غير خوف ولا احتياج إليها، بل بطرا وعبثا، كما هو المشاهد من صنيعهم في بيوتهم بوادي الحجر، الذي مر به رسول الله ﷺ وهو ذاهب إلى تبوك فقنع رأسه- أى غطاها بثوبه- وأسرع دابته، وقال لأصحابه: «لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم» «١».
ولكن ماذا كانت نتيجة هذه القوة الغاشمة، والثراء الذي ليس معه شكر لله- تعالى- والإصرار على الكفر والتكذيب لرسل الله- تعالى-، والإعراض عن الحق... ؟
لقد بين القرآن عاقبة ذلك فقال: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ. فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ.
أى: فكانت نتيجة تكذيب أصحاب الحجر لرسولهم صالح- عليه السلام- أن أهلكهم الله- تعالى- وهم داخلون في وقت الصباح، عن طريق الصيحة الهائلة، التي جعلتهم في ديارهم جاثمين، دون أن يغنى عنهم شيئا ما كانوا يكسبونه من جمع الأموال، وما كانوا يصنعونه من نحت البيوت في الجبال.
وهكذا نرى أن كل وقاية ضائعة، وكل أمان ذاهب، وكل تحصن زائل أمام عذاب الله المسلط على أعدائه المجرمين.
وهكذا تنتهي تلك الحلقات المتصلة من قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم والتي تتفق جميعها في بيان سنة من سنن الله- تعالى- في خلقه، وهي أن النجاة والسعادة والنصر للمؤمنين، والهلاك والشقاء والهزيمة للمكذبين.
ثم ختمت السورة الكريمة ببيان كمال قدرة الله- تعالى-، وببيان جانب من النعم التي منحها- سبحانه- لنبيه صلى الله عليه وسلم، وبتهديد المشركين الذين جعلوا القرآن عضين، والذين جعلوا مع الله إلها آخر، وبتسليته ﷺ عما لحقه منهم من أذى، فقال- تعالى-:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٥ الى ٩٩]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩)
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤)
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
فقوله- سبحانه- وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ توجيه للناس إلى التأمل في مظاهر قدرة الله- تعالى-، وإلى الحق الأكبر الذي قام عليه هذا الوجود، بعد أن بين- سبحانه- قبل ذلك، سنته التي لا تتخلف، وهي أن حسن العاقبة للمتقين، وسوء المصير للمكذبين.
والحق: هو الأمر الثابت الذي تقتضيه عدالة الله- تعالى- وحكمته.
والباء فيه للملابسة.
أى: وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما من كائنات لا يعلمها إلا الله، إلا خلقا ملتبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل، وبالعدل الذي لا يخالطه جور وبالحكمة التي تتنزه عن العبث، وتأبى استمرار الفساد، واستبقاء ضعف الحق أمام الباطل.
والمراد بالساعة في قوله- تعالى-: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ساعة البعث والحساب والثواب والعقاب في الآخرة.
أى: وإن ساعة إعطاء كل ذي حق حقه، ومعاقبة كل ذي باطل على باطله، لآتية لا ريب فيها، فمن فاته أخذ حقه في الدنيا فسيأخذه وافيا غير منقوص في الآخرة، ومن أفلت من عقوبة الدنيا فسينال ما هو أشد وأخزى منها في يوم الحساب.
فالجملة الكريمة انتقال من تهديد المجرمين بعذاب الدنيا، إلى تهديدهم بعذاب الآخرة، والمقصود من ذلك تسليته ﷺ عما أصابه من المكذبين من أذى.
وأكد- سبحانه- هذه الجملة بإن وبلام التوكيد، ليدل على أن الساعة آتية لا محالة، وليخرس ألسنة الذين ينكرون وقوعها وحدوثها...
وجملة فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ تفريع على ما قبلها.
والصفح الجميل: ترك المؤاخذة على الذنب، وإغضاء الطرف عن مرتكبه بدون معاتبة.
أى: ما دام الأمر كما ذكرنا لك أيها الرسول الكريم- من أن هذا الكون قد خلقناه بالحق، ومن أن الساعة آتية لا ريب فيها... فاصفح عن هؤلاء المكذبين لك صفحا جميلا، لا عتاب معه ولا حزن ولا غضب... حتى يحكم الله بينك وبينهم.
وهذا التعبير فيه ما فيه من تسليته ﷺ وتكريمه، لأنه- سبحانه- أمره بالصفح الجميل عن أعدائه، ومن شأن الذي يصفح عن غيره، أن يكون أقوى وأعز من هذا الغير- فكأنه- سبحانه- يقول له: اصفح عنهم فعما قريب ستكون لك الكلمة العليا عليهم.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ «١».
وقوله- سبحانه-:... فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «٢».
وقوله- سبحانه- إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ تعليل للأمر بالصفح الجميل عنهم.
والخلاق والعليم: صيغتا مبالغة من الخلق والعلم، للدلالة على كثرة خلقه، وشمول علمه.
(٢) سورة البقرة الآية ١٠٩.
أى: إِنَّ رَبَّكَ أيها الرسول الكريم، الذي رباك برعايته وعنايته، واختارك لحمل رسالته هُوَ- سبحانه- الْخَلَّاقُ لك ولهم ولكل شيء في هذا الوجود.
الْعَلِيمُ بأحوالك وبأحوالهم، وبما يصلح لك ولهم ولكل الكائنات.
وقد علم- سبحانه- أن الصفح عنهم في هذا الوقت فيه المنفعة لك ولهم، فحقيق بك- أيها الرسول الكريم- أن تطيعه- سبحانه-، وأن تكل الأمور إليه.
ولقد تحقق الخير من وراء هذا التوجيه السديد من الله- تعالى- لنبيه ﷺ فقد نرتب على هذا الصفح: النصر للنبي ﷺ وللمؤمنين، والهداية لبعض الكافرين وهم الذين دخلوا في الإسلام بعد نزول هذه الآية، وصاروا قوة للدعوة الإسلامية بعد أن كانوا حربا عليها، وتحقق- أيضا- قوله صلى الله عليه وسلم: «لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله- عز وجل-».
ثم أتبع- سبحانه- هذه التسلية والبشارة للرسول صلى الله عليه وسلم، بمنة ونعمة أجل وأعظم من كل ما سواها، ليزيده اطمئنانا وثقة بوعد الله- تعالى- فقال: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ.
والمراد بالسبع المثاني: صورة الفاتحة. وسميت بذلك، لأنها سبع آيات، ولأنها تثنى أى تكرر في كل ركعة من ركعات الصلاة.
قال صاحب الكشاف: والمثاني من التثنية وهي التكرير للشيء، لأن الفاتحة تكرر قراءتها في الصلاة. أو من الثناء، لاشتمالها على ما هو ثناء على الله- تعالى-... » «١».
والمعنى: ولقد أعطيناك- أيها الرسول الكريم- سورة الفاتحة التي هي سبع آيات، والتي تعاد قراءتها في كل ركعة من ركعات الصلاة، وأعطيناك- أيضا- القرآن العظيم الذي يهدى للطريق التي هي أقوم.
وأوثر فعل آتَيْناكَ بمعنى أعطيناك على أوحينا إليك، أو أنزلنا عليك لأن الإعطاء أظهر في الإكرام والإنعام.
وقوله وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ معطوف على سَبْعاً من باب عطف الكل على الجزء، اعتناء بهذا الجزء.
ووصف- سبحانه- القرآن بأنه عظيم، تنويها بشأنه، وإعلاء لقدره.
ومما يدل على أن المراد بالسبع المثاني سورة الفاتحة ما أخرجه البخاري بسنده عن أبى سعيد بن المعلى قال: مربى النبي ﷺ وأنا أصلى، فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيته فقال: ما منعك أن تأتينى؟ فقلت: كنت أصلى.
فقال: ألم يقل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ.
ثم قال: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد؟ ثم ذهب النبي ﷺ ليخرج، فذكرته فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».
وروى البخاري- أيضا- عن أبى هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أم القرآن هي:
السبع المثاني والقرآن العظيم».
هذا، وهناك أقوال أخرى في المقصود بالسبع المثاني، ذكرها بعض المفسرين فقال:
اختلف العلماء في السبع المثاني: فقيل الفاتحة. قاله على بن أبى طالب، وأبو هريرة، والربيع بن أنس، وأبو العالية، والحسن وغيرهم. وروى عن النبي ﷺ من وجوه ثابتة من حديث أبى بن كعب وأبى سعيد بن المعلى...
وقال ابن عباس: هي السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال والتوبة معا...
وأنكر قوم هذا وقالوا: أنزلت هذه الآية بمكة، ولم ينزل من السبع الطوال شيء إذ ذاك.
وقيل: المثاني القرآن كله، قال الله- تعالى- كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ. هذا قول الضحاك وطاوس، وقاله ابن عباس. وقيل له: مثاني، لأن الأنباء والقصص ثنيت فيه..
وقيل: المراد بالسبع المثاني أقسام القرآن من الأمر والنهى والتبشير والإنذار..
ثم قال: والصحيح الأول لأنه نص. وقد قدمنا في الفاتحة أنه ليس في تسميتها بالمثاني ما يمنع من تسمية غيرها بذلك، إلا أنه إذا ورد عن النبي ﷺ وثبت عنه نص في شيء لا يحتمل التأويل، كان الوقوف عنده «١».
والذي نراه، أن المقصود بالسبع المثاني هنا: سورة الفاتحة، لثبوت النص الصحيح بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتى ثبت النص الصحيح عنه ﷺ في شيء فلا كلام لأحد معه أو بعده صلى الله عليه وسلم.
ثم نهى الله- تعالى- المسلمين في شخص نبيهم ﷺ عن التطلع إلى زينة الحياة الدنيا، فقال- تعالى-: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ...
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف وصل هذا بما قبله؟
قلت: يقول الله- تعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم: قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها حقيرة ضئيلة، وهي القرآن العظيم، فعليك أن تستغني به، ولا تمدن عينيك إلى متاع الدنيا...
قال أبو بكر الصديق من أوتى القرآن، فرأى أن أحدا أوتى من الدنيا أفضل مما أوتى، فقد صغر عظيما، وعظم صغيرا» «١».
وقال ابن كثير: وقال ابن أبى حاتم: ذكر عن وكيع بن الجراح، قال: حدثنا موسى بن عبيدة، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبى رافع صاحب النبي ﷺ قال: أضاف النبي ﷺ ضيفا، ولم يكن عنده ﷺ شيء يصلحه، فأرسل إلى رجل من اليهود:
يقول لك محمد رسول الله: أسلفنى دقيقا إلى هلال رجب. قال اليهودي: لا إلا برهن. فأتيت النبي ﷺ فأخبرته، فقال: أما والله إنى لأمين من في السماء، وأمين من في الأرض، ولئن أسلفنى أو باعني لأؤدين إليه. فلما خرجت من عنده نزلت هذه الآية. «لا تمدن عينيك» كأنه- سبحانه- يعزيه عن الدنيا» «٢».
وقوله- سبحانه- تَمُدَّنَّ من المد، وأصله الزيادة. واستعير هنا للتطلع إلى ما عند الغير برغبة وتمن وإعجاب. يقال: مد فلان عينه إلى مال فلان، إذا اشتهاه وتمناه وأراده.
والمراد بالأزواج: الأصناف من الكفار الذين متعهم الله بالكثير من زخارف الدنيا.
والمعنى: لا تحفل- أيها الرسول الكريم- ولا تطمح ببصرك طموح الراغب في ذلك المتاع الزائل، الذي متع الله- تعالى- به أصنافا من المشركين فإن ما بين أيديهم منه شيء سينتهي عما قريب، وقد آتاهم الله- تعالى- إياه على سبيل الاستدراج والإملاء، وأعطاك ما هو خير منه وأبقى، وهو القرآن العظيم.
قال صاحب الظلال: والعين لا تمتد. إنما يمتد البصر أى: يتوجه. ولكن التعبير التصويرى يرسم صورة العين ذاتها ممدودة إلى المتاع. وهي صورة طريفة حين يتخيلها المتخيل..
(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٥٦٦.
والمعنى وراء ذلك، ألا يحفل الرسول ﷺ بذلك المتاع الذي آتاه الله- تعالى- لبعض الناس | ولا يلقى إليه نظرة اهتمام، أو نظرة استجمال، أو نظرة تمن» «١». |
أى: ولا تحزن- أيها الرسول الكريم- لكفر من كفر من قومك، أو لموتهم على ذلك، أو لأعراضهم عن الحق الذي جئتهم به، فإن القلوب بأيدينا نصرفها كيف نشاء، أما أنت فعليك البلاغ.
وقوله- سبحانه- وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ بيان لما يجب عليه نحو أتباعه، بعد بيان ما يجب عليه نحو أعدائه.
وخفض الجناح كناية عن اللين والمودة والعطف.
أى: وكن متواضعا مع أتباعك المؤمنين، رءوفا بهم، عطوفا عليهم.
قال الشوكانى: وخفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب... وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إليه بسط جناحه ثم قبض على الفرخ، فجعل ذلك وصفا لتواضع الإنسان لأتباعه... والجناحان من ابن آدم: جانباه «٣».
وقوله- سبحانه-: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ معطوف على ما قبله.
(٢) سورة طه الآيتان ١٣٠، ١٣١.
(٣) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٣ ص ١٤٢. [.....]
أى: لا تحزن- أيها الرسول الكريم- على مصير الكافرين، وتواضع لأتباعك المؤمنين، وقل للناس جميعا ما قاله كل نبي قبلك لقومه: إنى أنا المنذر لكم من عذاب الله إذا ما بقيتم على كفركم، الموضح لكم كل ما يخفى عليكم.
فالنذير هنا بمعنى المنذر، والمبين بمعنى الكاشف والموضح.
وفي الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى عن النبي ﷺ قال: «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم، إنى رأيت الجيش بعيني، وإنى أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، وانطلقوا على مهلهم فنجوا.
وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعنى واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق» «١».
ثم هدد- سبحانه- الذين يحاربون دعوة الحق، ويصفون القرآن بأوصاف لا تليق به فقال- تعالى-: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ..
والكاف في قوله كَما للتشبيه، وما موصوله أو مصدرية وهي المشبه به أما المشبه فهو الإيتاء المأخوذ من قوله- تعالى- وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي.
ولفظ «المقتسمين» افتعال من القسم بمعنى تجزئة الشيء وجعله أقساما..
والمراد بهم بعض طوائف أهل الكتاب، الذين آمنوا ببعضه وكفروا بالبعض الآخر.
أو المراد بهم- كما قال ابن كثير: «المقتسمين» أى المتحالفين، أى الذين تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم... » «٢».
ولفظ «عضين» جمع عضة- بزنة عزة-، وهي الجزء والقطعة من الشيء. تقول:
عضيت الشيء تعضية، أى: فرقته وجعلته أجزاء كل فرقة عضة.
قال القرطبي ما ملخصه: وواحد العضين عضة، من عضيت الشيء تعضية أى فرقته، وكل فرقة عضة. قال الشاعر: وليس دين الله بالمعضى. أى: بالمفرق.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٦٦.
والعضة والعضين في لغة قريش السحر. وهم يقولون للساحر عاضه، وللساحرة عاضهة...
وفي الحديث: لعن رسول الله ﷺ العاضهة والمستعضهة أى الساحرة والمستسحرة..
وقيل: هو من العضة، وهي التميمة. والعضيهة: البهتان.. يقال: أعضهت يا فلان أى:
جئت بالبهتان» «١».
والمعنى: ولقد آتيناك- أيها الرسول الكريم- السبع المثاني والقرآن العظيم، مثل ما أنزلنا على طوائف أهل الكتاب المقتسمين، أى الذين قسموا كتابهم أقساما، فأظهروا قسما وأخفوا آخر، والذين جعلوا- أيضا- القرآن أقساما، فآمنوا ببعضه، وكفروا بالبعض الآخر.. فجعله الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ بيان وتوضيح للمقتسمين.
ومنهم من يرى أن قوله- تعالى- كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ... متعلق بقوله- تعالى- قبل ذلك، وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ، فيكون المشبه الإنذار بالعقاب المفهوم من الآية الكريمة. وأن المراد بالمقتسمين: جماعة من مشركي قريش، قسموا أنفسهم أقساما لصرف الناس عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: وقل- أيها الرسول الكريم- إنى أنا النذير المبين لكم من عذاب مثل عذاب المقتسمين...
وقد فصل الإمام الآلوسى القول عند تفسيره لهاتين الآيتين فقال ما ملخصه: قوله- تعالى- كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ... متعلق بقوله- تعالى- وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً... على أن يكون في موضع نصب نعتا لمصدر من آتينا محذوف أى: آتيناك سبعا من المثاني إيتاء كما أنزلنا، وهو في معنى: أنزلنا عليك ذلك إنزالا كإنزالنا على أهل الكتاب الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أى قسموه إلى حق وباطل..
وقيل: هو متعلق بقوله- تعالى-: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ.. وجوز أن يراد بالمقتسمين جماعة من قريش... أرسلهم الوليد بن المغيرة، أيام موسم الحج، ليقفوا على مداخل طرق مكة، لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله ﷺ فانقسموا على هاتيك المداخل، يقول بعضهم لا تغتروا بالخارج فإنه ساحر..
أى: وقل إنى أنا النذير عذابا مثل العذاب الذي أنزلناه على المقتسمين.
وقيل المراد بالمقتسمين، الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحا- أى يقتلوه ليلا- فأهلكهم الله...
ثم قال- رحمه الله-: والأقرب من الأقوال المذكورة أن قوله كَما أَنْزَلْنا.. متعلق بقوله- تعالى- وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً... وأن المراد بالمقتسمين أهل الكتابين، وأن الموصول مع صلته، صفة مبينة لكيفية اقتسامهم...
والمعنى: لقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم، إيتاء مماثلا لإنزال الكتابين على أهلهما... «١».
ويبدو لنا أن من الأفضل أن يكون المراد بالمقتسمين، ما يشمل أهل الكتابين وغيرهم من المشركين المتحالفين على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم- كما قال ابن كثير- وقد ذهب إلى ذلك الإمام ابن جرير، فقد قال- رحمه الله- بعد سرده للأقوال في ذلك ما ملخصه:
«والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله- تعالى- أمر نبيه ﷺ أن يعلم قومه الذين عضوا القرآن ففرقوه، أنه نذير لهم من سخط الله وعقوبته، أن يحل بهم ما حل بالمقتسمين من قبلهم ومنهم...
وجائز أن يكون عنى بالمقتسمين: أهل الكتابين.. وجائز أن يكون عنى بذلك: المشركين من قريش، لأنهم اقتسموا القرآن، فسماه بعضهم شعرا، وسماه بعضهم كهانة...
وجائز أن يكون عنى به الفريقين... وممكن أن يكون عنى به المقتسمين على صالح من قومه. لأنه ليس في التنزيل ولا في سنة رسول الله ﷺ ولا في فطرة العقل، ما يدل على أنه عنى به أحد الفرق الثلاثة دون الآخرين، وإذا فكل من اقتسم كتابا لله بتكذيب بعض وتصديق بعض، كان داخلا في هذا التهديد والوعيد... «٢».
ثم أكد- سبحانه- هذا التهديد والوعيد فقال: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.
(٢) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٢٣.
والفاء هنا متفرعة على ما سبق تأكيده في قوله وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ... إذ في هذا اليوم يكون سؤالهم.
والواو للقسم، أى: فوحق ربك- أيها الرسول الكريم- الذي خلقك فسواك فعدلك، لنسألن هؤلاء المكذبين جميعا، سؤال توبيخ وتقريع وتبكيت، عما كانوا يعملونه في الدنيا من أعمال قبيحة: وعما كانوا يقولونه من أقوال فاسدة، ثم لننزلن بهم جميعا العقوبة المناسبة لهم.
فالمقصود من هذه الآية الكريمة زيادة التسلية للرسول ﷺ وتأكيد التهديد للمشركين.
ثم أمر- سبحانه- رسوله ﷺ بأن يمضى في طريقه، وأن يجهر بدعوته وأن يعرض عن المشركين، فقد كفاه- سبحانه- شرهم فقال- تعالى-: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
وقوله فَاصْدَعْ.. من الصدع بمعنى الإظهار والإعلان. ومنه قولهم: انصدع الصبح، إذا ظهر بعد ظلام الليل والصديع الفجر لانصداعه أى ظهوره. ويقال: صدع فلان بحجته، إذا تكلم بها جهارا.
أى: فاجهر- أيها الرسول الكريم- بدعوتك، وبلغ ما أمرناك بتبليغه علانية، وأعرض عن سفاهات المشركين وسوء أدبهم.
قال عبد الله بن مسعود: ما زال النبي ﷺ مستخفيا بدعوته حتى نزلت هذه الآية.
فخرج هو وأصحابه، وقوله إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ تعليل للأمر بالجهر بالدعوة، بعد أن مكث ﷺ يدعو الناس إلى الإسلام سرا ثلاث سنين أو أكثر.
وقوله كَفَيْناكَ.. من الكفاية. تقول: كفيت فلانا المؤنة إذا توليتها عنه، ولم تحوجه إليها. وتقول: كفيتك عدوك أى: كفيتك بأسه وشره.
والمراد بالمستهزئين: أكابر المشركين في الكفر والعداوة والاستهزاء بالرسول ﷺ أى: إنا كفيناك الانتقام من المستهزئين بك وبدعوتك، وأرحناك منهم، بإهلاكهم. وذكر بعضهم أن المراد بهم خمسة من كبرائهم، وهم: الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والحارث بن عيطل، والعاص بن وائل: وقد أهلكهم الله جميعا بمكة، وكان هلاكهم العجيب من أهم الصوارف لأتباعهم عن الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الرازي: واعلم أن المفسرين قد اختلفوا في عدد هؤلاء المستهزئين، وفي أسمائهم، وفي كيفية طريق استهزائهم، ولا حاجة إلى شيء منها.
والقدر المعلوم أنهم طبقة لهم قوة وشوكة ورئاسة، لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على إظهار مثل هذه السفاهة، مع مثل رسول الله ﷺ في علو قدره، وعظم منصبه، ودل القرآن على أن الله- تعالى- أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم» «١».
ثم بين- سبحانه- أن هؤلاء المستهزئين قد أضافوا إلى ذلك الشرك والكفر فقال:
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ في عباداتهم وفي عقيدتهم.
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ما يترتب على ذلك في الآخرة من عذاب شديد لهم، بعد أن أهلكناهم في الدنيا وقطعنا دابرهم.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بتسلية أخرى له صلى الله عليه وسلم، وبإرشاده إلى ما يزيل همه. ويشرح صدره، فقال- تعالى-: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ.
وضيق الصدر: كناية عن كدر النفس، وتعرضها للهموم والأحزان.
أى: ولقد نعلم- أيها الرسول الكريم- أن أقوال المشركين الباطلة فيك وفيما جئت به من عندنا، تحزن نفسك، وتكدر خاطرك.
وقال- سبحانه- وَلَقَدْ نَعْلَمُ.. بلام القسم وحرف التحقيق، لتأكيد الخبر، وإظهار مزيد الاهتمام والعناية بالمخبر عنه ﷺ في الحال والاستقبال.
والفاء في قوله فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ... واقعة في جواب شرط.
والتسبيح لله- تعالى- معناه: تنزيهه- عز وجل- عن كل ما لا يليق به.
والتحميد له- تعالى- معناه: الثناء عليه بما هو أهله من صفات الكمال والجلال.
أى: إن ضاق صدرك- أيها الرسول الكريم- بسبب أقوال المشركين القبيحة، فافزع إلينا بالتسبيح والتحميد، بأن تكثر من قول سبحان الله، والحمد لله.
قال بعض العلماء: فهذه الجملة الكريمة قد اشتملت على الثناء على الله بكل كمال لأن الكمال يكون بأمرين:
أحدهما: التخلي عن الرذائل، والتنزه عما لا يليق، هذا معنى التسبيح.
والثاني: التحلي بالفضائل، والاتصاف بصفات الكمال، وهذا معنى الحمد.
فتم الثناء بكل كمال. ولأجل هذا المعنى ثبت في الصحيح عنه ﷺ أنه قال:
«كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم... » «١».
والمراد بالسجود في قوله- تعالى- وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ الصلاة. وعبر عنها بذلك من باب التعبير بالجزء عن الكل، لأهمّيّة هذا الجزء وفضله، ففي صحيح مسلم عن أبى هريرة- رضى الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء».
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة، أن ترتيب الأمر بالتسبيح والتحميد والصلاة على ضيق الصدر دليل على أن هذه العبادات، بسببها يزول المكروه بإذنه- تعالى-، وتنقشع الهموم... ولذا كان ﷺ إذا حزبه أمر لجأ إلى الصلاة.
وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث نعيم بن عمار- رضى الله عنه- أنه سمع النبي ﷺ يقول: قال الله- تعالى-: «يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار، أكفك آخره».
فينبغي للمسلم إذا أصابه مكروه أن يفزع إلى الله- تعالى- بأنواع الطاعات من صلاة وتسبيح وتحميد وغير ذلك من ألوان العبادات.
والمراد بالأمر بالعبادة في قوله تعالى وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ المداومة عليها وعدم التقصير فيها.
والمراد باليقين: الموت، سمى بذلك لأنه أمر متيقن لحوقه بكل مخلوق.
أى: ودم- أيها الرسول الكريم- على عبادة ربك وطاعته ما دمت حيا، حتى يأتيك الموت الذي لا مفر من مجيئه في الوقت الذي يريده الله- تعالى-.
ومما يدل على أن المراد باليقين هنا الموت قوله- تعالى- حكاية عن المجرمين: قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ. وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ أى: الموت.
ويدل على ذلك أيضا ما رواه البخاري عن أم العلاء أن رسول الله ﷺ لما دخل على
عثمان بن مظعون وقد مات، قالت: قلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتى عليك لقد أكرمك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله قد أكرمه... أما هو فقد جاءه اليقين- أى الموت- وإنى لأرجو له الخير» «١».
قال الإمام ابن كثير: ويستدل بهذه الآية الكريمة، على أن العبادة كالصلاة ونحوها، واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا، فيصلى بحسب حاله، كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين أن رسول الله ﷺ قال «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب».
ويستدل بها أيضا على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة، سقط عنه التكليف عندهم. وهذا كفر وضلال وجهل... » «٢».
وبعد: فهذه سورة الحجر، وهذا تفسير لها. نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. محمد طنطاوى المدينة المنورة في ٦ من جمادى الثانية سنة ١٤٠٢
(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٧٢.
تفسير سورة النّحل
صفحة رقم 87
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدّمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه.أما بعد: فقد سبق لي- بحمد الله وتوفيقه- أن قمت بتفسير سور: الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر.
وها أنا ذا أقدم للقارئ الكريم تفسير سورة «النحل»، وقد حاولت فيه أن أكشف عما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات سامية، وآداب عالية، وإرشادات حكيمة، ومجادلات بالتي هي أحسن.
وقد مهدت لتفسيرها بكلمة، بينت فيها زمان نزولها، وعدد آياتها. وسبب تسميتها بهذا الاسم، والمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها.
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، ونافعا لعباده، وشفيعا لنا يوم نلقاه- سبحانه-.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المؤلف د. محمد سيد طنطاوى صفحة رقم 89
تعريف بسورة النحل
١- سورة النحل هي السورة السادسة عشرة في ترتيب المصحف، فقد سبقتها سور:
الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر.
أما في ترتيب النزول، فكان ترتيبها التاسعة والستين، وكان نزولها بعد سورة الكهف «١».
٢- وعدد آياتها ثمان وعشرون ومائة آية.
٣- وسميت بسورة النحل، لقوله- تعالى- فيها وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً... «٢».
وتسمى- أيضا- بسورة النعم، لأن الله- تعالى- عدد فيها أنواعا من النعم التي أنعم بها على عباده.
٤- وسورة النحل من السور المكية: أى التي كان نزولها قبل الهجرة النبوية الشريفة.
قال القرطبي: «وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده. وقيل: هي مكية إلا قوله- تعالى- وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ.. الآية. نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد..» «٣».
وقال الآلوسى: وأطلق جمع القول بأنها مكية، وأخرج ذلك ابن مردويه عن ابن عباس، وابن الزبير- رضى الله عنهم- وأخرجه النحاس من طريق مجاهد عن الحبر أنها نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها، فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف النبي- صلى الله عليه وسلم- من غزوة أحد «٤».
والذي تطمئن إليه النفس، أن سورة النحل كلها مكية، وذلك لأن الروايات التي ذكروها
(٢) الآية رقم ٦٨.
(٣) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٦٥.
(٤) تفسير الآلوسى ج ١٤- ٨٩.
في سبب نزول قوله- تعالى-، وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ.. إلخ السورة، فيها مقال. فقد ذكر الإمام ابن كثير عند سردها، أن بعضها مرسل وفيه مبهم، وبعضها في إسناده ضعف.. «١».
٥- (أ) وإذا ما قرأنا سورة النحل بتدبر وتفكر، نراها في مطلعها تؤكد أن يوم القيامة حق، وأنه آت لا ريب فيه، وأن المستحق للعبادة والطاعة إنما هو الله الخالق لكل شيء.
قال- تعالى-: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ.
(ب) تم تسوق ألوانا من الأدلة على وحدانية الله وقدرته، عن طريق خلق السموات والأرض وخلق الإنسان والحيوان، وعن طريق إنزال الماء من السماء، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم.. وغير ذلك من النعم التي لا تحصى.
استمع إلى بعض هذه الآيات التي تحكى جانبا من هذه النعم فتقول: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
ثم تقول: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ. أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها، إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
(ج) وبعد أن توبخ السورة المشركين لتسويتهم بين من يخلق ومن لا يخلق تحكى جانبا من أقاويلهم الباطلة التي وصفوا بها القرآن الكريم، وتصور استسلامهم لقضاء الله العادل فيهم يوم الحساب، فتقول: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ.
إلى أن تقول: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ، بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ.
(د) وكعادة القرآن الكريم في قرنه الترهيب بالترغيب، وفي عقده المقارنات بين مصير المؤمنين ومصير الكافرين، جاءت الآيات بعد ذلك لتبشر المتقين بحسن العاقبة.
جاء قوله- تعالى-: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ.
(هـ) ثم تعود السورة الكريمة مرة أخرى إلى حكاية أقوال المشركين حول مسألتين من أخطر المسائل، وهما مسألة الهداية والإضلال، ومسألة البعث بعد الموت بعد أن حكت ما قالوه في شأن القرآن الكريم.
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى أقوالهم ثم يرد عليها بما يبطلها فيقول: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ. وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ، وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ، بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ.
(و) ثم تهدد السورة الكريمة أولئك الجاحدين لنعم الله، الماكرين للسيئات، بأسلوب يستثير النفوس ويبعث الرعب في القلوب، وتدعوهم إلى التأمل والتفكر في ملكوت السموات والأرض، لعل هذا التفكر يكون سببا في هدايتهم، وتخبرهم بأن الله- تعالى- هو الذي نهاهم عن الشرك، وهو الذي أمرهم بإخلاص العبادة له.
استمع إلى القرآن وهو يصور هذه المعاني بأسلوبه البديع فيقول: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ. وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ. وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ.
(ز) ثم انتقلت السورة إلى سرد أنواع من جهالات المشركين، ومن سوء تفكيرهم،
حتى يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، ويشكروا الله- تعالى- على توفيقه إياهم إلى الدخول في الإسلام.
لقد ذكرت السورة الكريمة ألوانا متعددة من جهالات الكافرين، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ، تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ. وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ.
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ، وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ.
(ح) هكذا تصور سورة النحل ما كان عليه المشركون من غباء وغفلة وسوء تفكير، ثم تعود- سورة النعم- مرة أخرى إلى الحديث عن نعم الله- تعالى- على عباده، فتتحدث عن نعمة الكتاب، وعن نعمة الماء، وعن نعمة الأنعام، وعن نعمة الثمار والفواكه، وعن نعمة العسل المتخذ من بطون النحل وعن نعمة التفاضل في الأرزاق، وعن نعمة الأزواج والبنين والحفدة.
قال- تعالى-: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً، نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ.
إلى أن يقول- سبحانه-: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ.
(ط) ثم تسوق السورة الكريمة مثلين مشتملين على الفرق الشاسع، بين المؤمن والكافر، وبين الإله الحق والآلهة الباطلة، فتقول: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً، هَلْ يَسْتَوُونَ؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
(ى) وبعد إيراد هذين المثلين البليغين، تعود سورة النعم إلى الحديث عن أنواع أخرى من نعم الله على خلقه، لكي يشكروه عليها، ويستعملوها فيما خلقت له فتتحدث عن نعمة إخراج الإنسان من بطن أمه، وعن نعمة البيوت التي هي محل سكن الإنسان، وعن نعمة الظلال، وعن نعمة الجبال، وعن نعمة الثياب.
قال- تعالى-: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ، وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها، أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً، وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ، كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ.
(ك) ثم بعد أن تصور السورة الكريمة أحوال المشركين يوم القيامة عند ما يرون العذاب، وتحكى ما يقولون عند ما يرون شركاءهم، وتقرر أن الله يبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- سيكون شهيدا على من بعث إليهم.
بعد كل ذلك تسوق السورة الكريمة عددا من الآيات الآمرة بمكارم الأخلاق والناهية عن منكراتها فتقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ.
(ل) وبعد هذه التوجيهات السامية المشتملة على الترغيب والترهيب، وعلى الأوامر والنواهي. تتحدث آيات السورة عن آداب تلاوة القرآن وعن الشبهات التي أثارها المشركون حوله مع الرد عليها بما يدحضها، وعن حكم من تلفظ بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، فتقول: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ.
ثم تقول: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.
ثم تقول: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
(م) ثم تعود السورة الكريمة لضرب الأمثال، فتسوق مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم بالنعم فلم يقابلوها بالشكر، فانتقم الله- تعالى- منهم. كما تسوق جانبا من حياة سيدنا إبراهيم كمثال للشاكرين الذين استعملوا نعم الله فيما خلقت له.
استمع إلى قوله- تعالى-: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ.
ثم إلى قوله- تعالى-: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
(ن) وأخيرا تختتم السورة الكريمة بتلك الآيات الجامعة لأحكم الأساليب وأكملها وأجملها وأ نجمعها في الدعوة إلى الله- تعالى- وفي معاملة الناس فتقول: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.
٦- وبعد، فهذا عرض إجمالى لأهم المقاصد التي اشتملت عليها السورة الكريمة، ومنه نرى:
(أ) عنايتها الفائقة بإقامة الأدلة على وحدانية الله- تعالى- وعلى صدق رسوله محمد ﷺ في دعوته، وعلى أن يوم القيامة حق، وعلى أن القرآن من عند الله- عز وجل.
(ب) كما نرى تفصيلها القول في بيان آلاء الله- تعالى- على خلقه، وقد سبحت السورة في هذا الجانب سبحا عظيما، فذكّرت الإنسان بنعمة خلقه، وبنعمة تسخير الأنعام والشمس، والقمر، والنجوم، والماء، والجبال، والأشجار.. كل ذلك وغيره لمنفعته ومصلحته.
(ج) كما نلمس اهتمامها بضرب الأمثال للمؤمن والكافر، والشاكر والجاحد والإله الحق والآلهة الباطلة.. وذلك لأن في ضرب الأمثال تقريبا للبعيد وتوضيحا للخفى، بأسلوب من شأنه أن يكون أوقع في القلوب، وأثبت في النفوس وأدعى إلى التدبر والتفكر.
(د) كما ندرك حرصها على إيراد أقوال المشركين وشبههم! ثم الرد عليها بطريقة تقنع العقول، وترضى العواطف، بأن الإسلام هو الدين الحق، وبذلك يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم.
(هـ) كما نحس- عند قراءتها- بعنايتها بتوجيه المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، وأمهات الفضائل، كالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، والوفاء، والصبر، والشكر... وبنهيهم عن الرذائل كالغدر والجحود، ونقض العهود، والاستكبار، والظلم.
وأخيرا فإن المتأمل في هذه السورة- أيضا- يراها حافلة بأسلوب الترغيب والترهيب، والتبشير والإنذار، والوعد والوعيد.
الوعيد للكافرين بسوء المصير إذا ما لجوا في ضلالهم وطغيانهم كما في قوله- تعالى-:
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ.
والوعد للمؤمنين بالحياة الطيبة في الدارين، كما في قوله- تعالى-: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
والآن فلنبدأ في التفسير التحليلى لسورة النعم، ونسأل الله- تعالى- أن يرزقنا التوفيق والسداد.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.