
في هذه المقالة مذهب ثالث: وهو أنه أجاز طلاق المكره إذا كان الإكراه من السلطان، ولم يجوّز ذلك إذا كان الإكراه من غير السلطان.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠٧ الى ١١٠]
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠)
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا إلى قوله ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا أي [طردوا] ومنعوا من الإسلام [ففتنهم] المشركون ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا على الايمان والهجرة والجهاد إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي من بعد تلك الفتنة [والفعلة] لَغَفُورٌ رَحِيمٌ نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخو أبي جهل من الرضاعة، وأبي جندل بن سهل بن عمرو والوليد بن المغيرة وسلمة بن هشام وعبد الله بن أسيد الثقفي، فتنهم المشركون فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم، ثمّ إنهم هاجروا بعد ذلك وجاهدوا، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وقال الحسن وعكرمة: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي سرخ، وكان يكتب للنبي صلّى الله عليه وسلّم فاستزلّه الشيطان فلحق بالكفار، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقتل يوم فتح مكة، فاستجار له عثمان وكان أخاه لأمه فأجاره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ أسلم وحسن إسلامه، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
وأما قوله (فُتِنُوا) فقرأ عبد الله بن عامر: (فَتَنُوا) بفتح الفاء والتاء، ردّه إلى من أسلم من المشركين الذين فتنوا المسلمين واعتبر بقوله جاهَدُوا وَصَبَرُوا فأخبر بالفعل عنهم.
وقرأ الباقون: بضم الفاء وكسر التاء، اعتبارا بما قبله إلا من أكره.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١١ الى ١١٧]
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥)
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها تخاصم وتحتج عن نفسها بما أسلفت من خير

وشر [مشتغلا بها لا تتفرّغ] إلى غيرها والنفس تذكر وتؤنث وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
روى أبو صالح المري عن جعفر بن زيد قال: قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لكعب الأحبار: يا كعب خوّفنا وحدّثنا حديثا [تنبهنا به] قال: يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لو [وافيت] القيامة بمثل عمل سبعين نقيبا، لأتيت عليك ظلمات وأنت لا تهمل إلّا نفسك وأن لجهنم زفرة ما يبقى ملك مقرّب ولا نبي مبعث إلا وقع جاثيا على [ركبتيه] حتّى إن إبراهيم ليدلي [بالخلة] فيقول: يا رب أنا خليلك إبراهيم لا أسالك إلا نفسي وأن تصديق ذلك الذي أنزل عليكم يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها.
وروى عكرمة عن ابن عبّاس في هذه الآية قال: ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتّى تخاصم الروح الجسد فتقول الروح: يا رب الروح منك وأنت خلقته لم تكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها، ويقول الجسد إنما خلقتني كالخشب ليس لي يد ابطش بها ولا عين أبصر بها ولا رجل أمشي بها، فجاء هذا كشعاع النور فيه نطق لساني وبه أبصرت عيني وبه مشت رجلي فجدد عليه العذاب. قال: فيضرب الله لهما مثال أعمى ومقعدا دخلا حائطا فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثمر والمقعد لا يناله، فنادى المقعد الأعمى: أتيني هاهنا حتّى تحملني، قال: فدنا منه فحمله فأصابوا من الثمر فعلى من يكون العذاب، قالا:
عليهما قال: عليكما جميعا العذاب، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً يعني مكة كانَتْ آمِنَةً لا يهاج أهلها ولا يغار أهلها مُطْمَئِنَّةً قارة بأهلها [لا يحتاجون] إلى الانتقال للانتجاع كما يحتاج إليها سائر العرب يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ يحمل إليها من البر والبحر، نظيره قوله يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ جمع النعمة وقيل: جمع نعم، وقيل:
جمع نعماء مثل بأساء وأبوس فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ
ابتلاهم الله بالجوع سبع سنين وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جهدوا فأكلوا العظام المحرّقة والجيفة والكلاب الميتة [والعلهز] وهو الوبر يعالج بالدم، ثم إن رؤساء مكة تكلموا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: هذا عذاب الرجال فما بال النساء والصبيان؟ فأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون
وَالْخَوْفِ يعني بعوث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسراياه التي كانت تطيف بهم.
وروى الخفاف والعباس عن أبي عمرو: (وَالْخَوْفَ) بالنصب بإيقاع أذاقها عليه بِما كانُوا يَصْنَعُونَ.
روى مشرح بن فأعان عن سليمان بن عمر بن عثمان قال: صدرنا من الحج مع حفصة زوجة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعثمان محصور بالمدينة، فكانت تسأل عنه حين رأت راكبين، فأرسلت إليهما تسألهما فقالا: قتل. فقالت حفصة: والذي نفسي بيده إنها- يعني المدينة- القرية التي قال الله