آيات من القرآن الكريم

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ

نَفْسَهُ وَنَاقَشَهَا تَجَلَّى لَهُ كُلَّ آنٍ مِنْ تَقْصِيرِهَا مَا يَحْمِلُهُ عَلَى التَّشْمِيرِ لِتَدَارُكِ مَا فَاتَ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِمَا هُوَ آتٍ، فَمَنْ تَرَاهُ مُشَمِّرًا فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَالِمٌ، وَمَنْ تَرَاهُ مُقَصِّرًا فَاعْلَمْ بِأَنَّهُ مَغْرُورٌ آثِمٌ.
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
الْقِتَالُ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ أَوْ لِحِمَايَةِ الْحَقِيقَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ لِتَجْهِيزِ الْمُقَاتَلَةِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ، لَا فَصْلَ فِي الْحَاجَةِ إِلَى هَذَا بَيْنَ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، فَإِذَا كَانَتْ مُقَاتَلَةُ الْقَبَائِلِ الْبَدَوِيَّةِ لَا تُكَلِّفُ رَئِيسَهَا أَنْ يَتَوَلَّى تَجْهِيزَهَا بَلْ يُجَهِّزُ كُلُّ وَاحِدٍ نَفْسَهُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مُطَالَبٌ بِبَذْلِ الْمَالِ لِتَجْهِيزِ نَفْسِهِ، وَإِعَانَةِ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ فُقَرَاءِ قَوْمِهِ، وَأَمَّا دُوَلُ الْحَضَارَةِ فَهِيَ تَحْتَاجُ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْمُدَافَعَةِ وَالْمُهَاجَمَةِ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْبَادِيَةِ، وَقَدْ كَثُرَتْ نَفَقَاتُ الدُّوَلِ الْحَرْبِيَّةِ الْيَوْمَ بِارْتِقَاءِ الْفُنُونِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَتَوَقُّفِ الْحَرْبِ عَلَى عُلُومٍ وَفُنُونٍ وَصِنَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ مَنْ قَصَّرَ فِيهَا كَانَ عُرْضَةً لِسُقُوطِ دَوْلَتِهِ; لِهَذَا قَرَنَ اللهُ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ، بِالْحَثِّ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ، فَالْمُرَادُ بِالْبَذْلِ هُنَا مَا يُعِينُ عَلَى الْقِتَالِ، وَمَا هُوَ بِمَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ مَا يُعْلِي شَأْنَ الدِّينِ، وَيَصُونُ الْأُمَّةَ وَيَمْنَعُهَا مِنْ عُدْوَانِ الْعَادِينَ، وَيَرْفَعُ مَكَانَتَهَا فِي الْعَالَمِينَ.
وَقَدْ ذُكِرَ حُكْمُ هَذَا الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِعِبَارَةٍ تَسْتَفِزُّ النُّفُوسَ، وَأُسْلُوبٍ يَحْفِزُ
الْهِمَمَ، وَيَبْسُطُ الْأَكُفَّ بِالْكَرَمِ، فَقَالَ: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا) فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَبْلَغُ مِنَ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ، وَمِنَ الْأَمْرِ الْمَقْرُونِ بِبَيَانِ الْحِكْمَةِ، وَالتَّنْبِيهِ إِلَى الْفَائِدَةِ، وَالْوَجْهُ فِي اخْتِيَارِ هَذَا الْأُسْلُوبِ هُنَا عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّ الدَّاعِيَةَ إِلَى الْبَذْلِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ ضَعِيفَةٌ فِي نُفُوسِ الْأَكْثَرِينَ، وَالرَّغْبَةُ فِيهِ قَلِيلَةٌ; إِذْ لَيْسَ فِيهِ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ مَا فِي الْبَذْلِ لِلْأَفْرَادِ، فَاحْتِيجَ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْثِيرِ.
يَدْفَعُ الْغَنِيُّ إِلَى بَذْلِ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ مَالِهِ لِأَفْرَادٍ مِمَّنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا إِزَالَةُ أَلَمِ النَّفْسِ بِرُؤْيَةِ الْمَعُوزِينَ وَالْبَائِسِينَ، وَمِنْهَا اتِّقَاءُ حَسَدِ الْفُقَرَاءِ وَاكْتِفَاءُ شَرِّ شِرَارِهِمْ، وَالْأَمْنُ مِنِ اعْتِدَائِهِمْ، وَمِنْهَا التَّلَذُّذُ بِرُؤْيَةِ يَدِهِ الْعُلْيَا، وَبِمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنِ ارْتِفَاعِ الْمَكَانَةِ فِي النُّفُوسِ، وَتَعْظِيمِ مَنْ يَبْذُلُ لَهُمْ وَشُكْرِهِمْ وَحُبِّهِمْ; فَإِنَّ السَّخِيَّ مُحَبَّبٌ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ مَنْ يَنْتَفِعُ مِنْهُمْ بِسَخَائِهِ وَمَنْ لَا يَنْتَفِعُ، وَإِذَا كَانَ الْبَذْلُ إِلَى ذَوِي الْقُرْبَى أَوِ الْجِيرَانِ فَحَظُّ النَّفْسِ فِيهِ أَجْلَى، وَشِفَاءُ أَلَمِ النَّفْسِ بِهِ أَقْوَى، فَإِنَّ أَلَمَ جَارِكَ وَقَرِيبِكَ أَلَمٌ لَكَ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ نَاعِمًا

صفحة رقم 366

بَيْنَ أَهْلِ الْبُؤْسِ وَالضَّرَّاءِ، سَعِيدًا بَيْنَ الْأَشْقِيَاءِ، فَكُلُّ هَذِهِ حُظُوظٌ لِلنَّفْسِ فِي الْبَذْلِ لِلْأَفْرَادِ تُسَهِّلُ عَلَيْهَا امْتِثَالَ أَمْرِ اللهِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤَكَّدًا. وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا مِنَ الرِّيَاءِ وَحُبِّ السُّمْعَةِ مَا يُنَافِي كَوْنَهَا قُرْبَةً وَتَعَبُّدًا.
وَأَمَّا الْبَذْلُ الَّذِي يُرَادُ هُنَا - وَهُوَ الْبَذْلُ لِلدِّفَاعِ عَنِ الدِّينِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَحِفْظِ حُقُوقِ أَهْلِهِ - فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْحُظُوظِ الَّتِي تُسَهِّلُ عَلَى النَّفْسِ مُفَارَقَةَ مَحْبُوبِهَا (الْمَالِ) إِلَّا إِذَا كَانَ تَبَرُّعًا جَهْرِيًّا يَتَوَلَّى جَمْعَهُ بَعْضُ الْحُكَّامِ وَالْأُمَرَاءِ أَوْ يُجْمَعُ بِأَمْرِ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ; وَلِذَلِكَ يَقِلُّ فِي النَّاسِ مَنْ يَبْذُلُ الْمَالَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، فَلِهَذَا كَانَ الْمَقَامُ يَقْتَضِي مَزِيدَ التَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّرْغِيبِ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يُدْرِكُ شَأْوَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي تَأْثِيرِهَا، وَلَا سِيَّمَا مَوْقِعُهَا هَذَا بَعْدَ بَيَانِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي مَوْتِ الْأُمَمِ وَحَيَاتِهَا.
حَسْبُكَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا الْبَذْلَ بِمَثَابَةِ الْإِقْرَاضِ لَهُ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يَقْتَرِضُ الْمُحْتَاجُ، وَأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ
طَلَبِهِ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ، الْمُسْتَعْمَلِ لِلْإِكْبَارِ وَالِاسْتِعْظَامِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ مَنْ ذَا الَّذِي يَفْعَلُ كَذَا؟ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَنْدُرُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ. يُقَالُ مَنْ ذَا يَتَطَاوَلُ إِلَى الْمَلِكِ فُلَانٍ؟ أَوْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْمَلُ هَذَا الْعَمَلَ وَلَهُ كَذَا؟ إِذَا كَانَ عَظِيمًا أَوْ شَاقًّا يَقِلُّ مَنْ يَتَصَدَّى لَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢: ٢٥٥) وَقَالَ: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ) (٣٣: ١٧) ؟ الْآيَةَ، وَلَا يُقَالُ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْرَبُ هَذِهِ الْكَأْسَ الْمَثْلُوجَةَ؟ - وَهَجِيرُ الصَّيْفِ مُتَّقِدٌ، وَالسَّمُومُ تَلْفَحُ الْوُجُوهَ - وَأَنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِتَسْمِيَتِهِ إِقْرَاضًا وَبِالتَّعْبِيرِ عَنْهُ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ حَتَّى قَالَ: (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) ذَلِكَ أَنَّ الْإِقْرَاضَ هُوَ أَنْ تُعْطِيَ إِنْسَانًا شَيْئًا مِنَ الْمَالِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ مِثْلَهُ، فَالتَّعْبِيرُ بِالْإِقْرَاضِ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَرْضَ لَا يَضِيعُ، وَلَيْسَ هَذَا بِكَافٍ فِي التَّرْغِيبِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحَالُ هُنَا، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَرُدُّ مِثْلَهُ، بَلْ أَضْعَافَ أَضْعَافِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، وَقَدْ قَالَ فِي مَقَامٍ آخَرَ: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) (٣٤: ٣٩) وَهُوَ كَافٍ هُنَاكَ لِمَا عَلِمْتَ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ، وَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحَالَيْنِ، وَإِنَّكَ لِتَجِدُ النَّاسَ عَلَى هَذَا التَّأْكِيدِ فِي التَّرْغِيبِ قَلَّمَا يَجُودُونَ بِأَمْوَالِهِمْ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (٣٤: ١٣).
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَعْلُومٌ أَنَّ اللهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ لِذَاتِهِ، وَلَا هُوَ عَائِلٌ لِجَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ فَيَقْتَرِضُ لَهُمْ، فَلَا بُدَّ لِهَذَا التَّعْبِيرِ بِالْإِقْرَاضِ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ - أَيْ غَيْرِ

صفحة رقم 367

مَا يُعْطِيهِ الْأُسْلُوبُ مِنَ التَّرْغِيبِ - فَمَا هَذَا الْوَجْهُ؟ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْفُقَرَاءَ عِيَالُ اللهِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ ; لِأَنَّ الْحَاجَاتِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُمْ يَقْضِيهَا
