آيات من القرآن الكريم

قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ
ﭺﭻﭼﭽ

لهم، وفضائله التي أكرمهم بها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: خلق الأعداء نظرًا للأولياء على ما ذكرنا، لكن من وجه آخر، وأصله أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جائز أن ينشئ أشياء فيها حكمة وسرية؛ لا يبلغها علم الخلق، ولا يدركها حكمة البشر، على ما جعل النعم الظاهرة فيها - حكمة معنى لا يبلغه علم الخلق؛ ولا حكمة البشر، وكذلك البلايا والشدائد فيها حكمة لا يبلغها علم الخلق، فعلى ذلك جائز أن خلق إبليس، وعُصاة الخلق؛ لحكمة جعل في ذلك؛ حكمة لا يبلغها علم الخلق، ولا يدركها حكمة البشر، على ما ذكرنا: من النعمة الظاهرة؛ والشدائد الظاهرة، وأصله أن اللَّه تعالى خلق الخلق على علم منه أنهم يعصون؛ ويعاندون، لكن مكن لهم من الاختيار والإيثار - ما به نجاتهم وهلاكهم؛ إذا اختاروا ذلك، فإذا اختاروا ما به نجاتهم - نجوا، وإذا اختاروا ما به هلاكهم - هلكوا، فيكون هلاكهم باختيارهم، ونجاتهم باختيارهم. وأصله: ما ذكرنا في غير موضع؛ أنه أنشأهم في هذه الدنيا؛ ليمتحنهم فيها، وفي خلق ما ذكر: من إبليس؛ وغيره من الأعداء؛ ليتم لهم المحنة، وفي ترك خلق ذلك ذهاب المحنة؛ وهي دار الامتحان.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨)
قال بعض أهل التأويل: إلى النفخة الأولى وقيل: إلى النفخة الثانية، ونحوه. لكنا لا نعلم ذلك، وكأنه تعالى أنظره إلى الوقت المعلوم؛ ولم يبين له ذلك الوقت، ولم يطلعه عليه؛ حيث قال: (وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ...) أخبر أنه يرى ما لا يرون هم، وأنه يخاف اللَّه، ولو كان بيّن له الوقت المعلوم - لكان لا يخاف هلاكه قبل ذلك الوقت، فهذا يدل على ما ذكرنا. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ... (٣٩)
قال الحسن: قوله: (بِمَا أَغْوَيْتَنِي): أي: لعنتني. وهذا منه احتيال وفرار عن مذهب

صفحة رقم 440

الاعتزال، وما يلزمهم في قوله: (أَغْوَيْتَنِي) يلزم في قوله: لعنتني؛ لأن اللعن: هو الطرد؛ فإذا طرده عن رحمته - فقد خذله، فالطرد والإغواء والإضلال سواء؛ فيلزم في اللعن ما يلزمهم في الإغواء.
وقال أبو بكر الأصم: الإغواء واللعن من اللَّه: شتم، لكن هذا بعيد، لا يجوز أن يضاف إلى اللَّه الشتم أنه يشتم؛ لأن الشاتم والساب لآخر - في الشاهد بما يشتمه - مذموم عند الخلق؛ فلا يجوز أن يضاف إلى اللَّه ما به يذم. وأصله: أن قوله: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) يحتمل أنه خلق فعل الغواية منه أو أغواه؛ لما علم أنه يختار الغواية والضلال.
وقوله: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ): كأنه يقول: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزيدن لهم في الغواية بما أغويهم، وقد ذكرنا هذا وأمثاله فيما تقدم.
فَإِنْ قِيلَ: قوله: (أَغْوَيْتَنِي) قول إبليس؛ وهو كاذب بالإضافة إليه. قيل: لو كان فيما أضاف إليه الإغواء كاذبًا لكذبه فيه، ورد عليه قوله، كما كذبه في قوله ورد عليه: أنا خير منه خلقتني من كذا وخلقته من كذا؛ حيث قال: (فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا)، فلما لم يرد عليه؛ ولم يكذبه فيما أضاف إليه حرف الإغواء دل أن إضافة الإغواء إليه، والإضلال حقيقة أو أن يكون قوله: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) إنما ذلك منه ذكر فضله وإحسانه؛ حيث أخبر أنه خلفه مما هو أفضل وأعظم مما خلق آدم؛ فيخرج ذلك منه مخرج الشكر. وأما قوله: (أَغْوَيْتَنِي) ليس على ذلك، فلا يحتمل ألا يكذبه، ولا يرد عليه قوله إذا كان كاذبًا فيه؛ لأنه فعل شر أضافه إليه، إذا لم يكن منه الإغواء؛ لذلك اختلفا، أو لو كان قول إبليس - لعنه اللَّه - كذبًا فما تصنعون بقول نوح - عليه السلام - حيث قال: (إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ)، وقول موسى: (فَلَمََّا زَاغُوا أَزَاغَ اللََّهُ قُلُوبَهُم).
ثم قوله: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) يحتمل أن يكون منه عزم على ما ذكر، دون أن تفوّه بذلك، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عنه ما كان عزم؛ من الإغواء وغيره بالقول، وذلك جائز؛ يخبر عن العزم والقصد بالقول؛ كقوله: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) لا يحتمل أن يكون هذا القول الذي أخبر عنهم قولا منهم؛ لأنه لا أحد من المتصدقين يقول بمثل ذلك عند

صفحة رقم 441
تأويلات أهل السنة
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي
تحقيق
مجدي محمد باسلوم
عدد الأجزاء
1