عثمان رضي الله عنهم، لأن حضرة الرّسول لم يقبلها، وهلك في خلافة عثمان، والحديث في هذه القضية رواه البغوي بسند الثعلبي عن أبي أمامة الباهلي، وأخرجه الطبري بسنده أيضا، وإنما لم يقبلها رسول الله جزاء لمخالفة عهد الله وإهانة له لقوله إنها أخت الجزية ليعتبر غيره، وما قيل إن هذه الآية نزلت في حاطب بن بلتعة أو متعب بن قشير فقيل ضعيف، وهي عامة في كلّ من هذا شأنه، ونزولها في ثعلبة لا يقيدها أو يخصصها فيه، لأن العبرة دائما لعموم اللّفظ لا لخصوص السّبب، ولما أبان للمنافقين نفاقهم، وشاع بين النّاس ما أظهره الله تعالى مما تكنه بواطنهم الخبيثة، ولم يروا بدا من الاستتار جاءوا إلى رسول الله يطلبون منه الاستغفار، فأنزل الله تعالى خطابا لسيد المخاطبين قوله جل وعلا «اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ» حيث قضي الأمر في شأنهم فاستغفارك لهم وعدمه سواء منهما أكثرت منه «إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ» أي عدم المغفرة لهم «بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» وأصروا على كفرهم، وكمن ذلك في قلوبهم، وخرجوا عن الطّاعة «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (٨٠) الخارجين عن طاعته، ومن شفقة رسوله صلّى الله عليه وسلم ورأفته بهم لو يعلم أنه إذا استغفر لهم أكثر من سبعين مرة، وأنه تعالى يغفر لهم لفعل، ولكن سبق السّيف العذل ورفعت الأقلام وجنت الصّحف بما هو كائن،
ثم ذكر نوعا آخر من مثالبهم، فقال جل قوله «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ» ولم يذهبوا معه إلى غزوة تبوك التي هي آخر غزواته صلّى الله عليه وسلم، وكان عليهم أن يأسفوا ويحزنوا لما فاتهم من صحبته في هذه السّفرة الطّويلة ويتأثروا على مخالفة أمره وهم بالعكس راق لهم البقاء في المدينة «وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» مع رسوله وأصحابه لإعلاء كلمة الله وكسر شوكة أعدائه ونصرة أوليائه واختاروا الرّاحة والقعود مع أهليهم وأولادهم وأموالهم على مرافقة الرّسول وتكثير سواده، «وَقالُوا» لبعضهم يقصد تثبيطهم وتنفيرهم «لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ» فتهلكوا «قُلْ» لهم يا سيد الرّسل إن كان حرّ الدنيا يمنعكم عن الجهاد في سبيل الله، فتربصوا فإن مأواكم في الآخرة «نارُ جَهَنَّمَ»
فهي «أَشَدُّ حَرًّا» من حر الدّنيا قد أعدها الله للمتخلفين عن طاعته وطاعة رسوله، فالأجدر بهم أن يعملوا خيرا للخلاص من عذابها «لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ» (٨١) عاقبة أمر تخلفهم عن غزوة رسول الله ما تخلفوا، ولكنهم قوم فقدوا عقولهم فاتركهم «فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا» في هذه الدّنيا الفانية على راحتهم فيها وتخلفهم عن الجهاد معك «وَلْيَبْكُوا كَثِيراً» في الدّار الآخرة الباقية على ما فرط منهم وفرحوا به «جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (٨٢) من الأعمال القبيحة والأفعال الخبيثة. قال علي كرم الله وجهه لابنه الحسن: إن أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق. وإذا كانوا حمقا ولا عقول لهم فلا يرجى منهم خير ولا عود إلى الخير.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا. وروى البغوي بسنده عن أنس بن مالك قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول يا أيها النّاس ابكوا فإن لم تستطيعوا أن تبكوا فتباكوا فإن أهل النّار يبكون في النّار حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تقطع الدّموع، فتسيل الدّماء، فتفرغ العيون فلو أن سقنا أجريت فيها لجرت. فتأمّلوا رحمكم الله في هذا واعقلوا ما يراد منكم، فالعقل هو الإمام الحق والصّاحب الوفي والنّور المضيء، والشّاهد الذكي المميز الحق من الباطل، والخير من الشّر، والصّدق من الكذب، المشوّق الى العلم والحكمة، والآلف من الدّناءة والخسة، وبه توجد السّعادة العظمى والسّلامة في الآخرة والأولى، فالسعيد من جعل همه في معاده ولم يخض بما لا يعنيه، ولا يترك الخوف في أمنه ولا بيأس من الأمن في خوفه، وتدبر الأمور في علانيته وسرّه، ولم بذر الإحسان في قدرته، وحادث النّاس فيما يجهل، فإن في المحادثة تلقيحا للعقل وترويحا للقلب، وتسريحا للهم، وتنقيحا للأدب. وعليه فليأخذ ما استطاع من كلامه ففيه المزالق، وقيل فيه:
إذا فكّر الإنسان ألفى لسانه | عدوا له يجني عليه بما يجني |
فإن هو لم يطلقه الفاء مطلقا | وإن هو لم يسجنه ألقاه في السّجن |
احفظ لسانك أيها الإنسان | لا يلدغنّك إنه ثعبان |
كم في المقابر من قتيل لسانه | كانت تهاب لقاءه الشّجعان |
واحذرها فإنها تقمصت بجلد الشّاة على قلب الذئب، قال أبو نواس:
ألا كلّ شيء هالك وابن هالك | وذو نسب في الهالكين عريق |
إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشف | له عن عدو في ثياب صديق |
يا طالب الطّب من داء أصيب به | إن الطّبيب الذي أبلاك بالداء |
هو الطّبيب الذي يرجى لعافية | لا من يذيب لك الترياق في الماء |
يا ويح من جعل المطامع قائدا | يقتاده نحو الرّدى بزمام |
من كان قائده المطامع لم يفر | يوما بعيش مسرة وسلام |
وراعي الشّاة يحمي الذئب عنها | فكيف إذا الرّعاة لها ذئاب |
عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ»
(٨٤) خارجون عن طاعتهما، وهذه الآية تشير إلى إهانتهم بعد الموت كما كانوا قبله، وقد وصفهم الله بالفسق بعد الكفر، مع أنه داخل فيه، لأن الكافر قد يكون عدلا يؤدي الأمانة ولا يسيء إلى أحد، وقد يكون مع كفره على ضد ذلك خبيث النّفس ماكرا مخلدعا غشاشا. ولما كان المنافقون جامعين لهذه الصّفات القبيحة المخزية، نعتهم الله تعالى بالفسق بعد الكفر، وكلاهما خيثان.
مطلب موت ابن أبي سلول وكون العلة لا تدور مع المعلول، وأسباب التكرار في الآيات وعدم زيادة (ما) ولا غيرها في القرآن:
روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب، قال لما مات عبد الله بن أبي سلول دعى له رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام صلّى الله عليه وسلم وثبت إليه، فقلت يا رسول الله أتصلي على ابن أبي سلول وقد قال يوم كذا: كذا وكذا أعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال أخّر عنّي يا عمر، فلما أكثرت عليه قال إني خيّرت فاخترت. أي خيرت في آية الاستغفار عدد ٨٠ المارة لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت، وهذا من كرم أخلاقه صلّى الله عليه وسلم وعظيم عفوه وكثير صفحه عمن أساء له، وشدة حرصه على من ينيب اليه، لأن هذا من أشد النّاس عداوة له صلّى الله عليه وسلم فداك أبي وأمي ما أحلمك يا رسول الله. واعلم أيها القارئ أن هذا لا يعارض قوله تعالى (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) الآية ٨ من سورة المنافقين المارة، لأن هذا الاستغفار مخير فيه لا منهي عنه، والفرق بينهما واضح، تأمل. وقد علم صلّى الله عليه وسلم بطريق الوحي أنه لا يغفر له، قال فصلى عليه ثم انصرف فلم يمكث إلّا يسيرا حتى نزلت الآية، قال فعجبت من جرأتي على رسول الله يومئذ، وهذا الحديث مقيد بحديث سأزيد على السّبعين الذي يفيد الوعد المطلق، لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضا، وتقيد وتخصص أيضا، كالآيات القرآنية، والله ورسوله أعلم. وقد أخرج هذا الحديث الترمذي وزاد فيه، فما صلّى صلّى الله عليه وسلم بعده على منافق، ولا قام على قبره حتى قبضه الله، وفي رواية جابر للبخاري ومسلم أنه ألبسه قميصه ونفث عليه،
وإنما فعل هذا حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم مع هذا وهو راس المنافقين، مع علمه أنه مات على نفاقه تطييبا لخاطر ابنه عبد الله لشدة إخلاصه وصلاحه وصدقه ومحبته لحضرة الرّسول ينبيك عن هذا ما نوهنا به في الآية ٨ من سورة المنافقين المارة مما قاله لابنه وما ذكره بحضرة الرّسول، ولذلك قال حضرة الرّسول على قبره وصلّى عليه قبل النّهي، وهذا من بعض محاسن أخلاقه صلّى الله عليه وسلم، ولما رأى المنافقون وقوم عبد الله بن سلول ما قام به صلّى الله عليه وسلم من مقابلة إساءة عبد الله لحضرته بالإحسان حال حياته، وبالإحسان بعد وفاته أسلم كثير منهم، وإنما كساه ثوبه بعد موته لأنه كان حينما جيء بالعباس أسيرا يوم بدر كساه عبد الله ثوبه، وقد حفظ له معروفه ذلك وهو أهل المعروف وأولى ممن يقابل السّيئة بالحسنة. هذا وان رسول الله صلّى الله عليه وسلم زار قبر أمه عام الحديبية قبل النّهي لما لها من حق الأمومة، وذلك قبل نزول هذه الآية، لأنها نزلت بعد غزوة تبوك، فلا يرد عليه مقال، ومن قال أن زيارته لها بعد النّهي أي بعد نزول هذه الآية فقد أخطأ، لأن التاريخ يكذبه، على أنها رحمها الله من أهل الفترة، وأباه كذلك، والقول الصّحيح أن أهل الفترة غير مؤاخذين، راجع الآية ١٥ من سورة الإسراء في ج ١. ولا مانع يمنع من زيارة قبور الكفار، لأن القصد من الزيارة التذكر بالآخرة، قال صلّى الله عليه وسلم كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة. ومن جعل العلّة في الزيارة الدّعاء لهم لا مستند له، لأن الدّعاء يكون في كلّ مكان على أنه لو فرض صحة ذلك فإن العلة لا تدور مع المعلول، لأن الخمر حرمت لعلة الإسكار، فهل يقال بإباحتها لمن لم يسكر بسبب إدمانه عليها أو لأمر آخر، وقد حرم الزنى لعلة اختلاط الأنساب فهل يباح لعقيم أو عجوز لا يتصور منهما ذلك، وحرم القمار لعلة أخذ أموال النّاس بغير حق، فهل يباح اللّعب به إذا لم يتحقق أخذ المال بغير حق، لأن المقامر قد يربح وقد يخسر، وقد لا يربح ولا يخسر، وهكذا في سائر المحرمات، فانه لا يجوز قربها ولو لم تحقق العلة، ولهذا فإن عدم الدّعاء للأمرات لا يمنع من زيارة قبورهم تأمل قوله صلّى الله عليه وسلم تذكركم الآخرة لأن فيها عبرة وعظة حصل الدّعاء أم لم يحصل. قال تعالى «وَلا تُعْجِبْكَ
صفحة رقم 468
أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ»
(٨٥)
وهذه نظير الآية ٥٥ المارة وتفسيرها تفسيرها، وقد يكرر الله بعض الآيات في سورة واحدة لحكمة يعلمها، لأن تجدد النّزول له شأن في تقرير ما أنزل وتأكيد له ولئلا يغفل المخاطب عنه وليعتقد أهميّته وخاصة فيما يتعلق بالأموال والأولاد، الآتي ذكرهما في أكثر السّور، لأنهما أشد جذبا للقلب من غيرهما، ولهذا حذر الله تعالى من الانهماك بهما المرّة بعد الأخرى مبالغة في التحذير من الانشغال بهما عن أمور الآخرة. واعلم أنه قد يوجد تقارب بين الآيات الكريمة، قد لا يحس بها، فهذه الآية صدّرت بالواو الاستئنافية إذ لا علاقة لها بما قبلها، ولم تزد فيها (لا) بعطف الأولاد، دلالة على عدم التفاوت بينهم وبين المال في المحبة عندهم، وصدرت الأولى بالفاء المفيدة للعطف على ما قبلها وهي لا ينفقون إلّا وهم كارهون الآية ٥٤ المارة لشدة محبتهم بالمال وزيد فيها (لا) لزيادة التأكيد الدّال على أنهم معجبون بها وإعجابهم بأولادهم أكثر وجاء فعل يعذبهم مقرونا باللام مع العلم بأن التعليل في أحكام الله محال وفي هذه بلفظ ان دون اللام وان حرف التعليل فيها بمثابة ان قال تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ) الآية (٦) من سورة البينة المارة أي ما أمروا إلّا أن يعبدوا الله، وجاء في الأولى في الحياة الدّنيا تبينها على أن حياتهم كلا حياة وهنا في الدّنيا فقط إشارة إلى أن حياتهم بلغت في الخسة إلى أنها لا تستحق الذكر ولا تسمى حياة لذلك انتصر في ذكرها وقدم الأموال على الأولاد فيها لشدة الحاجة إليها مع أن الأولاد أعز منها لأنها تصرف في سبيلهم كما أنهم يفارقون أنفسهم بطلبها ومهما كان في الولد عز فالفقر أذل في عزة الأولاد لهذا فإن من لم يتفكر في الآيات يظنّ أنها مكررة حرفيا مع أنها قد لا توجد الآية كلها مكررة بعينها أما الجمل في الآيات والكلمات فيها فهو كثير ولكن كلّ لمناسبة أخرى وقد بيّنا بعض أسباب التكرار في الآية الأخيرة من سورة الكافرين في ج ١ ولا يخفى أيضا أن التكرار واقع في بيان التوحيد وأحوال القيامة وقصص الأنبياء، وذلك أن العرب كانوا وثنيين ينكرون هذه الأشياء ومثلهم أهل الهند والصّين والمجوس
فلأجل التقرير والتأكيد اقتضت حكمة الله بالتكرار في الجمل والكلمات ومعنى الآيات لا الآيات نفسها وهو من إعجاز القرآن وبلاغته فكان التحدي فيه بالبلاغة والفصاحة في الجمل والكلمات والآيات إيجازا وإطنابا مع مراعاة الدّلالة على المعنى في كلّ وحفظ أعلى مرتبة البلاغة في كلّ من الموجز والمطنب ليعلم أن القرآن ليس من كلام البشر لأن هذا الأمر عند البلغاء يعدونه خارجا عن طوق البشر ومن أراد أن يطلع على تفاصيل أسباب التكرار فليراجع ص ٣١ وما بعدها من كتاب إظهار الحق ج ٢ في الباب الخامس لصاحبه المغفور له رحمة الله الهندي.
قال تعالى «وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ» من القرآن آمرة «أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ» قدم الإيمان لأن الجهاد بدونه لا يفيد «اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ» الأغنياء القادرون على الجهاد مالا وبدنا الواجب عليهم فيها «وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ» (٨٦) المعذورين عن الجهاد. قال تعالى موبخا لهم على قولهم هذا «رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ» لضعف إيمانهم وقلة يقينهم وزيادة جبنهم وكثرة خوفهم وكان عليهم لو كان عندهم مروءة أن لا يرضوا لأنفسهم ذلك الخزي والهوان ويعدون أنفسهم من قسم النّساء والصّبيان ومن هو في حكمهما من المرضى والعاجزين بل عليهم أن يسارعوا إلى ما فيه عزهم وفخارهم ويلبّوا أمر رسولهم طاعة لربهم ولكنهم عدلوا عن ذلك كله «وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» (٨٧) مراد الله في الجهاد ولا يعلمون أنه لمصالحهم واعلم أنه لم تدخل ما بعد إذا هنا لاحتمال تطرق النّفي فيما بعدها ومثلها في الآية (٣٠) من سورة محمد عليه السّلام المارة لأن ما لا تدخل بعد إذا مطلقا كما يفعله بعض من لم ينظر إلى ما بعدها حتى أن كتبة هذا الزمن تجدهم يدخلونها بصورة مستمرة غير ناظرين إلى المعنى الذي يتخيل منها لقلة معرفتهم بالعربية واغترارهم بالقاعدة (إن ما بعد ذا زائدة) ولا يعرفون أن الزائد لا يكون في كتاب الله كما لا يوجد النّاقص فيه وسنبين لك هذا البحث مستوفيا في الآية ١٢٣ الآتية بعد وقد بينا بعضه في الآية ٩٣ من سورة المائدة المارة فراجعها قال تعالى «لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» لا يستأذنون ولا يرضون لأنفسهم
الذلة والمهانة بالتخلف بل رغبوا بما عند الله تعالى من الأجر والثواب ولذلك «جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» لإعلاء كلمة الله وعزة المؤمنين فرخصوا أنفسهم فباعوها في سبيل الله ولم يحسبوا للموت حسابا، وكان قائلهم يقول:
أقول لها وقد طارت شعاعا | من الأبطال ويلك لم تراعي |
فإنك لو سألت بقاء يوم | على الأجل الذي لك لم تطاع |
فصبرا في مجال الموت صبرا | فما نيل الخلود بمستطاع |
مطلب في المستثنين من الجهاد، والفرق بين العرب والأعراب وأول من آمن وخبرهم، وتقسيم المنافقين، وعذاب القبر:
قال تعالى «وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ» بتشديد الذال ومن شدد العين معها فقد أخطأ، لأن الذال تدغم مع العين للتضاد، ولم يقل أحد بتنزيل التضادّ منزلة التناسب، وقرىء المعتذرون أي طالبي العذر، لأن التاء للطلب على أن الأصل المعتذرون، فأدغمت التاء في الذال ونقلت حركتها إلى العين، وذلك لما رأوا أن سقط في أيديهم، ولم يروا أن الأرض تسعهم مما لحقهم من الخجل ممن كان من أصحابهم مع حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم، وهم «مِنَ الْأَعْرابِ» الّذين تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك بعد أن عاد منها حضرة الرّسول وصاروا يعتذرون إليه بأن عدم خروجهم معه كان خوفا من أن بغير أعداؤهم على أموالهم وذراريهم حالة غيابهم وطلبوا منه «لِيُؤْذَنَ لَهُمْ» بقبول عذرهم والمعذر من يرى أن له عذرا ولا عذر له، وهؤلاء الّذين تخلفوا كسلا، وأما المتخلفون نفاقا فهم المذكورون صفحة رقم 471