الْأَغْنِيَاءُ; وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ عَيَّالُ اللهِ: أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْفَاقَةِ وَالْعَوْزِ إِنَّمَا كَانَ بِالْجَرْيِ عَلَى سُنَنِ اللهِ فِي أَسْبَابِ الْفَقْرِ، وَلِلْفَقْرِ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا الضَّعْفُ وَالْعَجْزُ عَنِ الْكَسْبِ وَمِنْهَا إِخْفَاقُ السَّعْيِ، وَمِنْهَا الْبِطَالَةُ وَالْكَسَلُ، وَمِنْهَا الْجَهْلُ بِالطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ، وَمِنْهَا مَا تَسُوقُهُ الْأَقْدَارُ مِنْ نَحْوِ حَرَكَاتِ الرِّيَاحِ وَاضْطِرَابِ الْبِحَارِ وَاحْتِبَاسِ الْأَمْطَارِ، وَكَسَادِ التِّجَارَةِ وَرُخْصِ الْأَسْعَارِ، وَالْأَغْنِيَاءُ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ إِزَالَةِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ أَوْ تَدَارُكِ ضَرَرِهَا وَإِضْعَافِ أَثَرِهَا، كَإِزَالَةِ الْبِطَالَةِ بِإِحْدَاثِ أَعْمَالٍ وَمَصَالِحٍ لِلْفُقَرَاءِ، وَإِزَالَةِ الْجَهْلِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى التَّعْلِيمِ وَالتَّرْبِيَةِ - تَعْلِيمِ طُرُقِ الْكَسْبِ وَالتَّرْبِيَةِ عَلَى الْعَمَلِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَالصِّدْقِ - وَإِذَا كَانَ فَقَرُ الْفَقِيرِ إِنَّمَا هُوَ بِالْجَرْيِ عَلَى سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ اللهِ فَإِزَالَةُ سَبَبِ فَقْرِهِ أَوْ مُسَاعَدَتِهِ عَلَيْهِ أَوْ فِيهِ إِنَّمَا يَجْرِي عَلَى سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى أَيْضًا كَمَا أَنَّ غِنَى الْغَنِيِّ كَذَلِكَ، فَالْإِنْفَاقُ لِإِحْيَاءِ سُنَّةِ اللهِ وَمُسَاعَدَةِ مَنْ يَنْتَسِبُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُمْ عِيَالُهُ - إِذْ لَا غِنَى لَهُمْ بِكَسْبِهِمْ وَلَا حَوْلَ لَهُمْ وَلَا قُوَّةَ - يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْإِقْرَاضِ لَهُ تَعَالَى، فَالْفُقَرَاءُ عِيَالٌ، وَاللهُ يَعُولُهُمْ بِأَيْدِي الْأَغْنِيَاءِ، وَيَعُولُ الْأَغْنِيَاءَ بِتَوْفِيقِهِمْ لِأَسْبَابِ الْغِنَى.
أَقُولُ: هَكَذَا وَجَّهَ الْعِبَارَةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَثَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ الْإِنْفَاقُ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، لَا مُوَاسَاةُ الْفَقِيرِ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ صِحَّةَ التَّعْبِيرِ فِي نَفْسِهِ حَيْثُمَا وَرَدَ وَإِنِ اسْتُعْمِلَ فِي مَقَامٍ آخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ: (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) (٦٤: ١٧) وَدَخَلَ فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَهُوَ يَنْطَبِقُ عَلَى سَائِرِهَا; فَإِنَّ الْقِتَالَ لِحِمَايَةِ
الدِّينِ وَتَأْمِينِ دَعْوَتِهِ وَلِلدِّفَاعِ عَنِ الْأَنْفُسِ وَالْبِلَادِ هُوَ

صفحة رقم 368

مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، فَالْإِنْفَاقُ فِيهِ يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى إِقْرَاضًا لِلَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ إِقَامَةِ سُنَّتِهِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْحَقِّ الَّذِي يُرْضِيهِ جَلَّ شَأْنُهُ، وَقَدْ كُنْتُ أَزِيدُ مِثْلَ هَذَا الْبَحْثِ فِيمَا أَكْتُبُهُ وَأُسْنِدُهُ إِلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ اعْتِمَادًا عَلَى إِجَازَتِهِ مَعَ كَوْنِهِ مِمَّا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ.
