
بجواري يستقين من الماء، فأَبصرتهم ابنة لوط وهي تستقي الماء، فقالت لهم: ما شأنكم؟ ومن أين أقبلتم؟ وأين تريدون؟ قالوا أقبلنا من مكان كذا، ونريد مكان كذا. فأخبرتهم عن حال أهل المدينة وخبثهم، فأظهروا الغم وقالوا: هل أحد يضيفنا؟ قالت: ليس فيها أحد يضيفكم إلا ذلك الشيخ، فأشارت إلى أبيها لوط وهو على بابه. فأتوا لوطاً فلا رآهم وهيئتهم، ساءه ذلك، فذلك قوله تعالى:
[سورة هود (١١) : الآيات ٧٧ الى ٨٣]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)
قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ يقول: ساءه مجيئهم، وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً يعني: صدره اغتماماً، ومخافة عليهم، لا يدري أيأمرهم بالرجوع أم بالنزول؟ وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ يعني: شديد. ثم قال لامرأته: ويحك، قومي واخبزي ولا تعلمي أحداً. وكانت امرأته كافرة منافقة، فانطلقت تطلب بعض حاجاتها، وجعلت لا تدخل على أحد إلا أعلمته، وتقول: إن عندنا قوماً من هيئتهم كذا وكذا. فلما علموا بذلك، جاءوا إلى باب لوط عليه السلام، فذلك قوله تعالى: وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ يعني: يسرعون إليه، وهو مشيء بين المشيتين، ويقال: يدفعون إليه دفعاً، ويقال يشتدون إليه شداً، وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ يعني: من قبل أن يبعث إليهم لوط، ويقال: من قبل إتيان الرسل، كانوا يعملون الفواحش، وهي اللواطة والكفر، فلما أرادوا الدخول، قالَ لهم لوط: يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أي: أحل لكم من ذلك، وكان لوط يناظرهم، ويقول: هن أطهر لكم، وكان جبريل مع أحد عشر من الملائكة، وكسروا الباب، فضرب أعينهم.
قال الضحاك: هؤُلاءِ بَناتِي عرض عليهم بنات قومه. وقال قتادة: أمرهم لوط أن يتزوجوا النساء، وقال: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ولم يعرض عليهم بناته. وروى سفيان عن ليث، عن مجاهد، قال: لم يكنَّ بناته، ولكن كُنَّ من أمته، وكل نبي هو أب أمته. وروي عن ابن مسعود، أنه كان يقرأ: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: ٦] وهو أب لهم، وهي قراءة أبي بن

كعب. وهكذا قال سعيد بن جبير: إنه أراد بنات أمته. ويقال: إن رؤساءهم كانوا خطبوا بناته وكان يأبى، فقال لهم: إني أزوجكم بناتي، هنّ أطهر لكم من الحرام، وكان النكاح بين الكافر والمسلم جائزا.
ثم قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي يقول: لا تفضحوني في أضيافي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يعني: مرشداً صالحاً يزجركم عن هذا الأمر. ويقال: رجل عاقل، ويقال: رجل على الحق يستحي مني. قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ يعني: من حاجة، يقولون: ما لنا في النساء من حاجة وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ إنما نريد الأضياف ف قالَ لوط: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً يعني: منعة بالولد أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ، أي: أرجع إلى عشيرة كبيرة، يعني: لو كانت لي عشيرة ومنعة لمنعتكم مما تريدون.
وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «رَحِمَ اللَّهُ أخي لُوطاً لَقَدْ أَوَى إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ» «١» يعني: أن الله تعالى ناصره. وروى عكرمة، عن ابن عباس، قال: «ما بعث الله نبياً بعد لوط، إلا في منعة من قومه وعزّ». ويقال: لما أرادوا الدخول، وضع جبريل يده على الباب فلم يقدروا على فتحه، فكسروا الباب ودخلوا، فامتلأت داره، فمسح جبريل جناحه على وجوههم فذهبت أعينهم، كما قال في آية أخرى: فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ [القمر: ٣٧] فرجعوا وقالوا: يا لوط جئت بالسحرة حتى طمسوا أعيننا، والله لنهلكنك غداً. فلما سمع لوط تهديدهم إياه، ساءه صنيع القوم وخاف، فلمَّا رأى جبريل ما دخله قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ يعني: لن يقدروا أن يصنعوا بك شيئاً، فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ يعني: سر وادلج بأهلك بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ. قال الكلبي: القطع من الليل، آخر السحر، وقد بقيت منه قطعة. وقال السدي: سألت أعرابياً عن قوله: بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ قال: ربع الليل وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يعني: لا يتخلف منكم أحد إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها من العذاب، مَا أَصابَهُمْ.
قرأ ابن كثير، ونافع: فَأَسْرِ بجزم الألف، وقرأ الباقون: فَأَسْرِ بقطع الألف ومعناهما واحد، يقال: سريت وأسريت، إذا سرت بالليل. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو إِلَّا امْرَأَتَكَ بضم التاء، وقرأ الباقون بالنصب. فمن قرأ بالنصب، انصرف إلى الإسراء، يعني: أسر بأهلك إلا امرأتَكَ، على معنى الاستثناء وفي قراءة ابن مسعود: فاسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتَكَ. ومن قرأ بالضم، فهو ظاهر، يعني: أنها تتخلف مع الهالكين.
وقال لوط لجبريل عليه السلام: إن أبواب المدينة قد أُغلقت، فجمع لوط أهله وابنتيه ريثا وزعورا، فحمل جبريل لوطاً وابنتيه وماله على جناحه إلى مدينة زغر، وهي إحدى مدائن لوط،