
رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لأن الله تعالى يقول: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً [النساء ٤/ ٧٦]، وقال: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ».
الفصل الخامس من قصة يوسف انتشار الخبر بين نسوة المدينة ومؤامرة امرأة العزيز بهن وتقرير سجن يوسف
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٥]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥)

الإعراب:
حُبًّا تمييز.
حاشَ لِلَّهِ حذف الألف للتخفيف، ومن قرأ: حاشى لله، أتى به على الأصل. وحاشى:
فعل في رأي الكوفيين، بدليل تعلق حرف الجر بها في قوله: حاشَ لِلَّهِ وحرف الجر إنما يتعلق بالفعل لا بالحرف. وهي حرف في رأي سيبويه وأكثر البصريين لأن ما بعدها يجيء مجرورا، يقال: حاش أبي ثوبان، ولو كان فعلا لما جاز أن يجيء ما بعده مجرورا. وأما تعلق حرف الجر بها في قوله لِلَّهِ فإن اللام في قوله: حاشَ لِلَّهِ زائدة لا تتعلق بشيء، مثل لام: لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف ٧/ ١٥٤] وباء أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى [العلق ٩٦/ ١٤] ثُمَّ بَدا لَهُمْ..
[يوسف ١٢/ ٣٥] فاعل بدا: مصدر مقدر، دل عليه. بَدا أي ثم بدا لهم بداء، وهو الراجح، وقيل: دل عليه لَيَسْجُنُنَّهُ وقام مقامه، وقيل: الفاعل محذوف تقديره: ثم بدا لهم رأي.
واللام جواب ليمين مضمر، وهو فعل مذكر لا فعل مؤنث.
البلاغة:
سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ استعار المكر للغيبة لأنها تشبهه في الإخفاء.
وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ استعار لفظ القطع للجرح أي جرحن أيديهن.
المفردات اللغوية:
نِسْوَةٌ اسم لجمع امرأة، وتأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقي. فِي الْمَدِينَةِ مدينة مصر، وهو ظرف لقال، أي أشعن الحكاية في مصر، أو هو صفة نسوة، وكن خمسا: زوجة الحاجب والساقي والخباز والسجان وصاحب الدواب. امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ فتاها:
عبدها، أي تطلب مواقعة غلامها إياها. والعزيز بلغة العرب: الملك. قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي دخل حبه شغاف قلبها. أي غلافه المحيط به حتى وصل إلى فؤادها. فِي ضَلالٍ في خطأ أي انحراف عن طريق الرشد ومقتضى العقل. مُبِينٍ أي بيّن واضح، بحبها إياه.
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ باغتيابهن لها، وإنما سمي مكرا لأنهن أخفينه كما يخفي الماكر مكره، ولأنهن أردن إغضابها لتعرض عليهن يوسف، فيفزن بمشاهدته. وَأَعْتَدَتْ أعدّت وهيأت لهن. مُتَّكَأً ما يتكئن عليه من الوسائد في مكان يجلسن فيه متكئين. وقيل: المتكأ: طعام يقطع السكين للاتكاء عنده، وهو الأترج. وَآتَتْ أعطت. وَقالَتِ ليوسف، أَكْبَرْنَهُ أعظمنه. وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ جرحن أيديهن بالسكاكين، ولم يشعرن بالألم لشغل قلبهن بيوسف، ودهشتهن من جماله الرائع.

وَقُلْنَ: حاشَ لِلَّهِ تنزيها لله من صفات العجز، وتعجبا من قدرته على خلق مثله.
ما هذا بَشَراً أي ما يوسف من جنس البشر لأن هذا الجمال غير معهود للبشر. إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ما هذا إلا ملك، لما حواه من الحسن الفائق،
جاء في الحديث: «أنه أعطي شطر الحسن»
أو لما جمع الله له من الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة التي هي من خواص الملائكة.
قالَتْ امرأة العزيز، لما رأت ما حل بهن: فَذلِكُنَّ أي فهذا هو. الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أي فهو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني في حبه والافتتان به قبل تصوره حق التصور، ولو تصورتنه بما عائنتن لعذرتنني، والمراد بيان عذرها. فَاسْتَعْصَمَ امتنع امتناعا شديدا، مأخوذ من العصمة وهي المنع من الوقوع في المعصية. ما آمُرُهُ به. مِنَ الصَّاغِرِينَ الذليلين المهانين، فقلن له: أطع مولاتك. أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أمل إليهن وأوافقهن على أهوائهن. وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ وأصر من المذنبين، والقصد بذلك الدعاء.
فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ دعاءه. السَّمِيعُ للقول ودعاء الملتجئ إليه. الْعَلِيمُ بالفعل والأحوال وما يصلحهم. بَدا ظهر لهم رأي جديد، وهو أن يسجنوه. الآيات الشواهد الدالة على براءة يوسف. لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ أي ليدخلنه السجن إلى زمن، ينقطع فيه كلام الناس، فسجن سبع سنين أو خمس سنين. والحين: الوقت غير المحدود من الزمن.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى محنة يوسف مع امرأة العزيز، ونجاته من تلك المحنة وقناعة زوجها ببراءته بناء على شهادة حكم شاهد من أقاربها بما رأى، أورد تعالى ما تمخضت عنه المحنة والمحاولة من نتائج طبيعية هي انتشار الخبر وشيوعه في مصر، ومحاولة امرأة العزيز تبرئة ساحتها أمام النساء بمكيدة محكمة وخطة مدروسة، واعترافها أمامهن بأنها التي راودته عن نفسه، فامتنع، وأنها ما تزال مصرة مصممة على ما تريد، وإلا أودع في قيعان السجون، وتم اتخاذ القرار بالسجن، وآثره يوسف ابتغاء مرضاة الله، بل دعا إليه ربه، فسجن سبع سنين أو خمس سنين.

التفسير والبيان:
وقال جماعة من نساء الكبراء والأمراء في مدينة مصر، منكرات على امرأة العزيز وعائبات عليها ومتعجبات منها: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، أي تحاول غلامها عن نفسه وتدعوه إلى نفسها، وما تزال محاولاتها مستمرة، بدلالة فعل تُراوِدُ الذي يفيد الاستمرار في الطلب في المستقبل، وما زال قلبها متعلقا به.
وأكدوا إنكارهم عليها بأمرين لأن المألوف أن المرأة مطلوبة لا طالبة، وهي امرأة الوزير الأول، وتطلب مخالطة عبدها وخادمها:
الأول- قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي قد وصل حبه إلى شغاف قلبها وهو غلافه المحيط به، ونفذ إلى سويدائه، فلم تعد تبالي بالعواقب وما يؤول إليه الحال.
والثاني- إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي إنا لنعتقد ونعلم أنها في صنيعها هذا من حبها فتاها ومراودتها إياه عن نفسه لفي خطأ واضح وبعد عن الصواب وجهل يتنافى مع مكانتها. وأردن من هذا القول المكر والحيلة، ودفعها إلى دعوتهن والاقتناع بعذرها فيما فعلت. قال محمد بن إسحاق: بل بلغهن حسن يوسف، فأحببن أن يرينه، فقلن ذلك ليتوصلن إلى رؤيته ومشاهدته.
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أي باغتيابهن، وسوء مقالتهن، وكلامهن: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني، وسمي الاغتياب مكرا لأنه في خفية وحال غيبة، كما يخفي الماكر مكره، فكما أن الغيبة تذكر على سبيل الخفية، فكذلك المكر.
أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ أي لما بلغها ما تقوله النساء عنها غيابيا، أرسلت إليهن، أي دعتهن إلى منزلها للضيافة، وأعدت لهن ما يتكئن عليه من الكراسي

والوسائد والطعام الذي يقطع بالسكاكين من أترج ونحوه، وأعطت كل واحدة من النساء سكينا لقطع اللحم والفاكهة. ونحوها، وذلك مكيدة منها، ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته، فمكرت بهن كما مكرن بها.
وَقالَتِ: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ أي وبيناهم في تناول الفاكهة والطعام، وكلّ تمسك بسكينها، أمرته بالخروج عليهن، بعد أن كانت قد خبأته في مكان آخر، وكانت ذكية ماهرة في اختيار الوقت المناسب وهو أن يفجأهن وقت انشغالهن بما يقطعنه ويأكلنه.
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ.. أي فلما خرج ورأينه، أعظمنه، ودهشن لجماله الفائق وحسنه الكامل، وجعلن يقطعن أيديهن، اندهاشا برؤيته، فجرحن أيديهن، وهن يظنن أنهن يقطعن ما قدم لهن من طعام، وهكذا يفعل المدهوش الذي اجتذب نظره حادث مؤثر، أو منظر غريب، أو شيء مثير.
وَقُلْنَ: حاشَ لِلَّهِ بحذف الألف للتخفيف واتباع المصحف، وقرأ أبو عمرو: وحاشا لله بإثبات الألف وهو الأصل، لأنها من المحاشاة وهي التنحية والتبعيد، وحاشا: كلمة تفيد معنى التنزيه، أي وقلن لها على الفور تنزيها لله تعالى عن العجز، وتعجبا حيث قدر على خلق جميل مثله: وما نرى عليك من لوم بعد هذا الذي رأينا لأنهن لم يرين في البشر مثله، ولا قريبا منه، فإنه عليه السّلام قد أعطي شطر الحسن، كما
ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مرّ بيوسف عليه السّلام في السماء الثالثة، فقال: «فإذا هو قد أعطي شطر الحسن».
ما هذا الذي رأيناه من جنس البشر، وما هو إلا ملك كريم من الملائكة تمثل في صورة بشر، والمقصود إثبات الحسن العظيم له لأنه استقر في الطباع أن لا حي أحسن من الملك، وأن لا حي أقبح من الشيطان. فلما رأت النساء روعة

جمال يوسف شبهنه بالملك، ونفين عنه البشرية، لغرابة جماله وروعة حسنه.
والأقرب عند الرازي: أن النسوة لما رأين عليه هيبة النبوة والرسالة، وعلامة التطهر والعفة، نفوا عنه آثار الشهوة البشرية والصفات الإنسانية، وأثبتوا له طهر الملائكة.
قالت، وقد نجحت في انبهارهن بجماله الأخاذ: فذلكن هو الذي وجهتن اللوم إلي بسببه، وعبتنّ علي فعلي. وإنما قالت فَذلِكُنَّ ولم تقل «فهذا» بالرغم من أنه حاضر أمامهن، رفعا لمنزلته في الحسن، وجدارة حبه والافتتان به، واستبعادا لمحله السامي، أي فذلك يوسف البعيد السامي في الكمال والجمال، فأنا معذورة، فهو حقيق أن يحب لجماله وكماله.
وإذا كان هذا حالكن معه في لحظة، فماذا أفعل وهو معي دائما في المنزل، وإني أعترف وأقر أني والله لقد راودته عن نفسه، فامتنع بإباء وشمم عما أردته منه لأنه عفيف طاهر، ورث العفة عن أسلافه.
قال بعضهم: لما رأين جماله الظاهر، أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن، وهي العفة مع هذا الجمال.
ثم قالت متوعدة إياه بالعقاب: ولئن لم يفعل ما آمره به في المستقبل القريب، ليسجنن وليكونن من الذليلين المقهورين لأن زوجي لا يخالف أمري ورغبتي.
وهذا دليل على أن حبه استولى على مجامع نفسها، وأن السجن المؤكد الدائم سيكون عقابه، لا مجرد الحبس المؤقت الذي كانت قد أشارت به على زوجها، عند اكتشاف أمرها لدى الباب، وأنها بهذا التهديد واثقة بسطانها على زوجها، مع علمه بأمرها، واستنكاره سلوكها، فقد أصبح عشقها له، وحبها المتناهي أمرا علنيا لا تواري فيه، ولا تخشى أحدا من نقدها وتوجيه اللوم لها.

فعندئذ استعاذ يوسف عليه السّلام من شرهن وكيدهن. والكيد: الاحتيال والاجتهاد، وقال: رَبِّ السِّجْنُ... أي يا رب، أنت ملاذي وملجئي، إن السجن الذي توعدت به أحب إلي مما يدعونني إليه هؤلاء النسوة من الفاحشة وارتكاب المعصية.
وكنى عن امرأة العزيز في قوله كَيْدَهُنَّ بخطاب الجمع، إما لتعظيم شأنها في الخطاب، وإما ليعدل عن التصريح إلى التعريض. والأولى حمل اللفظ على العموم، أي كيد النساء، وليس كيد امرأة العزيز فقط.
وقد أسند الدعوة إلى النساء جميعا لأنهن زيّن له مطاوعتها ونصحنه بالاستجابة لرغبتها، وقلن له: إياك وإلقاء نفسك في السجن والصغار.
وهو في دعائه هذا آثر المشقة على اللذة لأن العذاب المكروه وهو السجن مع البراءة أهون من الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة، فإن البريء المسجون يشعر بسعادة عظيمة وهي المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة، وقد اختار أهون الشرين وأخف الضررين: السجن والزنى، ففي السجن راحة بال وهدوء نفس وخروج عن بيئة الفساد، وتخلص من التحكم في أمره.
ثم أكد دعاءه مبينا عجزه وضعفه، ومفوضا أمره لمن له القدرة والقوة، فقال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ.. أي وإن لم تبعد عني أثر كيدهن، أمل إلى موافقتهن على أهوائهن، وأكن من الجاهلين السفهاء الذين تستهويهم الشهوات، والذين لا يعملون بما يعلمون لأن الحكيم لا يفعل القبيح، ولأن من لا ينتفع بعلمه فهو ومن لا يعلم سواء.
أي إن وكلتني إلى نفسي، فليس لي منها قدرة، وإنما أعتصم وألجأ إلى حولك وقوتك، فأنت المستعان وعليك التكلان، فلا تكلني إلى نفسي. وهذا

فزع منه إلى ألطاف الله وعصمته كعادة الأنبياء والصالحين فيما عزم عليه من الصبر.
فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ.. أي فأجاب ربه دعاءه المفهوم من قوله: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي.. الذي فيه معنى طلب الصرف والدعاء باللطف، فصرف عنه كيدهن، وعصمه عصمة عظيمة، وحماه من التورط في المعصية أو الجهل والسفه باتباع أهوائهن، إنه تعالى السميع لدعاء الملتجئين إليه، العليم بصدق إيمانهم وبأحوالهم وما يصلحهم.
وهذا دليل على حراسة ربه له وعنايته به وتربيته تربية مثلي تليق بالأنبياء.
وقد ترفع مع شبابه وجماله وكماله عن مواقعة امرأة عزيز مصر التي كانت أيضا في غاية الجمال والأبهة، وأختار السجن خوفا من الله ورجاء ثوابه،
ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلّق بالمساجد، إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابّا في الله، اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل تصدّق بصدقة، فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يميه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه».
ثُمَّ بَدا لَهُمْ.. ثم ظهر من المصلحة والرأي للعزيز وامرأته والشاهد الذي شهد عليها من أهلها بعد شيوع الخبر، وبعد ما عرفوا براءته، وظهرت الآيات وهي الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته، ظهر لهم أن يسجنوه لأجل غير معلوم، إيهاما أنه راودها عن نفسها، وأنهم سجنوه على ذلك، وتنفيذا لرغبة زوجة العزيز التي تبين أنها ذات سلطان على زوجها، وأنه فقد الغيرة عليها، وآثر رضاها بأى ثمن كان.

فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن خبر السوء سرعان ما يشيع في أنحاء المجتمع، وأشد ما يكون شيوعا ما يكون النساء وراءه.
٢- كان نقد أكابر النساء في المجتمع المصري لامرأة العزيز لأول وهلة، وبحكم العادة المألوفة، حقا وصوابا، إذ كيف تراود امرأة الوزير الأول عبدا لها وخادما عندها، وهذا مستعظم عادة، لترفع السادة وأنفتهن من مخالطة الخدم والأتباع.
لذا انتقدوا شدة حبها للغلام، ووجدوا أنها حائدة عن طريق الصواب.
٣- قابلت امرأة العزيز المكر بمثله، فدعت نساء المدينة إلى وليمة، لتوقعهن فيما وقعت فيه، ولتبدي معذرتها أمامهن، فانبهرن ودهشن بجمال يوسف لحسن وجهه ورينته وما عليه، وجرحن أيديهن بالسكاكين التي كانت معهن لقطع ما يحتاج إلى تقطيع من الطعام، وكن يحسبن أنهن يقطعن الأترجّ (وهو النارانج أو الكبّاد أو الكريفون وهو ثمر أكبر من الليمون الحامض يؤكل بعد إزالة قشرته).
٤- لم يملك النساء أنفسهن عن التعبير بما دهشن به عند رؤية يوسف، وقالوا: ليس هذا من النوع الإنساني، وإنما هو من جنس الملائكة، والمقصود منه إثبات الحسن الفائق والجمال الرائع، وأنه في التبرئة عن المعاصي كالملائكة، وقوله: حاشَ لِلَّهِ تبرئة ليوسف عما رمته به امرأة العزيز من المراودة، أي بعد يوسف عن هذا.
٥- لما رأت امرأة العزيز افتتانهن بيوسف أظهرت عذر نفسها بقولها:
فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أي بحبه، واللوم: الوصف بالقبيح.

٦- آثر يوسف الصديق دخول السجن ابتغاء مرضاة الله، وأن السجن أحب أي أسهل عليه وأهون من الوقوع في المعصية، لا أنّ دخول السجن مما يحبّ حقيقة. حكي أن يوسف عليه السّلام لما قال: السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ أوحى الله إليه: «يا يوسف! أنت حبست نفسك حيث قلت: السجن أحبّ إلي، ولو قلت: العافية أحبّ إلي لعوفيت».
٧- جمع يوسف عليه السّلام في دعائه ليكون قدوة للبشر بين التأثر بالنوازع البشرية والميل الإنساني إلى النساء وبين جهاد النفس الذي استعان بالله عليه، وأوضح أن الوقوع في أهواء النساء جهل، وكون المنزلق من زمرة الجاهلين، أي ممن يرتكب الإثم ويستحق الذم، أو ممن يعمل عمل الجهال الذين يعملون بنقض ما يعلمون. ودل هذا على أن أحدا لا يمتنع عن معصية الله إلا بعون الله ودل أيضا على قبح الجهل والذم لصاحبه.
٨- استجاب الله تعالى دعاء يوسف، ولطف به، وعصمه عن الوقوع في الزنى لصبره والاستعاذة بالله من الكيد. وهو شأنه تعالى يستجيب دعاء كل ملهوف، مستعصم به، ممتنع عن المعاصي ابتغاء رضوان الله تعالى.
٩- اتخذ العزيز وأهل مشورته قرارا بسجن يوسف إلى مدة غير معلومة، كتمانا للقصة ألا تشيع بين الناس، بالرغم مما ثبت لهم من عفته ونزاهته، ورأوا الآيات، أي العلامات على براءته من قدّ القميص من دبر، وشهادة الشاهد، وحزّ الأيدي بالسكاكين، وقلة صبر النساء عن لقاء يوسف.
١٠- لم يرض يوسف عليه السلام بارتكاب الفاحشة لعظم منزلته وشريف قدره، بالرغم من إكراهه على ذلك بالسجن، وأقام خمسة أعوام. وبناء عليه قال العلماء: لو أكره رجل بالسجن على الزنى ما جاز له إجماعا.
فإن أكره بالضرب فقد اختلف فيه العلماء، والصحيح أنه إذا كان فادحا،