ثُمَّ قَالَ رَوَّحَ اللهُ رُوحَهُ مَا مِثَالُهُ: وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْإِنْفَاقِ بِالْإِقْرَاضِ الَّذِي يُشْعِرُ بِحَاجَةِ الْمُسْتَقْرِضِ إِلَى الْمُقْرِضِ عَادَةً جَدِيرٌ بِأَنْ يَمْلِكَ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ وَيُحِيطَ بِشُعُورِهِ وَيَسْتَغْرِقَ وِجْدَانَهُ حَتَّى يَسْهُلَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْ كُلِّ مَا يَمْلِكُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَحَيَاءً مِنْهُ، فَكَيْفَ وَقَدْ وَعَدَ بِرَدِّهِ مُضَاعَفًا أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَوَعْدُهُ الْحَقُّ؟ هَذَا التَّعْبِيرُ بِمَثَابَةِ الْهَزِّ وَالزِّلْزَالِ لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَلْبٌ لَا يَلِينُ لَهُ وَيَنْدَفِعُ بِهِ إِلَى الْبَذْلِ قَلْبٌ لَمْ يَمَسُّهُ الْإِيمَانُ، وَلَمْ تُصِبْهُ نَفْحَةٌ مِنْ نَفَحَاتِ الرَّحْمَنِ قَلْبٌ خَاوٍ مِنَ الْخَيْرِ، فَائِضٌ بِالْخَبَثِ وَالشَّرِّ; أَيُّ لُطْفٍ مِنْ عَظِيمٍ يُدَانِي هَذَا اللُّطْفَ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ؟ جَبَّارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكِهِ، الْغَنِيِّ عَنِ الْعَالَمِينَ، الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ، الْمُقَلِّبِ لِقُلُوبِ الْعَبِيدِ، يُرْشِدُ عِبَادَهُ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِفَضْلٍ مِنَ الْمَالِ وَاخْتَصَّهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ النِّعْمَةِ إِلَى مُوَاسَاةِ إِخْوَانِهِمْ بِمَا فِيهِ سَعَادَةٌ لَهُمْ أَنْفُسِهِمْ وَلِمَنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى بَذْلِ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي فِيهَا صَلَاحُ حَالِهِمْ، وَحِفْظُ شَرَفِهِمْ وَاسْتِقْلَالِهِمْ، فَيُبَرِّرُ هَذَا الْهُدَى وَالْإِرْشَادَ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ دُونَ صِيغَةِ الْأَمْرِ وَالْإِلْزَامِ، وَيُسَمِّي نَفْسَهُ مُقْتَرِضًا لِيَشْعُرَ قَلْبُ الْغَنِيِّ بِمَعْنَى الْحَاجَةِ الَّتِي رُبَّمَا تُصِيبُهُ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ، ثُمَّ هُوَ يَعِدُهُ بِمُضَاعَفَةِ ذَلِكَ الْعَطَاءِ، أَيَكُونُ هَذَا اللُّطْفُ كُلُّهُ مِنْهُ بِعَبْدِهِ الَّذِي غَمَرَهُ بِنِعْمَتِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ يَجْمُدُ قَلْبُ هَذَا الْعَبْدِ وَتَنْقَبِضُ يَدُهُ، وَلَا يَسْتَحِي مِنْ رَبِّهِ، وَلَا يَثِقُ بِوَعْدِهِ، وَيُقَالُ مَعَ هَذَا: إِنَّهُ مُؤْمِنٌ بِهِ وَبِأَنَّ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْخَيْرِ فَهُوَ مِنْ عِنْدِهِ؟ كَلَّا. مَثِّلْ فِي نَفْسِكَ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا يُرِيدُ أَنْ يَجْمَعَ إِعَانَةً لِلْفُقَرَاءِ أَوْ لِمَصْلَحَةٍ مِنْ مَصَالِحِ الدَّوْلَةِ، وَقَدْ خَاطَبَكَ بِمِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ فِي التَّلَطُّفِ وَالِاسْتِعْطَافِ، وَمَثِّلْ فِي خَيَالِكَ مَوْقِعَ قَوْلِهِ مِنْ قَلْبِكَ، وَأَثَرَ كَلَامِهِ فِي يَدَيْكَ.
أَمَّا كَوْنُ الْقَرْضِ حَسَنًا، فَالْمُرَادُ بِهِ مَا حَلَّ مَحَلَّهُ وَوَافَقَ الْمَصْلَحَةَ، لَا مَا وُضِعَ
مَوْضِعَ الْفَخْفَخَةِ وَقُصِدَ بِهِ الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ، نَعَمْ إِنَّ مَا أُنْفِقَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ حَسَنٌ - وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الشُّهْرَةُ - وَلَكِنَّهُ لَا يَكُونُ دَالًّا عَلَى إِيمَانِ الْمُنْفِقِ وَثِقَتِهِ بِرَبِّهِ وَابْتِغَائِهِ مَرْضَاتَهُ، وَلَا عَلَى حُبِّهِ الْخَيْرَ لِذَاتِهِ لِارْتِقَاءِ نَفْسِهِ وَعُلُوِّ هِمَّتِهِ بِمَا اسْتَفَادَ مِنْ فَضَائِلِ الدِّينِ وَحُسْنِ التَّهْذِيبِ،

صفحة رقم 369

فَلَا يَكُونُ لَهُ حَظٌّ مِنْ نَفَقَتِهِ يُقَرِّبُهُ إِلَى رَبِّهِ زُلْفَى، بَلْ يَكُونُ كُلُّ جَزَائِهِ تِلْكَ السُّمْعَةَ الْحَسَنَةَ ((فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ))، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُنْفِقُ فِي الْمَصَالِحِ بِنِيَّةٍ حَسَنَةٍ، وَلَكِنْ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ تُرِيهِ مَوَاطِنَ الْمَنْفَعَةِ بِنَفَقَتِهِ، فَيَبْنِي مَسْجِدًا حَيْثُ تَكْثُرُ الْمَسَاجِدُ; فَيَكُونُ سَبَبًا فِي زِيَادَةِ تَفَرُّقِ الْجَمَاعَةِ وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِحِكْمَةِ الشَّرْعِ، أَوْ يَبْنِي مَدْرَسَةً وَلَا يُحْسِنُ اخْتِيَارَ الْمُعَلِّمِينَ لَهَا، أَوْ يَفْرِضُ لَهَا مِنَ النَّفَقَةِ مَا لَا يَكْفِي لِدَوَامِهَا، فَيُسْرِعُ إِلَيْهَا الْخَرَابُ، أَوْ يَضَعُ فِيهَا مُعَلِّمِينَ فَاسِدِي الِاعْتِقَادِ أَوِ الْآدَابِ. فَيُفْسِدُونَ وَلَا يُصْلِحُونَ، فَمِثْلُ هَذَا كُلِّهِ لَا يُقَالُ لَهُ قَرْضٌ حَسَنٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِنْفَاقُ قَرْضًا حَسَنًا مُسْتَحِقًّا لِلْمُضَاعَفَةِ الْكَثِيرَةِ إِذَا وُضِعَ مَوْضِعَهُ مَعَ الْبَصِيرَةِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ; لِيَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ وَحِفْظِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَنْفَعَةِ جَمِيعِ الْأَنَامِ مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي شَرَعَهُ الْإِسْلَامُ.
وَأَمَّا هَذِهِ الْمُضَاعَفَةُ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ - وَسَيَأْتِي فِي آيَةٍ أُخْرَى بُلُوغُهَا سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالْمُرَادُ الْكَثْرَةُ - فَهِيَ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ; ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُنْفِقَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ وَلِتَعْزِيزِ الْأُمَّةِ وَلِلْمُدَافَعَةِ عَنِ الْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ يَكُونُ مُدَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ وَمُعَزِّزًا لَهَا وَحَافِظًا لِحُقُوقِهَا; لِأَنَّ اعْتِدَاءَ الْمُعْتَدِينَ عَلَى الْأُمَّةِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى أَفْرَادِهَا، فَضَعْفُ الْأُمَّةِ وَإِذْلَالُهَا وَضَيَاعُ حُقُوقِهَا لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِمَا يَقَعُ عَلَى أَفْرَادِهَا وَهُوَ مِنْهُمْ، وَالْبَلَاءُ يَكُونُ عَامًّا (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (٨: ٢٥) ثُمَّ إِنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي تَبْذُلُ أَغْنِيَاؤُهَا الْمَالَ وَتَقُومُ بِفَرِيضَةِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَيَكْفُلُ غَنِيُّهَا فَقِيرَهَا، وَيَحْمِي قَوِيُّهَا ضَعِيفَهَا، تَتَّسِعُ دَائِرَةُ مَصَالِحِهَا وَمَنَافِعِهَا، وَتَكْثُرُ مَرَافِقُهَا وَتَتَوَفَّرُ سَعَادَتُهَا، وَتَدُومُ عَلَى أَفْرَادِهَا النِّعْمَةُ، مَا اسْتَقَامُوا عَلَى الْبَذْلِ وَالتَّعَاوُنِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَكُونُونَ بِذَلِكَ مُسْتَحِقِّينَ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ فِيهَا.
وَأَقُولُ: لَوْ سِرْنَا فِي الْأَرْضِ وَسَبَرْنَا أَحْوَالَ الْأُمَمِ الْحَاضِرَةِ وَعَرَفْنَا تَارِيخَ الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ لَرَأْينَا كَيْفَ مَاتَتِ الْأُمَمُ الَّتِي قَصَّرَتْ فِي هَذِهِ الْفَرِيضَةِ أَوِ اسْتُعْبِدَتْ، وَكَيْفَ عَزَّتِ الْأُمَمُ الَّتِي شَمَّرَتْ فِيهَا وَسَعِدَتْ، وَهَذِهِ الْمُضَاعَفَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ تَكُونُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَقَامَتْ هَذِهِ السُّنَّةَ الْإِلَهِيَّةَ فِي حِفْظِ بَيْضَتِهَا، وَإِعْزَازِ سُلْطَانِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُنْفِقُونَ فِيهَا يَبْتَغُونَ الْأَجْرَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى أَمْ لَا، وَإِنَّهَا لَمُضَاعَفَةٌ كَثِيرَةٌ لَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهَا، فَمَا أَجْهَلَ الْأُمَمَ الْغَافِلَةَ عَنْهَا وَعَنْ حَالِ أَهْلِهَا إِذْ يَرَوْنَ أَهْلَهَا قَدْ وَرِثُوا الْأَرْضَ وَسَادُوا الشُّعُوبَ فَيَتَمَنَّوْنَ لَوْ كَانُوا مِثْلَهُمْ، وَلَا يَدْرُونَ كَيْفَ يَكُونُ كَذَلِكَ!
وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ أَجْهَلَ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ بِهَذِهِ السُّنَّةِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُمْ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ وَلَا تَتَحَرَّكُ قُلُوبُهُمْ، وَلَا تَنْبَسِطُ أَيْدِيهِمْ عِنْدَ تِلَاوَةِ آيَاتِهِ الْحَاثَّةِ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِهِ، وَلَا سِيَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي لَوْ أُنْزِلَتْ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا

صفحة رقم 370

مُتَصَدِّعًا مِنْ هَيْبَةِ اللهِ تَعَالَى وَالْحَيَاءِ مِنْهُ، عَمِلَ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ قَوْمٌ فَسَعِدُوا، وَتَرَكَهَا آخَرُونَ فَشَقُوا، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَاتَ الْأَوَّلِينَ قَصَدُ مَرْضَاةِ اللهِ بِإِقَامَةِ سُنَّتِهِ فَحُرِمُوا ثَوَابَ الْآخِرَةِ، فَقَدْ خَسِرَ الْآخِرُونَ بِتَرْكِهَا السَّعَادَتَيْنِ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.
وَمِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي الْآيَةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ((الْقَرْضُ الْحَسَنُ: الْمُجَاهَدَةُ وَالْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ)) وَهُوَ إِجْمَالٌ لِمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ، وَمِنْ مَحَاسِنِ عِبَارَاتِ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا: أَنَّ لَفْظَ الْمُضَاعَفَةِ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ بِمَا فِي الصِّيغَةِ مِنْ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ.
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ (فَيُضَاعِفُهُ) بِالضَّمِّ بِتَقْدِيرِ: فَهُوَ يُضَاعِفُهُ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِالنَّصْبِ لِوُقُوعِهِ فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ الْمَعْرُوفِ فِي قَوَاعِدِ النَّحْوِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ (فَيُضَعِّفُهُ) بِالرَّفْعِ وَالتَّشْدِيدِ، وَابْنُ يَعْقُوبَ وَابْنُ عَامِرٍ بِالنَّصْبِ وَالتَّضْعِيفِ يَدُلُّ عَلَى التَّكْثِيرِ وَالتَّكْرَارِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ) وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَالْبَزِّيُّ وَأَبُو بَكْرٍ (يَبْصُطُ) بِالصَّادِ، وَهِيَ لُغَةٌ، كَأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا تَفْخِيمُ السِّينِ لِمُجَاوِرَةِ الطَّاءِ، يَقْبِضُ الرِّزْقَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ فَيَجْهَلُونَ طُرُقَهُ الَّتِي هِيَ سُنَنُ اللهِ تَعَالَى فِيهِ، أَوْ يَضْعُفُونَ
فِي سُلُوكِهَا، وَيَبْسُطُهُ لِمَنْ يَشَاءُ بِمَا يَهْدِيهِمْ إِلَى تِلْكَ السُّنَنِ، وَيَفْتَحُ لَهُمُ الْأَبْوَابَ وَيُسَهِّلُ لَهُمُ الْأَسْبَابَ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُغْنِيَ فَقِيرًا وَيُفْقِرَ غَنِيًّا لَفَعَلَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لَهُ وَبِيَدِهِ الْقَبْضُ وَالْبَسْطُ، وَهُوَ وَاضِعُ السُّنَنِ الْهَادِي إِلَيْهَا، وَالْمُوَفِّقُ لِلسَّيْرِ عَلَيْهَا، فَلَيْسَ حَضُّهُ الْأَغْنِيَاءَ عَلَى مُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ وَالْإِنْفَاقِ فِي الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ أَوِ الْخَاصَّةِ مِنْ حَاجَةٍ بِهِ أَوْ عَجْزٍ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، كَلَّا، بَلْ هِيَ هِدَايَتُهُ الْإِنْسَانَ إِلَى طَرِيقِ الشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ بِمَا يَحْفَظُهَا وَيُفْضِي إِلَى الْمَزِيدِ فِيهَا، حَتَّى يَبْلُغَ كَمَالَهُ الِاجْتِمَاعِيَّ الَّذِي أَعَدَّهُ لَهُ بِحِكْمَتِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: يَقْبِضُ بَعْضَ الْأَيْدِي عَنِ الْبَذْلِ، وَيَبْسُطُ بَعْضَهَا بِالْفَضْلِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ لَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْآيَةِ وَلَا يَظْهَرُ بَعْدَهُ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ; أَيْ: لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا عَلَى عَمَلٍ لَنَا فِيهِ كَسْبٌ وَاخْتِيَارٌ، لَا عَلَى مَا تُصَرِّفُهُ الْأَقْدَارُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ هَذَا التَّعْقِيبَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَذْلَ وَاجِبٌ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ. أَقُولُ يُرِيدُ عِقَابَ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا عِقَابَ الدُّنْيَا فَهُوَ أَظْهَرُ; لِأَنَّهُ مُشَاهَدٌ لِأَرْبَابِ الْبَصَائِرِ الْبَاحِثِينَ فِي شُئُونِ الْأُمَمِ، إِذْ لَا يَبْحَثُونَ فِي حَالِ أُمَّةٍ عَزِيزَةٍ إِلَّا وَيَرَوْنَ بَذْلَ أَغْنِيَائِهَا الْمَالَ لِنَشْرِ الْعُلُومِ وَإِتْقَانِ الْأَعْمَالِ، وَتَعَاوُنِ أَفْرَادِهَا عَلَى مَصْلَحَتِهَا هِيَ أَسْبَابُ عِزَّتِهَا وَرِفْعَتِهَا، وَلَا يَبْحَثُونَ فِي حَالِ أُمَّةٍ ذَلِيلَةٍ مَقْهُورَةٍ إِلَّا وَيَرَوْنَ أَغْنِيَاءَهَا مُمْسِكِينَ وَأَفْرَادَهَا غَيْرَ مُتَعَاوِنِينَ، فَعَلِمْنَا بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ) إِلَخْ. بَيَانٌ لِطَرِيقِ الْمُضَاعَفَةِ وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَتَذْكِيرٌ بِاللهِ وَبِتَدْبِيرِهِ لِخَلْقِهِ وَبِمَصِيرِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ; أَيْ: فَهُوَ يُضَاعِفُ لَهُمْ فِي الدَّارَيْنِ. وَقَدْ عَهِدْنَا فِي الْقُرْآنِ خَتْمَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ بِمِثْلِ هَذَا، وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَبْلَغُ آيَاتِهِ.

صفحة رقم 371
تفسير المنار
عرض الكتاب
المؤلف
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني
الناشر
1990 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية