آيات من القرآن الكريم

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ

تستحب المتعة لكل مطلّقة إلا المطلّقة قبل الدّخول، وقد سمّى لها صداقا، فحسبها نصفه، ولو لم يكن سمّى لها، كان لها المتعة أقل من صداق المثل أو أكثر، وليس لهذه المتعة حدّ.
وزعم ابن زيد أن هذه الآية نسختها الآية المتقدمة: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة ٢/ ٢٣٧]، وهي المطلّقة التي سمّي لها المهر ولم يدخل بها، لها نصف المسمّى، فأخرجت من المتعة.
وأوجب الشافعية المتعة للمختلعة والمبارئة. وقال أصحاب مالك: كيف يكون للمفتدية متعة وهي تعطي، فكيف تأخذ متاعا؟! لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة أو مفتدية أو مبارئة أو مصالحة، أو ملاعنة، أو معتقة تختار الفراق، دخل بها أم لا، سمّى لها صداقا أم لا.
موت الأمم بالجبن والبخل وحياتها بالشجاعة والإنفاق
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٣ الى ٢٤٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)

صفحة رقم 409

الإعراب:
مَنْ ذَا الَّذِي من: استفهامية مبتدأ، وذا: خبره، والذي: صفة: ذا أو بدل منه.
قَرْضاً منصوب، لأنه اسم أقيم مقام المصدر، وهو الإقراض، فانتصب انتصاب المصدر.
فَيُضاعِفَهُ بالنصب، معطوف بالفاء حملا على المعنى دون اللفظ، كأنه قال: من ذا الذي يكون منه قرض، فتضعيف من الله تعالى، فقدر (أن) بعد الفاء ونصب بها الفعل، وصيّرها مع الفعل في تقدير مصدر، ليعطف مصدرا على مصدر. وعلى قراءة الرفع: إما معطوف على صلة الَّذِي وهو يُقْرِضُ، وإما منقطع عما قبله.
البلاغة:
قال أبو حيان في تفسيره (البحر المحيط: ٣/ ٢٥٣) : تضمنت الآية الكريمة من ضروب البلاغة وصنوف البيان أمورا كثيرة، منها الاستفهام الذي أجري مجرى التعجّب في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ والحذف بين مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ أي فماتوا ثمّ أحياهم، والطّباق في قوله: مُوتُوا وأَحْياهُمْ، وكذلك في قوله: يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ، والتكرار في قوله: فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ووَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ، والالتفات في وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، والتشبيه بدون الأداة في قوله: قَرْضاً حَسَناً شبه قبوله تعالى إنفاق العبد في سبيله بالقرض الحقيقي، فأطلق عليه اسم القرض، والتجنيس في قوله: فَيُضاعِفَهُ وقوله: أَضْعافاً.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ استفهام تعجيب واعتبار وتشويق إلى استماع ما بعده، أي ألم ينته علمك، والرؤية بمعنى العلم، إذ الاستفهام الحقيقي محال على الله. وَهُمْ أُلُوفٌ أربعة أو ثمانية أو عشرة أو ثلاثون أو أربعون أو سبعون ألفا، وهو جمع كثرة، والقلّة: آلاف، ومعناه كثرة كاثرة وألوف مؤلفة. حَذَرَ الْمَوْتِ مفعول لأجله، وهم قوم من بني إسرائيل وقع الطاعون ببلادهم ففرّوا، والحذر: الخوف والخشية. مُوتُوا أي فماتوا. ثُمَّ أَحْياهُمْ بعد ثمانية أيام أو أكثر بدعاء نبيّهم حزقيل، فعاشوا دهرا عليهم أثر الموت، لا يلبسون ثوبا إلا عاد كالكفن، واستمرت في أسباطهم.
لَذُو فَضْلٍ ومنه إحياء هؤلاء. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وهم الكفار. لا يَشْكُرُونَ القصد من ذكر خبر هؤلاء تشجيع المؤمنين على القتال، ولذا عطف عليه الأمر بالقتال بقوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لإعلاء دينه. سَمِيعٌ لأقوالكم. عَلِيمٌ بأحوالكم فيجازيكم.
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ أي يتصدّق لوجه الله. قَرْضاً حَسَناً بأن ينفقه لوجه الله عن طيب قلب.

صفحة رقم 410

فَيُضاعِفَهُ يضيف له مثله ومثله. أَضْعافاً كَثِيرَةً من عشرة إلى أكثر من سبعمائة.
يَقْبِضُ يقتر أو يمسك الرزق عمن يشاء ابتلاء. وَيَبْصُطُ يوسعه لمن يشاء امتحانا.
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في الآخرة بالبعث، فيجازيكم بأعمالكم.
سبب النزول: نزول الآية (٢٤٥) :
روى ابن حبان في صحيحة وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر، قال: لما نزلت: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ [البقرة ٢/ ٢٦١] الآية، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ربّ، زد أمتي فنزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً.
المناسبة:
ذكر الله تعالى في الآيات السابقة أحكام الأسرة لتنظيم العلاقة بين أفرادها، وبنائها على دعائم وطيدة وأسس ثابتة راسخة، ثم ذكر بعدها أحكام الجهاد للدفاع عن الأمة وصون مقدّساتها والدّفاع عن عقيدتها، إذ لا صلاح للأسرة إلا بصلاح المجتمع، وللجمع بين الحفاظ على المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، فيتحقق التوازن والتعادل بين ما يحفظ الجماعة وما يحفظ الفرد والأسرة، بل إن صون المصالح الخاصة لا يتمّ في الحقيقة بدون صيانة المصالح العامة وحماية الأمة، والذود عن حياضها ووجودها أمام أعدائها.
التفسير والبيان:
ألم يصل إلى علمك حال هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وأوطانهم، وهم قوم كثيرون من بني إسرائيل، لما لحقهم العدو وطاردهم؟ خرجوا وهم كثرة تعدّ بالألوف المؤلفة، حذر الموت والخوف منه، بسبب الجبن والخوف والهلع، وضعف

صفحة رقم 411

العزيمة، وعدم الإيمان بالله ورسله، مع أن كثرتهم تدعو إلى الثبات، والشجاعة، والصمود، والدفاع عن النفس والحمى.
ولم يبيّن الكتاب الكريم عددهم وجنسهم وبلدهم، لأن المقصود هو العظة والاعتبار، وذكر جماعة من السلف أنهم قوم من بني إسرائيل أو في زمان بني إسرائيل وهم أهل قرية يقال لها: داوردان: قرية على فرسخ من قبل واسط، أو أهل أذرعات، خرجوا هاربين فرارا من الطاعون، وقالوا: نأتي أرضا ليس بها موت، فتمكن منهم العدو، ففتك بهم، وقتل أكثرهم، وفرّق شملهم، أو أنّ الله أماتهم دون قتال ثم أحياهم، ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفرّ من حكم الله وقضائه.
وعلى التأويل الأول: لما فرّوا أماتهم الله ببطش أعدائهم وتنكيله بهم وتعذيبه لهم، ولم يكن تمكين العدو فيهم إلا بسبب جبنهم وتخاذلهم، ثم أحياهم الله بدعاء نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له: حزقيل، فأحسّوا بخطئهم الفاحش، وكتّلوا صفوفهم، وقاتلوا عدوهم بإخلاص، واستعادوا عزّتهم وكرامتهم واستقلالهم.
وقيل عن الضّحّاك: هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد، فهربوا، حذرا من الموت، فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم، ليعرّفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قال ابن عطية: وهذا القصص كلّه ليّن الأسانيد.
وقوله: وَهُمْ أُلُوفٌ فيه دليل على الألوف الكثيرة.
وقوله: وَهُمْ أُلُوفٌ فيه دليل على الألوف الكثيرة.
وقوله: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ: مُوتُوا قال فيه الزمخشري: معناه فأماتهم، وإنما جيء به على هذه العبارة، للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد، بأمر الله ومشيئته، وتلك ميتة خارجة عن العادة، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالا من غير إباء ولا توقّف، كقوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ:

صفحة رقم 412

كُنْ فَيَكُونُ
[يس ٣٦/ ٨٢]. وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرّض للشهادة، وأن الموت إذا لم يكن منه بدّ، ولم ينفع منه مفرّ، فأولى أن يكون في سبيل الله «١». وقال أبو حيان: وفي الكلام حذف، التقدير: فماتوا، وظاهر هذا الموت: مفارقة الأرواح الأجساد، قيل: ماتوا ثمانية أيام، وقيل: سبعة أيام «٢».
وعلى أي حال فقد وقع الموت والإحياء فعلا، كما يدل عليه ظاهر الآية، والله على كل شيء قدير، وتكرر مثل هذا في زمان بني إسرائيل وغيرهم في قصص القرآن.
وإذ لم تثبت الروايات المنقولة في سبب خروج القوم، أهو الفرار من الحمّى أو الطاعون، أو الفرار من الجهاد، فإني أرى أن المعنى ما رآه الطبري: وهو أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم إخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر، خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، فأماتهم الله تعالى. ثم أحياهم، ليروا هم وكلّ من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى، لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف، ولا لاغترار مغتر. وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالجهاد.
إن الله لذو فضل على الناس فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة، وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة، أو لذو فضل عليهم فيما ابتلاهم به من الطاعون أو المرض أو العدو، ليعتبروا ويتعظوا ويأخذوا من المصائب عبرة ودرسا في الإيمان، أو فيما تتمخض عنه الحوادث من تصفية وصقل وتمييز الخبيث من الطيب، لأن الحوادث تنبت الرجال، وتحيي الأمة، وتوقظها من رقادها، وتنبهها إلى أخطائها ومفاسدها.

(١) الكشاف: ١/ ٢٨٦
(٢) البحر المحيط: ٢/ ٢٥٠

صفحة رقم 413

ولكن أكثر الناس لا يؤدون شكر ما أنعم الله عليهم في دينهم ودنياهم، لذا أمر الله تعالى بالتضحية والقتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الحق ونشر الدين، لأنه لا يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، والله سميع لكل قول، عليم بكل فعل، يحاسب كل إنسان على ما قدم.
وبما أن لفناء الأمم سببين: الجبن والبخل، قرن الله الآية السابقة التي تندد بالجبن والخوف والفرار من قدر الله، بالآية التي تدعو إلى البذل والإنفاق:
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ.. إذ عبر الله تعالى عن الإنفاق بالقرض، ليحث عباده على الإنفاق في سبيل الله، وكرر الله تعالى هذه الآية في غير موضع من كتابه العزيز، ولله ملك السموات والأرض، وبيده وحده خزائن السموات والأرض، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ويضاعف ثوابه أضعافا كثيرة لا يعلم عددها إلا الله، ومن نماذج تضعيف الثواب ما قاله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة ٢/ ٢٦١]، فأنفقوا ولا تبالوا، فالله هو الرزاق، يضيق على من يشاء من عباده في الرزق، ويوسعه على آخرين، له الحكمة البالغة في ذلك، وإليه المرجع والمآب يوم القيامة، فاعملوا أيها المؤمنون عملا صالحا تجدون ثمرته عند الرجوع إلى الله في الدار الآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
يرى القرطبي أن أصح الأقوال وأشهرها عملا بما روي عن ابن عباس: أنهم خرجوا فرارا من الوباء، فقال ابن عباس: خرجوا فرارا من الطاعون، فماتوا، فدعا الله نبي من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه، فأحياهم الله. وروي عن الحسن البصري أيضا أنهم فروا من الطاعون «١».

(١) تفسير القرطبي: ٣/ ٢٣٢، وانظر أحكام القرآن للجصاص: ١/ ٤٥٠

صفحة رقم 414

وعلى هذا تترتب الأحكام في هذه الآية:
١- الأعمار والأقدار والبلايا والأمراض بيد الله
، والإيمان بذلك واجب، ولن يغني في الواقع حذر من قدر، ولكن لما كانت الأقدار غير معروفة لدينا، جاز للإنسان اتخاذ أسباب الوقاية من المكاره، وتجنب الأشياء المخوفة قبل هجومها، والحذر من المهالك، قال الله تعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء ٤/ ٧١] وقال: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة ٢/ ١٩٥] فإذا نزلت المصيبة فعليه الصبر وترك الجزع، لأنه عليه الصلاة والسلام نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها، فرارا منه. وهكذا الواجب على كل متقّ من الأمور غوائلها، سبيله في ذلك سبيل الطاعون. وهذا المعنى نظير
قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا» «١».
وهذا ما دلت عليه الأحاديث، روى الأئمة، واللفظ للبخاري من
حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أسامة بن زيد يحدث سعدا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر الوجع «٢»، فقال: «رجز أو عذاب عذّب به بعض الأمم، ثم بقي منه بقية، فيذهب المرة ويأتي الأخرى، فمن سمع به بأرض، فلا يقدمنّ عليه، ومن كان بأرض وقع بها، فلا يخرج فرارا منه».
وبمقتضى هذا الحديث ونحوه عمل عمر والصحابة رضوان الله عليهم، لما رجعوا من سرغ «٣» حين أخبرهم عبد الرحمن بن عوف بالحديث، على ما هو مشهور في الموطأ وغيره. روى الزهري عن ابن عباس: أن عمر خرج إلى الشام،

(١) رواه الشيخان (البخاري ومسلم) عن أبي هريرة.
(٢) ورد الحديث في البخاري في كتاب الحيل بلفظ الوجع، وفي كتاب الطب بلفظ الطاعون.
(٣) سرغ: قرية بوادي تبوك على طريق الشام، وهي على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة.

صفحة رقم 415

حتى إذا كان بسرغ، لقيه التجار، فقالوا: الأرض سقيمة، فاستشار المهاجرين والأنصار، فاختلفوا عليه، فعزم على الرجوع، فقال له أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله؟! فقال له عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل، فهبطت بها واديا له عدوتان «١» : إحداهما خصيبة، والأخرى جديبة، ألست إن رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجديبة رعيتها بقدر الله، فجاء عبد الرحمن بن عوف، فقال: عندي من هذا علم،
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا سمعتم به في أرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه»
فحمد الله عمر وانصرف.
ومعنى قول عمر: لا محيص للإنسان عما قدره الله له وعليه، لكن أمرنا الله تعالى بالتحرز من المخاوف والمهالك، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات. وإذا كانت الآجال محصورة لا تتقدم ولا تتأخر عن وقتها، فإن وجه النهي عن دخول أرض الطاعون في الحديث: هو أن الإنسان لو مات فيها فلا يقول: لو لم يدخلها ما مات.
٢- وجوب القتال:
قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. خطاب لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالقتال في سبيل الله، في قول الجمهور، وهو الذي ينوى به أن تكون كلمة الله هي العليا، وسبل الله كثيرة، فهي عامة في كل سبيل. قال مالك: سبل الله كثيرة، وما من سبيل إلا يقاتل عليها أو فيها أو لها، وأعظمها دين الإسلام، لا خلاف في هذا.

(١) العدوة: جانب الوادي وحافته، قال الله تعالى: وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى والخصيبة والخصبة بمعنى واحد. [.....]

صفحة رقم 416

وقيل: الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل، وهو مروي عن ابن عباس والضحاك.
والواو في قوله وَقاتِلُوا على القول الأول: عاطفة جملة كلام على جملة ما تقدم، ولا حاجة إلى إضمار في الكلام. وعلى القول الثاني عاطفة على الأمر المتقدم، وفي الكلام متروك تقديره: وقال لهم: قاتلوا.
٣- الإنفاق في سبيل الله:
لما أمر الله تعالى بالجهاد والقتال على الحق، حرّض على الإنفاق في ذلك، لأن إعداد المقاتلة والجيش يحتاج إلى نفقات كثيرة، وفي النفقة في سبيل الله ثواب عظيم، كما فعل عثمان رضي الله عنه بتجهيز جيش العسرة.
قصة أبي الدحداح:
روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال أبو الدحداح الأنصاري:
يا رسول الله، أو إن الله تعالى يريد منا القرض؟ قال: «نعم، يا أبا الدحداح» قال: أرني يدك يا رسول الله، قال: فناوله يده، قال: فإني أقرضت ربي عز وجل حائطي (بستاني) وكان له فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه، وعيالها، قال: فجاء أبو الدحداح، فناداها يا أم الدحداح، قالت:
لبيك، قال: اخرجي، فقد أقرضته ربي عز وجل.
٤- أداء القرض:
يجب على المستقرض رد القرض، لأن الله تعالى بيّن أن من أنفق في سبيل الله لا يضيع عند الله تعالى، بل يردّ الثواب قطعا، وأبهم الجزاء،
وفي الخبر: «النفقة في سبيل الله تضاعف إلى سبعمائة ضعف وأكثر».
٥- ثواب القرض:
ثواب القرض عظيم، لأن فيه توسعة على المسلم وتفريجا عنه،
أخرج ابن ماجه في سننه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض

صفحة رقم 417

بثمانية عشر، فقلت لجبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة».
٦- بعض أحكام القرض:
على المقترض رد مثل ما أقرضه، ويجوز إقراض النقود والأطعمة والحيوان، وأجمع المسلمون على أن اشتراط الزيادة في السلف ربا، ولو حبة واحدة. ويجوز أن يرد أفضل مما يستلف إذا لم يشترط ذلك عليه نصا أو عرفا، لأن ذلك من باب المعروف، استدلالا
بحديث أبي هريرة لدى البخاري ومسلم وغيرهما من الأئمة في البكر «١» :«إن خياركم أحسنكم قضاء».
ولا يجوز- في رأي مالك- أن يهدي من استقرض هدية للمقرض، ولا يحل للمقرض قبولها، إلا أن يكون عادتهما ذلك، كما جاء في السنة،
أخرج ابن ماجه أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أقرض أحدكم أخاه قرضا فأهدى له أو حمله على دابته، فلا يقبلها ولا يركبها، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك».
وهل يجوز القرض أو التصدق بالعرض؟
أي من سبّك فلا تأخذ منه حقا ولا تقم عليه حدا حتى تأتي يوم القيامة موفر الأجر. فيه رأيان: رأي يجوز عملا
بحديث أبي ضمضم عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم في صحيح مسلم: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان إذا خرج من بيته قال: اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك».
وقال أبو حنيفة وروي عن مالك: لا يجوز التصدق بالعرض، لأنه حق الله تعالى،
وقال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام».

(١) البكر: الفتى من الإبل، والأنثى بكرة.

صفحة رقم 418
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية