
تربة مصر تقتضي هذا ولهذا لا ينشأ فيها الأسد ولو دخل فيها ما يبقى، ثم أخبرت زليخا بعض النساء بما حصل لها وأمرتهن بالكتم فلم يكتمن بل أشعن الأمر. وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ أي أشعن الأمر في مصر: امْرَأَتُ الْعَزِيزِ أي الملك قطفير تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ أي وقال جماعة من النساء: وكن خمسا وهن امرأة صاحب دواب الملك وامرأة صاحب سجنه، وامرأة خبازه، وامرأة صاحب مطبخه، وامرأة ساقيه فتحدثن فيما بينهن وقلن: امرأة العزيز تراود عبدها الكنعاني عن نفسه وهو يمتنع منها قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي قد شق فتاها شغاف قلبها من جهة الحب.
وقرأ جماعة من الصحابة والتابعين «شغفها» بالعين المهملة أي قد أحرق حبها فتاها حجاب قلبها. والمعنى أن اشتغالها بحبه صار حجابا بينها وبين كل ما سوى هذه المحبة فلا يخطر ببالها إلا هو إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) أي إنا نعلمها في ضلال واضح عن طريق الرشد بسبب حبها إياه
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أي قولهن المستدعي لنظرهن إلى وجه يوسف أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ أي أرادت إظهار عذرها فاتخذت مأدبة ودعت أربعين امرأة من أشرف مدينتها فيهن الخمس المذكورات وَأَعْتَدَتْ أي أحضرت لَهُنَّ مُتَّكَأً أي وسائد يتكئن عليها، هذا «إن» قرئت مشددة فإن قرئت مخففة فمعناها اترنجة فإنهم كانوا يتكئون على المسانيد عند الطعام والشراب والحديث على عادة المتكبرين ولذلك جاء النهي عنه في الحديث وهو
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا آكل متكئا»
. وَآتَتْ أي أعطت كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً لأجل أكل الفاكهة واللحم لأنهم كانوا لا يأكلون من اللحم إلا ما يقطعون بسكاكينهم وَقالَتِ أي زليخا ليوسف وهي مشغولات بأعمال الخناجر في الطعام: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ أي ابرز لهن ومر عليهن فإن يوسف عليه السلام ما قدر على مخالفتها خوفا منها فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ أي أعظمنه وهبنه ودهشن
عند رؤيته من شدة جماله وقيل:
معنى أكبرن أي حضن والهاء إما للسكت أو ضمير راجع إلى يوسف على حذف اللام، أي حضن له من شدة الشبق وأيضا إن المرأة إذا فزعت فربما أسقطت ولدها فحاضت ويقال: أكبرت المرأة أي دخلت في الكبر وذلك إذا حاضت، لأنها بالحيض تخرج من حد الصغر إلى حد الكبر وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي جرحن أيديهن حتى سال الدم ولم يجدن الألم لفرط دهشتهن وشغل قلوبهن بيوسف وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ أي تنزيها لله تعالى من العجز حيث قدر على خلق جميل مثل هذا ما هذا بَشَراً أي ليس يوسف آدميا.
وقرأ ابن مسعود «ما هذا بشر» بالرفع. وقرئ «ما هذا بشرى» أي ما هو بعبد مملوك للبشر حاصل بشراء إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) على الله فإنه قد ثبت في العقول أنه لا شيء أحسن من الملك كما ثبت فيها أن لا شيء أقبح من الشيطان.

وقيل: إن النسوة لما رأين يوسف لم يلتفت إليهن ألبتة، ورأين عليه هيبة النبوة والرسالة وسيما الطهارة قلن: إنا ما رأينا فيه أثرا من آثار الشهوة ولا صفة من الإنسانية فهذا قد تطهر عن جميع الصفات المغروزة في البشر وقد ترقى عن حد الإنسانية ودخل في الملكية قالَتْ أي زليخا لهن: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أي فهذا الذي ترينه هو ذلك العبد الكنعاني الذي عيبتنني في الافتتان به قبل أن تتصورنه حق تصوره ولو حصلت صورته في خيالكن لتركتن هذه الملامة وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ حسبما سمعتن وقلتن فَاسْتَعْصَمَ أي فامتنع عني بالعفة وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ أي إن لم يفعل يوسف مقتضى أمري إياه من قضاء شهوتي لَيُسْجَنَنَّ أي ليعاقبن بالحبس وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) أي من الذليلين في السجن فقلن ليوسف: أطع مولاتك قالَ أي يوسف مناجيا لربه عز وجل: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ أي يا رب دخول السجن أحب عندي مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ من مواتاتها التي تؤدي إلى الشقاء والعذاب الأليم وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ بالتثبيت على العصمة فإن كل واحدة منهن كانت ترغب يوسف على موافقة زليخا وتخوّفه على مخالفتها أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أي أمل إلى إجابتهن على قضية الطبيعة البشرية وحكم القوة الشهوية وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) أي وأصر من الذين لا يعملون بعلمهم فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ دعاءه الذي في ضمن قوله وإلا تصرف عني إلخ فإن فيه التجاء إلى الله تعالى جريا على سنن الأنبياء والصالحين في قصر نيل الخيرات وطلب النجاة من الشرور على جناب الله تعالى كقول المستغيث أدركني وإلا هلكت فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ حسب دعائه وثبته على العصمة والعفة حتى وطّن نفسه على مشقة السجن إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لدعاء المتضرعين إليه الْعَلِيمُ (٣٤) للنيات فيجيب ما طاب منه العزم ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ أي ثم ظهر للعزيز وأصحابه المشاركين له في الرأي من بعد ما رأوا الشواهد الدالة على براءة يوسف عليه السلام كشهادة الصبي، وقد القميص من دبر وقطع النساء أيديهن سجنه عليه السلام قائلين والله لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) أي إلى انقطاع مقالة الناس في المدينة فإن زليخا لما أيست من يوسف بجميع حيلها كي تحمله على موافقة مرادها قالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس يقول لهم: إني راودته عن نفسه فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر إليهم وإما أن تسجنه، فسجنه وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ أي عبدان لملك مصر الكبير وهو الريان بن الوليد العمليق سمى أحدهما: وهو صاحب شرابه سرهم، وسمى الآخر وهو صاحب مطبخه برهم.
وقيل: اسم الأول: مرطش، والثاني: رأسان، وسبب سجنهما أن جماعة من أهل مصر أرادوا قتل الملك فجعلوا لهما رشوة على أن يسما الملك في طعامه وشرابه فأجاباهم إلى ذلك، ثم إن الساقي ندم ورجع عن ذلك وقبل الخباز الرشوة وسمّ الطعام، فلما حضر الخبز بين يدي

الملك قال الساقي: لا تأكل أيها الملك فإن الخبز مسموم وقال الخباز: لا تشرب أيها الملك فإن الشراب مسموم، فقال الملك للساقي: اشربه فشربه، فلم يضره وقال الخباز: كل من الطعام فأبى فأطعم من ذلك الطعام دابة فهلكت فأمر بحبسهما فاتفق أنهما دخلا مع يوسف فلما دخل السجن جعل ينشر علمه ويقول: إني أعبر الأحلام قالَ أَحَدُهُما وهو صاحب شراب الملك إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً أي إني رأيت نفسي أعصر عنبا وأسقي الملك وَقالَ الْآخَرُ وهو الخباز إِنِّي أَرانِي أي رأيتني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ أي أخبرنا بتفسير رؤيانا إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) أي من العالمين بتفسير الرؤيا ومن المحسنين إلى أهل السجن فيسليهم ويقول: اصبروا وأبشروا تؤجروا فقالوا: بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى؟ فقال: أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب ابن ذبيح الله إسحاق ابن خليل الله إبراهيم. فقال له: صاحب السجن يا فتى والله لو استطعت خليت سبيلك ولكني أحسن جوارك واختر أي بيوت السجن شئت، أي إن الساقي قال لسيدنا يوسف: أيها العالم إني رأيت في المنام كأني في بستان وفيه شجرة عنب فيها ثلاثة أغصان وعليها ثلاثة عناقيد من العنب فجنيتها وكأن كأس الملك في يدي فعصرتها وسقيت الملك فشربه. وقال الخباز: إني رأيت في المنام كأني أخرج من مطبخ الملك وعلى رأسي ثلاث سلال من الخبز فوقع طير على أعلاها وأكل منها ولما قصا عليه الرؤيا كره أن يعبرها لهما حين سألاه لما علم ما فيها من المكروه لأحدهما فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره من إظهار المعجزة والنبوة والدعاء إلى التوحيد لأنه علم أن أحدهما هالك فأراد أن يدخله في الإسلام فبدأ بإظهار المعجزة لهذا السبب قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ أي لا يأتيكما طعام ترزقانه في منزلكما على حسب عادتكما المطردة إلا أخبرتكما بعاقبته فهو يفيد الصحة أو السقم وبلونه وجنسه قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما وكيف لا أعلم تعبير رؤياكما وهذا راجع إلى أن يوسف ادعى الإخبار عن الغيب وهو يجري مجرى قول عيسى: وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ذلِكُما أي هذا التأويل والإخبار بالمغيبات مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي بالوحي والإلهام لا على جهة الكهانة والنجوم إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) أي إني امتنعت عن دين قوم لا يؤمنون بالله وبالبعث بعد الموت وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وإنما قال يوسف: ذلك ترغيبا لصاحبيه في الإيمان والتوحيد وتنفيرا لهما عمّا كانا عليه من الشرك والضلال. ما كانَ أي لا يصح لَنا معاشر الأنبياء أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي أيّ شيء كان من ملك أو جني أو إنسي فضلا عن أن نشرك به صنما لا يسمع ولا يبصر ذلِكَ أي التوحيد الذي هو ترك الإشراك مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا بالوحي وَعَلَى النَّاسِ بإرسالنا إليهم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) أي لا يوحدون الله تعالى يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أي يا
صفحة رقم 533