
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ خِلْقَةَ الْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إلى خلقة الملائكة والسموات وَالْكَوَاكِبِ خِلْقَةٌ ضَعِيفَةٌ وَكَيْدُ النِّسْوَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَيْدِ الْبَشَرِ عَظِيمٌ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَأَيْضًا فَالنِّسَاءُ لَهُنَّ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الْمَكْرِ وَالْحِيَلِ مَا لَا يَكُونُ لِلرِّجَالِ وَلِأَنَّ كَيْدَهُنَّ فِي هَذَا الْبَابِ يُورِثُ مِنَ الْعَارِ مَا لَا يُورِثُهُ كَيْدُ الرِّجَالِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ لِلْقَوْمِ بَرَاءَةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُنْكَرِ حَكَى تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا فَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْعَزِيزِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ قَوْلِ الشَّاهِدِ، وَمَعْنَاهُ: أَعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ حَتَّى لَا يَنْتَشِرَ خَبَرُهَا وَلَا يَحْصُلَ الْعَارُ الْعَظِيمُ بِسَبَبِهَا، وَكَمَا أَمَرَ يُوسُفَ بِكِتْمَانِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ أَمَرَ الْمَرْأَةَ بِالِاسْتِغْفَارِ فَقَالَ: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ وَظَاهِرُ ذَلِكَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ، / وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الزَّوْجِ وَيَكُونُ مَعْنَى الْمَغْفِرَةِ الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْأَقْرَبُ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ الشَّاهِدُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنَ اللَّه، لِأَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ كَانُوا يُثْبِتُونَ الصَّانِعَ، إِلَّا أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ بِدَلِيلِ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يُوسُفَ: ٣٩] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ هُوَ الزَّوْجَ. وَقَوْلُهُ: إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ نِسْبَةٌ لَهَا إِلَى أَنَّهَا كَانَتْ كَثِيرَةَ الْخَطَأِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ عَرَفَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنَّ الذَّنْبَ لِلْمَرْأَةِ لَا لِيُوسُفَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ عَنْهَا إِقْدَامَهَا عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: إِنَّ ذَلِكَ لِزَوْجٍ كَانَ قَلِيلَ الْغَيْرَةِ فَاكْتَفَى مِنْهَا بِالِاسْتِغْفَارِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَإِنَّمَا قَالَ مِنَ الْخَاطِئِينَ بِلَفْظِ التَّذْكِيرِ، تَغْلِيبًا لِلذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ إِنَّكَ مِنْ نَسْلِ الْخَاطِئِينَ، فَمِنْ ذَلِكَ النَّسْلِ سَرَى هذا العرق الخبيث فيك. واللَّه أعلم.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١)
[في قوله تعالى وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِمَ لَمْ يَقُلْ: (وَقَالَتْ نِسْوَةٌ) قُلْنَا لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النِّسْوَةَ اسْمٌ مُفْرَدٌ لِجَمْعِ الْمَرْأَةِ وَتَأْنِيثُهُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْحَقْ فِعْلَهُ تَاءُ التَّأْنِيثِ، الثَّانِي: قَالَ الْوَاحِدِيُّ تَقْدِيمُ الْفِعْلِ يَدْعُو إِلَى إِسْقَاطِ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ عَلَى قِيَاسِ إِسْقَاطِ عَلَامَةِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُنَّ أَرْبَعٌ، امْرَأَةُ سَاقِي الْعَزِيزِ. وَامْرَأَةُ خَبَّازِهِ وَامْرَأَةُ صَاحِبِ سِجْنِهِ. وَامْرَأَةُ صَاحِبِ دَوَابِّهِ، وَزَادَ مُقَاتِلٌ وَامْرَأَةُ الْحَاجِبِ. وَالْأَشْبَهُ أَنَّ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ شَاعَتْ فِي الْبَلَدِ وَاشْتَهَرَتْ وَتَحَدَّثَ بِهَا النِّسَاءُ. وَامْرَأَةُ الْعَزِيزِ هِيَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الْمَعْلُومَةُ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ الْفَتَى الْحَدَثُ الشَّابُّ وَالْفَتَاةُ الْجَارِيَةُ الشَّابَّةُ قَدْ شَغَفَها حُبًّا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الشَّغَافَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّغَافَ جِلْدَةٌ مُحِيطَةٌ بِالْقَلْبِ يُقَالُ لَهَا غِلَافُ الْقَلْبِ يُقَالُ شَغَفْتُ فُلَانًا إِذَا أَصَبْتُ شَغَافَهُ كما تقول كبدته أي أصبت كيده فَقَوْلُهُ: شَغَفَها حُبًّا أَيْ دَخَلَ الْحُبُّ الْجِلْدَ حَتَّى أَصَابَ الْقَلْبَ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُبَّهُ أَحَاطَ بِقَلْبِهَا مِثْلَ إِحَاطَةِ الشَّغَافِ بِالْقَلْبِ، وَمَعْنَى إِحَاطَةِ ذَلِكَ الْحُبِّ بِقَلْبِهَا

هُوَ أَنَّ اشْتِغَالَهَا بِحُبِّهِ صَارَ حِجَابًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ كُلِّ مَا سِوَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ فَلَا تَعْقِلُ سِوَاهُ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهَا إِلَّا إِيَّاهُ.
وَالثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الشَّغَافُ حَبَّةُ الْقَلْبِ وَسُوَيْدَاءُ الْقَلْبِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ وَصَلَ حُبُّهُ إِلَى سُوَيْدَاءِ قَلْبِهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا كِنَايَةٌ عَنِ الْحُبِّ الشَّدِيدِ وَالْعِشْقِ الْعَظِيمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ شَعَفَهَا بِالْعَيْنِ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ شَعَفَهُ الْهَوَى إِذَا بَلَغَ إِلَى حَدِّ الِاحْتِرَاقِ، وَشَعَفَ الْهَنَاءُ الْبَعِيرَ إِذَا بَلَغَ مِنْهُ الْأَلَمُ إِلَى حَدِّ الِاحْتِرَاقِ، وَكَشَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: الشَّعَفُ بِالْعَيْنِ إِحْرَاقُ الْحُبِّ الْقَلْبَ مَعَ لَذَّةٍ يَجِدُهَا، كَمَا أَنَّ البعير إذا هنيء بِالْقَطْرَانِ يَبْلُغُ مِنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَسْتَرْوِحُ إليه. وقال ابن الأنباري: الشعف رؤوس الْجِبَالِ، وَمَعْنَى شُعِفَ بِفُلَانٍ إِذَا ارْتَفَعَ حُبُّهُ إِلَى أَعْلَى الْمَوَاضِعِ مِنْ قَلْبِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: حُبًّا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ فِي ضَلَالٍ عَنْ طَرِيقِ الرُّشْدِ بِسَبَبِ حُبِّهَا إِيَّاهُ كَقَوْلِهِ: إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يُوسُفَ: ٨].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَنَّهَا سَمِعَتْ قَوْلَهُنَّ وَإِنَّمَا سُمِّيَ قَوْلُهُنَّ مَكْرًا لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النِّسْوَةَ إِنَّمَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ الْكَلَامَ اسْتِدْعَاءً لِرُؤْيَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ لِأَنَّهُنَّ عَرَفْنَ أَنَّهُنَّ إِذَا قُلْنَ ذَلِكَ عَرَضَتْ يُوسُفَ عَلَيْهِنَّ لِيَتَمَهَّدَ عُذْرُهَا عِنْدَهُنَّ. الثَّانِي: أَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ أَسَرَّتْ إِلَيْهِنَّ حُبَّهَا لِيُوسُفَ وَطَلَبَتْ مِنْهُنَّ كِتْمَانَ هَذَا السِّرِّ، فَلَمَّا أَظْهَرْنَ السِّرَّ كَانَ ذَلِكَ غَدْرًا وَمَكْرًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُنَّ وَقَعْنَ فِي غِيبَتِهَا، وَالْغِيبَةُ إِنَّمَا تُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ الْخِفْيَةِ فَأَشْبَهَتِ الْمَكْرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ أَنَّهُنَّ يَلُمْنَهَا عَلَى تِلْكَ الْمَحَبَّةِ الْمُفْرِطَةِ أَرَادَتْ إِبْدَاءَ عُذْرِهَا فَاتَّخَذَتْ مَائِدَةً وَدَعَتْ جَمَاعَةً مِنْ أَكَابِرِهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً، وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُتَّكَأُ النُّمْرُقُ الَّذِي يُتَّكَأُ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُتَّكَأَ هُوَ الطَّعَامُ. قَالَ الْعُتْبِيُّ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَنْ دَعَوْتَهُ لِيَطْعَمَ عِنْدَكَ فَقَدْ أَعْدَدْتَ لَهُ وِسَادَةً تُسَمِّي الطَّعَامَ مُتَّكَأً عَلَى الِاسْتِعَارَةِ، وَالثَّالِثُ: مُتَّكَأً أُتْرُجًّا، وَهُوَ قَوْلُ وَهْبٍ وَأَنْكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا وَضَعَتْ عِنْدَهُنَّ أَنْوَاعَ الْفَاكِهَةِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. وَالرَّابِعُ: مُتَّكَأً طَعَامًا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُقْطَعَ بِالسِّكِّينِ، لِأَنَّ الطَّعَامَ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ احْتَاجَ الْإِنْسَانُ إِلَى أَنْ يُتَّكَأَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَطْعِ. ثُمَّ نَقُولُ: حَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّهَا دَعَتْ أُولَئِكَ النِّسْوَةَ وَأَعَدَّتْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَجْلِسًا مُعَيَّنًا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا أَيْ لِأَجْلِ أَكْلِ الْفَاكِهَةِ أَوْ لِأَجْلِ قَطْعِ اللَّحْمِ ثُمَّ إِنَّهَا أَمَرَتْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِنَّ وَيَعْبُرَ عَلَيْهِنَّ وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا قَدَرَ عَلَى مُخَالَفَتِهَا خَوْفًا مِنْهَا فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي أَكْبَرْنَهُ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَعْظَمْنَهُ. وَالثَّانِي: أَكْبَرْنَ بِمَعْنَى حِضْنَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ يُقَالُ أَكْبَرَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا حَاضَتْ، وَحَقِيقَتُهُ دَخَلَتْ فِي الْكِبَرِ لِأَنَّهَا بِالْحَيْضِ تَخْرُجُ مِنْ حَدِّ الصِّغَرِ إِلَى حَدِّ الْكِبَرِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا خَافَتْ وَفَزِعَتْ فَرُبَّمَا أَسْقَطَتْ وَلَدَهَا فَحَاضَتْ، فَإِنْ صَحَّ تَفْسِيرُ الْإِكْبَارِ بِالْحَيْضِ فَالسَّبَبُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ وقوله: وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ كِنَايَةٌ عَنْ دَهْشَتِهِنَّ وَحَيْرَتِهِنَّ، وَالسَّبَبُ فِي حُسْنِ هَذِهِ الْكِنَايَةِ أَنَّهَا لَمَّا دُهِشَتْ فَكَانَتْ تَظُنُّ أَنَّهَا تَقْطَعُ الْفَاكِهَةَ وَكَانَتْ تَقْطَعُ يَدَ نَفْسِهَا، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهَا لَمَّا

دُهِشَتْ صَارَتْ بِحَيْثُ لَا تُمَيِّزُ نِصَابَهَا مِنْ حَدِيدِهَا وَكَانَتْ تَأْخُذُ الْجَانِبَ الْحَادَّ مِنْ ذَلِكَ السِّكِّينِ بِكَفِّهَا فَكَانَ يَحْصُلُ الْجِرَاحَةُ فِي كَفِّهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُنَّ إِنَّمَا أَكْبَرْنَهُ بِحَسَبِ الْجَمَالِ الْفَائِقِ وَالْحُسْنِ الْكَامِلِ قِيلَ: كَانَ فَضْلُ يُوسُفَ عَلَى النَّاسِ فِي الْفَضْلِ وَالْحُسْنِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَرَرْتُ بِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْلَةَ عُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ هَذَا يُوسُفُ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّه كَيْفَ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ»
وَقِيلَ: كَانَ يُوسُفُ إِذَا سَارَ فِي أَزِقَّةِ مِصْرَ يُرَى تَلَأْلُؤُ وَجْهِهِ عَلَى الْجُدْرَانِ كَمَا يُرَى نُورُ الشَّمْسِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: كَانَ يُشْبِهُ آدَمَ يَوْمَ خَلَقَهُ رَبُّهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ يَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُنَّ إِنَّمَا أَكْبَرْنَهُ لِأَنَّهُنَّ رَأَيْنَ عَلَيْهِ نُورَ النُّبُوَّةِ وَسِيمَا الرسالة، وآثار الخضوع والاحتشام، وشاهدن منها مَهَابَةَ النُّبُوَّةِ، وَهَيْئَةَ الْمَلَكِيَّةِ وَهِيَ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَطْعُومِ وَالْمَنْكُوحِ، وَعَدَمُ الِاعْتِدَادِ بِهِنَّ، وَكَانَ الْجَمَالُ الْعَظِيمُ مَقْرُونًا بِتِلْكَ الْهَيْبَةِ وَالْهَيْئَةِ فَتَعَجَّبْنَ مِنْ تِلْكَ/ الْحَالَةِ فَلَا جَرَمَ أَكْبَرْنَهُ وَعَظَّمْنَهُ، وَوَقَعَ الرُّعْبُ وَالْمَهَابَةُ مِنْهُ فِي قُلُوبِهِنَّ، وَعِنْدِي أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَنْطَبِقُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهَا: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَكَيْفَ تَصِيرُ هَذِهِ الْحَالَةُ عُذْرًا لَهَا فِي قُوَّةِ الْعِشْقِ وَإِفْرَاطِ الْمَحَبَّةِ؟
قُلْنَا: قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَمْنُوعَ مَتْبُوعٌ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ لَهُنَّ مَعَ هَذَا الْخُلُقِ الْعَجِيبِ وَهَذِهِ السِّيرَةِ الْمَلَكِيَّةِ الطَّاهِرَةِ الْمُطَهَّرَةِ فَحُسْنُهُ يُوجِبُ الْحُبَّ الشَّدِيدَ وَسِيرَتُهُ الْمَلَكِيَّةُ تُوجِبُ الْيَأْسَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَتْ فِي الْمَحَبَّةِ، وَالْحَسْرَةِ، وَالْأَرَقِ وَالْقَلَقِ، وَهَذَا الْوَجْهُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَحْسَنُ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَقُلْنَ حَاشَا للَّه بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ بَعْدَ الشِّينِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَصْمَعِيِّ عَنْ نَافِعٍ وَهِيَ الْأَصْلُ لِأَنَّهَا مِنَ الْمُحَاشَاةِ وَهِيَ التَّنْحِيَةُ وَالتَّبْعِيدُ، وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِ الْأَلِفِ للتخفيف وكثرة دورها على الألسن اتباعا للمصحف «وحاشا» كلمة يفيد معنى التنزيه، والمعنى هاهنا تَنْزِيهُ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْمُعْجِزِ حَيْثُ قَدَرَ على خلق جميل مثله. أما قَوْلُهُ: حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ فَالتَّعَجُّبُ مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِ عَفِيفٍ مِثْلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ فِيهِ وَجْهَانِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ إِثْبَاتُ الْحُسْنِ الْعَظِيمِ لَهُ قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى رَكَّزَ فِي الطِّبَاعِ أَنْ لَا حَيَّ أَحْسَنُ مِنَ الْمَلَكِ، كَمَا رَكَّزَ فِيهَا أَنْ لَا حَيَّ أَقْبَحُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى في صفة جهنم طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ [الصَّافَّاتِ: ٦٥] وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَقَرَّرَ فِي الطِّبَاعِ أَنَّ أَقْبَحَ الْأَشْيَاءِ هُوَ الشَّيْطَانُ فكذا هاهنا تَقَرَّرَ فِي الطِّبَاعِ أَنَّ أَحْسَنَ الْأَحْيَاءِ هُوَ الْمَلَكُ، فَلَمَّا أَرَادَتِ النِّسْوَةُ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْحُسْنِ لَا جَرَمَ شَبَّهْنَهُ بِالْمَلَكِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُطَهَّرُونَ عَنْ بَوَاعِثِ الشَّهْوَةِ، وَجَوَاذِبِ الْغَضَبِ، وَنَوَازِعِ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ فَطَعَامُهُمْ تَوْحِيدُ اللَّه تَعَالَى وَشَرَابُهُمُ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّ النِّسْوَةَ لَمَّا رَأَيْنَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِنَّ الْبَتَّةَ وَرَأَيْنَ عَلَيْهِ هَيْبَةَ النُّبُوَّةِ وَهَيْبَةَ الرِّسَالَةِ، وَسِيمَا الطَّهَارَةِ قُلْنَ إِنَّا مَا رَأَيْنَا فِيهِ أَثَرًا مِنْ أَثَرِ الشَّهْوَةِ، وَلَا شَيْئًا مِنَ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَا صِفَةً مِنَ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَهَذَا قَدْ تَطَهَّرَ عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ الْمَغْرُوزَةِ فِي الْبَشَرِ، وَقَدْ تَرَقَّى عَنْ حَدِّ الْإِنْسَانِيَّةِ وَدَخَلَ فِي الْمَلَكِيَّةِ.