آيات من القرآن الكريم

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ

أَمَاتَهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَحْيَاهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَهُوَ تَعَالَى أَعَادَهُمْ إِلَى الدُّنْيَا وَمَكَّنَهُمْ مِنَ التَّوْبَةِ وَالتَّلَافِي وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَرَبَ الَّذِينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْمَعَادَ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِقَوْلِ الْيَهُودِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ، فَلَمَّا نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى الْيَهُودَ عَلَى هَذِهِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي كَانَتْ مَعْلُومَةً لَهُمْ، وَهُمْ يَذْكُرُونَهَا لِلْعَرَبِ الْمُنْكِرِينَ لِلْمَعَادِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُنْكِرِينَ يَرْجِعُونَ مِنَ الدِّينِ الْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ الْإِنْكَارُ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ الْإِقْرَارُ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ فَيَخْلُصُونَ مِنَ الْعِقَابِ، وَيَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ، فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِحْسَانًا فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَذَرَ مِنَ الْمَوْتِ لَا يُفِيدُ، فَهَذِهِ الْقِصَّةُ تُشَجِّعُ الْإِنْسَانَ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَيْفَ كَانَ، وَتُزِيلُ عَنْ قَلْبِهِ الْخَوْفَ مِنَ الْمَوْتِ، فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ سَبَبًا لِبُعْدِ الْعَبْدِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَقُرْبِهِ مِنَ الطَّاعَةِ الَّتِي بِهَا يَفُوزُ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَضْلًا وَإِحْسَانًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً [الفرقان: ٥٠].
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٤]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤)
فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلَّذِينِ أُحْيُوا، قَالَ الضَّحَّاكُ: أَحْيَاهُمْ ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْجِهَادِ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَاتَهُمْ بِسَبَبِ أَنْ كَرِهُوا الْجِهَادَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِإِضْمَارِ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَقِيلَ لَهُمْ قَاتِلُوا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ جُمْهُورِ الْمُحَقِّقِينَ: أَنَّ هَذَا اسْتِئْنَافُ خِطَابٍ لِلْحَاضِرِينَ، يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالْجِهَادِ إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ قَدَّمَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ ذِكْرَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ لِئَلَّا يُنْكَصَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِحُبِّ الْحَيَاةِ بِسَبَبِ خَوْفِ الْمَوْتِ، وليعلم كل أحد أنه يترك الْقِتَالِ لَا يَثِقُ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْمَوْتِ، كَمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ:
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الْأَحْزَابِ: ١٦] فَشَجَّعَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ الَّذِي بِهِ وَعَدَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إِمَّا فِي الْعَاجِلِ الظُّهُورُ عَلَى الْعَدُوِّ، أَوْ فِي الْآجِلِ الْفَوْزُ بِالْخُلُودِ فِي النَّعِيمِ، وَالْوُصُولُ إِلَى مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَالسَّبِيلُ هُوَ الطَّرِيقُ، وَسُمِّيَتِ الْعِبَادَاتُ سَبِيلًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى/ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَسْلُكُهَا، وَيَتَوَصَّلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجِهَادَ تَقْوِيَةٌ لِلدِّينِ، فَكَانَ طَاعَةً، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْمُجَاهِدُ مُقَاتِلًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ هُوَ يَسْمَعُ كَلَامَكُمْ فِي تَرْغِيبِ الْغَيْرِ فِي الْجِهَادِ، وَفِي تَنْفِيرِ الْغَيْرِ عَنْهُ، وَعَلِيمٌ بِمَا فِي صُدُورِكُمْ مِنَ الْبَوَاعِثِ وَالْأَغْرَاضِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْجِهَادَ لِغَرَضِ الدِّينِ أو لعاجل الدنيا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٥]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً

صفحة رقم 498

حَسَناً
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْقَرْضُ فِي الْجِهَادِ خَاصَّةً، فَنَدَبَ الْعَاجِزَ عَنِ الْجِهَادِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى الْفَقِيرِ الْقَادِرِ عَلَى الْجِهَادِ، وَأَمَرَ الْقَادِرَ عَلَى الْجِهَادِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ فِي طَرِيقِ الْجِهَادِ، ثُمَّ أكد تعالى ذلك بقوله: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ كَانَ اعْتِمَادُهُ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَكْثَرَ مِنِ اعْتِمَادِهِ عَلَى مَالِهِ وَذَلِكَ يَدْعُوهُ إِلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْبُخْلِ بِذَلِكَ الْإِنْفَاقِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُبْتَدَأٌ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْقَرْضِ إِنْفَاقُ الْمَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ غَيْرُهُ، وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ إِنْفَاقُ الْمَالِ لَهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ:
أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ بِالْقَرْضِ وَالْقَرْضُ لَا يَكُونُ إِلَّا تَبَرُّعًا.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَبِي الدَّحْدَاحِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي حَدِيقَتَيْنِ فَإِنْ تَصَدَّقْتُ بِإِحْدَاهُمَا فَهَلْ لِي مِثْلَاهَا فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ مَعِي؟
قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَالصِّبْيَةُ معي؟ قال: نعم، فتصدق بأفضل حديقته، وكانت تسمى الحنينة، قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو الدَّحْدَاحِ إِلَى أَهْلِهِ وَكَانُوا فِي الْحَدِيقَةِ الَّتِي تَصَدَّقَ بِهَا، فَقَامَ عَلَى بَابِ الْحَدِيقَةِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ فَقَالَتْ أُمُّ الدَّحْدَاحِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا اشْتَرَيْتَ، فَخَرَجُوا مِنْهَا وَسَلَّمُوهَا، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كَمْ مِنْ نَخْلَةٍ رَدَاحٍ، تُدْلِي عُرُوقَهَا فِي الْجَنَّةِ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ.
إِذَا عَرَفْتَ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْقَرْضِ مَا كَانَ تَبَرُّعًا لَا وَاجِبًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْقَرْضِ الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَذَلِكَ كَالزَّجْرِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْوَاجِبِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ كِلَا الْقِسْمَيْنِ، كَمَا أَنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ [الْبَقَرَةِ: ٢٦١] مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْقَرْضِ شَيْءٌ سِوَى إِنْفَاقِ الْمَالِ، قَالُوا: رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَوْلُ الرَّجُلِ «سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ لَفْظَ الْإِقْرَاضِ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ ثُمَّ قَالَ: وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى الصِّحَّةِ، إِلَّا أَنْ نَقُولَ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَمْلِكُ شَيْئًا إِذَا كَانَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَادِرًا لَأَنْفَقَ وَأَعْطَى فَحِينَئِذٍ تَكُونُ تِلْكَ النِّيَّةُ قَائِمَةً مَقَامَ الْإِنْفَاقِ،
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَلْيَلْعَنِ الْيَهُودَ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْقَرْضِ عَلَى هَذَا الْإِنْفَاقِ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ، قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرْضَ هُوَ كُلُّ مَا يُفْعَلُ لِيُجَازَى عَلَيْهِ، تَقُولُ العرب: لك عندي قرض حسن وسيء، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْفِعْلُ الَّذِي يُجَازَى عَلَيْهِ، قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:

كُلُّ امْرِئٍ سَوْفَ يُجْزَى قَرْضَهُ حَسَنًا أَوْ سَيِّئًا أَوْ مَدِينًا كَالَّذِي دَانَا
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَرْضَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْقَرْضَ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ القطع، ومنه القراض، وانقراض، وَانْقَرَضَ الْقَوْمُ إِذَا

صفحة رقم 499

هَلَكُوا، وَذَلِكَ لِانْقِطَاعِ أَثَرِهِمْ فَإِذَا أَقْرَضَ فَالْمُرَادُ قَطَعَ لَهُ مِنْ مَالِهِ أَوْ عَمَلِهِ قِطْعَةً يُجَازَى عَلَيْهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الْقَرْضِ هاهنا مَجَازٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرْضَ هُوَ أَنْ يُعْطِيَ الإنسان شيئا ليرجع إليه مثله وهاهنا الْمُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّمَا يُنْفِقُ لِيَرْجِعَ إِلَيْهِ بَدَلَهُ إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ هَذَا الْإِنْفَاقِ وَبَيْنَ الْقَرْضِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَرْضَ إِنَّمَا يَأْخُذُهُ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِفَقْرِهِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْبَدَلَ فِي الْقَرْضِ الْمُعْتَادِ لَا يَكُونُ إِلَّا الْمِثْلَ، وَفِي هَذَا الْإِنْفَاقِ هُوَ الضِّعْفُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَالَ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمُسْتَقْرِضُ لا يكون ملكا له وهاهنا هَذَا الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِلْكٌ لِلَّهِ، ثُمَّ مَعَ حُصُولِ هَذِهِ الْفُرُوقِ سَمَّاهُ اللَّهُ قَرْضًا، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضِيعُ عِنْدَ اللَّهِ، فَكَمَا أَنَّ الْقَرْضَ يَجِبُ أَدَاؤُهُ لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ فَكَذَا الثَّوَابُ الْوَاجِبُ عَلَى هَذَا الْإِنْفَاقِ وَاصِلٌ إِلَى الْمُكَلَّفِ لَا مَحَالَةَ،
وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، فَهُوَ يَطْلُبُ مِنَّا الْقَرْضَ،
وَهَذَا الْكَلَامُ لَائِقٌ بِجَهْلِهِمْ وَحُمْقِهِمْ، لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمُ التَّشْبِيهُ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مَعْبُودَهُمْ شَيْخٌ، قَالَ الْقَاضِيَ: مَنْ يَقُولُ فِي مَعْبُودِهِ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ/ لَا يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ أَنْ يَصِفَهُ بِالْفَقْرِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَلِأَيِّ فَائِدَةٍ جَرَى الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ.
قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ فِي التَّرْغِيبِ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْفِعْلِ أَقْرَبُ مِنْ ظَاهِرِ الْأَمْرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَرْضاً حَسَناً فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْقَرْضُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْمٌ لَا مَصْدَرٌ، وَلَوْ كَانَ مَصْدَرًا لَكَانَ ذَلِكَ إِقْرَاضًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُ الْقَرْضِ حَسَنًا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَرَادَ بِهِ حَلَالًا خَالِصًا لَا يَخْتَلِطُ بِهِ الْحَرَامُ، لِأَنَّ مَعَ الشُّبْهَةِ يَقَعُ الِاخْتِلَاطُ، وَمَعَ الِاخْتِلَاطِ رُبَّمَا قَبُحَ الْفِعْلُ وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يُتْبِعَ ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ مَنًّا وَلَا أَذًى وَثَالِثُهَا:
أَنْ يَفْعَلَهُ عَلَى نِيَّةِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ مَا يُفْعَلُ رِيَاءً وَسُمْعَةً لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الثَّوَابَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيُضاعِفَهُ لَهُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: فَيُضاعِفَهُ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ أَحَدُهَا: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَيُضاعِفَهُ بِالْأَلِفِ وَالرَّفْعِ وَالثَّانِي: قَرَأَ عَاصِمٌ فَيُضاعِفَهُ بِأَلِفٍ وَالنَّصْبِ وَالثَّالِثُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فَيُضَعِّفُهُ بِالتَّشْدِيدِ وَالرَّفْعِ بِلَا أَلِفٍ وَالرَّابِعُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فَيُضَعِّفَهُ بِالتَّشْدِيدِ وَالنَّصْبِ.
فَنَقُولُ: أَمَّا التَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ فَهُمَا لُغَتَانِ، وَوَجْهُ الرَّفْعِ الْعَطْفُ عَلَى يُقْرِضُ، وَوَجْهُ النَّصْبِ أَنْ يُحْمَلَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَعْنَى لَا عَلَى اللَّفْظِ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَكُونُ قَرْضًا فَيُضَاعِفُهُ، وَالِاخْتِيَارُ الرَّفْعُ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ، وَجَوَابُ الْجَزَاءِ بِالْفَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا رَفْعًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّضْعِيفُ وَالْإِضْعَافُ وَالْمُضَاعَفَةُ وَاحِدٌ وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى أَصْلِ الشَّيْءِ حَتَّى يَبْلُغَ مِثْلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَفِي الْآيَةِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَيُضَاعِفُ ثَوَابَهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَضْعافاً كَثِيرَةً فَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ فِيهِ قَدْرًا مُعَيَّنًا، وَأَجْوَدُ مَا يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ [الْبَقَرَةِ: ٢٦١] فَيُقَالُ

صفحة رقم 500
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية