبغض فإنه يتعدى إلى المفعول- بفي- كهو أحب في بكر وأبغض في عمرو وإلى الفاعل المعنوي بإلى زيد أحب إلى خالد من بشر أو أبغض إليه منه، وقرىء وأن يعفو- بالياء- وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ عطف على الجملة الاسمية المقصود منها الأمر على أبلغ وجه أي لا تتركوا أن يتفضل بعضكم على بعض كالشيء المنسي، والظرف إما متعلق بتنسوا أو بمحذوف وقع حالا من الفضل وحمل الفضل على الزيادة إشارة إلى ما سبق من قوله تعالى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة: ٢٢٨] في الدرك الأسفل من الضعف، وقيل: إن الظرف متعلق بمحذوف وقع صفة للفضل على رأي من يرى حذف الموصول مع بعض صلته والفضل بمعنى الإحسان أي- لا تنسوا الإحسان- الكائن بينكم من قبل وليكن منكم على ذكر حتى يرغب كل في العفو مقابلة لإحسان صاحبه عليه، وليس بشيء لأنه على ما فيه يرد عليه أن لا إحسان في الغالب بين المرأة وزوجها قبل الدخول،
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه- ولا تناسوا
- وبعضهم- ولا تنسوا- بسكون الواو.
إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا يكاد يضيع ما عملتم حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ أي داوموا على أدائها لأوقاتها من غير إخلال كما ينبىء عنه صيغة المفاعلة المفيدة للمبالغة ولعل الأمر بها عقيب الحض على العفو، والنهي عن ترك الفضل لأنها تهيئ النفس لفواضل الملكات لكونها الناهية عن الفحشاء والمنكر، أو ليجمع بين التعظيم لأمر الله تعالى على خلقه، وقيل: أمر بها في خلال بيان ما تعلق بالأزواج والأولاد من الأحكام الشرعية المتشابكة إيذانا بأنها حقيقة بكمال الاعتناء بشأنها والمثابرة عليها من غير اشتغال عنها بشأن أولئك فكأنه قيل: لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهن وتوجهوا إلى مولاكم بالمحافظة على ما هو عماد الدين ومعراج المؤمنين وَالصَّلاةِ الْوُسْطى أي المتوسطة بينها أو الفضلى منها، وعلى الأول استدل بالآية على أن الصلوات خمس بلا زيادة دون الثاني، وفي تعيينها أقوال «أحدها» أنها الظهر لأنها تفعل في وسط النهار، «الثاني»
أنها العصر لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل وهو المروي عن علي
والحسن وابن عباس وابن مسعود وخلق كثير وعليه الشافعية «والثالث» أنها المغرب، وعليه قبيصة بن ذؤيب لأنها وسط في الطول والقصر «والرابع» أنها صلاة العشاء لأنها بين صلاتين لا يقصران «والخامس» أنها الفجر لأنها بين صلاتي الليل والنهار ولأنها صلاة لا تجمع مع غيرها فهي منفردة بين مجتمعين وهو المروي عن معاذ وجابر وعطاء وعكرمة ومجاهد واختاره الشافعي رضي الله تعالى عنه نفسه، وقيل: المراد بها صلاة الوتر، وقيل: الضحى، وقيل: عيد الفطر، وقيل: عيد الأضحى، وقيل: صلاة الليل، وقيل: صلاة الجمعة، وقيل: الجماعة، وقيل: صلاة الخوف «وقيل، وقيل..».
والأكثرون صححوا أنها صلاة العصر لما
أخرج مسلم من حديث عليّ كرم الله تعالى وجهه «أنه صلّى الله عليه وسلّم قال يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله تعالى بيوتهم نارا»
وخصت بالذكر لأنها تقع في وقت اشتغال الناس لا سيما العرب، قال بعض المحققين: والذي يقتضيه الدليل من بين هذه الأقوال أنها الظهر ونسب ذلك إلى الامام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وبيان ذلك أن سائر الأقوال ليس لها مستند يقف له العجلان سوى القول بأنها صلاة العصر، والأحاديث الواردة بأنها هي قسمان: مرفوعة وموقوفة، والموقوفة لا يحتج بها لأنها أقوال صحابة عارضها أقوال صحابة آخرين أنها غيرها، وقول الصحابي لا يحتج به إذا عارضه قول صحابي آخر قطعا وإنما جرى الخلاف في الاحتجاج به عند عدم المعارضة، وأما المرفوعة فغالبها لا يخلو إسناده عن مقال والسالم من المقال

صفحة رقم 548

قسمان: مختصر بلفظ الصلاة الوسطى صلاة العصر، ومطول فيه قصة وقع في ضمنها هذه الجملة، والمختصر مأخوذ من المطول اختصره بعض الرواة فوهم في اختصاره على ما ستسمع، والأحاديث المطولة كلها لا تخلو من احتمال فلا يصح الاستدلال بها
فقوله من حديث مسلم «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر»
فيه احتمالان، أحدهما أن يكون لفظ صلاة العصر ليس مرفوعا بل مدرج في الحديث أدرجه بعض الرواة تفسيرا منه كما وقع ذلك كثيرا في أحاديث، ويؤيده ما
أخرجه مسلم من وجه آخر عن علي كرم الله تعالى وجهه بلفظ «حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس»
يعني العصر، الثاني على تقدير أنه ليس بمدرج يحتمل أن يكون عطف نسق على حذف العاطف لا بيانا ولا بدلا والتقدير شغلونا عن الصلاة الوسطى وصلاة العصر، ويؤيد ذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يشغل يوم الأحزاب عن صلاة العصر فقط بل شغل عن الظهر والعصر معا كما ورد من طريق أخرى فكأنه أراد بالصلاة الوسطى الظهر وعطف عليها العصر، ومع هذين الاحتمالين لا يتأتى الاستدلال بالحديث والاحتمال الأول أقوى للرواية المشار إليها، ويؤيده من خارج أنه لو ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم تفسير أنها العصر لوقف الصحابة عنده ولم يختلفوا، وقد أخرج ابن جرير عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه، ثم على تقدير عدم الاحتمالين فالحديث معارض بالحديث المرفوع أنها الظهر، وإذا تعارض الحديثان، ولم يمكن الجمع طلب الترجيح، وقد ذكر الأصوليون أن من المرجحات أن يذكر السبب، والحديث الوارد في أنها الظهر مبين فيه سبب النزول ومساق لذكرها بطريق القصد بخلاف
حديث «شغلونا» إلخ
فوجب الرجوع إليه، وهو ما
أخرجه أحمد وأبو داود بسند جيد عن زيد بن ثابت قال: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم تكن صلاة أشد على الصحابة منها فنزلت حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى
»

وأخرج أحمد من وجه آخر عن زيد أيضا «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم فأنزل الله تعالى حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ إلخ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهم»
ويؤكد كونها غير العصر ما
أخرجه مسلم وغيره من طرق عن أبي يونس مولى عائشة قال: «أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا فأملت عليّ- حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر- وقالت: سمعتها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم»
والعطف يقتضي المغايرة، وأخرج مالك وغيره من طرق أيضا عن عمرو بن رافع قال: «كنت أكتب مصحفا لحفصة زوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأملت عليّ- حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر- وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن عبد الله بن رافع أنه كتب لأم سلمة مصحفا فأملت عليه مثل ما أملت عائشة وحفصة» وأخرج ابن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ كذلك، وأخرج أيضا عن أبي رافع مولى حفصة قال: «كتبت مصحفا لحفصة فقالت اكتب- حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر- فلقيت أبيّ بن كعب فقال: هو كما قالت أو ليس أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في عملنا ونواضحنا» وهذا يدل على أن الصحابة فهموا من هذه القراءة أنها الظهر هذا، وعن الربيع بن خيثم وأبي بكر الوراق أنها إحدى الصلوات الخمس ولم يعينها الله تعالى وأخفاها في جملة «الصلوات» المكتوبة ليحافظوا على جميعها كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان. واسمه الأعظم في جميع الأسماء وساعة الإجابة في ساعات الجمعة
وقرأ عبد الله وعلي الصَّلاةِ الْوُسْطى
وروي عن عائشة وَالصَّلاةِ بالنصب على المدح والاختصاص، وقرأ نافع- الوصطى- بالصاد وَقُومُوا لِلَّهِ أي في الصلاة قانِتِينَ أي مطيعين كما هو أصل معنى القنوت عند بعض وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو ذاكرين له تعالى في القيام بناء على أن القنوت هو الذكر فيه، وقيل: خاشعين، وقيل: مكملين الطاعة ومتميها على أحسن وجه من غير إخلال بشيء مما

صفحة رقم 549

ينبغي فيها، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن مجاهد قال: من القنوت طول الركوع وغض البصر والخشوع وأن لا يلتفت وأن لا يقلب الحصى ولا يعبث بشيء ولا يحدث نفسه بأمر من أمور الدنيا، وفسره البخاري في صحيحه بساكتين لما أخرج هو ومسلم وأبو داود وجماعة عن زيد بن أرقم قال «كنا نتكلم على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الصلاة يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، ولا يخفى أنه ليس بنص في المقصود، ولعل الأوضح منه ما
أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما قال: أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد عليّ فلما قضى الصلاة قال: «إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنا أمرنا أن نقوم قانِتِينَ لا نتكلم في الصلاة»

وقال ابن المسيب:
المراد به القنوت في الصبح وهو رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والجار والمجرور متعلق بما قبله أو بما بعده فَإِنْ خِفْتُمْ من عدو أو غيره فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً حالان من الضمير في جواب الشرط أي فصلوا راجلين أو راكبين، والأول جمع راجل، وهو الماشي على رجليه- ورجل- بفتح فضم أو بفتح فكسر بمعناه، وقيل: الراجل الكائن على رجليه واقفا أو ماشيا، واستدل الشافعي رضي الله تعالى عنه بظاهر الآية على وجوب الصلاة حال المسايفة وإن لم يمكن الوقوف، وذهب إمامنا إلى أن المشي، وكذا القتال يبطلها، وإذا أدى الأمر إلى ذلك أخرها ثم صلاها آمنا،
فقد أخرج الشافعي بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوي من الليل حتى كفينا القتال، وذلك قوله تعالى: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الأحزاب: ٢٥] فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بلالا فأمر فأقام الظهر فصلاها كما كان يصلي، ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك،
وفي لفظ «فصلى كل صلاة ما كان يصليها في وقتها» وقد كانت صلاة الخوف مشروعة قبل ذلك لأنها نزلت في ذات الرقاع- وهي قبل الخندق- كما قاله ابن إسحاق وغيره من أهل السير، وأجيب بمنع أن صلاة الخوف مطلقا ولو شديدا شرعت قبل الخندق ليستدل بما وقع فيه من التأخير، ويجعل ناسخا لما في الآية- كما قيل- والمشروع في ذات الرقاع قبل صلاة الخوف الغير الشديد وهي التي نزلت فيها وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء: ١٠٢] لا صلاة شدّة الخوف الغير الشديد وهي التي نزلت فيها- وهي لم تشرع قبل الخندق بل بعده- وفيه كان الخوف شديدا فلا يضر التأخير، وقد أجاب بعض الحنفية بأنا سلمنا جميع ذلك إلا أن هذه الآية ليست نصا في جواز الصلاة مع المشي أو المسايفة إذ يحتمل أن يكون الراحل فيها بمعنى الواقف على رجليه لا سيما وقد قوبل بالراكب وقد علم من خارج وجوب عدم الإخلال في الصلاة، وهذا إخلال كلي لا يحتمل فيها لإخراجه لها عن ماهيتها بالكلية، وأنت تعلم- إذا أنصفت- أن ظاهر الآية صريحة مع الشافعية لسبق «وقوموا والدين يسر لا عسر» والمقامات مختلفة، والميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك لا يترك فليفهم.
وقرىء «رجالا» - بضم الراء مع التخفيف، وبضمها مع التشديد- وقرىء «فرجلا» أيضا فَإِذا أَمِنْتُمْ وزال خوفكم. وعن مجاهد- إذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة- ولعله على سبيل التمثيل فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي فصلوا صلاة الأمن- كما قال ابن زيد- وعبر عنها بالذكر لأنه معظم أركانها، وقيل: المراد- اشكروه على الأمن- وبعضهم أوجب الإعادة، وفسر هذا- بأعيدوا الصلاة- وهو من البعد بمكان كَما عَلَّمَكُمْ أي ذكرا مثل ما عَلَّمَكُمْ من الشرائع وكيفية الصلاة حالتي- الأمن والخوف- أو شكرا يوازي ذلك، و «ما» مصدرية وجوّز أن تكون موصولة- وفيه بعد.
ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مفعول علمكم وزاد تَكُونُوا ليفيد النظم، ووقع في موضع آخر بدونها كقوله

صفحة رقم 550

تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: ٥] فقيل: الفائدة في ذكر المفعول فيه وإن كان الإنسان لا يعلم إلا ما لم يعلم التصريح بذكر حالة الجهل التي انتقل عنها فإنه أوضح في الامتنان، وفي إيراد الشرطية الأولى بأن المفيد لمشكوكية وقوع الخوف وندرته، وتصدير الثانية ب «إذا» المنبئة عن تحقق وقوع الأمن وكثرته مع الإيجاز في جواب الأولى، والإطناب في جواب الثانية المبنيين على تنزيل مقام وقوع المأمور به فيهما منزلة مقام وقوع الأمر تنزيلا مستدعيا لإجراء مقتضى المقام الأوّل في كل منهما مجرى مقتضى المقام الثاني من الجزالة والاعتبار كما قيل- ما فيه عبرة لذوي الأبصار وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً عود إلى بيان بقية الأحكام المفصلة فيما سبق، وفي يُتَوَفَّوْنَ مجاز المشارفة وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة عن عاصم بنصب وَصِيَّةً على المصدرية، أو على أنها مفعول به، والتقدير ليوصوا أو يوصون وَصِيَّةً أو كتب الله تعالى عليهم، أو ألزموا وَصِيَّةً ويؤيد ذلك قراءة عبد الله «كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعا إلى الحول» مكان وَالَّذِينَ إلخ، وقرأ الباقون- بالرفع- على أنه خبر بتقدير ليصح الحمل أي ووصية الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أو حكمهم وصية أو وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أهل وصية، وجوّز أن يكون نائب فاعل فعل محذوف، أو مبتدأ لخبر محذوف مقدّم عليه أي كُتِبَ عَلَيْهِمُ أو عليهم وَصِيَّةً وقرأ أبيّ متاع لأزواجهم، وروي عنه فَمَتاعُ بالفاء.
مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ نصب بيوصون إن أضمرته ويكون من باب الحذف والإيصال، وإلا ف «بالوصية» لأنها بمعنى التوصية، وبمتاع على قراءة أبيّ لأنه بمعنى التمتع غَيْرَ إِخْراجٍ بدل منه بدل اشتمال إن اعتبر اللزوم بين التمتع إِلَى الْحَوْلِ وبين- غير الإخراج- وبدل الكل بحسب الذات فإنهما متحدان بالذات، ومتغايران بالوصف، وذكر بعضهم أنه على تقدير البدل لا بد من تقدير مضاف إلى غير تقديره مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ متاع غَيْرَ إِخْراجٍ وإلا لم يصح لأن مَتاعاً مفسر بالإنفاق، وغَيْرَ إِخْراجٍ عبارة عن الإسكان وليس مدلوله مدول الأول، ولا جزأه، ولا ملابسا له، فيكون بدل غلط- وهو لا يصح في الكلام المجيد- فيتعين التقدير، وحينئذ يكون إبدال الخاص من العام وهو من قبيل إبدال الكل من الجزء نحو- رأيت القمر فلكه- وهو بدل الاشتمال- كما صرح به صاحب المفتاح- وأجيب بأنا لا نسلم أن مَتاعاً مفسر بالإنفاق فقط بل- المتاع- عام شامل للإنفاق والإسكان جميعا، فيكون غَيْرَ إِخْراجٍ عبارة عن الإسكان الذي هو بعض من مَتاعاً فيكون بدل البعض من الكل، وجوّز أن يكون مصدرا مؤكدا لأن- الوصية بأن يمتعن حولا- يدل على أنهن لا يخرجن، فكأنه قيل: لا يخرجن غَيْرَ إِخْراجٍ ويكون تأكيدا لنفي- الإخراج- الدال عليه لا يَخْرُجْنَ فيؤول إلى قولك: لا يخرجن لا يخرجن، وأن يكون حالا من أزواجهم والأكثرون على أنها حال مؤكدة إذ لا معنى لتقييد- الإيصاء- بمفهوم هذه الحالة وأنها مقدّرة لأن معنى نفى- الإخراج إلى الحول- ليس مقارنا- للإيصاء- وفيه تأمل، وأن يكون صفة متاع أو منصوبا بنزع الخافض، والمعنى يجب على الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أن يوصوا قبل أن يحتضروا لِأَزْواجِهِمْ لأن يمتعن بعدهم- حولا- بالنفقة والسكنى، وكان ذلك على الصحيح في أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله تعالى: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً وهو وإن كان متقدما في التلاوة فهو متأخر في النزول، وكذا النفقة بتوريثهن الربع أو الثمن، واختلف في سقوط السكنى وعدمه، والذي عليه ساداتنا الحنفية الأول، وحجتهم أن مال الزوج صار ميراثا للوارث، وانقطع ملكه بالموت، وذهب الشافعية إلى الثاني
لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله»
واعترض بأنه ليس فيه دلالة على أن لها السكنى في مال الزوج، والكلام فيه فَإِنْ خَرَجْنَ بعد الحول، ومضيّ العدة، وقيل: في الأثناء باختيارهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يا أولياء الميت، أو أيها الأئمة.

صفحة رقم 551

فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ لا ينكره الشرع كالتطيب والتزين وترك الحداد والتعرض للخطاب أو في ترك منعهنّ من الخروج، أو قطع النفقة عنهنّ، فلا نص في الآية على أنه لم يكن يجب عليهنّ ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه، وإنما كنّ مخيرات بين الملازمة وأخذ النفقة، وبين الخروج وتركها وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب على أمره ينتقم ممن خالف أمره في- الإيصاء- وإنفاذ «الوصية» وغير ذلك حَكِيمٌ يراعي في أحكامه مصالح عباده فينبغي أن يمتثل أمره ونهيه.
وَلِلْمُطَلَّقاتِ سواء كن مدخولا بهن أو لا مَتاعٌ أي مطلق المتعة الشاملة للواجبة والمستحبة وأوجبها سعيد بن جبير وأبو العالية والزهري للكل، وقيل: المراد بالمتاع نفقة العدة، ويجوز أن يكون اللام للعهد أي المطلقات المذكورات في الآية السابقة وهن غير الممسوسات وغير المفروض لهن، والتكرير للتأكيد والتصريح بما هو أظهر في الوجوب وهذا هو الأوفق بمذهبنا، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد قال: لما نزل قوله تعالى: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة: ٢٣٦] قال رجل: إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل فأنزل الله تعالى هذه الآية فلا حاجة حينئذ إلى القول بأن تلك الآية مخصصة بمفهومها منطوق هذه الآية المعممة على مذهب من يرى ذلك ولا إلى القول بنسخ هذه كما ذهب إليه ابن المسيب وهو أحد قولي الإمامية بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ أي من الكفر والمعاصي كَذلِكَ أي مثل ذلك البيان الواضح للأحكام السابقة يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ الدالة على ما تحتاجون إليه معاشا ومعادا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تكمل عقولكم أو لكي تصرفوا عقولكم إليها أو لكي تفهموا ما أريد منها أَلَمْ تَرَ هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب والتقرير والتذكير لمن علم بما يأتي كالأخبار وأهل التواريخ، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه، وقد اشتهرت في ذلك حتى أجريت مجرى المثل في هذا الباب بأن شبه حال من «لم ير» الشيء بحال من رآه في أنه لا ينبغي أن يخفى عليه وأنه ينبغي أن يتعجب منه ثم أجري الكلام معه كما يجري مع من رأى قصدا إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب، والرؤية إما بمعنى الابصار مجازا عن النظر، وفائدة التجوز الحث على الاعتبار لأن النظر اختياري دون الإدراك الذي بعده وإما بمعنى الإدراك القلبي متضمنا معنى الوصول والانتهاء ولهذا تعدت بإلى في قوله تعالى: إِلَى الَّذِينَ كما قاله غير واحد، وقال الراغب: إن الفعل مما يتعدى بنفسه لكن لما استعير لمعنى- ألم تنظر- عدي تعديته بإلى وفائدة استفادته أن النظر قد يتعدى عن الرؤية فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة لها استعيرت له وقلما استعمل ذلك في غير التقرير فلا يقال رأيت إلى كذا انتهى. وقد يتعدى اللفظ على هذا المعنى بنفسه وقل من نبه عليه كقول امرئ القيس:

ألم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا ولم تتطيب
والمراد بالموصول أهل قرية يقال لها داوردان قرب واسط خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فارين من الطاعون أو من الجهاد حيث دعوا إليه وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ وكانوا فوق عشرة آلاف على ما استظهره الأكثر بناء على أنه لا يقال- عشرة ألوف لا تسعة ألوف- وهكذا وإنما يقال آلاف، فقول عطاء الخراساني: إنهم كانوا ثلاثة آلاف، وابن عباس في إحدى الروايات عنه أنهم أربعة آلاف، ومقاتل والكلبي أنهم ثمانية آلاف، وأبي صالح أنهم تسعة آلاف، وأبي رؤوف أنهم عشرة آلاف لا يساعده هذا الاستعمال، والقائلون بالفوقية اختلفوا فقيل: كانوا بضعة وثلاثين ألفا، وحكي ذلك عن السدي وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أربعون ألفا، وقال عطاء بن أبي رباح إنهم سبعون ألفا ولا أرى لهذا الخلاف ثمرة بعد القول بالكثرة وإلى ذلك يميل كلام الضحاك، وحكي عن ابن زيد أن المراد

صفحة رقم 552

خَرَجُوا مؤتلفي القلوب ولم يخرجوا عن تباغض فجعله جمع آلف مثل قاعد وقعود وشاهد وشهود وهو خلاف الظاهر، وليس فيه كثير اعتبار إذ ورود الموت دفعة كما ينبىء عنه قوله تعالى: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا على جمع عظيم أبلغ في الاعتبار، وأما وقوعه على قوم بينهم ألفة فهو كوقوعه على غيرهم، ومثل هذا القول بأن المراد ألفهم وحبهم لديارهم أو لحياتهم الدنيا، والمراد بقوله تعالى إما ظاهره وإما مجاز عن تعلق إرادته تعالى بموتهم دفعة، وقيل:
هو تمثيل لإماتته تعالى إياهم ميتة نفس واحدة في أقرب وقت وأدناه وأسرع زمان وأوحاه بأمر مطاع لمأمور مطيع، وقيل: ناداهم ملك بذلك، وعن السدي أن المنادي ملكان وإنما أسند إليه تعالى تخويفا وتهويلا ثُمَّ أَحْياهُمْ عطف على مقدر يستدعيه المقام أي فماتوا ثُمَّ أَحْياهُمْ قيل: وإنما حذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته الكونية، وجوز أن يكون عطفا على- قال- لما أنه عبارة عن الإماتة والمشهور أنهم بقوا موتى مدة حتى تفرقت عظامهم فمر بهم حزقيل الشهير بابن العجوز خليفة كالب بن يوفنا خليفة يوشع بن نون، وقيل شمعون، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال وهب: إنه شمويل وهو ذو الكفل، وقيل: يوشع نفسه فوقف متعجبا لكثرة ما يرى منهم
«فأوحى الله تعالى إليه أن ناد أيتها العظام إن الله تعالى يأمرك أن تجتمعي فاجتمعت حتى التزق بعضها ببعض فصارت أجسادا من عظام لا لحم ولا دم ثم أوحى الله تعالى إليه أن ناد أيتها الأجسام إن الله تعالى يأمرك أن تكتسي لحما فاكتست لحما ثم أوحى الله تعالى إليه أن ناد إنّ الله تعالى يأمرك تقومي فبعثوا أحياء يقولون سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت»
والروايات في هذا الباب كثيرة.
والظاهر أنهم لم يروا في هذا الموت من الأهوال والأحوال ما يصير بها معارفهم ضرورية، ويمنع من صحة التكليف بعد الإحياء كما في الآخرة، ويمكن أن يقال إنهم رأوا ما يراه الموتى إلا أنهم أنسوه بعد العودة، والقادر على الإماتة والإحياء قادر على الإنساء وسبحان من لا يعجزه شيء، وعلى كلا التقديرين لا يشكل موت هؤلاء في الدنيا مرتين مع قوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ [الدخان: ٥٦] الآية لأن ذلك لم يكن عن استيفاء آجال- كما قال مجاهد- وإنما هو موت عقوبة فكأنه ليس بموت، وأيضا هو من خوارق العادات فلا يرد نقضا، ومن الناس من قال: إن هذا لم يكن موتا كالموت الذي يكون وراءه الحياة للنشور، وإنما هو نوع انقطاع تعلق الرّوح عن الجسد بحيث يلحقه التغير والفساد وهو فوق داء السكتة والإغماء الشديد حتى لا يشك الرائي الحاذق لو رآه بانقطاع التعلق أصلا ولم يعلم أنه قد بقي تعلق ما لكن لم يصل إلى حد الحياة المعلومة لدينا، ولعل هذا القول يعود بالآخرة إلى انقسام الموت أو إلى أن إطلاق الموت على ما ذكر مجاز، وكلا الأمرين في القلب منهما شيء بل أشياء.
وقد ذهب إلى مثله ابن الراوندي في جميع الأموات فقال: إن الأرواح لا تفارق الأبدان أصلا وإنما يحدث في الأبدان عوارض وعلل يحدث تفرق الأجزاء منها كما يحدث للمجذومين، والروح كامنة في الأجزاء المتفرقة أينما كانت لكونها عرية عن الاحساس والإدراك وهو مذهب تحكم الضرورة برده عافانا الله تعالى والمسلمين عن اعتقاد مثله إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ جميعا، أمّا أولئك فقد أحياهم ليعتبروا فيفوزوا بالسعادة وأما الذين سمعوا فقد هداهم إلى الاعتبار، وهذا كالتعليل لما تقدم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ استدراك مما تضمنه ما قبله والتقدير فيجب عليهم أن يشكروا فضله وَلكِنَّ إلخ، وجوز أن يراد بالشكر الاستبصار والاعتبار، ولا يخفى بعده، والإظهار في مقام الإضمار لمزيد التشنيع ومناسبة هذه لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر جملا من الأحكام التكليفية مشتملة على ذكر شيء من أحكام الموتى عقب ذلك بهذه القصة العجيبة تنبيها على عظيم قدرته وأنه القادر على الإحياء والبعث للمجازاة واستنهاضا للعزائم على العمل للمعاد والوفاء بالحقوق والصبر على المشاق.

صفحة رقم 553

وقيل: وجه المناسبة أنه لما ذكر سبحانه كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ذكر هذه القصة لأنها من عظيم آياته وبدائع قدرته، وقيل: جعل الله تعالى هذه القصة لما فيها من تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، والحث على التوكل والاستسلام للقضاء تمهيدا لقوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهو عطف في المعنى على أَلَمْ تَرَ لأنه بمعنى انظروا وتفكروا، والسورة الكريمة لكونها سنام القرآن ذكر فيها كليات الأحكام الدينية من الصيام والحج والصلاة والجهاد على نمط عجيب مستطردا تارة للاهتمام بشأنها يكر عليها كلما وجد مجال، ومقصودا أخرى دلالة على أن المؤمن المخلص لا ينبغي أن يشغله حال عن حال. وإن المصالح الدنيوية ذرائع إلى الفراغة للمشاغل الأخروية، والجهاد لما كان ذروة سنام الدين، وكان من أشق التكاليف حرضهم عليه من طرق شتى مبتدئا من قوله سبحانه: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: ١٥٤] منتهيا إلى هذا المقال الكريم مختتما بذكر الانفاق في سبيله للتتميم- قاله في الكشف- وجوز في العطف وجوه أخر، الأول أنه عطف على مقدر يعينه ما قبله كأنه قيل فاشكروا فضله بالاعتبار بما قص عليكم- وقاتلوا في سبيله- لما علمتم أن الفرار لا ينجي من الحمام وأن المقدر لا يمحى فإن كان قد حان الأجل فموت في سبيل الله تعالى خير سبيل وإلا فنصر وثواب، الثاني أنه عطف على ما يفهم من القصة أي اثبتوا ولا تهربوا كما هرب هؤلاء وقاتلوا، الثالث أنه عطف على حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ إلى فَإِنْ خِفْتُمْ الآية لأن فيه إشعارا بلقاء العدوّ وما جاء جاء كالاعتراض، الرابع أنه عطف على فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ والخطاب لمن أحياهم الله تعالى وهو كما ترى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقوله المتخلف عن الجهاد من تنفير الغير عنه وما يقوله السابق إليه من ترغيب فيه عَلِيمٌ بما يضمره هذا وذلك من الأغراض والبواعث فيجازي كلّا حسب عمله ونيته مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ مَنْ استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء، وذَا خبره والَّذِي صفة له أو بدل منه، ولا يجوز أن يكون مَنْ ذَا بمنزلة اسم واحد مثل ما تكون ماذا كذلك كما نص عليه أبو البقاء لأن ما أشد إبهاما من- من- وإقراض الله تعالى مثل لتقديم العمل العاجل طائل للثواب الآجل، والمراد هاهنا إمّا الجهاد المشتمل على بذل النفس والمال، وإما مطلق العمل الصالح ويدخل فيه ذلك دخولا أوليا، وعلى كلا التقديرين لا يخفى انتظام الجملة بما قبلها قَرْضاً إمّا مصدر بمعنى- إقراضا- فيكون نصبا على المصدرية، وإما بمعنى المفعول فيكون نصبا على المفعولية، وقوله سبحانه: حَسَناً صفة له على الوجهين وجهة الحسن على الأوّل الخلوص مثلا وعلى الثاني الحل والطيب، وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه- القرض الحسن- المجاهدة والإنفاق في سبيل الله تعالى، وعليه يلتئم النظم أتم التئام فَيُضاعِفَهُ أي- القرض- لَهُ وجعله- مضاعفا- مجاز لأنه سبب- المضاعفة- وجوز تقدير مضاف أي- فيضاعف- جزاءه، وصيغة المفاعلة ليست على بابها إذ لا مشاركة وإنما اختيرت للمبالغة المشيرة إليها المغالبة.
وقرأ عاصم بالنصب، وفيه وجهان: أحدهما أن يكون- معطوفا- على مصدر- يقرض- في المعنى أي- من ذا الذي- يكون منه قرض فمضاعفة من الله تعالى، وثانيهما أن يكون جوابا لاستفهام معنى أيضا لأن المستفهم عنه وإن كان المقرض في اللفظ إلا أنه في المعنى الإقراض فكأنه قيل: أيقرض الله تعالى أحد فَيُضاعِفَهُ وهذا ما اختاره أبو البقاء ولم يجوز أن يكون جواب الاستفهام في اللفظ لأن المستفهم عنه فيه المقرض لا القرض ولا عطفه على المصدر الذي هو قرضا كما يعطف الفعل على المصدر بإضمار إن لأمرين- على ما قيل- الأوّل أن قرضا هنا مصدر مؤكد وهو لا يقدر بأن والفعل، والثاني أن عطفه عليه يوجب أن يكون معمولا ليقرض، ولا يصح هذا لأن المضاعفة ليست مقروضة، وإنما هي فعل من الله تعالى وفيه تأمل، وقرأ ابن كثير: يضعفه بالرفع والتشديد، ويعقوب وابن عامر

صفحة رقم 554

يضعفه بالنصب أَضْعافاً جمع ضعف وهو مثل الشيء في المقدار إذا زيد عليه فليس بمصدر والمصدر الإضعاف أو المضاعفة فعلى هذا يجوز أن يكون حالا من الهاء في فَيُضاعِفَهُ وأن يكون مفعولا ثانيا على المعنى بأن تضمن المضاعفة معنى التصيير، وجوّز أن يعتبر واقعا موقع المصدر فينتصب على المصدرية حينئذ، وإنما جمع والمصادر لا تثنى ولا تجمع لأنها موضوعة للحقيقة من حيث هي لقصد الأنواع المختلفة، والمراد به أيضا إذا ذاك الحقيقة لكنها تقصد من حيث وجودها في ضمن أنواعها الداخلة تحتها كَثِيرَةً لا يعلم قدرها إلا الله تعالى، وأخرج الإمام أحمد، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عثمان النهدي قال: بلغني عن أبي هريرة أنه قال: إن الله تعالى ليكتب لعبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فحججت ذلك العام ولم أكن أريد أن أحج إلا للقائه في هذا الحديث فلقيت أبا هريرة فقلت له: فقال: ليس هذا قلت ولم يحفظ الذي حدثك إنما قلت إن الله تعالى ليعطي العبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة ثم قال أبو هريرة أو ليس تجدون هذا في كتاب الله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً فالكثير عنده تعالى أكثر من ألفي ألف وألفي ألف والذي نفسي بيده
لقد سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى يضاعف الحسنة ألفي ألفي حسنة»
وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ أي يقتر على بعض ويوسع على بعض أو يقتر تارة ويوسع أخرى حسبما تقتضيه الحكمة التي قد دق سرها وجل قدرها وإذا علمتم أنه هو القابض والباسط وأن ما عندكم إنما هو من بسطه وعطائه فلا تبخلوا عليه فأقرضوه وأنفقوا مما وسع عليكم بدل توسعته وإعطائه ولا تعكسوا بأن تبخلوا بدل ذلك فيعاملكم مثل معاملتكم في التعكيس بأن يقبض ويقتر عليكم من بعد ما وسع عليكم وأقدركم على الانفاق، وعن قتادة والأصم والزجاج أن المعنى يقبض الصدقات، ويبسط الجزاء عليها فالكلام كالتأكيد والتقرير لما قبله ووجه تأخير البسط عليه ظاهر، ووجه تأخيره على الأوّل الإيماء إلى أنه يعقب القبض في الوجود تسلية للفقراء، وقرىء «يبصط».
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على حسب ما قدمتم «ومن باب الإشارة» إن الصلوات خمس صلاة السر بشهوده مقام الغيب، وصلاة النفس بخمودها عن دواعي الريب، وصلاة القلب بمراقبته أنوار الكشف، وصلاة الروح بمشاهدة الوصل، وصلاة البدن بحفظ الحواس وإقامة الحدود، فالمعنى حافظوا على هذه الصلوات الخمس، والصلاة الوسطى التي هي صلاة القلب التي شرطها الطهارة عن الميل إلى السوي وحقيقتها التوجه إلى المولى ولهذا تبطل بالخطرات والانحراف عن كعبة الذات وَقُومُوا لِلَّهِ بالتوجه إليه قانِتِينَ أي مطيعين له ظاهرا وباطنا بدفع الخواطر فَإِنْ خِفْتُمْ صدمات الجلال حال سفركم إلى الله تعالى فصلوا راجلين في بيداء المسير سائرين على أقدام الصدق أو راكبين على مطايا العزم ولا يصدنكم الخوف عن ذلك فَإِذا أَمِنْتُمْ بعد الرجوع عن ذلك السفر إلى الوطن الأصلي بكشف الحجاب فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي فصلوا له بكليتكم حتى تفنوا فيه أو فإذا أمنتم بالرجوع إلى البقاء بعد الفناء فاذكروا الله تعالى لحصول الفرق بعد الجمع حينئذ، وأما قبل ذلك فلا ذكر إذ لا امتياز ولا تفضيل وقد، قيل:
للمجنون أتحب ليلى؟ فقال: ومن ليلى؟! أنا ليلى، وقال بعضهم:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا
أَلَمْ تَرَ إلى الذين خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أي أوطانهم المألوفة ومقار نفوسهم المعهودة ومقاماتهم ومراتبهم من الدنيا وما ركنوا إليها بدواعي الهوى وهم قوم ألوف كثيرة أو متحابون متألفون في الله تعالى حذر موت الجهل والانقطاع عن الحياة الحقيقية والوقوع في المهاوي الطبيعية فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا أي أمرهم بالموت الاختياري أو

صفحة رقم 555

أماتهم عن ذواتهم بالتجلي الذاتي حتى فنوا فيه ثم أحياهم بالحياة الحقيقية العلمية أو به بالوجود الحقاني- والبقاء بعد الفناء- إن الله لذو فضل على سائر الناس بتهيئة أسباب إرشادهم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ لمزيد غفلتهم عما يراد بهم وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ النفس والشيطان وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ هواجس نفوس المقاتلين في سبيله عَلِيمٌ بما في قلوبهم مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ ويبذل نفسه له بذلا خالصا عن الشركة فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً بظهور نعوت جماله وجلاله فيه- والله يقبض أرواح الموحدين- بقبضته الجبروتية في نور الأزلية، ويبسط أسرار العارفين من قبضة الكبرياء وينشرها في مشاهدة ثناء الأبدية، ويقال: القبض سره والبسط كشفه، وقيل:
القبض للمريدين والبسط للمرادين أو الأول للمشتاقين والثاني للعارفين، والمشهور أن القبض والبسط حالتان بعد ترقي العبد عن حالة الخوف الرجاء فالقبض للعارف كالخوف للمستأمن، والفرق بينهما أن الخوف والرجاء يتعلقان بأمر مستقبل مكروه أو محبوب، والقبض والبسط بأمر حاضر في الوقت يغلب على قلب العارف من وارد غيبي وكان الأول من آثار الجلال والثاني من آثار الجمال.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الملأ من القوم وجوههم وأشرافهم وهو اسم للجماعة لا واحد من لفظه، وأصل الباب الاجتماع فيما لا يحتمل المزيد وإنما سمي الأشراف بذلك لأن هيبتهم تملأ الصدور أو لأنهم يتمالؤون أي يتعاونون بما لا مزيد عليه، ومن للتبعيض والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الملأ مِنْ بَعْدِ مُوسى أي من بعد وفاته عليه السلام، ومن للابتداء وهي متعلقة بما تعلق به ما قبله ولا يضر اتحاد الحرفين لفظا لاختلافهما معنى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ قال أبو عبيدة: هو أشمويل بن حنة بن العاقر- وعليه الأكثر.
وعن السدي أنه شمعون وقال قتادة: هو يوشع بن نون لمكان من بعد من قبل وهي ظاهرة في الاتصال، ورد بأن يوشع هذا فتى موسى عليهما السلام وكان بينه وبين داود قرون كثيرة والاتصال غير لازم، وإِذْ متعلقة بمضمر يستدعيه المقام أي أَلَمْ تَرَ قصة الملأ أو حديثهم حين قالوا: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً أي أقم لنا أميرا، وأصل البعث إرسال المبعوث من المكان الذي هو فيه لكن يختلف باختلاف متعلقه يقال: بعث البعير من مبركه إذا أثاره وبعثته في السير إذا هيجته، وبعث الله تعالى الميت إذا أحياه، وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالارتحال.
نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مجزوم بالأمر، وقرىء بالرفع على أنه حال مقدرة أي ابعثه لنا مقدرين القتال أو مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل: فماذا تفعلون مع الملك؟ فأجيب نقاتل، وقرىء يقاتل- بالياء- مجزوما ومرفوعا على الجواب للأمر. والوصف- لملكا- وسبب طلبهم ذلك على ما في بعض الآثار أنه لما مات موسى خلفه يوشع ليقيم فيهم أمر الله تعالى ويحكم بالتوراة ثم خلفه كالب كذلك ثم حزقيل كذلك ثم إلياس كذلك ثم اليسع كذلك، ثم ظهر لهم عدو وهم العمالقة قوم جالوت- وكانوا سكان بحر الروم- بين مصر وفلسطين وظهروا عليهم، وغلبوا على كثير من بلادهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين، وضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ولم يكن لهم نبي إذ ذاك يدبر أمرهم وكان سبط النبوة قد هلكوا إلا امرأة حبلى فولدت غلاما فسمته أشمويل ومعناه إسماعيل، وقيل:
شمعون فلما كبر سلمته التوراة وتعلمها في بيت المقدس وكفله شيخ من علمائهم فلما كبر نبأه الله تعالى وأرسله إليهم فقالوا: إن كنت صادقا- فابعث لنا ملكا- الآية، وكان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة أنبيائهم وكان الملك هو الذي يسير بالجموع والنبي هو الذي يقيم أمره ويرشده ويشير عليه قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا عسى من النواسخ وخبرها أن لا تقاتلوا وفصل بالشرط اعتناء به، والمعنى هل قاربتم أن لا تقاتلوا كما أتوقعه منكم، والمراد تقرير أن المتوقع كائن وتثبيته على ما قيل، واعترض بأن عسيتم أن لا تقاتلوا

صفحة رقم 556

معناه توقع عدم القتال. وهل لا يستفهم بها إلا عما دخلته فيكون الاستفهام عن التوقع لا المتوقع ولا يلزم من تقرير الاستفهام أن المتوقع ثابت بل إن التوقع كائن وأين هذا من ذاك؟! وأجيب بأن الاستفهام دخل على جملة مشتملة على توقع متوقع ولا سبيل إلى الأول لأن الرجل لا يستفهم عن توقعه فتعين أن يكون عن المتوقع، ولما كان الاستفهام على سبيل التقرير كان المراد أن المتوقع كائن، وقيل: لما كانت عسى لإنشاء التوقع ولا تخرج عنه جعل الاستفهام التقريري متوجها إلى المتوقع وهو الخبر الذي هو محل الفائدة فقرره وثبته وكون المستفهم عنه يلي الهمزة ليس أمرا كليا، وقيل: إن عسى ليست من النواسخ وقد تضمنت معنى قارب وأن وما بعدها مفعول لها وهذا معنى قول بعضهم:
إنها خبر لا إنشاء، واستدل على ذلك بدخول الاستفهام عليها ووقوعها خبرا في قوله لا تكسرن إني عسيت صائما ولا يخفى ما فيه، وإنما ذكر في معرض الشرط كتابة القتال دون ما التمسوه مع أنه أظهر تعلقا بكلامهم مبالغة في بيان تخلفهم عنه فإنهم إذا لم يقاتلوا عند فرضية القتال عليهم بإيجاب الله تعالى فلأن لا يقاتلوا عند عدم فرضيته أولى ولأن ما ذكروه ربما يوهم أن سبب تخلفهم هو المبعوث لا نفس القتال، ويحتمل أنه أقام هذا مقام ذلك إيماء إلى أن ذلك البعث المترتب عليه القتال إذا وقع فإنما يقع على وجه يترتب عليه الفرضية، وقرىء- عسيتم- بكسر السين وهي لغة قليلة قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي ما الداعي لنا إلى أن لا نقاتل أي إلى ترك القتال. والجار والمجرور متعلق بما تعلق به لنا أو به نفسه وهو خبر عن «ما» ودخلت الواو لتدل على ربط هذا الكلام بما قبله ولو حذفت لجاز أن يكون منقطعا عنه- قاله أبو البقاء- وجوز أن تكون عاطفة على محذوف كأنهم قالوا عدم القتال غير متوقع منا- وما لنا أن لا نقاتل- وإنما لم يصرحوا به تحاشيا عن مشافهة نبيهم بما هو ظاهر في رد كلامه، والشائع في مثل هذا التركيب ما لنا نفعل أو لا نفعل على أن الجملة حال، ولما منع من ذلك هنا أن المصدرية إذ لا توافقه التزم فيه ما التزم، والأخفش ادعى زيادة ان وأن العمل لا ينافيها، والجملة نصب على الحال كما في الشائع، وقيل: إنه على حذف الواو ويؤول إلى ما لنا ولأن لا نقاتل كقولك: إياك وأن تتكلم وقد يقال: إياك أن تتكلم والمعنى على- الواو- وقيل: إن ما هنا نافية أي ليس لنا ترك القتال وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا في موضع الحال والعامل نقاتل والغرض الإخبار بأنهم يقاتلون لا محالة إذ قد عرض لهم ما يوجب المقاتلة إيجابا قويا وهو الإخراج عن الأوطان والاغتراب من الأهل والأولاد، وإفراد الأبناء بالذكر لمزيد تقوية أسباب القتال وهو معطوف على الديار وفيه حذف مضاف عند أبي البقاء أي ومن بين أبنائنا، وقيل: لا حذف والعطف على حد
علفتها تبنا وماء باردا
وفي الكلام إسناد ما للبعض للكل إذ المخرج بعضهم لا كلهم.
فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ بعد سؤال النبي وبعث الملك تَوَلَّوْا أعرضوا وضيعوا أمر الله تعالى ولكن لا في ابتداء الأمر بل بعد مشاهدة كثرة العدو وشوكته كما سيجيء وإنما ذكر هاهنا مآل أمرهم إجمالا إظهار لما بين قولهم وفعلهم من التنافي والتباين إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين جاوزوا النهر وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشرة عدة أهل بدر على ما أخرجه البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه، والقلة إضافية فلا يرد وصف هذا العدد أحيانا بأنه جم غفير وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ومنهم الذين ظلموا بالتولي عن القتال وترك الجهاد وتنافت أقوالهم وأفعالهم، والجملة تذييل أريد منها الوعيد على ذلك وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ شروع في التفصيل بعد الإجمال أي قال بعد أن أوحى لهم ما أوحى إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً يدير أمركم وتصدرون عن رأيه في القتال. وطالُوتَ فيه قولان أظهرهما أنه علم أعجمي عبري- كداود- ولذلك لم ينصرف، وقيل: إنه عربي من الطول وأصله طولوت- كرهبوت ورحموت- فقلبت- الواو ألفا- لتحركها وانفتاح ما قبلها ومنع صرفه حينئذ للعلمية وشبه العجمة لكونه ليس من أبنية

صفحة رقم 557

العرب، وأما ادعاء العدل عن طويل، والقول بأنه عبراني وافق العربي فتكلف، ومَلِكاً حال من طالُوتَ أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن- نبيهم- لما دعا ربه أن يملكهم أتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن وهب بن منبه أنه لما دعا الله تعالى قال له: انظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي فيه فهو ملك بني إسرائيل فادهن رأسه منه وملكه عليهم فأقام ينتظر متى يدخل ذلك الرجل عليه وكان طالوت رجلا دباغا يعمل الأدم، وقيل: كان سقاء وكان من سبط بنيامين بن يعقوب عليه السلام ولم يكن فيهم نبوة ولا ملك فخرج طالوت في ابتغاء دابة له ضلت ومعه غلام فمرا ببيت النبي فقال غلام طالوت له: لو دخلت بنا على هذا النبي فسألناه عن أمر دابتنا فيرشدنا ويدعو لنا فيها بخير فقال طالوت: ما بما قلت من بأس فدخلا عليه فبينما هو عنده يذكر له شأن دابته ويسأله أن يدعو له إذ نش الدهن الذي في القرن فقام إليه النبي فأخذه ثم قال لطالوت: قرب رأسك فقربه فدهنه منه ثم قال: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله تعالى أن أملكك عليهم فجلس عنده وقال الناس: ملك طالوت فأتت عظماء بني إسرائيل نبيهم مستغربين ذلك حيث لم يكن من بيت النبوة ولا الملك.
قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا أي من أين يكون أو كيف يكون له ذلك؟ والاستفهام حقيقي أو للتعجب لا لتكذيب نبيهم والإنكار عليه في رأي، وموضعه نصب على الحال من الملك، ويكون- يجوز أن تكون الناقصة فيكون الخبر له،- وعلينا- حال من الملك أو الخبر علينا وله حال، ويجوز أن تكون التامة فيكون له متعلقا بها.
وعَلَيْنا حال وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ الواو الأولى حالية، والثانية عاطفة جامعة للجملتين أي كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هم أحق منه ولعدم ما يتوقف عليه الملك من المال، أو لعدم ما يجبر نقصه لو كان ويلحقه بالأشراف عرفا من ذلك، وأصل- سعة- وسعة بالواو وحذفت لحذفها من يسع وكان حق الفعل كسر السين فيه ليتأتى الحذف كما في- يعد- وإنما ارتكب الفتح لحرف الحلق فهو عارض، ولذا أجري عليه حكم الكسرة ولذلك الفتح فتحت السين في المصدر ولم تكسر كما كسرت عين عدة.
قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ رد عليهم بأبلغ وجه وأكمله كأنه قيل: لا تستبعدوا تملكه عليكم لفقره وانحطاط نسبه عنكم، أما أولا فلأن ملاك الأمر هو اصطفاء الله تعالى وقد اصطفاه واختاره وهو سبحانه أعلم بالمصالح لكم، وأما ثانيا فلأن العمدة وفور العلم ليتمكن به من معرفة الأمور السياسية، وجسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب وأقوى على كفاح الأعداء ومكابدة الحروب لا ما ذكرتم وقد خصه الله تعالى بحظ وافر منهم، وأما ثالثا فلأنه تعالى مالك الملك على الإطلاق وللمالك أن يمكن من شاء من التصرف في ملكه بإذنه، وأما رابعا فلأنه سبحانه واسع الفضل يوسع على الفقير فيغنيه عَلِيمٌ بما يليق بالملك من النسيب وغيره، وفي تقديم البسطة في العلم على البسطة في الجسم إيماء إلى أن الفضائل النفسانية أعلى وأشرف من الفضائل الجسمانية بل يكاد لا يكون بينهما نسبة لا سيما ضخامة الجسم ولهذا حمل بعضهم البسطة فيه هنا على الجمال أو القوة لا على المقدار كطول القامة كما قيل: إن الرجل القائم كان يمد يده حتى ينال رأسه فإن ذلك لو كان كمالا لكان أحق الخلق به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع أنه عليه الصلاة والسلام كان ربعة من الرجال، ولعل ذكر ذلك التقدير لأنه صفة تزيد الملك المطلوب لقتال العمالقة حسنا لأنهم كانوا ضخاما ذوي بسطة في الأجسام وكان ظل ملكهم جالوت ميلا على ما في بعض الأخبار لا أنها من الأمور التي هي عمدة في الملوك من حيث هم كما لا يخفى على من تحقق- أن المرء بأصغريه لا بكبر جسمه وطول برديه.

صفحة رقم 558

وفي اختيار واسِعٌ وعَلِيمٌ في الإخبار عنه تعالى هنا من حسن المناسبة لبسطة الجسم وكثرة العلم ما تهتش له الخواطر لا سيما على ما يتبادر من بسطة الجسم، وقدم الوصف الأول مع أن ما يناسبه ظاهرا مؤخر لأن له مناسبة معنى لأول الإخبار إذ الاصطفاء من سعة الفضل أيضا، ولأن عليم أوفق بالفواصل وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة.
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ عطف على مثله مما تقدم وكان توسيط ما تقدم بينهما للإشعار بعدم اتصال أحدهما بالآخر وتخلل كلام من جهة المخاطبين متفرع على السابق مستتبع للأحق، وروايات القصاص متظافرة على أنهم قالوا لنبيهم، ما آية ملكه واصطفائه علينا؟ فقال: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ ولما لم يكن قولهم ذلك مذكورا ليقع هذا جوابا له صراحة أعاد الفاعل ليغاير ما علم صراحة كونه جوابا، وإنما لم يجر ذلك المجرى بأن يذكر مقولهم ويكون هذا جوابا له، ويكتفي بالإضمار كما اكتفى به أولا للإيماء إلى أن ذلك السؤال للنبي بعد تصديقهم له وبيانه لهم ما استفهموا عنه مما لا ينبغي أن يكون حتى يجاب لأن له شبها تاما بالتعنت حينئذ وإن عد من باب السؤال لتقوية العلم، وهذا بناء على أن القوم كانوا مؤمنين، وفي بعض الروايات ما يقتضي أنهم لم يكونوا آمنوا به حينئذ فعن السدي أن هذا النبي كان قد كفله شيخ من علماء بني إسرائيل فلما أراد الله تعالى أن يبعثه نبيا أتاه جبريل وهو غلام نائم إلى جنب الشيخ، وكان لا يأمن عليه غيره فدعاه بلحن الشيخ فقام فزعا إلى الشيخ فقال: يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع فقال يا بني ارجع فنم فرجع فنام فدعاه الثانية فأتاه الغلام أيضا فقال: دعوتني؟ فقال: ارجع فنم فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني، فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل فقال له: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإن الله تعالى قد بعثك فيهم نبيا فلما أتاهم كذبوه، وقالوا: استعجلت بالنبوة ولم يأن لك وقالوا: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا ثم جرى ما جرى فقال: إن الله قد بعث لكم طالُوتَ مَلِكاً فقالوا: ما كنت قط أكذب منك الساعة واعترضوا وأجيبوا ثم- قالوا إن كنت صادقا فأتنا بآية- إن هذا ملك فقال: ما قص الله تعالى، وحينئذ لا يبعد أن يكون الاستفهام المصرح به في الآية وكذا الطلب المرموز إليه فيها صادرا عن إنكار وعدم إيقان، ووجه ترك ذكر سؤالهم حينئذ إن كان الإشارة إلى أن من شأن الأنبياء الإتيان بالآيات وإن لم تطلب منهم جلبا للشارد وتقيدا للوارد «وليزداد الذين آمنوا هدي» والتابوت الصندوق وهو فعلوت من التوب وهو الرجوع لما أنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاجه من مودعاته فتاؤه مزيدة كتاء ملكوت، وأصله توبوت فقلبت الواو ألفا وليس بفاعول من التبت لقلة ما كان فاؤه ولامه من جنس واحد كسلس وقلق، وقرىء تابوه بالهاء، وهي لغة الأنصار والأولى لغة قريش، وهي التي أمر عثمان رضي الله تعالى عنه بكتابتها في الإمام حين ترافع لديه في ذلك زيد وأبان رضي الله تعالى عنهما ووزنه حينئذ- على ما اختاره الزمخشري- فاعول لأن شبهة الاشتقاق لا تعارض زيادة الهاء وعدم النظير، وأما جعل الهاء بدلا من التاء لاجتماعهما في الهمس- وأنهما من حروف الزيادة- ضعيف لأن الإبدال في غير تاء التأنيث ليس بثبت، وذهب الجوهري إلى أن التاء فيه للتأنيث وأصله عنده تابوة مثل ترقوة فلما سكنت الواو انقلبت هاء التأنيث تاء، والمراد به صندوق كان يتبرك به بنو إسرائيل فذهب منهم، واختلف في تحقيق ذلك فقال: أرباب الأخبار: هو صندوق أنزله الله تعالى على آدم عليه السلام فيه تماثيل الأنبياء جميعهم. وكان من عود الشمشاذ نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين، ولم يزل ينتقل من كريم إلى كريم حتى وصل إلى يعقوب ثم إلى بنيه- ثم، وثم- إلى أن فسد بنو إسرائيل وعصوا بعد موسى عليه السلام فسلط الله تعالى عليهم العمالقة فأخذوه منهم فجعلوه في موضع البول والغائط فلما أراد الله تعالى أن يملك طالوت سلط عليهم البلاء حتى أن كل من أحدث عنده ابتلي بالبواسير وهلكت من بلادهم خمس مدائن

صفحة رقم 559

فعلموا أن ذلك بسبب استهانتهم به فأخرجوه وجعلوه على ثورين فأقبلا يسيران وقد وكل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتى أتوا منزل طالوت.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صندوق التوراة وكان قد رفعه الله تعالى إلى السماء سخطا على بني إسرائيل لما عصوا بعد وفاة موسى عليه السلام فلما طلبت الآية أتى من السماء والملائكة يحفظونه وبنو إسرائيل يشاهدون ذلك حتى أنزلوه في بيت طالوت.
وعن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أنه التابوت الذي أنزل على أم موسى فوضعته فيه وألقته في البحر وكان عند بني إسرائيل يتبركون به إلى أن فسدوا فجعلوا يستخفون به فرفعه الله تعالى إلى أن كان ما كان،
وروي غير ذلك مما يطول، وأقرب الأقوال التي رأيتها أنه صندوق التوراة تغلبت عليه العمالقة حتى رده الله تعالى، وأبعدها أنه صندوق نزل من السماء على آدم عليه السلام وكان يتحاكم الناس إليه بعد موسى عليه السلام إذا اختلفوا فيحكم بينهم ويتكلم معهم إلى أن فسدوا فأخذه العمالقة، ولم أر حديثا صحيحا مرفوعا يعول عليه يفتح قفل هذا الصندوق ولا فكرا كذلك فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة، فالسكينة مصدر حينئذ أو فيه نفسه ما تسكنون إليه وهو التوراة، وقيل: وليس بالصحيح- كما قاله الراغب- صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهرة وذنبها وجناحان فتئن فيزف التابوت نحو العدو وهم يمضون معه فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر. والجملة في موضع الحال. ومِنْ لابتداء الغاية أو للتبعيض أي من سكينات ربكم.
وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ هي رضاض الألواح وثياب موسى وعمامة هارون وطست من ذهب كانت تغسل به قلوب الأنبياء. وكلمة الفرج لا إله إلا الله الحليم الكريم وسبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين، وآلهما أتباعهما أو أنفسهما، أو أنبياء بني إسرائيل، لأنهم أبناء عمهما تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ حال من التابوت، والحمل إما حقيقة أو مجاز على حد. حمل زيد متاعي إلى مكة.
إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من إتيان التابوت فهو من كلام النبي لقومه أو إلى نقل القصة وحكايتها فهو ابتداء خطاب منه تعالى للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين جيء به قبل تمام القصة إظهارا لكمال العناية، وإفراد حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين على التقديرين بتأويل الفريق ونحوه لَآيَةً عظيمة كائنة لَكُمْ دالة على جعل طالوت ملكا عليكم أو على نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حيث أخبر بما أخبر من غير سماع من البشر ولا أخذ من كتاب إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي مصدقين بتمليكه عليكم أو بشيء من الآيات، وإِنَّ شرطية والجواب محذوف اعتمادا على ما قبله وليس المقصود حقيقة الشرطية إذا كان المخاطب من تحقق إيمانه، وقيل: هي بمعنى إذ فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ أي انفصل عن بيت المقدس مصاحبا لهم لقتال العمالقة، وأصله فصل نفسه عنه، ولما اتحد فاعله ومفعوله شاع استعماله محذوف المفعول حتى نزل منزلة القاصر- كانفصل- وقيل: فصل فصولا وجوز كونه أصلا برأسه ممتازا من المتعدي بمصدره كوقف وقوفا ووقفه وقفا وصد عنه صدودا وصده صدا وهو باب مشهور، والجنود الأعوان والأنصار جمع جند، وفيه معنى الجمع، وروي أنه قال لقومه: لا يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه ولا تاجر مشتغل بالتجارة، ولا متزوج بامرأة لم يبن عليها ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا، وقيل: سبعون ألفا، وكان الوقت قيظا فسلكوا مفازة فسألوا نهرا قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ أي معاملكم معاملة من يريد أن يختبركم ليظهر للعيان الصادق منكم والكاذب بِنَهَرٍ بفتح الهاء، وقرىء بسكونها، وهي لغة فيه وكان ذلك «نهر» فلسطين كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعن قتادة والربيع أنه «نهر» بين فلسطين والأردن فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ أي ابتدأ شربه لمزيد عطشه من نفس النهر بأن كرع لأنه الشرب منه حقيقة،

صفحة رقم 560

وهذا كثيرا ما يفعله العطشان المشرف على الهلاك، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي فَمَنْ شَرِبَ من مائة مطلقا فَلَيْسَ مِنِّي أي من أشياعي، أو ليس بمتصل بي ومتحد معي فَمَنْ اتصالية وهي غير التبعيضية عند بعض وكأنها بيانية عنده وعينها عند آخرين. وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي أي من لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه مأكولا كان أو مشروبا حكاه الأزهري عن الليث، وذكره الجوهري أن الطعم ما يؤديه الذوق وليس هو نفس الذوق فمن فسره به على هذا فقد توسع وعلى التقديرين استعمال طعم الماء بمعنى ذاق طعمه مستفيض لا يعاب استعماله لدى العرب العرباء ويشهد له قوله:

وإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم- أطعم- نقاخا ولا بردا
وأما استعماله بمعنى شربه واتخذه طعاما فقبيح إلا أن يقتضيه المقام كما في حديث زمزم «طعام طعم وشفاء سقم» فإنه تنبيه على أنها تغذي بخلاف سائر المياه، ولا يخدش هذا ما حكي أن خالد بن عبد الله القسري قال على منبر الكوفة وقد خرج عليه المغيرة بن سعيد: أطعموني ماء فعابت عليه العرب ذلك وهجوه به وحملوه على شدة جزعه، وقيل فيه:
بل المنابر من خوف ومن وهل واستطعم- الماء- لما جد في الهرب
وألحن الناس كل الناس قاطبة وكان يولع بالتشديق بالخطب
لأن ذلك إنما عيب عليه لأنه صدر عن جزع فكان مظنة الوهم وعدم قصد المعنى الصحيح، وإلا فوقوع مثله في كلامهم مما لا ينبغي أن يشك فيه، وإنما علم طالوت أن من شرب عصاه ومن لم يطعم أطاعه بواسطة الوحي إلى نبي بني إسرائيل وإنما لم يخبرهم النبي نفسه بذلك ألقاه إلى طالوت فأخبر به كأنه من تلقاء نفسه ليكون له وقع في قلوبهم، وجوز أن يكون ذلك بواسطة وحي إليه بناء على أنه نبىء بعد أن ملك وهو قول لا ثبت له، والقول بأنه يحتمل أن يكون بالفراسة والإلهام بعيد إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ استثناء من الموصول الأول أو ضميره في الخبر فإن فسر الشرب بالكروع كان الاستثناء منقطعا وإلا كان متصلا، وفائدة تقديم الجملة الثانية الإيذان بأنها من تتمة الأولى وأن الغرض منها تأكيدها وتتميمها نهيا عن الكروع من كل وجه، وإفادة أن المعترف ليس بذائق حكما فيؤكد ترخيص الاغتراف ولو أخرت لم تفد هذه الفوائد ولا ختل النظم لدلالة الاستثناء إذ ذاك على أن المغترف متحد معه، ودلالة الجملة الثانية بمفهومها على أنه غير متحد معه ولا يصح في الاستثناء أن يكون من أحد الضميرين الراجعين إلى الموصولين في الصلة للفصل بين أجزاء الصلة حينئذ بالخبر وأداء المعنى في الأول إلى أن المجتزئ في الشرب بغرفة واحدة ليس متصلا به متحدا معه لأن التقدير- والذين شربوا كلهم إلا المغترف ليس مني- ولا يصح أيضا أن يكون من الموصول الثاني أو الضمير الراجع إليه في الخبر خلافا للبعض إذ لا فرق لأدائه إلى أن المجتزئ المذكور مخرج من حكم الاتحاد معه لأن التقدير- والذين لم يذوقوه فإنّهم كلهم إلا المغترف منهم متصلون بي متحدون معي- وليس بالمراد أصلا، والغرفة ما يغرف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأهل المدينة- غرفة- بفتح الغين على أنها مصدر، وقيل: الغرفة والغرفة مصدران والضم والفتح لغتان، والباء متعلقة باغترف أو بغرفة في قول، أو بمحذوف وقع صفة لها فَشَرِبُوا مِنْهُ عطف على مقدر يقتضيه المقام أي فابتلوا به فشربوا، والمراد إما كرعوا- وهو المتبادر- وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو أفرطوا في الشرب إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لم يكرعوا أو لم يفرطوا في الشرب بل اقتصروا على الغرفة باليد وكانت تكفيهم لشربهم وإداوتهم كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرج عنه أيضا أن من شرب لم يزدد إلا عطشا،
وفي رواية إن الذين شربوا اسودت شفاههم وغلبهم العطش
وكان ذلك من قبيل المعجزة

صفحة رقم 561

لذلك النبي، وقرأ أبي، والأعمش- إلا قليل- بالرفع وجعلوه من الميل إلى جانب المعنى فإن قوله تعالى: فَشَرِبُوا مِنْهُ في قوة أن يقال: فلم يطيعوه فحق أن يرد المستثنى مرفوعا كما في قول الفرزدق:
وعض زمان يا ابن مروان- لم يدع-... من المال إلا مسحت أو مجلف
فإن قوله: لم يدع في حكم لم يبق. وذهب أبو حيان إلى أنه لا حاجة إلى التأويل، وجوز في الموجب وجهين النصب وهو الأفصح والإتباع لما قبله على أنه نعت أو عطف بيان وأورد له قوله:
وكل أخ مفارقه أخوه... لعمر أبيك إلا الفرقدان
ولا يخفى ما فيه فَلَمَّا جاوَزَهُ أي النهر وتخطاه هُوَ أي طالوت وَالَّذِينَ آمَنُوا عطف على الضمير المتصل المؤكد بالمنفصل، والمراد بهم القليلون والتعبير عنهم بذلك تنويها بشأنهم وإيماء إلى أن من عداهم بمعزل عن الإيمان مَعَهُ متعلق- يجاوز- لا- بآمنوا- وجوز أن يكون خبرا عن الَّذِينَ بناء على أن الواو للحال كأنه قيل:
فَلَمَّا جاوَزَهُ والحال إن الذين آمنوا كائنون مَعَهُ.
قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ أي لا قدرة لنا بمحاربتهم ومقاومتهم فضلا عن الغلبة عليهم، وجالوت كطالوت، والقائل بعض المؤمنين لبعض وهو إظهار ضعف لا نكوص لما شاهدوا من الأعداء ما شاهدوا من الكثرة والشدة، قيل: كانوا مائة ألف مقاتل شاكي السلاح، وقيل: ثلاثمائة ألف قالَ على سبيل التشجيع لذلك البعض وهو استئناف بياني الَّذِينَ يَظُنُّونَ أي يتيقنون أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ بالبعث والرجوع إلى ما عنده وهم الخلص من أولئك والأعلون إيمانا فلا ينافي وصفهم بذلك إيمان الباقين فإن درجات المؤمنين في ذلك متفاوتة ويحتمل إبقاء الظن على معناه، والمراد يظنون أنهم يستشهدون عما قريب ويلقون الله تعالى، وقيل: الموصول عبارة عن المؤمنين كافة، وضمير قالُوا للمنخزلين عنهم كأنهم قالوا ذلك اعتذارا عن التخلف والنهر بينهما ولا يخفى بعده لأن الظاهر أنهم قالوا هذه المقالة عند لقاء العدو ولم يكن المنخزلون إذ ذاك معهم، وأيضا أي حاجة إلى إبداء العذر عن التخلف مع ما سبق من طالوت أن الكارعين ليسوا منه في شيء فلو لم ينخزلوا لمنعوا من الذهاب مَعَهُ كَمْ مِنْ فِئَةٍ أي قطعة من الناس وجماعة- من فأوت رأسه- إذا شققته أو من فاء إليه إذا رجع وأصلها على الأول فيوة فحذفت لامها فوزنها فعة، وأصلها على الثاني فيئة فحذفت عينها فوزنها فله. وكَمْ هنا خبرية ومعناها كثير، ومَنْ زائدة، وفِئَةٍ تمييز، وجوز أبو البقاء أن يكون مِنْ فِئَةٍ في موضع رفع صفة ل- كم- كما تقول عندي مائة من درهم ودينار، وجوز بعضهم أن تكون كَمْ استفهامية ولعله ليس على حقيقته، ونقل عن الرضي أن مَنْ لا تدخل بعد كَمْ الاستفهامية، فالقول بالخبرية أولى قَلِيلَةٍ نعت- لفئة- على لفظها غَلَبَتْ أي قهرت عند المحاربة فِئَةً كَثِيرَةً بالنسبة إليها.
بِإِذْنِ اللَّهِ أي بحكمه وتيسيره ولم يقولوا أطاقت حسبما وقع في كلام أصحابهم مبالغة في تشجيعهم وتسكين قلوبهم، وإذا حمل التنوين في فِئَةٍ الأولى للتحقير، وفي- فئة- الثانية للتعظيم كان أبلغ في التشجيع وأكمل في التسكين وقد ورد مثل ذلك في قوله:
له حاجب عن كل أمر يشينه... وليس له عن طالب العرف حاجب
وهذا كما ترى ناشىء من كمال- إيمانهم بالله واليوم الآخر- وتصديقهم بأنه سبحانه لا يعجزه إحياء الموتى كما لا يعجزه إماتة الاحياء فضلا عن نصرة الضعفاء فلا ريب في أن ما في حيز الصلة مما له كمال ملاءمة للحكم الوارد على الموصول لا سيما وقد أخذ فيه إذن الله تعالى وحكمه، ومن لا يؤمن بلقاء الله تعالى لا يكاد يقرب من هذا

صفحة رقم 562

القيد قيد شبر فاندفع بهذا ما قاله- مولانا مفتي الديار الرومية- من أن هذا الجواب كما ترى ناشىء من كمال ثقتهم بنصر الله تعالى وتوفيقه ولا دخل في ذلك لظن لقاء الله تعالى بالبعث ولا لتوقع ثوابه عز شأنه، ولا ريب في أن ما ذكر في حيز الصلة ينبغي أن يكون مدارا للحكم الوارد على الموصول ولا أقل من أن يكون وصفا ملائما له فإن الملاءمة على ما جاد به هذا الذهن الكليل حصلت على أتم وجه وأكمله فلا حاجة في تحصيلها إلى ما ذكره رحمه الله تعالى بعد من إخراج اللفظ عن ظاهره الشائع استعماله فيه إلى يوم ملاقاته تعالى وحمل ملاقاته سبحانه على ملاقاة نصره تعالى وتأييده وجعل التعبير بذلك عنه مبالغة فإنه بمعزل عن استعمال ذلك في جميع الكتاب المجيد وليس هو من قبيل قوله تعالى: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ المراد منه المعية بالنصر والإحسان لأنه في سائر القرآن مألوف استعماله في مثل ذلك كما لا يخفى، وهو يحتمل أن يكون من كلام الأعلين أتى به تكميلا للتشجيع وترغيبا بالصبر بالإشارة إلى ما فيه، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام من جهته تعالى جيء به تقريرا لكلامهم ودعاء للسامعين إلى مثل حال هؤلاء المشير إليها مقالهم وَلَمَّا بَرَزُوا أي ظهر طالوت ومن معه وصاروا في براز من الأرض وهو ما انكشف منها واستوى لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ أي لمحاربتهم وقتالهم قالُوا جميعا بعد أن قويت قلوب الضعفاء متضرعين إلى الله تعالى متبرئين من الحول والقوة.
رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي صب ذلك علينا ووفقنا له، والمراد به حبس النفس للقتال وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أي هب لنا كمال القوة والرسوخ عند المقارعة بحيث لا تتزلزل، وليس المراد بتثبيت الاقدام مجرد تقررها في حين واحد إذ ليس في ذلك كثير جدوى وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي أعنّا عليهم بقهرهم وهزمهم، ووضع الْكافِرِينَ موضع الضمير العائد إلى- جالوت وجنوده- للإشعار بعلة النصر عليهم، وفي هذا الدعاء من اللطافة وحسن الأسلوب والنكات ما لا يخفى، أما أولا فلأن فيه التوسل بوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال، وأما ثانيا فلأن فيه الإفراغ، وهو يؤذن بالكثرة، وفيه جعل الصبر بمنزلة الماء المنصب عليهم لثلج صدورهم وإغنائهم عن الماء الذي منعوا عنه، وأما ثالثا فلأن فيه التعبير- بعلى- المشعر بجعل ذلك كالظرف وجعلهم كالمظروفين، وأما رابعا فلأن فيه تنكير صبرا المفصح عن التفخيم، وأما خامسا فلأن في الطلب الثاني وهو تثبيت الأقدام ما يرشح جعل الصبر بمنزلة الماء في الطلب الأول إذ مصاب الماء مزالق فيحتاج فيها إلى التثبيت وأما سادسا فلأن فيه حسن الترتيب حيث طلبوا أولا إفراغ الصبر على قلوبهم عند اللقاء وثانيا ثبات القدم والقوة على مقاومة العدوّ حيث إن الصبر قد يحصل لمن لا مقاومة له، وثالثا العمدة والمقصود من المحاربة وهو النصرة على الخصم حيث إن الشجاعة بدون النصرة طريق عتبته عن النفع خارجة، وقيل: إنما طلبوا أولا إفراغ الصبر لأنه ملاك الأمر، وثانيا التثبيت لأنه متفرع عليه، وثالثا النظر لأنه الغاية القصوى، واعترض هذا بأنه يقتضي حينئذ التعبير بالفاء لأنها التي تفيد الترتيب، وأجيب بأن الواو أبلغ لأنه عول في الترتيب على الذهن الذي هو أعدل شاهد كما ذكر السكاكي فَهَزَمُوهُمْ أي كسروهم وغلبوهم، والفاء فيه فصيحة أي استجاب الله تعالى دعاءهم فصبروا وثبتوا ونصروا فهزموهم بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته انهزامهم ويؤول إلى نصره وتأييده، والباء إما للاستعانة والسببية وإما للمصاحبة وَقَتَلَ داوُدُ هو ابن إيشا جالُوتَ
أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال: لما برز طالوت لجالوت قال جالوت: أبرزوا إليّ من يقاتلني فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم فأتي بداود إلى طالوت فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته وأن يحكمه في ماله فألبسه طالوت سلاحا فكره داود أن يقاتله بسلاح وقال: إن الله تعالى إن لم ينصرني عليه لم يغن السلاح شيئا فخرج إليه بالمقلاع ومخلاة فيها أحجار ثم برز له فقال له جالوت: أنت تقاتلني؟ قال داود: نعم قال: ويلك ما خرجت إلا

صفحة رقم 563

كما تخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة لأبددن لحمك ولأطعمنه اليوم للطير والسباع فقال له داود: بل أنت عدوّ الله تعالى شر من الكلب فأخذ داود حجرا فرماه بالمقلاع فأصابت بين عينيه حتى قعدت في دماغه فصرخ جالوت وانهزم من معه واحتز رأسه وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ في بني إسرائيل بعد ما قتل جالوت وهلك طالوت، وذلك أن طالوت- كما روي في بعض الأخبار- لما رجع وفى بالشرط فأنكح داود ابنته وأجرى خاتمه في ملكه فمال الناس إلى داود وأحبوه فلما رأى ذلك طالوت وجد في نفسه وحسده فأراد قتله فعلم به داود فسجى له زق خمر في مضجعه فدخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود فضرب الزق ضربة فخرقه فسال الخمر منه فقال: يرحم الله تعالى داود ما كان أكثر شربه للخمر ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم فوضع سهمين عند رأسه وعند رجليه وعن يمينه وعن شماله سهمين فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها فقال: يرحم الله تعالى داود هو خير مني ظفرت به فقتلته وظفر بي فكف عني ثم إنه ركب يوما فوجده يمشي في البرية وطالوت على فرس فقال: اليوم أقتل داود وكان داود إذا فزع لا يدرك فركض على أثره طالوت ففزع داود فاشتد فدخل غارا وأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فضربت عليه بيتا فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت قال: لو كان دخل هاهنا لخرق بيت العنكبوت فرجع،
وجعل العلماء والعباد يطعنون عليه بما فعل مع داود وجعل هو يقتل العلماء وسائر من ينهاه عن قتل داود حتى قتل كثيرا من الناس ثم إنه ندم بعد ذلك وخلى الملك وكان له عشرة بنين فأخذهم وخرج يقاتل في سبيل الله تعالى كفارة لما فعل حتى قتل هو وبنوه في سبيل الله تعالى فاجتمعت بنو إسرائيل على داود وملكوه أمرهم فهذا إيتاء الملك وَالْحِكْمَةَ المراد بها النبوة ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله بل كانت النبوة في سبط، والملك في سبط، وهذا بعد موت ذلك النبي وكان موته قبل طالوت، وذكر الحكمة بعد الملك لأنها كانت بعده وقوعا أو للترقي من ذكر الأدنى إلى ذكر الأعلى وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ كصنعة اللبوس ومنطق الطير وكلام الدواب، والضمير المستتر راجع إلى الله تعالى، وعوده إلى داود كما قال- السمين ضعيف- لأن معظم ما علمه تعالى له مما لا يكاد يخطر ببال، ولا يقع في أمنية بشر ليتمكن من طلبه ومشيئته وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ وهم أهل الشرور في الدنيا أو في الدين أو في مجموعهما بِبَعْضٍ آخر منهم يردهم عما هم عليه بما قدره الله تعالى من القتل كما في القصة المحكية أو غيره، وقرأ نافع هنا وفي الحج- دفاع- على أن صيغة المغالبة للمبالغة لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يصلح الأرض ويعمرها، وقيل: هو كناية عن فساد أهلها وعموم الشر فيهم، وفي هذا تنبيه على فضيلة الملك وأنه لولاه ما استتب أمر العالم، ولهذا قيل: الدين والملك توأمان ففي ارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر لأن الدين أس والملك حارس وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع.
وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ لا يقدر قدره عَلَى الْعالَمِينَ كافة وهذا إشارة إلى قياس استثنائي مؤلف من وضع «نقيض» المقدم منتج- لنقيض- التالي خلا أنه قد وضع موضعه ما يستتبعه ويستوجبه أعني كونه تعالى ذا فضل على العالمين إيذانا بأنه تعالى يتفضل في ذلك الدفع من غير أن يجب عليه ذلك وأن فضله تعالى غير منحصر فيه بل هو فرد من أفراد فضله العظيم كأنه قيل: ولكنه تعالى يدفع فساد بعضهم ببعض فلا تفسد الأرض وينتظم به مصالح العالم وينصلح أحوال الأمم، قاله مولانا مفتي الديار الرومية قدس سره.
واعترض بأنه مخالف لقول المنطقيين إن المتصلة ينتج استثناء عين مقدمها عين تاليها لاستلزام وجود الملزوم وجود اللازم واستثناء نقيض تاليها نقيض المقدم لاستلزام عدم اللازم عدم الملزوم ولا ينعكس فلا ينتج استثناء عين

صفحة رقم 564

التالي عين المقدم ولا نقيض المقدم نقيض التالي لجواز أن يكون التالي أعم من المقدم فلا يلزم من وجود اللازم وجود الملزوم ولا من عدم الملزوم عدم اللازم، وأجيب بأن ذلك إنما هو باعتبار الهيئة. وقد يستلزمه بواسطة خصوصية مادة المساواة، وقد صرح ابن سينا في الفصول بأن الملازمة إذا كانت من الطرفين كما بين العلة والمعول ينتج استثناء كل من المقدم والتالي عين الآخر ونقيضه نقيض الآخر، وفي تعليل القوم أيضا إشارة إليه حيث قالوا: لجواز أن يكون اللازم أعم وكأن في عبارة المولى إشارة إلى أن الملازمة في الشرطية من الطرفين حيث قال: منتج ولم يقل ينتج اهـ.
وأجاب بعضهم بأن قولهم ذلك ليس على سبيل الاطراد بل إذا كان نقيض المقدم أعم من نقيض التالي، وأما إذا كان نقيضه بعكس هذا كما في هذه الآية الكريمة وأمثالها فإنه ينتج التالي، وذلك أن الدفع المذكور لما كان ملزوما لعدم فساد الأرض كانت الملازمة ثابتة بينهما لأن وجود الملزوم يستلزم وجود اللازم كما بين في موضعه وادعاء أن الملازمة من الطرفين هنا كما زعمه المجيب الأول ليس بشيء بل اللازم هاهنا أعم من الملزوم كما لا يخفى على ذي روية، وكون عبارة المولى مشيرة إلى أن الملازمة من الطرفين في حيز المنع وما ذكره لا يدل عليه كما لا يخفى فافهم وتدبر فإن نظر المولى دقيق تِلْكَ آياتُ اللَّهِ إشارة إلى ما سلف من حديث الألوف وموتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهاره بالآية وإهلاك الجبابرة على يد صبي وما فيه البعد للإيذان بعلو شأن المشار إليه، وقيل: إشارة إلى ما مر من أول السورة إلى هنا وفيه بعد، والجملة على التقديرين مستأنفة، وقوله تعالى: نَتْلُوها عَلَيْكَ أي بواسطة جبريل عليه السلام إما حال من الآيات والعامل معنى الإشارة، وإما جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب بِالْحَقِّ في موضع النصب على أنه حال من مفعول نتلوها أي متلبسة باليقين الذي لا يرتاب فيه أحد من أهل الكتاب وأرباب التواريخ لما يجدونها موافقة لما عندهم أو لا ينبغي أن يرتاب فيه أو من فاعله أي نتلوها عليك متلبسين بالحق والصواب وهو معنا أو من الضمير المجرور أي متلبسا بالحق وهو معك.
وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ حيث تخبر بتلك الآيات وقصص القرون الماضية وأخبارها على ما هي عليه من غير مطالعة كتاب ولا اجتماع بأحد يخبر بذلك. ووجه مناسبة هذه القصة لما قبلها ظاهرة وذلك لأنّه تعالى لما أمر المؤمنين بالقتال في سبيله وكان قد قدم قبل ذلك قصة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت إما بالطاعون أو القتال على سبيل التشجيع والتثبيت للمؤمنين والاعلام أنه لا ينجي حذر من قدر. أردف ذلك بأن القتال كان مطلوبا مشروعا في الأمم السابقة فليس من الأحكام التي خصصتم بها لأن ما وقع فيه الاشتراك كانت النفس أميل لقبوله من التكليف الذي يقع به الانفراد هذا «ومن باب الاشارة» في هذه الآيات أَلَمْ تَرَ إِلَى ملأ القوى مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ البدن مِنْ بَعْدِ مُوسى القلب إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ عقولهم ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وطريق الوصول إليه بواسطة أمره وإرشاده قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا أي إني أتوقع منكم عدم المقاتلة لانغماسكم في أوحال الطبيعة قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ في طريق السير إلى الله تعالى، وقد أخرجنا من ديار استعداداتنا الأصلية التي لم نزل بالحنين إليها واغتربنا عن أبناء كمالاتنا اللاتي لم نبرح عن مزيد البكاء عليها فلما كتب عليهم القتال لعدوهم الذي تسبب لهم الاغتراب، وأحل بهم العجب العجاب تولوا وأعرضوا عن مقاتلته وانتظموا في سلك شيعته إلا قليلا منهم وهم القوى المستعدة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الذين نقصوا حظوظهم وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ الروح الإنساني ملكا متوجا بتاج الأنوار الإلهية جالسا على كسرى التدبيرات الصمدانية قالوا لاحتجابهم بحجاب الانانية وغفلتهم عن العلوم الحقانية كيف يكون له الملك علينا مع انحطاط مرتبته بتنزله إلى عالم الكثافة من عالمه الأصلي وليس فيه مشابهة لنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ لاشتراكنا في

صفحة رقم 565

عالمنا ومشابهة بعضنا بعضا وشبيه الشيء ميال إليه قريب اتباعه له ولكل شيء آفة من جنسه وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً من مال التصرف إذ لا يتصرف إلا بالواسطة قال: إن الله تعالى اختاره عليكم لبساطته وتركبكم وزاده سعة في العلم الإلهي وقوة في الذات النوراني، والله يؤتي ملكه من يشاء فيدبره بإذنه، والله واسع لسعة الإطلاق، عليم بالحكم التي تقتضي الظهور والتجلي بمظاهر الأسماء، وقال لهم نبيهم إن آية ملكه عليكم وخلافته من قبل الرب فيكم أن يأتيكم تابوت الصدر فيه سكينة أي طمأنينة من ربكم وهي الطمأنينة بالإيمان والأنس بالله تعالى، وبقية مما ترك آل موسى القلب وآل هارون السر، وهي من التوحيد وعصا لا إله إلا الله التي تلقف عظيم سحر صفات النفس وطست تجلي الأنوار الذي يغسل به قلوب الأنبياء وشيء من توراة الإلهامات تحمله ملائكة الاستعدادات لدى طالوت الروح فعند ذلك تسلم له الخلافة وينقاد له جميع أسباط صفات الإنسان، فلما فصل طالوت وجنوده من وزير العقل ومشير القلب ومدبر الافهام ونظام الحواس قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ الطبيعة الجسمانية المترع بمياه الشهوات فمن شرب منه وكرع مفرطا في الري فليس من أشياعي الذين هم من عالم الروحانيات وأهل مكاشفات الصفات ومن لم يطعمه ويذقه فإنه من سكان حظائر القدس وحضار جلوة عرائس منصة الأنس إلا من اغترف غرفة بيده وقنع من ذلك بقدر الضرورة ولاحتياج من غير حرض وانهماك فشربوا منه وكرعوا وانهمكوا فيه إلا قليلا منهم وهم المتنزهون عن الأقذار الطبيعية المتقدسون عن ملابسها المتجردون عن غواشيها وقليل ما هم فلما جاوز طالوت الروح نهر الطبيعة وعبره هو والذين آمنوا من القلب والعقل والملك وغيرهم من أتباع الروح معه، قال بعضهم وهم الضعفاء الذين لم يصلوا إلى مقام التمكين لا طاقة لنا اليوم بمحاربة جالوت النفس وأعوانه لعراقتهم بالخدع والدسائس قال الذين يتيقنون أنهم ملاقو الله بالرجوع إليه: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة وقهرتها حتى أذهبت كثرتها بإذن الله وتيسيره، والله مع الصابرين بالتجلي الخاص لهم، فلما برزوا لحرب جالوت وجنوده تبرؤوا من الحول والقوة وقالوا: ربنا أفرغ علينا صبرا واستقامة، وثبت أقدامنا في ميادين الجهاد حتى لا نرجع القهقرى من بعد وانصرنا على أعدائنا الذين ستروا الحق، وهم النفس الأمارة وصفاتها فهزموهم وكسروهم بإذن الله
وقتل داود القلب جالوت النفس، ووصلوا كلهم إلى مقام التمكين فلا يخشون الرجعة والردة، وكان قد رماه بحجر التسليم في مقلاع الرضا بيد ترك الالتفات إلى السوي فأصاب ذلك دماغ هواه فخر صريعا فآتى الله تعالى داود ملك الخلافة وحكمة الإلهامات وعلمه مما يشاء من صنعة لبوس الحروب ومنطق طيور الواردات وتسبيح جبال الأبدان، ولولا دفع الله الناس بعضهم كأرباب الطلب ببعض كالمشايخ الواصلين لفسدت أرض استعداداتهم المخلوقة في أحسن تقويم عند استيلاء جالوت النفس، ولكن الله ذو فضل على العالمين، ومن فضله تحريك سلسلة طلب الطالبين وإلهام أسرارهم إرادة المشايخ الكاملين وتوفيقهم للتمسك بذيل تربيتهم والتشبث بأهداب سيرتهم فسبحانه من جواد لا يبخل ومتفضل على من سأل ومن لم يسأل.
تم طبع الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث أوله تِلْكَ الرُّسُلُ

صفحة رقم 566
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية