قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني﴾ يحتمل أن يكون سبعاً من الآيات، وأن يكون سبعاً من السُّورِ، وأن يكون سبعاً من الفوائد، وليس في اللفظ ما يدلُّ على التَّعيين.
صفحة رقم 485
والثاني: صيغة جمع، واحدة مثناةُ، والمثناةُ: كل شيءٍ يُثَنَّى، وأي: يجعل اثنين من قولك: ثَنَيْت الشَّيء ثَنْياً، أي: عَطفْتهُ، أو ضممت إليه آخر، ومنه يقال لرُكْبتَي الدَّابة ومِرْفقَيْهَا مثانِي؛ لأنها تثنى بالفخذ، والعضد؛ ومثاني الوادي معاطفه.
وإذا عرف هذا، فقوله: ﴿سَبْعاً مِّنَ المثاني﴾ مفهومه سبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثنى، وهذا القدر مجملٌ، ولا سبيل إلى تعيينه، إلا بدليلٍ منفصلٍ، وللنَّاس فيه أقوال:
أحدها: قال عمرُ، وعليٌّ، وابن مسعودٍ، وأبو هريرة، والحسن، وأبو العالية، ومجاهدٌ والضحاك، وسعيد بن جبير، وقتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: إنه فاتحة الكتاب.
روى أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرأ فاتحة الكتاب، وقال:» هِيَ السَّبْعُ المَثانِي «.
وإنَّما سمِّيت بالسَّبع؛ لأنها سبعُ آياتٍ، وفي تمسيتها بالمثاني وجوه:
أولها: قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما والحسن، وقتادة لا، ها تثنى في الصلاة، فتقرأ في كلِّ ركعةٍ.
ثانيها: قال الزجاج: لأنَّها تثنى مع ما يقرأ معها.
وثالثها: لأنها قسمت قسمين: نصفها ثناءُ، ونصفها دعاءٌ، كما ورد في الحديث المشهور.
ورابعها: قال الحسين بن الفضل: لأنَّها نزلت مرَّتين، مرة بمكَّة، ومرة بالمدينة.
وخامسها: لأنَّ كلماتها مثناة، مثل: ﴿الرحمن الرحيم مالك يَوْمِ الدين إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين﴾ [الفاتحة: ٣٧].
وفي قراءة عمر: (غير المغضوب عليهم وغير الضالين).
نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنَّه قال: كان ابن مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لا يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب؛ رأى أنَّها ليست من القرآن.
قال ابن الخطيب:» لعلَّ حجَّته أنه عطف السَّبع المثاني على القرآن والمعطوف مغاير للمعطوف عليه؛ فوجب أن تكون غير القرآن العظيم «، ويشكل هذا بقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ﴾ [الأحزاب: ٧]، وكذلك قوله تعالى: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨].
وللخَصْم أن يجيب بأنه يجوز أن يذكر الكلَّ، ثمَّ يعطف عليه ذكر بعض أقسامه لكونه أشرف الأقسام، وأمَّا إذا ذكر شيءٌ ِآخر كان المذكور أولاً مغايراً للمذكور ثانياً، وها هنا ذكر سبع المثاني. ثم عطف عليه القرآن فوجب التغاير.
ويجاب عليه: بأنَّ بعض الشَّيء مغاير لمجموعه، فلم لا يكفكي هذا القدر من المغايرة في حسن العطف؟.
واعلم أنَّه لمَّا كان المراد بالسَّبع المثاني هو الفاتحة؛ دلَّ على أنَّها أفضل سور القرآن، لأن إفرادها بالذِّكر مع كونها جزءاً من القرآن؛ يدلُّ على مزيد اختاصها بالفضلية، وأيضاً: لما أنزلها مرَّتين دلَّ ذلك على أفضليتها، وشرفها، ولما واظب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على قرءاتها في جميع الصلوات طول عمره، وما أقام [سورة أخرى] مقامها في شيءٍ من الصلوات، دل على على وجوب قراءتها، وألاَّ يقوم شيء من القرآن مقامها.
القول الثاني: السَّبع المثاني: هي السبع الطوال، قاله ابن عمر، وسعيد بن جبيرٍ في بعض الروايات عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وإنما سميت السبع الطوال مثاني؛ لأنَّ الفرائض، والحدود، والأمثال والخبر، والعبر ثنيت فيها.
وأنكر الربيع هذا القول، وقال: الآيةُ مكية، وأكثر هذه السورة مدنيَّة، وما نزل منها من شيءٌ في مكَّة، فكيف تحمل هذه الآية عليها؟.
وأجاب قومٌ عن هذا بأنه تعالى جلَّ ذكره أنزل القرآن كلَّه إلى سماءِ الدنيا، ثم أنزل على نبيه منه نجوماً، فلمَّا أنزله إلى سماءِ الدُّنيا، وحكم بإنزاله عليه فهو جملة من آتاه، وإن لم ينزل عليه بعدُ.
وفي هذا الجواب نظرٌ، فإن قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني﴾ ذكره في [معرض] الامتنان، وهذا الكلامُ إنَّما يصدق، إذا وصل ذلك إلى محمَّدٍ صلوات الله وسلامه عليه فأمَّا ما لم يصله بعد، فلا يصدق ذلك عليه.
وأما قوله: إنه لما حكم بإنزاله على محمد، كان ذلك جارياً مجرى ما نزل عليه، فضعيف؛ لأنَّ إقامة مالم ينزل عليه مقام النَّازل عليه مخالف للظَّاهرِ.
القول الثالث: أنَّ السَّبع المثاني: هون القرآن، وهو منقولٌ عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ
عَنْه في بعض الروايات، وهوق ول طاوس رضي الكله عنه لقوله تعالى: ﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ﴾ [الزمر: ٢٣] فوصف كلَّ القرآن بكونه مثاني؛ لأنه كرَّر فيه دلائل التَّوحيدِ، والنبوَّة، والتَّكاليف.
قالوا: وهو ضعيف؛ لأنه لو كان المراد بالسَّبع المثاني القرآن لكان قوله: ﴿والقرآن العظيم﴾، عطفاً على نفسه، وذلك غير جائزٍ.
وأجيب عنه: بأنه إنَّما حسن العطف فيه لاختلاف اللفظين؛ كقول الشاعر:
٣٢٩١ - إلى المْلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمامِ | وليْثِ الكَتِيبَةِ في المُزدحَم |
القول الرابع: أنه يجوز أن يكون المراد بالسبع الفاتحة، وبالمثاني كل القرآن، ويكون التقدير: ولقد آتيناك سبع آياتٍ هي الفاتحة، وفي من جملة المثاني الذي هو القرآن، وهذا عين الأول.
و «مِن» في قوله: «مِنَ المثَانِي».
قال الزجاج رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون للتبعيض من القرآن، أي: ولقد آتيناك سبع آياتٍ من جملة الآيات التي يثنى بها على الله، وآتيناك القرآن العظيم.
ويجوز أن تكون «مِن» صفة، والمعنى: أتيناك سبعاً هي المثاني، كقوله تعالى:
﴿فاجتنبوا
الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: ٣٠]، أي اجتنبوا الأوثان؛ لان بعضها رجس.
قوله: «والقرآن» فيه أوجه:
أحدها: أنه من عطف بعض الصفات على بعض، أي: الجامع بين هذه النعتين.
الثاني: أنه من عطف العام على الخاص، إذ المراد بالسَّبع: إمَّا الفاتحة، أو الطوال، فكأنه ذكر مرتين بجهة الخصوص، ثم باندراجه في العموم.
الثالث: أنَّ الواو مقحمة، وقرىء «وَالقُرآنِ» بالجر عطفاً على: «المَثَانِي».
قوله تعالى: ﴿لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا﴾ الآية لما عرف رسوله عظيم نعمه عليه فما يتعلق بالدِّين، وهو أنه تعالى آتاه سبعاً من المثاني، والقرآن العظيم نهاه عن الرغبة في الدنيا فقال: ﴿لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾، أي لا تشتغل سرك، وخاطرك بالالتفات إلى الدينا، وقد أوتيت القرآن العظيم.
قال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «مَنْ أوتِي القرآن فرَأى أنَّ أحَداً أوتِي مِنَ الدنيَا أفضل صفحة رقم 488
ممَّا أوتِي، فقَد صَغَّرَ عَظِيماً وعَظَّمَ صَغِيراً». وتأوَّل سفيان بن عيينة هذه الآية بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ليْسَ مِنَّا من لمْ يتغنَّ بالقُرآنِ» أي لم يستغن.
وقال ابن [عبَّاسٍ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ»، أي لا تتمنّ ما فضلنا به أحداً من متاع الدُّنيا.
وقرَّر الواحديُّ هذا المعنى فقال: «إنَّما يكون مادًّا عينيه إلى الشيء، إذا أدام النَّظر نحوه، وإدامةٌ النَّظر إلى الشَّيء تدلُّ على استحسانه، وتمنِّيه، وكان النبي صلى لله عليه وسلم لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا».
وروي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «نظر إلى نَعَم بَنِي المُصطلقِ، وقد [عَبِسَتْ] في أبْوالِهَا، وأبْعارِهَا؛ فَتٌنَّعَ في ثَوْبهِ؛ وقَرأ هذِه الآية».
قوله: «عَبِستْ في أبْوالِهَا وأبْعَارِهَا» هون أن تجف أبعارها، وأبوالها على أفخاذها، إذا تركت من العمل أيَّام الربيع؛ فيكثر شحومها، ولحومها، وهي أحسن ما تكون.
قوله: ﴿أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ﴾.
قال ابن قتيبة: أي أصنافاً من الكُفَّار، والزَّوْجُ في اللغة: الصِّنف ﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ ؛ لأنهم لم يؤمنوا لم يؤمنوا، فيتقوى بإسلامهم، ثم قال عَزَّ وَجَلَّ ﴿واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾.
الخفض: معناه في اللغة: نقيض الرفع، ومنه قوله تعالى في وصف القيامة ﴿خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ﴾ [الواقعة: ٣]، أي: أنَّها تخفض أهل المعاصي، وترفع أهل الطَّاعة، وجناح الإنسان: يدهُ.
قال الليثُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يد الإنسان: جناحه، قال تعالى: ﴿واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب﴾ [القصص: ٣٢]، وخفض الجناح كناية عن اللِّين، والرّفقِ، والتَّواضع، والمقصود: أنه نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء من الكفار، وأمره بالتَّواضع لفقراءِ المؤمنين [ونظيره] ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين﴾ [المائدة: ٥٤]، وقوله: ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩].
قوله: ﴿وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين﴾ لما أمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالزُّهدِ في الدنيا، وخفض الجناح للمؤمنين، أمره أن يقول للقوم: ﴿أَنَا النذير المبين﴾، وهذا يدخل تحته كونه مبلغاً لجميع التَّكاليف، وكونه [شارحاً لمراتب] الثَّواب والعقاب، والجنَّة والنَّار،
ومعنى «المَبِين» الآتي بجميع البيِّنات الوافية.
قوله
: ﴿الذين
جَعَلُواْ
القرآن
عِضِينَ
﴾ فيه أقوال:
أحدها: أنََّ الكاف [تتعلق] ب «آتَيْنَاكَ»، وإليه ذهب الزمشخريُّ فإنه قال: «أنزلنا عليك»، مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب، وهم المقتسمون: ﴿كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين﴾.
الثاني: أنه نعت لمصدر محذوف منصوب ب «آتَيْنَاكَ» تقديره: آتيناك إتياناً كما أنزلنا.
الثالث: أنه منصوب نعت لمصدر محذوف، ولكنَّه ملاق ل «آتيْنَاكَ» ومن حيث المعنى لا من حيث اللفظ، تقديره: أنزلنا إليك إنزالاً كما أنزلنا؛ لأنَّ «آتَيْنَاكَ» بمعنى أنزلنا إليك.
الرابع: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف، والعامل فيه مقدَّر أيضاً، وتقديره: ومتعناهم تمتيعاً كما أنزلنا، والمعنى: نعمنا بعضهم كما عذَّبنا بعضهم. الخامس: أنه صفة لمصدر دلَّ عليه التقدير، والتقدير: أنا النَّذير إنذاراً كما أنزلنا، أي: مثل ما أنزلنا.
السادس: أنه نعتٌ لمفعول محذوف، النَّاصب له: «النَّذيرُ»، تقديره: النَّذيرُ عذاباً ﴿كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين﴾ وهم قوم صالح؛ لأنهم قالوا: «لنُبَيتنَّه» وأقسموا على ذلك، أو يراد بهم قريش حين قسموا القرآن إلى سحرٍ، وشعرٍ، وافتراءٍ.
وقد ردَّ بعضهم هذا: بأنه يلزم منه إعمال الوصف موصوفاً، وهو غير جائز عند البصريين جائز عند الكوفيين، فلو عمل ثمًَّ وصف جاز عند الجمعي.
السابع: أنَّه مفعول به ناصبه: «النَّذيرُ» أيضاً.
قال الزمخشريُّ: «والثاني: أن يتعلق بقوله: ﴿وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين﴾، أي: وأنذر قريشاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين، يعني اليهود، وما جرى على بني قريظة، والنضيرِ».
وهذا مدرودٌ بما تقدَّم من إعمال الوصف موصوفاً.
قال ابن الخطيب: وهذا الوجه لا يتمُّ إلاَّ بأحد أمرين: إمَّا التزامُ إضمارٍ، ِأو التزام حذفٍ.
أمَّا الإضمار فهو أن يكون التقدير: إني أنا النذير [المبين] عذاباً، كما أنزلنا على المقتسمين، وعلى هذا الوجه: المفعول محذوف، وهو المشبه، ودلَّ عليه المشبه به، كما
تقول: رأيت كالقمر في الحسن، أي: رأيت إنساناً كالقمرِ في الحسن، وأمَّا الحذف، فهو أن يقال: الكاف زائدة محذوفة، والتقدير: إني أنا النذير [المبين ما] أنزلناه على المقتسمين، وزيادة الكاف له نظير، وهو قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١].
الثامن: أنه منصوب نعتاً لمفعولٍ به مقدرب، والناصب لذلك المحذوف مقدرٌ أيضاً لدلالة لفظ «النَّذِير» عليه، أي: أنذركم عذاباً مثل العذاب المنزَّل على المقتسمين، وهنم قوم صالحٍ، أو قريش، قاله أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ وكأنه فرَّ من كونه منصوباً بلفظ «النَّذير» كما تقدَّم من الاعتراض البصريّ.
وقد ردَّ ابن عطية على القول السادس بقوله: والكاف في قوله: «كَمَا» متعلقة بفعلٍ محذوفٍ، تقديره: وقل إنِّي أنا النذير المبين عذاباً كما أنزلنا، فالكاف: اسم في موضعِ نصبٍ، هذا قول المفسِّرين.
وهو غير صحيح؛ لأنَّ: «كما أنزلنا» ليس ممَّا يقوله محمد صلوات الله وسلامه عليه بل هو من كلام الله تعالى فيفصل الكلام، وإنَّما يترتب هذا القول بأن يقدر أن الله تعالى قال له: أنذر عذاباً كما.
والذي أقول في هذا المعنى: «وقل إنّي أنا النذيرُ المبين كما قال قلبك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك».
ويحتمل أن يكون المعنى: وقل: إنِّي أنا النذيرُ المبينُ، كما قد أنزلنا في الكتب أنَّك ستأتي نذيراً على أن المقتسمين، هم أهل الكتاب، وقد اعتذر بعضهم عمَّا قاله أبو محمد فقال: الكاف متعلقة بمحذوف دلَّ عليه المعنى، تقديره: أنا النذير بعذاب مثل ما أنزلنا، وإن كان المنزل الله، كما تقول بعض خواصِّ الملكِ: أ/رنا بكذا، وإن كان الملك هو الآمرُ.
وأما قول أبي محمدٍ: «وأنزلنا عليهم، كما أنزلنا عليك» ؛ كلامٌ غير منتظم، ولعلَّ أصله: وأنزلنا عليك كما أنزلنا عليهم: ، كذا أصلحه أبو حيان. وفيه نظر، كيف يقدر ذلك، والقرآن ناطق بخلافه، وهو قوله: ﴿عَلَى المقتسمين﴾.
التاسع: أنه متعلق بقوله: «لنَسَألنَّهُمْ» تقديره: لنسألنَّهم أجمعين، مثل ما أنزلنا.
العاشر: أنَّ الكاف مزيدة، تقديره: أنا النذير ما أنزلناه على المقتسمين.
ولا بد من تأويل ذلك على أنَّ «ما» معفولٌ ب «النذير» عند الكوفيين، فإنَّهم يعملون الوصف للموصوف، أو على إضمار فعل لائقٍ أي: أنذركم ما أنزلناه كما يليق بمذهب البصريين.
الحادي عشر: أنه متعلق ب «قل»، التقدير: وقيل قولاً كما أنزلنا على المقتسمين أنك نذير لهم، فالقول للمؤمنين في النَّذارةِ كالقول للكفَّار المقتسمين؛ لئلا يظنُّوا أنَّ إنذارك للكفار مخالف لإنذار المؤمنين، بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة، تنذر المؤمن، كما تنذر الكافر، كأنه قال: أنا النذيرُ لكم، ولغيركم.
فصل
قال ابن عبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: المقتسمون: هم الَّذين اقتسموا طرق مكَّة يصدُّون النَّاس عن الإيمان برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقرب عددهم من أربعين.
وقال مقاتل بن سليمان رَحِمَهُ اللَّهُ: كانوا ستَّة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيَّام الموسم، فاقتسموا شعاب مكَّة، وطرقها يقولون لمن سلكها: لا تغتروا بالخارج منَّا، والمدعي للنبوَّة، فإنه مجنونٌ، وكانوا ينفِّرُونَ النَّاس عنه بأنه ساحرٌ، أو كاهنٌ، أو شاعرٌ، فطائفة منهم تقول: ساحرٌ، ، وطائفة تقول: إنه كاهنٌ، وطائفة تقول: إنه شاعرٌ، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ بهم خزياً؛ فماتوا أشدَّ ميتة.
وروي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنهم اليهود، والنصارى ﴿جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ﴾ جزءوه أجزاء، فآمنوا بما وافق التَّوراة، وكفروا بالباقي.
وقال مجاهد: قسموا كتاب الله تعالى ففرقوه، وبدلوه.
وقيل: قسَّموا القرآن، وقال بعضهم: سحر، وقال بعضهم: شعر، وقال بعضهم: كذبٌ، وقال بعضهم: ِأساطير الأولين.
وقيل: الاقتسام هو أنهم فرَّقوا القول في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال بعضهم: شاعرٌ، وقال بعضهم: كاهنٌ.
قوله: ﴿الذين جَعَلُواْ﴾ فيه أوجه:
أظهرها: أنه نعت ل «المٌقْتَسمِينَ».
الثاني: أنه بدلٌ منه.
الثالث: أنه بيانٌ. صفحة رقم 492
الرابع: أنه منصوبٌ على الذَّمِّ.
الخامس: أنه خبر مبتدأ مضمرٍ.
السادس: أنه منصوب ب «النَّذيرُ المبِينُ» كما قاله الزمخشريُّ.
وهو مردود بإعمال الوصف بالموصوف عند البصريين كما تقدَّم.
و «عِضِينَ» جمع عِضَة، وهي الفرقة، والعِضِين: الفِرَق، وتقدم معنى جعله القرآن كذلك، ومعنى العِضَة: السِّحر بلغة قريش، يقولون: هو عَاضهُ، وهي عَاضِهَة، قال: [المتقارب]
٣٢٩٢ - أعُودذُ بِربِّي مِنَ النِّافِثَاتِ | في عٌقَدِ العَاضِهِ المُعْضهِ |
وقيل: هو من العِضَاه، وهو شجر له شوكٌ مؤذٍ، قاله الفرَّاء.
وفي لام «عِضَة» قولان يشهد لكلِّ منهنما التصريف:
الاول: الواو، لقولهم: عِضَوات، وعَاضَة، وعَاضِهَة، وعِضَة، وفي الحديث «لا تَعْضِية في مِيراثٍ»، وفسِّر: بأ، لا تفريق فيما يضر بالورثة تفريقه كسيفٍ يكسر نصفين فينقص ثمنه.
وقال الزمخشريُّ: «عِضِينَ» : أجزاء، جمع عِضَة، وأصلها عِضْوَة، فعلة من عضَّى الشاة، إذا جعلها أعضاءِ؛ قال: [الزاجر]
٣٢٩٣ - وليْسَ دِينُ اللهِ بالمُعَضَّى... وجمع «عِضَة» على «عِضِين»، كما جمع سنة، وثبة، وظبة وبعضهم يجري النون بالحركات مع التاء، وقد تقدم تقرير ذلك، وحينئذ تثبت نوه في الإضافة، فيقال: هذه عضينك.
وقيل: واحد العِضِين: عِضَةٌ، وأصلها: عِضْهَةٌ، فاستثقلوا الجمع بين هاتين، صفحة رقم 493
فقالوا: عِضَةٌ، كما قالوا: شَفَةٌ، والأصل: شَفْهَةٌ، بدليل قولهم: شافهنا.
قوله: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ يحتمل أن يعود الضمير إلى المقتسمين؛ لأن الأقرب، ويحتمل أن يعود إلى جميع المكلفين، لأنَّ ذكرهم تقدَّم في قوله تعالى: ﴿وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين﴾ أي: لجميع [الخلائق].
﴿عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ قال القرطبي: في البخاري: قال عدَّة من أهل العلم في وقوله تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ عن لا إله إلا الله.
فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ وبين قوله: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ﴾
[الرحمن: ٣٩].
فأجابوا بوجوه:
أولها: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: لا يسألون سؤال استفهامٍ؛ لأنه تعالى عالم بكلِّ أعمالهم، بل سؤال تقريع، فيقال لهم: لم فعلتم كذا؟.
وهذا ضعيد؛ لأنه لو كان المراد من قوله: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ﴾ [الرحمن: ٣٩] سؤال استفهام، لما كان في تخصيص هذا النفي بقولهم «يَومئِذٍ» فائدة؛ لأنَّ مثل هذا السؤال على الله محالٌ في كلِّ الأوقات.
وثانيها: أنه يصرف للنفي إلى بعض الأوقات، والإثبات إلى وقت آخر؛ لأنَّ يوم القيامة، يوم طويل، وفيه مواقف يسألون في بعضها، ولا يسألون في بعضها، قاله عكرمة عن ابن عباس ونظيره قوله تعالى: ﴿هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ﴾ [المرسلات: ٣٥]، وقال في آية أخرى: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ [الزمر: ٣١].
ولقائلٍ ِأن يقوله: قوله: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ﴾ [الرحمن: ٣٩] الآية: تصريحٌ بأنه لايحصل السؤال في ذلك اليوم، فلو حصل السؤال في جزء من أجزاء اليوم، لحصل التَّناقض.
وثالثها: أن قوله: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ﴾ [الرحمن: ٣٩] تفيد الآية النَّفي، وفي قوله ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ﴾ يعود إلى المقتسمين، وهذا خاص فيقدم على العام.
قوله: ﴿فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ﴾ أصل الصَّدع: الشَّقُّ، صدعته فانصدع، أي: شَقَقتهُ، فانْشَقّ.
قال ابن السكِّيت: الصَّدعُ في اللغة: الشَّقٌّ، والفصل؛ وانشد لجرير: [البسيط]
٣٢٩٤ - هذَا الخَليفَةُ فارضَوْا ما قَضَى لَكُمُ | بالحَقِّ يَصْدعُ ما فِي قَولهِ جَنَفُ |